دراسات وبحوث

الفاروق الأعظم علي بن أبي طالب / باسم الماضي الحسناويّ

فليتولَّ علياً من بعدي وذريته من بعده، فإنهم لن يخرجوكم من باب هدى، ولن يدخلوكم باب ضلالة" حديث نبويّ كنز العمال ج6. 155

 

"غدا ترون أيامي، ويُكشف لكم عن سرائري، وتعرفونني بعد خلوِّ مكاني، وقيام غيري مقامي" الإمام عليّ ع. نهج البلاغة. الحكمة 149.

 

شخصية الإمام عليٍّ عليه السلام بوصفه وجهاً من وجوه الإعجاز.

لو لم يكن لعليٍّ عليه السلام مقوِّمات إعجازٍ كمقوِّمات الإعجاز في كتاب الله عزَّ وجلَّ لما أصبح مجالاً واسعاً لاستثارة الحيرة والدهشة في عقول الأجيال إلى هذا الحدّ، فنحن الآن في القرن الواحد والعشرين، ومن المفترض أن تفقد كلُّ الشخصيات التأريخية شيئاً من بريقها بفعل ما طرأ على ذهنيات البشر من التحوُّل والتطوُّر وانقلاب المعايير واختلاف الرؤى والفلسفات...إلخ. وإنه لأمرٌ طبيعيٌّ أن يحدث مثل هذا لو أنه حدث فعلاً، لكنه لم يحدث مطلقاً بشأن عليّ بن أبي طالبٍ عليه السلام، كما لم يحدث بشأن القرآن الكريم بالضبط، تُرى ما هو السبب الحقيقيُّ في أن لا يحدث هذا، بل يحدث دائماً ما هو نقيضه تماماً، حتى أنَّ اهتمام الإنسانية جمعاء بتحديث المقاربات الفلسفية والمعرفية لهذه الشخصية الإلهية الفذَّة يزداد يوماً بعد آخر، وطبقاً لكلِّ المنهجيات المتعاطفة والمناوئة للأديان، فإنَّ شخصية عليٍّ تثبت جدارتها وأرجحيتها دوماً للخروج من امتحان الفكر والنقد بأفضل النتائج التي تؤهِّله لأن يكون الشخصية الأكثر خلوداً في تأريخ العالم.

أعتقد أنَّ الإجابة على هذا التساؤل من أعقد المسائل، ومن أبسطها في الوقت نفسه، فهو من أعقدها إذا أردنا أن ندرس شخصية الإمام عليٍّ عليه السلام دراسةً وضعيةً تأريخيةً تغفل وجود الجانب الإلهيّ في هذه الشخصية العجيبة، كما أنه من أبسطها إن اخترنا الجانب الآخر من المسألة، وهو أن ندرس علياً عليه السلام من خلال هذا الجانب الإلهيّ بالذات، أي أن ندرسه من خلال القرآن، فإذا اعتقدنا أنَّ علياً كان هو القرآن الناطق كما صرَّح صادقاً بهذه الحقيقة عن نفسه، فإنَّ السبيل الأوفق لدراسة عليٍّ في هذه الحالة هو أن نطابق بين معارف القرآن ومعارفه، ثمَّ أن نطابق بين شخصيته وبين ما تضمَّنه هذا الكتاب الإلهيُّ المعجز من العلوم والتشريعات الباطنية والظاهرية، ثمَّ ننتقل خطوةً أخرى فنقول: إنَّ علياً عليه السلام هو القرآن وحسب.

فالخيار الشخصيّ إذن هو أن أجيء بكلِّ ما تحدَّث به المفسِّرون والعرفاء والحكماء الإلهيون وكلّ ما ورد على خيال الشعراء من الصور البيانية والجمالية التي ألهمهم إياها الإسلام، فأقول: إنها قيلت في تقييم شخصية عليّ بن أبي طالبٍ عليه السلام. ومن هذا المنطلق، فإني لا أوافق على ذلك الإتجاه الفكريّ الحديث في الإسلام الذي يوجِّه انتقاداً عنيفاً إلى منهجية المطابقة بين المفاهيم القرآنية في مستوياتها المثالية العليا التي وردت في القرآن وبين عليٍّ عليه السلام، فعليٌّ فعلاً هو النبأ العظيم، كما أنه فعلاً هو الصراط المستقيم، بل إنَّ علياً فعلاً قديمٌ في علم الله، حادثٌ بدمه ولحمه وعظمه، كما هو الشأن في القرآن، القديم في علم الله، الحادث بحروفه وكلماته وتراكيبه اللغوية التي تتساوق مع مقتضيات عصر نزوله، من دون أن يفقد قابليته على الاستمرار في الفاعلية والتأثير، إذ هو الحلُّ الأمثل لكلِّ المشاكل التي تواجه البشرية على المستوى الحضاريّ والروحيّ بغضِّ النظر عن اختلاف الأقوام في اختلاف الزمان والمكان.

هذا هو الخيار الشخصيّ بالنسبة لي، ولا أفرضه على الجميع طبعاً، فإنَّ هناك من يشاء أن يدرس علياً عليه السلام دراسةً وضعيةً تأريخيةً، وأن يجرِّده من ذلك البعد الإلهيّ أثناء الدراسة، فله ذلك، لكنني واثقٌ من النتيجة، إذ إنَّ أحكامه واستنتاجاته سوف لا تكون إلا في جانب عليٍّ عليه السلام، كما أنها سوف لا تشير إلا إلى حقيقةٍ واضحة، وهي أنَّ الإنسان بالمطلق محتاجٌ إلى أن يستلهم هذه الشخصية بكلِّ أبعادها الروحية والمعنوية والمعرفية الخالدة، سواءٌ في عصره الذي عاش فيه، أم في العصور التي تلت ذلك، وسواءٌ أيضاً في عصر الحداثة أم في عصر ما بعد الحداثة.

 

المقاربات التأريخية لشخصية الإمام عليٍّ عليه السلام.

لم يعد جديداً القول: إنَّ التأريخ الرسميّ الموجود للأمة الإسلامية هو تأريخٌ محرَّفٌ في أكثر تفاصيله التي تتعلَّق بتقييم التجارب السياسية في الإسلام، فليس من الصحيح أن يولي الباحث في التأريخ ثقته لتلك المدوَّنات التأريخية مهما ذاع صيتها وعلا شأنها في نظر الدارسين، لأنها تواريخ دوَّنها الملوك المتغلِّبون، حتى وإن لم يحدث ذلك بأقلامهم مباشرةً، فإنَّ المهمَّ هو أنهم أوجدوا الأجواء المناسبة لانتشار التزييف والتحريف والتدليس في كتابة التأريخ، سواءٌ كان ذلك عن طريق وعّاظ السلاطين على حدِّ تعبير الدكتور الورديّ، أو عن طريق البنية اللاشعورية العامَّة التي كوَّنت لدى أبناء تلك العصور عقلاً جمعياً عاماً منحازاً إلى الرؤية التأريخية التي تتبناها السلطة، بل ربما بلغ الأمر مستوىً أبعد من ذلك، إذ قد يحدث أن نجد مؤرِّخاً يتبنى موقفاً ضدَّ السلطة القائمة في زمانه، إلا أنه يعبِّر عن موقفٍ من التأريخ مشابهٍ للموقف التأريخيِّ الذي تتبناه السلطة القائمة، مع أنها موضوع معارضته، ومع أنها لا تحظى عنده بأية درجةٍ من درجات التأييد على الإطلاق.

كان عليٌّ عليه السلام محرجاً بالنسبة للتأريخ الإسلاميّ حقاً، فعلى الرغم من أنَّ هناك رغبةً عارمةً لتغييب عليٍّ عن المواطن التي تشير إلى أنه الإنسان الكامل بعد النبيّ (ص) مباشرةً، وعلى الرغم من نجاح أرباب السلطة في تدوين كلِّ هذا الكمِّ الهائل من التزوير ضدَّ الحقائق الناصعة التي تؤكِّد أحقيته في قيادة الأمة قيادةً إلهيةً منصوصةً بعد النبيّ (ص)، على الرغم من كلِّ ذلك، فإنَّ التأريخ بقي سائراً في خطِّ عليٍّ عليه السلام، لكن ضمن منعرجاتٍ وعقباتٍ كثيرة، فبدلاً من أن نصل إلى عليٍّ عليه السلام بخطِّ سيرٍ واحد، علينا أن نصبر قليلاً، فنسلك طرقاً متعدِّدة، فتكون النقطة النهائية التي تشكِّل عنوان الغاية من التأريخ كلِّه هو عليّ بن أبي طالبٍ بالتأكيد.

إنَّ التأريخ الإسلاميّ المدوَّن يمتاز بخاصِّية التناقض في سردياته التأريخية المتعلِّقة بمختلف الشخصيات والحوادث، ومن شأن المقاربات الفلسفية والتأريخية المستندة إلى اعتماد آليات التفكيك والحفر الأركيولوجيّ العميق داخل بنية النصوص التأريخية ذاتها، ومقارنة بعضها بالبعض الآخر عند المؤرِّخ الواحد أو عند المؤرِّخين المتعدِّدين، أن تكشف لنا حجم واتجاه هذا التناقض، ومن خلال متابعتي الخاصَّة للعديد من مدوَّنات التأريخ الإسلاميّ استخلصت بعض النتائج التي ينفعنا ذكرها في هذا المقام:

النتيجة الأولى: إنَّ التأريخ الإسلاميّ محكومٌ بعقدةٍ أصيب بها جميع المؤرِّخين تقريباً، وهي عقدة مسايرة النظام الحاكم في توجُّهاته العامَّة، فإن كان الحاكم يؤمن بنظرية الإمامة السنية، فعلى كلِّ مؤرِّخٍ في تلك الحقبة أن يكيِّف روايات التأريخ بما ينسجم مع هذه الرؤية، وليس من الضروريّ أن يحذف الحدث التأريخيّ كلَّه، بل المهمّ أن يجري بعض التعديلات والتحويرات على الرواية، بحيث تبدو كما لو أنها تؤدِّي إلى ذات النتائج التي تنسجم مع رؤية الحاكم.

النتيجة الثانية: إنَّ التأريخ الإسلاميّ المدوَّن في المصادر الرسمية ليست تأريخاً مفلسفاً على كلِّ حالٍ، أي إنَّ منهجية السرد التأريخيّ للحوادث لا تختلف في شيءٍ عن الطريقة العرفية الجارية بين الناس في نقل الحوادث اليومية أو التأريخية، ومن شأن هذه المنهجية الفجَّة أن تعرِّض الرواية التأريخية للزيادة أو النقص بحسب أهواء الرواة، وقد تسبَّبت هذه المنهجية في وجود قدرٍ عالٍ من التناقض في سرديات التأريخ مع الأسف.

ربما يُستثنى من هذه القاعدة بعض الأحداث التأريخية التي لها مدخليةٌ بمبحث الإمامة في الإسلام، فقد أدخلها المتكلِّمون في نطاق المحاكمات العقلية والفلسفية، ومع ذلك، فإنَّ تلك المنهجية العرفية في السرد التأريخيّ أسهمت في عملية استمرار الجدل بين المتكلِّمين حول صحَّة تلك الروايات أو عدم صحَّتها، ولو أنَّ المؤرِّخين أنفسهم أثناء تدوين التأريخ كانوا يتمتَّعون بأفقٍ عقليٍّ أو فلسفيٍّ في محاكمة الروايات، لجنَّبوا النخب الفكرية من المتكلِّمين والمفسِّرين والفقهاء وغيرهم مسألة الخلاف حول صحَّتها أو عدم صحَّتها من الأساس.

النتيجة الثالثة: ما قد بات معلوماً في الأوساط العلمية التي تهتمُّ بدراسة التأريخ، من أنَّ التأريخ الإسلاميّ إنما هو تأريخٌ تتمحور أحداثه حول السلاطين والوزراء وما إلى ذلك من الشخصيات التافهة، ولم يهتمَّ بكتابة تأريخ الشعوب إلا ما ورد بشكلٍ عرضيٍّ غير مقصود.

النتيجة الرابعة: لم يهتمَّ الشيعة بكتابة المدوَّنات التأريخية بشكلٍ كبير، ما عدا تأريخ المسعوديّ، وبعض المصادر التأريخية غير الهامَّة، وربما لعبت بعض العوامل دوراً في إعراض الشيعة عن تدوين التأريخ بشكلٍ واسع، منها:

أ‌-اكتفاؤهم بما يرد على لسان الأئمة من رواية الأحداث التأريخية، فتكون قد وجدت السرديات التأريخية في كتب الحديث وبعض التفاسير المتقدِّمة، وكتب علم الكلام... إلخ.

ب‌- عامل التقية، فإنَّ التأريخ حقلٌ خطيرٌ كما هو معلوم، ويخضع لمراقبة السلطة بشكلٍ مركَّز، وبناءً عليه، فإنَّ علماء الشيعة ونخبهم الفكرية في الفترات المتقدِّمة كانوا يؤثرون الابتعاد عن تدوين تأريخهم الخاصّ في كتبٍ بارزةٍ كما هو شأن الطبريّ وابن الأثير ومن نسج على منوالهم من المؤرِّخين السابقين.

ت‌- ربما كتب بعض المؤرِّخين الشيعة تأريخاً عامّاً، إلا أنَّ انقلاب الظروف السياسية ضدَّ الشيعة في العديد من مراحل التأريخ حال دون وصول تلك المدوَّنات إلينا، والحقيقة أنَّ عدداً كبيراً من مؤلَّفات الشيعة تعرَّضت إلى التلف في التأريخ بسبب ذلك، وربما كان إضرام النار في بيت العلامة الطوسيّ مما تسبَّب في إحراق عددٍ هائلٍ من كتبه شاهداً بارزاً على ذلك.

إنَّ التأريخ الإسلاميّ لَيفقد معقوليته كلَّها واتزانه المنطقيّ بمجرَّد أن يتمَّ تغييب عليّ بن أبي طالبٍ من ساحة الحقّ المطلق الذي كان يدور معه حيثما دار، فلا يوجد حقٌّ يُعرف بالرجال، بل يُعرف الرجال بالحقِّ كما قال هو عليه السلام، إلا في حالته الخاصَّة، حيث يُعرف الحقُّ به بوصفه إنساناً إلهياً كاملاً، ولم يشأ أحدٌ أن يعرفه بالحقِّ المزعوم عنده، المصاغ بحسب الرغبات والأهواء الشخصية، والمسبقات الذهنية الناتجة من مسيرة الانحراف في حياة الناس إلا ضلَّ عن الحقِّ وما اهتدى إليه بالمرَّة.

إنني أشجِّع المنهجيات الحديثة في دراسة التأريخ الإسلاميّ في الكثير من التفاصيل، ولا يخفى عليَّ ما تتضمَّنه الدراسات التي اتبعت هذه المنهجيات الحديثة من النتائج التي لا تنسجم مع ثوابت الإسلام، أعرف هذا جيِّداً من خلال السياحة الطويلة في التراث الحداثيّ ضمن أغلب فروعه واختصاصاته، ولكني أدرك في المقابل أنَّ سبب الانحراف في تقرير عددٍ كبيرٍ من النتائج، ليس هو المنهج، بقدر ما هو المتبنى العقائديّ والإيديولوجيّ المسبق في أذهان المؤرِّخين، ولولا ذلك لأدَّت المناهج الحديثة ثمراتٍ طيبةً ويانعةً على صعيد استنباط عددٍ هائلٍ من الحقائق الواقعة في طريق تنقية التأريخ الإسلاميّ من خزعبلات الوعّاظ، وتوجُّهات الحكّام، وأكاذيب الرواة.

 

المطابقة التامة بين شخصية الرسول وشخصية عليّ عليه السلام

إنَّ مصدر الاستغراب من هذه القضية، أعني المطابقة بين شخصية الرسول الأعظم وبين شخصية الإمام هو:

1-   النبيّ (ص) اصطفاه الله للرسالة، فهو من هذه الجهة لا يقارن به أحدٌ من الناس على الإطلاق.

الجواب: إننا نقول: نعم، إنَّ النبيّ (ص) قال مخاطباً علياً: أخصمك بالنبوة، فلا نبوة بعدي. وقال: إنك مني كهارون من موسى إلا أنه لا نبيَّ بعدي.

ويمكن استخراج عددٍ من الدلالات الالتزامية والتضمنية من هذين الحديثين:

الدلالة الأولى: إننا نفهم المطابقة بين الشخصيتين من خلال هذين الحديثين بالذات، لأنَّ قوله (ص): أخصمك بالنبوَّة، دالٌّ على أنَّ جهات المطابقة كلَّها متحققة، إلا جهةً واحدة، وهي النبوة، فإذا قلنا إنَّ النبوة ليست من مقولة الذاتيّ بالنسبة للشخصية، بل من مقولة العرضيّ، بدليل أنَّ النبيّ (ص) نفسه كان قبل أن يبلغ الأربعين عاماً ليس نبياً، ومع ذلك كانت شخصيته أكمل الشخصيات أبداً وسرمداً على الإطلاق، عرفنا أنَّ اتصاف محمد (ص) بالنبوة وعدم اتصاف عليٍّ (ع) بها لا يخدش مفهوم المطابقة بين الشخصيتين، هذا مع الاعتراف بأنَّ اتصاف النبيّ (ص) بالنبوة يحتِّم على الإمام عليٍّ (ع) متابعته في كلِّ شيء، وعدم تقدُّم قوله على قول النبيّ (ص) بطبيعة الحال.

الدلالة الثانية: نفهم من المطابقة بين الشخصيتين بحسب دلالة الحديثين نفسيهما مع وجود المائز العرضيّ وهو النبوة، إشارة النبيّ (ص) الواضحة للأمة بأنَّ عليها متابعة الإمام عليّ (ع) بعد النبيّ (ص)، بهذا المفهوم المتضمَّن في الحديثين، وهو أفضلية عليّ (ع) على كلِّ البشر في زمانه، فضلاً عن الأزمنة السابقة واللاحقة، تماماً كما هو حال أفضلية النبيّ (ص) بلا تمييز.

الدلالة الثالثة: نحن نضمُّ الدلالتين السابقتين إلى دلالة عددٍ كبيرٍ من الأحاديث، وكلها يقضي بوجوب متابعة عليٍّ (ع) في كلِّ شيء، منها:

أ‌-    قوله (ص): "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع علياً فقد أطاعني، ومن عصى علياً فقد عصاني" مستدرك الحاكم ج3/121.

ب‌-  ومنها أيضاً: "من  أحبَّ علياً فقد أحبني، ومن أبغض علياً فقد أبغضني". صحيح مسلم ج1/كتاب الإيمان 46.

ت‌-    قوله (ص): "عليٌّ باب علمي ومبينٌّ من بعدي لأمتي ما أرسلت به، حبه إيمانٌ وبغضه نفاق". كنز العمال ج6/156

إلى عشرات الأحاديث النبوية الشريفة التي تعكس ذات المدلول في سياق بيان وجوب حقِّ الطاعة لعليٍّ (ع) على الأمة من بعد الرسول (ص) من دون وجود فرقٍ بين مستويات الطاعة وحيثياتها وتفاصيلها، فهي واحدةٌ من جميع الجهات.

2-   يمكن انتزاع مفهومٍ يقضي بعدم اكتمال الدين في حال التسليم بالمطابقة، وهذا خلاف ما أجمعت عليه الأمة الإسلامية من أنَّ الدين اكتمل بوفاة النبيِّ (ص) وانتهاء عملية الوحي.

الجواب: كلا، لا ينتزع مثل هذا المفهوم بالضرورة، مع ملاحظة ما يلي:

أوَّلاً: إنَّ قضية المطابقة بين الشخصيتين، ولزوم متابعة الإمام (ع) بعد النبيّ (ص)، هي جزءٌ لا يتجزأ من القضية الأعمّ، وهي القضية المتعلِّقة باكتمال الدين، أي إنَّ الدين اكتمل بأن قام النبيّ (ص) بتبليغ الرسالة التي تقضي بمتابعة الإمام من بعده بحسب قاعدة المطابقة، الأمر الذي يعني أنَّ الدين لا يكون كاملاً إلا مع التسليم بمفهوم المطابقة مع الاعتراف بمائز النبوة، فلا لزوم للمحذور المذكور في البين.

ثانياً: إنَّ المطابقة بين شخصيةٍ ما وشخصيةٍ أخرى، لا يستلزم أن ينسخ أحدهما شريعة الآخر، ناهيك عن كون هذا المفهوم بلا موضوعٍ في المقام، بسبب وجود المائز النبويّ بين الشخصيتين، بل يمكن أن يكون أحدهما غير النبيّ شارحاً ومبيناً لعلم الآخر النبيّ وسنته بتنصيبٍ من الله بعنوان الإمامة، لكنَّ شرحه وبيانه يتضمن معنى المطابقة لمراد النبيّ، وليس هو كأيِّ شرحٍ مرتجلٍ آخر. وهذا هو المتحصَّل من قول النبيّ (ص): "عليٌّ باب علمي ومبيِّنٌ من بعدي لأمتي ما أرسلت به، حبه إيمانٌ، وبغضه نفاق".

3-   إنَّ إجراء المطابقة، حتى مع الاعتراف بمائز النبوة للنبيّ (ص)، فيكون النبيّ متقدماً على الإمام عليٍّ (ع) من هذه الجهة، يستلزم التسليم بمحذورٍ خطيرٍ جداً، وهو أن يكون الإمام عليٌّ، وكذا الأئمة من ولده مع ثبوت الأدلة على ذلك، أفضل بكثيرٍ من الأنبياء السابقين، لأنكم أشرتم بالبرهان المتقدِّم على عرضية النبوة بالإضافة إلى ما هو ذاتيٌّ في شخصية النبيّ (ص)، وهذا استنتاجٌ خطيرٌ لا نجد الضمير الدينيّ يتفق معكم حوله على أية حال.

 

الجواب:

أوَّلاً: نحن فعلاً نقول ذلك، ولا نسمِّي مثل هذه النتيجة محذوراً، لأنه من عقائدنا التي قام عليها البرهان، فإذا كانت شخصية الإمام مطابقةً لشخصية النبيّ (ص) مع الاعتراف بمائز النبوة بحسب ما قام عليه الدليل ضمن البيان المتقدِّم، فإنَّ النتيجة المنطقية لذلك هي أن يكون عليٌّ (ع) أفضل من جميع الأنبياء السابقين، بمن فيهم الأنبياء أولو العزم (ع) طبعاً، مع الاعتراف لهم بوجود مائز النبوة أيضاً، إلا أنَّ الإمامة التي تقوم على أساس قيادة الأمة وبيان مضمون الرسالة المحمدية هي أفضل بما لا يقاس من نبوة الأنبياء السابقين كذلك، بدليل قوله (ص) المرويّ عن طريق الفريقين: "علماء أمتي خيرٌ من أنبياء بني إسرائيل".

والمفهوم من هذا الحديث معنيان:

المعنى الأوَّل: هو المعنى المنطبق على العلماء كافَّةً، الذين بلغوا درجاتٍ عليا من فهم الشريعة والاجتهاد فيها.

المعنى الثاني: هو المعنى المنطبق على المعصومين من آل البيت (ع)على وجه التحديد.

وعلى كلا المعنيين، يكون تفضيل غير النبيّ (ص) على الأنبياء السابقين مستساغاً ومقبولاً، فلا يبقى معه مجالٌ للدهشة أو الاستغراب.

ثانياً: إننا نستغرب من عدم موافقة الضمير الدينيّ لأتباع المذاهب الإسلامية الأخرى على مثل هذه النتيجة مادامت مبرهناً عليها نقلاً وعقلاً كما اتضح من البيان المتقدِّم.

فإنَّ المفروض هو أن تكون العقيدة الدينية -بما هي عقيدةٌ مطابقةٌ لمقتضى الأدلة الشرعية والعقلية- هي الشيء الأهمّ في حياة المرء، وليست النتائج التي لا يساعد الدليل الشرعيّ والعقليّ على إثبات حقانيتها وصدقها، فهي إنما قامت على أساس مسبقاتٍ ذهنيةٍ موروثةٍ من التأريخ، من دون أن تتمَّ مراجعتها من الناحية العلمية والنقدية والموضوعية، فما قام عليه الدليل شرعاً وعقلاً هو ما يوفِّر الحجة والمعذّرية للمرء أمام الله، وليس ما ورثه من عقائد لم تصمد أمام الدليل والبرهان.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2135الثلاثاء  29 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم