دراسات وبحوث

إشكالية الإشهاد على وفاة الامام الكاظم / غالب حسن الشابندر

مع السلطة والاهل والاقرباء محفوفة بالمخاطر، بسبب كونها ضعيفة، فهي إمّا مرسلة، أو متصلة السند ولكنها ضعيفة لضعف رواتها، من الصعب أن نعثر على رواية متصلة السند، وفيما حصلنا عليها نعاني من ضعف السند بالذات، إلاّ نادرا، وطالما يكون مصدر الرواية من رجال السلطة وازلامها أو العاملين معها، مثل الفضل بن الربيع ومحمد بن سليمان النوفلي وغيرهما، وهذه مشكلة كبيرة حقا، فما هو العمل؟

شخصيا استعرض جميع ما تصل إليه قدرتي من الروايات الموجودة بصرف النظر عن صحة سندها هنا لانها تكاد ان تكون جميعها ضعيفة لسبب من الاسباب، وفي السياق اتبع ما يلي: ـ

1: استبعد العناصر الغيبية والاعجازية حتى وإنْ كانت قدرا مشتركا بين الروايات .

2: ارجِّح الرواية المتصلة السند لكن مع محاكمة للسند والمتن بطبيعة الحال.

3: اتلقى بالقبول القدر المشترك بين الروايات شريطة المعقولية، وكما قلت أني لا التفت إلى غير المعقول أو الغيبي أو الاعجازي حتى وإن كان قدرا مشتركا .

4: استبعد العناصر التي اشم منها اساءة للإمام بشكل من الاشكال .

5: استبعد العناصر التي اشم منها تلميع أو إعادة الاعتبار للخليفة أو تبرير عمله بحق الإمام .

6: استبعد العناصر التي أشم أن من وراءها نيَّة تاسيس مشروع عقدي أو دعم طرح عقدي .

وهناك معالجات اخرى اتعرض لها في اثناء البحث، بإذن الله تبارك وتعالى.

ولكن فيما وجدت رواية صحيحة فهي الفيصل حينئذ، والاعتماد عليها يكون العمدة .

 

ملاحظة مهمة:

تهتم الرواية الشيعية كثيرا بموت الإمام الكاظم بحيث تفوق في ذلك الاهتمام بوفاة الائمة الآخرين، لا من حيث الكيفية، بل من حيث الوقوع والحصول، حتى أن الصدوق في كتابه الموسوم (عيون أخبار الامام الرضا) يفرد بابا خاصا بذلك تحت عنوان: (باب 8، الاخبار التي رويت في صِحَّة وفاة أبي إبراهيم موسى بن محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب)، وقد صدَّر العنوان بالنسب الكامل للإمام الكاظم، وهي مطلوبة حتما ...

 

لماذا هذا الاهتمام يا تُرى؟

لقد تحدَّث التراث الشيعي عن موته، وكيفية موته، والإشهاد على موته، وكيفية تغسيله وتكفينه ودفنه، ونعيه لنفسه، فضلا عن توكيد ذلك عبر نسب أخبار للامام الصادق بموت ابنه فيما بعد، وتوكيد الامام الرضا على موته ... كانت حوليات موت الامام الكاظم في التراث الشيعي كثيرة ومتشعبة، وفيها روايات، بل وفيها جدل ونقاش ....

السبب الرئيس في كل ذلك هو الرد على فرقة الواقفة، اي الفرقة التي ادَّعت الوقف علي الكاظم، حيث ادَّعت بانه لم يمت، ولا امامة بعد الكاظم، كانت هذه الفرقة بمثابة هزَّة عقدية في الجسم الشيعي، واحدثت شرخا خطيرا، الامر الذي تسبب بهذا الاهتمام الزائد بموت الامام الكاظم، اثباتا، وكيفية، ومصيرا، ومن الطبيعي وهذه الحال أن تدخل بعض المبالغات والاختلاقات في سياق هذه المعالجة .

السلطة من جانبها كانت هي الاخرى حريصة على إشهاد الاخرين على موت الامام، وغرض السلطة مزدوج، الاول: إن موسى بن جعفر مات حقا، لان بعض الوسط الشيعي كان يرى أن الامام الكاظم لم يمت، كان ذلك كما يبدو حتى في سني حياته، وكون الكاظم لم يمت وإنما غاب عن الانظار وسوف يعود مرّة اخرى يقلق السلطة، والثاني: إثبات براءة السلطة من قتله اوتعذيبه، وبسبب هذا واذك كثرت الروايات التي تتحدث عن موت الإمام الكاظم .

 

الروايات:

1: في اليعقوبي: (... وأحضر ـ هارون الرشيد ـ القواد والكتاب والهاشميين والقضاة ومن حضر ببغداد من الطالبيين ثم كشف عن وجهه فقال لهم: أتعرفون هذا ؟ قالوا: نعرفه حق معرفته، هذا موسى بن جعفر، فقال هارون: أترون أن به أثراً وما يدل على اغتيال ؟ قالوا: لا ...) 45 / 2 ص 150.

 

2: في تاريخ بغداد: (... السندي بن شاهك عن أبيه قال: كان موسى بن جعفر عندنا محبوسا، فلما مات بعثنا إلى جماعة من العُدَّل من الكرخ فادخلناهم عليه، فاشهدناهم على موته ...)46 . ص 32

يروي ابن شهراشوب: (ولما استشهد صلوات الله عليه أدخل السندي عليه الفقهاء من الناس وجمع الناس من أهل بغداد، وفيهم الهيثم بن عدي فنظروا إليه، لا أثر به من جراح ولا خنق ...)47 / اعلام الورى 299 /

3: يروي النيسابوري صاحب روضة الواعظين: (... أدخل السندي بن شاهك عليه الفقهاء ووجوه أهل بغداد، وفيهم الهيثم بن عدي، وغيره، فنظروا إليه لا اثر به من جراح ولا خنق، واشهدهم أنه مات حتف أنفه، فشهدوا على ذلك ...) 48 ص 187 ـ 189 .

4: يروي الشيخ المفيد (... ولما مات موسى عليه السلام أدخل السندي بن شاهك عليه الفقهاء، ووجوه أهل بغداد، وفيهم الهيثم بن عدي وغيره، فنظروا إليه لا اثر به من جراح، ولا خنق، واشهدهم على أنه مات حتف أنفه ...) ص

5: يروي الصدوق (... حدَّثنا أحمد بن زياد الهمداني ـ رضي الله عنه ـ قال: حدَّثنا علي بن إبراهيم، عن ابيه إبراهيم بن هاشم، عن محمَّد بن صدقة العنبري قال: لما توفي ابو ابراهيم موسى بن جعفر عليهما السلام جمع هارون الرشيد شيوخ الطالبية، وبني العباس، وسائر أهل المملكة والحكام، وأحضر أبا ابراهيم موسى بن جعفر عليه السلام فقال: هذا موسى بن جعفر قد مات حتف أنفه ... فانظروا إلى موسى بن جعفر عليهما السلام، وليس به أثر جراحة ولا سمٌ ولا خنق ، وكان في رجله أثر الحنَّاء ...) 49 / كمال ا لدين وتمام النعمة ص 39 /

هذه الرواية صحيحة بامتياز حسب مقاييس علم الرجال الشيعي، فإن أحمد بن زياد الهمداني مدحه الصدوق بقوله: (وكان رجلا، ثقة، ديِّنا، فاضلا، رحمة الله عليه ورضوانه) 50 / معجم 2 رقم 580 /، وعلي ابن ابراهيم وابنه ثقتان عند رجال الجرح والتعديل الشيعة، ومحمد بن صدقة العنبري من الثقاة العالين جدا جدا !

6: يروي الصدوق: (فيما روِيَ في وفاة موسى الكاظم عليهما السلام ما حدَّثني به محمد بن إ براهيم بن اسحق ـ رضي الله عنه ـ قال: حدَّثنا أحمد بن محمّد بن عمار قال: حدَّثني الحسن بن محمَّد القطعي، عن الحسن بن علي النخاس العدل، عن الحسن بن عبد الواحد الخزار، عن علي بن جعفر، عن عمر بن واقد قال: ارسل إليَّ السندي بن شاهك في بعض بغداد ...) ويدعي عمر بن واقد ان السندي بن شاهك كلَّفه باستحضار من يعرف موسى بن جعفر، ولما حضروا عرض السندي جثمان الإمام عليهم وقال لهم: (أترون به أثراً تنكرونه ؟ فقلنا ـ أي الحضور ـ لا، ما نرى به شيئا، ولا نراه إلاّ ميِّتا) 51 كمال الدين ص 37 .

7: يروي صاحب كتاب قرب الإسناد: (ابو العباس الحميري، عن محمَّد بن عيسى، عن الحسن بن محمَّد بن يسار قال: حدَّثني شيخ من أهل قطعية الربيع من العامَّة ممِّن كان يُقبَل منه قال: قال لي: قد رأيت بعض من يقولون بفضله من أهل هذا البيت فما رأيتُ مثله قط في نسكه وفضله قال: قلتُ: من وكيف رأيته ؟ قال: جمعنا السندي بن شاهك من الوجوه من يُنسَب الى الخير فادخلنا على موسى بن جعفر عليه السلام .

قال السندي: يا هؤلاء، إنظروا إلى هذا الرجل هل حدثَ فيه حدثٌ، فإن الناس يزعمون إنه قد فُعِل به، ويُكثرون في ذلك، وهذا منزله وفرشه موسَّعٌ عليه، غير مضيَّق، ولم يرد به أمير المؤمنين شرا، وإنما ينتظر به أن يقدم فيناظره أمير المؤمنين، وها هو ذا صحيح موسَّع في جميع أمره، فسئلوه فقال: اما ما ذكر من التوسعة ، وما اشبه ذلك فهو على ما ذكره، غير انِّي أخبركم إيها النَّفرُ، إنِّي سُقِيتُ السم سبع تمرات، وإنِّي أخضرُّ غدا، وبعد غد أموت، فنظرتُ إلى السندي بن شاهك يرتعد ويضطرب مثل السعفة، قال الحسن: وإن هذا الشيخ من خيار العامَّة، شيخ صدوق مقبول القول، ثقة ثقة جدا عند الناس) 52 / قرب الاسناد ص 142 /

هذه الرواية يرويها بنصِّها الصدوق في كتابه عيون اخبار الرضا 53 / 2 ص 91 ح 2، وفي كتابه الامالي 54 / 128 ح 20، وفيه: (تسع تمرات) بدل سبع تمرات !

كتاب (قرب الاسناد) مضطرب الوصول إلى الشيخ المجلسي، استنسخه المجلسي من نسخة قديمة من خط ابن ادريس، ولكن نحن لا نعرف نسخة ابن ادريس، ولم يذكر ابن ادريس كيف وصلت إليه النسخة هذه، وهناك تردد في اسم مصنفه بين عبد الله بن جعفر الحميري وبين ابنه ! وهناك اختلاف عميق حول وثاقة محمد بن عيسى اليقطيني، والبهبودي يضعِّفه تبعا للشيخ الطوسي ولاسباب اخرى 55 / معرفة الحديث رقم 127 .

هذه هي أهم الروايات التي عثرتُ عليها حول الإشهاد على موته، وهي كلها ضعيفة بما فيها رواية الخطيب، وحتى رواية قرب الاسناد والصدوق عن محمد بن عيسي اليقطيني يشوبها شك واضطراب ، الاّ رواية الصدوق رقم (5)، والغريب أنها تبريء السلطة حتى من تهمة التسميم، وهي القضية المشهورة طرا !

القراءة العامّة لهذه الروايات يمكن أن تفيدنا بما يلي: ـ

1: إن الامام لم يُقتل تعذيبا، ولم يتعرّض للتعذيب .

2: إن عملية الإشهاد حدثت كما يبدو َّمرتين، مرّة على يد السندي بن شاهك، واخرى على يد هارون الرشيد .

3: إن الحضور كان من عليَّة القوم، من اقارب الامام وشيعته وعيون المجتمع والسلطة .

4: إن عملية الإشهاد وبهذه الطريقة العلنية، وبحضور عليَّة القوم دليل ساطع على منزلة الإمام في ا لمجتمع البغدادي، وخوف السلطة من إتهام الناس لها باغتياله وقتله .

ولا اعتقد أن الحضور اعترف بسلامة جسم الامام من أثار التعذيب والحرق خوفا من السلطة، ولو كان ذلك لظهرت الحقيقة فيما بعد، كما من الصعب اخفاء آثار التعذيب فيما لو كانت بهذه السرعة، ربما اخفاء آثار السم ممكن، ولكن اخفاء آاثار الجروح والحروق خلال ثلاثة ايام بل واكثر شيء بعيد، خاصة إذا كانت حروقا وجروحا مميتة قاتلة .

لا استبعد ان التاريخ الشيعي كان يحرص على تظهير حضور العلية من القوم عمليَّةَ الإشهاد لأجل بيان منزلة الامام في المجتمع والامة آنذاك.

لقد كان من بين الحضور (الهيثم بن عدي) فمن هو ؟

يتبع

 

  

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2250 السبت 20 / 10 / 2012)

في المثقف اليوم