قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: الظلّ، الأفعى، والانفجار الداخلي

قراءة في البنية النفسية والرمزية لقصيدة "قفزة الظل... ونبوءة الأفعى" للشاعر عمار الصالح
مدخل: القصيدة بوصفها تفجّراً داخليّاَ.
تبدو القصيدة "قفزة الظل… ونبوءة الأفعى" عملاً شعريّاً مركّباً، لا يركن إلى السرد الخطيّ، بل ينفجر شعرياً من داخل الذات، كما لو كانت الكتابة هنا ليست أداة تعبير، بل فعل مواجهة، واستحضار لما هو مكبوت ومهجوس به.
فالشاعر عمار الصالح لا يكتب عن "الأفعى" بوصفها كائناً طبيعياً، بل بوصفها قناعاً نفسيّاً، وشيفرة رمزية لكائن يتسلل، يُراوغ، ويفسد البنية الداخلية للطمأنينة. تبدأ القصيدة من مفاجأة وجودية، وتنتهي في نكوص قيمي يعيد ترتيب العلاقة مع الذات والآخر واللغة.
أولًا: البعد النفسي — بين اللاشعور والانكشاف
القصيدة تعبّر عن اضطراب داخلي حادّ، ناتج عن تسلل طيفٍ خادع (ممثلاً بصورة الأنثى/الأفعى)، وهي صورة يونغية بامتياز، تشبه "الأنِيمَا" المخاتلة التي تخرج من لاوعي الرجل لتقلب موازينه، يقول الشاعر عمار الصالح :
"لم أكن هادئاً… لم أنل راحتي"
"قفزاتك الخائنة… أفزعت وردتي"
هذا الانقلاب الحادّ من الحلم إلى الكابوس، من السكينة إلى الرعب، يحاكي لحظة الصدمة النفسية، تلك التي تُحْدِث فجوة بين ما نتوقّعه من العالم، وما يرتدّ إلينا من نواياه المبطّنة.
يتمثل القلق هنا بصورٍ نفسية عميقة:
الكوابيس التي تأتي "في عزّ النهار": انكشاف اللاوعي في وضح الإدراك.
وردة تُفزعها الأفعى: رمز لقتل البراءة، وانتهاك النقاء.
قفزات "دفعة واحدة": الصدمة كفعل لحظي يفوق التمهّل والتحليل.
ثانيًا: البعد الرمزي — الأفعى، التنين، والأقنعة.
رمز الأفعى المرقطة يسيطر على النسيج الدلالي في القصيدة، ويُحمَّل بتأويلات متعدّدة، منها:
_ الخداع والازدواجية: فالأفعى ليست فقط زاحفة، بل متخفّية، "تتسلل"، "تكمن"، "تقفز"، تماماً كما تفعل الأقنعة في المجاز النفسي.
_ الفتنة المدمّرة: تحمل في جسدها غواية، لكنها تفسد ما تلامسه، كما تفسد "الحقول" و"الآتية".
_ التنين المنقرض: رمزٌ يُستدعى للتهكم على ادّعاء القوة أو التفرّد، وفي الوقت ذاته لاستدعاء الأسطورة في قلب الواقع المنكسر.
من اللافت أنّ القصيدة توظّف رموزاَ أسطورية ونفسية بشكل متداخل:
الحقول، الورد، الوادي = رموز للخصب والسلام والأنوثة.
الأفعى، الكوابيس، الخديعة = رموز للفوضى، التهديد، الموت الرمزي.
وبهذا، تدور القصيدة حول الصراع بين رمزين:
الأول رمز الحياة (الوردة/الحقول/الماء)
والثاني رمز الفناء (الأفعى/النار/الفساد).
ثالثاً: البنية الدلالية – القصيدة بوصفها مسرحاً للمواجهة
تنهض القصيدة على بنية دلالية قائمة على الاستدراك والانكشاف:
1. الدهشة/المباغتة: "تُفاجئيني... تتسللين..."
2. التحول/الانقلاب: من وردةٍ إلى أفعى، من هدوء إلى كوابيس.
3. الإدانة/الانفجار: "قفزاتك الخائنة"، "تستفزين الحقول"، "تفسدين الآتية".
تتحرك اللغة في انزياحات شعرية تؤسس لصوت مأزوم، لا يطلب التفسير بل يعيش في نَصّ الخيبة. ويبدو العالَم الخارجي كله مسرحاً لهجوم الأفعى الرمزية، التي لا تهدّد الشاعر فحسب، بل تفسد الزمن القادم (الآتية) والحقول (الخصب) والإناء (الذات).
رابعاً: جدلية الذات والآخر في التكوين الرمزي.
يبدو الآخر في القصيدة أنثى، لكن هذه الأنثى لم تعد تمثل الحب أو الحنين، بل الاختراق المُباغت والانقلاب المفاجئ. إنها:
"تتسلل في زفة الأقنعة" → الغواية المتخفية.
"تكمن خلف الحروف" → المكر المستتر.
"تفسد الآتية" → التخريب البنيوي للزمن.
وهنا، يتحول الآخر إلى قوّة تخريبية، ليست فقط موضوعاً للرغبة، بل مصدراً للتهديد. والذات الشاعرة، رغم تماسكها الخارجي، تبدو هشّة أمام هذا التطفل. وهو ما يجعل القصيدة تنتهي لا بالحسم، بل بالتساؤل والشكّ:
"وهل قفزة... دفعة واحدة... تستطيع أن تفسد الآتية؟"
سؤال بلا إجابة، لكنه يُعلن هزيمة البراءة أمام التسلل الماكر.
خاتمة: الشعر كتقنية للمقاومة
في جوهرها، تقترح قصيدة "قفزة الظل... ونبوءة الأفعى" للشاعر عمار الصالح أنّ اللغة ليست فقط أداة كشف، بل أداة مقاومة. فالشاعر، وإن أصيب بخديعة الصورة المتسللة، لا يسقط في الانهيار، بل يحيل الجرح إلى مجاز، ويحوّل الصدمة إلى صوت.
إننا أمام قصيدة تمارس نقداً وجودياً داخلياً للخيبة، وتحاول إعادة بناء العالم لا من خلال الحنين، بل من خلال تسمية المخاتلة باسمها، وفضح "قفزتها"، وقراءة الزمن عبر رمادها.
كلمة أخيرة
"قفزة الظل… ونبوءة الأفعى" ليست مجرد نص عن الحب أو الخديعة.
إنها عملٌ تأويليٌّ مكثفٌ، يرصد خيانة المعنى، وانهيار البراءة، وتمزّق الداخل تحت وطأة المفاجآت النفسية والرمزية.
قصيدة تكتبُنا، كما نكتبها، وتُفجّر فينا سؤالاًً قديماً متجدّداً:
من أين تأتي الطعنات… ومن يزرع الأفعى في الحقل؟
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
......................
قفزةُ الظلّ... ونبوءة الأفعى
بقلم: عمار الصالح
تُفاجئيني، من زحامِ الكَلِمِ،
تأتينَ من غَفواتِ جُرحٍ مُبهمِ
تتسلّلينَ كأنّكِ الأقنـاعُ في
زفّةِ الوجوهِ بلا ملامحِ مُبْرَمِ
تَكْمُنينَ خلفَ الحرفِ، تحفرُ صمتَهُ،
وتقفزينَ إلى الكُؤوسِ من العَدَمِ
لم أَكُ هادئَ، لا ارتَحتُ في سَكَني،
منذُ استَباحتني الكوابيسُ العِظَمِ
في عزِّ ضوءِ النهارِ، بدتْ جُنوناً،
تنهشُ نعمتَ راحتي وتَهُدُّ دَمْ
ما كنتُ شاعرَ لحظةٍ مترفَ الأسى،
لكنني المصلوبُ في وَقْعِ النَّدَمِ
قفزاتُكِ الخائنةْ... يا شهوةً
أفزعتْ وردي، وأوجعتِ الحُلَمِ
يا أفعَةً مَرقّطَةً في سِحرِها،
تَغتالُ من لغتي رحيقَ التُّرْنُمِ
هل تشعلينَ الواديَ المُطفأَ الثرى؟
وتدّعينَ بأنّكِ النّارُ من قِدَمِ؟
هل تستفزينَ الحقولَ، وتُجدِبينَ
شَغَفَ الغمامِ، وتُسْكِتينَ التُّهَمِ؟
قفزةٌ... دفعةٌ من ظِلٍّ مريبْ
أفسدتِ الآتِي، وسرّ المُنْعَمِ
هذي الحقولُ انكفأتْ في حزنِها،
وجداولُ الأشواقِ جفّتْ من ألمِ
تُفاجئيني، كالعواصفِ في الضميرْ،
لكنني... لم أعد أهوى السعيرْ
إني تعلّمتُ النجاةَ من النُّبوءَة،
واخترتُ نسيانَ الخديعةِ في الحريرْ