دراسات وبحوث

الشهرستاني والبحث عن هوية العلم الفلسفي / ميثم الجنابي

إن لم تكن أرقاها من حيث احتوائها النقدي لإنجازات القدماء. إذ استطاع وضع لبنات الاستمرار الفلسفي في الموقف من الفلسفة. وبالتالي جذبها من جديد إلى عالم الإسلام وتذويبها في الوعي التاريخي الفلسفي بوصفها أحد مقوماته العلمية. وهو إنجاز لم يعد جزءا من الماضي وتقاليده الخاصة في الموسوعات الفكرية العالمية بل ومعقولا في تاريخ المعاصرة بالنسبة لدراسة الفكر والثقافات الدينية والدنيوية، كما هو جلي في واقع الاعتراف المتزايد بما تركه لنا من إبداع فكري وعلمي كبير بهذا الصدد. وهو إنجاز لن يفقد قيمته مع مرور الزمن. على العكس إن كل توسع في المعارف وتعمق فيها سوف يبرز الجوانب المستترة في موسوعته العلمية الباهرة. وسوف يكشف بدوره عما فيها من منهجية راقية استطاعت أن تضع بصورة متجانسة أسس ومبادئ المنظومة الموسوعية لتاريخ وتصنيف الأديان والفرق الدينية والمدارس الفلسفية.

وبهذا المعنى يكون الشهرستاني قد تخطى حدود التقاليد الإغريقية في علومها عن آراء المدارس وظنونها (فيما يسمى بالدوكساغرافيا) والتقاليد النصرانية عن الهرطقة، والإسلامية عن الفرق. لقد جمع بينها على أسس علمية وفلسفية نقدية. إضافة لذلك تناول دراسة الأديان بالقدر الذي سمحت به معارفه آنذاك. ولم تكن دراسته استعراضا للتعاليم الدينية، بقدر ما احتوت على محاولة الكشف عن مدارسها اللاهوتية و"نوازعها" الفلسفية. وليس مصادفة أن يتزايد الاعتراف المتعاظم بشخصيته في العلم المعاصر والاعتراف المتزايد بكتابه (الملل والنحل) باعتبارها من بين أعظم الكتب القديمة بمادتها.

كما نعثر في شخصية الشهرستاني على تناقض دفين بين استمرار الثقافة وانقطاعها. فهو بشبه في علم تاريخ الأفكار ابن خلدون في علم التاريخ. إذ استطاع كل منهما بلوغ ذروته ومن ثم المساهمة في استمرار المعرفة ونقلها إلى آفاق أرحب، و"عرقلا" في نفس الوقت تطور العلم بسبب عدم ذوبانهما في منظومات تاريخ الفكر. إلا أنهما لم يكونا مسئولين عن ذلك بقدر ما كان هو نتاجا لعملية الاندثار الطويلة، التي لازمت انحلال الخلافة ومراكزها الثقافية الكبرى. فقد أدى هذا الانحلال إلى استعادة الضيق العقائدي، الذي أخذت تغذيه بقوة متعاظمة معالم الانحطاط السياسي. فإذا كانت النزعة العقائدية والخلافات المذهبية السابقة للشهرستاني جزءا من عملية "تثوير" الإمكانيات الجدلية والاكتشافات المعرفية، بوصفهما مكونات طبيعية وضرورية لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر في تاريخ "التقدم" الإنساني النظري والعملي، فإنهما اتخذا بعد الشهرستاني طابع الانعزال الضيق والمتزايد في تجزئته وتفاريعه وشروحه واختصاراته واجترارها المتكرر. مما جعل منها "استمرار"عديمة الأهمية بما في ذلك ما يتعلق منه بتقييم الشهرستاني. وليس مصادفة أن نعثر على أصداء هذا الانحطاط حتى عند بعض المعاصرين له، كما هو الحال عند البيهقي (ت - 565)، الذي قال بان الشهرستاني خلط في كتابه الكلام والفلسفة، والحموي (ت - 626)، الذي قال بأن الشهرستاني كان بإمكانه أن يكون إماما كبيرا لو لا ميله إلى الإلحاد والفلسفة واهتمامه بها. في حين لم يجد الرازي في الجزء الفلسفي من كتاب الشهرستاني سوى سرقة لكتاب (صوان الحكمة).

أما في الواقع فقد سار إبداع الشهرستاني في نفس التقاليد التصنيفية لعلم الملل والنحل، إلا أنه تخطاها في موقفه من الفلسفة والفلاسفة. فهو من بين أولئك العلماء الذين صاغوا عبر تحديد ماهية الفلسفة وأقسامها موقفا ضمنيا منها. وفي الوقت نفسه أفلح في تصنيف مدارسها واستعراضها النقدي على أسس منهجية وعلمية تتصف بالموضوعية والحياد كما بلورها في مقدمته القائلة: "شرطي على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على ما وجدته في كتبهم من غير تعصب لهم ولا كسر عليهم، دون أن أبين صحيحه من فاسده وأعين حقه على باطله، وإن كان لا يخفى على الإفهام الذكية في مدارج الدلائل العقلية لمحات الحق من نفحات الباطل". بعبارة أخرى إنه يضع أمامنا منهجية واضحة المعالم تستند إلى قواعد محددة منها إيراد ما يجده في كتبهم دون مجادلتها والتعصب لها أو عليها، بل والتخلي حتى عن توضيح الصحيح من الفاسد. ولا يعني ذلك سوى التعبير الصريح عن نزعته الموضوعية التي لا تتعارض مع التفريق بين الصواب والخطأ. إذ وجد فيها أمورا تتعلق بالاعتقادات والميول الشخصية. أما تمييز الحق من الباطل فإنه ليس صعبا بالنسبة لأولئك المتمرسين في تجربة الأدلة المنطقية. وليست هذه المنهجية في الواقع سوى الصيغة الأكثر علمية في تعبيرها عن الغاية النهائية لكتابه. فقد أشار في أولى صفحات كتابه إلى أنه بعد أن "طالع مقالات أهل العالم من أرباب الديانات والملل وأهل الأهواء والنحل، والوقوف على مصادرها ومواردها، واقتناص أوانسها وشواردها، أراد أن يجمع ذلك في مختصر يحوي جميع ما تدين به المتدينون وانتحله المنتحلون عبرة لمن استبصر واستبصارا لمن اعتبر". ذلك يعني أنه أراد إدخال تجارب الأسلاف الفكرية في استبصار العقل، وجعل البصيرة العقلية معيارا لتجارب الحاضر. واتخذ من الفلسفة ومقالات الملل (الأديان) نماذج ضرورية للتدليل والبرهنة.

لم تكن الفلسفة إبداعا خاصا بمنطقة وحضارة معينة، بقدر ما كانت نتاجا للتجارب الإنسانية. وهو الأمر الذي يجعل منها موضوعا للعبرة والاستبصار. إلا أن مأثرة الشهرستاني لا تقف عند هذه الحدود، بل تتعداها إلى محاولة إبراز وحدة التراث العالمي في بحثه عن الحقيقة وسهوه فيه. لهذا لم تتحدد مصادر الشهرستاني بفرقة محددة من الفرق، بل بمصادر الثقافة المعاصرة له في مختلف تياراتها. أما المحاولات التي أرجعت موقفه من المدارس الفلسفية وتقييمها إلى تيار معين، فإنها تعاني من نقص جوهري يقوم في عدم إدراكها مضمون فكرته المنهجية عن العبرة والاستبصار. ومن الممكن إجمال مصادر الشهرستاني في دراسته للفلسفة بكل من العلم الفلسفي نفسه والكلام وفن طبقات الحكماء والنوادر وعلم الملل والنحل الإسلامي نفسه. فقد شكلت هذه المصادر المقدمة الضرورية لحصيلته النظرية العامة، كما أرست في نفس الوقت أسلوب تطوره الذهني وثقافته الكلامية والفلسفية.

وقف الشهرستاني أمام تجربة الثقافة الإسلامية العريقة في تعاملها مع الفكر الفلسفي. وتكفي الإشارة إلى الأسماء الكبرى كابن جلجل (ت - 384) وأبي سليمان السجستاني (ت - 391) وابن النديم (ت - 438) وصاعد الأندلسي (ت - 462) والمبشر بن فاتك (ت - 480) والبيهقي وغيرهم لكي تتضح درجة تطور التقاليد العلمية لتصنيف واستعراض المدارس الفلسفية وشخصياتها الكبرى. إذ نقف أمام نماذج متنوعة في تصنيف الأبحاث المتعلقة بالفلسفة والفلاسفة والحكمة والحكماء. فهناك تصانيف تتميز بمعلوماتها الغزيرة والمثيرة مثلما هو الحال عند ابن جلجل في (طبقات الأطباء) وابن النديم في (الفهرست) والمبشر بن فاتك في (مختار الحكم ومحاسن الكلم). وهناك من توسع فيها ودقق كما هو الحال في (صوان الحكمة) للسجستاني و(تتمته) للبيهقي، وهناك من حاول التأسيس لرؤية ثقافية عن الفلسفة والفلاسفة كما هو الحال في (طبقات الأمم) لصاعد الأندلسي. والشيء الجوهري الذي يشترك فيه هؤلاء جميعا هو حب التصنيف. غير أن وراء هذا الوازع منهجيات مختلفة، شكلت بمجموعها، إلى جانب كتب النوادر والحكمة، مثل (نوادر الفلاسفة) ليحيى بن عدي (ت 364هـ) و(الحكمة الخالدة) لمسكويه (ت 421) أمواج الآراء الفلسفية المتداولة في الوسط الثقافي. وهو تنوع أبدعته الحضارة الإسلامية، باعتباره جزءا من رؤيتها الأدبية والتاريخية والعلمية للآراء الفلسفية. وهي نتيجة يصعب توقعها بمعزل عن مكانة الفلسفة وتأثيرها في الوعي الاجتماعي ككل.

كانت الفلسفة بوصفها "علم الأوائل" تتطابق تاريخيا وثقافيا مع إبداع اليونان وامتداده الهيليني، أما الأدب السياسي والسلوكي فقد ارتبط عادة بفارس والهند. ويتضح ذلك فيما أشرت إليه في الفنون والمدارس الإسلامية عن الفلسفة والحكمة النظرية والعلمية. فقد كانت هذه الفنون جميعا توليفا لهذين الصدرين الكبيرين للشهرستاني. إلا أن مأثرته تقوم في انه حاول صهرهما على أسس جديدة عبر إعلاء الجانب العلمي في الفلسفة على الجانب الأدبي والسلوكي فيها.

إذ عادة ما تقدم المصنفات القديمة بهذا الصدد معلومات دقيقة عن الكتب الفلسفية المترجمة إضافة إلى تصوراتها الخاصة عن الفلسفة والفلاسفة القدماء. فهي تشير إلى تراجم كتب ثاوفرسطيس (كتاب النفس، والآثار العلوية ، والأدب، والحس والمحسوس، وما بعد الطبيعة) ، وكتب السكندر الافروديسي (كتاب النفس، والكون وغيرها) ، وكتب فورفوريوس (ايساغوجي في المدخل إلى الكتب المنطقية، وكتاب الاسطقسات، وكتاب أخبار الفلاسفة) ، وكتب يحيى النحوي (كتاب الرد على ارسطوطاليس، والرد على نسطور). وتنقل لنا المصادر التاريخية معلومات دقيقة عن الكتب التي قام بترجمتها مترجمون أفذاذ. وفيما لو أجملنا الكتب الفلسفية المترجمة، فإننا نستطيع أن نكون صورة أولية وعامة عما كان بإمكانه أن يكون في متناول الشهرستاني من مؤلفات حقيقية ومنحولة للفلسفة القديمة. فقد قام حنين بن اسحق (ت - 260) بترجمة الكثير من الكتب إلى السريانية ثم تقلها لاحقا إلى العربية مثل كتاب العبارة (بارى ارمينياس)، والقياس (أنالوطيقا الأولى) والبرهان (أنالوطيقا الثانية) والسماع الطبيعي ، والسماء والعالم، والنفس، والمقالة الحادية عشر من كتاب الحروف (الإلهيات). في حين تنسب إلى الكندي (ت 252) ترجمة ميتافيزيقيا أرسطو (الكتاب الثالث عشر) وكتابي القياس والبرهان (أنالوطيقا الأولى والثانية) وكذلك كتاب السوفسطيقا لأرسطو. وقد أغنى اسحق بن حنين (ت 298) المكتبة الفلسفية بترجمات ارسطو للعربية عن السريانية والإغريقية مثل كتاب المقولات (قاطيغورياس) وكتب العبارة والقياس والبرهان والجدل (طوبيقا). كما نقل إلى العربية كتاب الخطابة (ريطوريقا) والكون والفساد، وكتاب النفس، والأخلاق، والإلهيات. وترجم حبيش بن الحسن الأعسم الكتب الأفلاطونية إلى العربية مثل النواميس، والجمهورية وطيماوس، إضافة إلى كتاب الطبيعة والمقولات والأخلاق الكبير لأرسطو. في حين ترجم قسطاص بن لوقا (ت 311) إضافة لبعض مقالات أرسطو، كتاب آراء الطبيعيين الشهير المنسوب لفلوطرخس. وترجم متي بن يونس (ت 328) إلى العربية ما سبق لحنين بن اسحق أن ترجمه إلى السريانية، مثل المقالة الحادية عشر من كتاب الحروف (الإلهيات)، إضافة إلى كتاب الشعر (أبوطيقا) ومقالتين من كتاب البرهان (أنالوطيقا الثانية) وكذلك كتب الحس والمحسوس، والكون والفساد لارسطو. وأضاف يحيى بن عدي (ت 364) إلى المكتبة العربية أيضا كتاب السماء والعالم بشرح ثامسطيوس، والآثار العلوية، وسوفسطيقا وأبوطيقا وطوبيقا، إضافة إلى تحسينه ترجمة كتاب السماع الطبيعي بتفسير السكندر الافروديسي. ونقل عيسى بن اسحق بن زرعة (ت 398) من السريانية إلى العربية كتاب الحيوان لأرسطو، ومنافع أعضاء الحيوان بتفسير يحيى النحوي، وخمس مقالات من كتاب نيقولاوس في فلسفة أرسطو، وسوفسطيقا أرسطو.

يكشف هذا الجرد العام تنوع وحدود الاهتمام الفلسفي. أنه يقدم مادة ملموسة عن المتداول في الوسط الفلسفي الذي تضمن إلى جانب المؤلفات الحقيقية والجزئية لأرسطو وأفلاطون، كتب منحولة. وبغض النظر عن الموقف النقدي من التراث الهيليني المتأخر، إلا انه استطاع أن ينثر الكثير من رواسبه الملفقة وأخلاطه المتنافرة إلى عالم الكلام والفلسفة الإسلاميين. ومأثرة الشهرستاني بهذا الصدد تقوم ليس فقط في تصنيفه وفصله الثانوي عن الأساسي، بل وفي تدقيقه النقدي لها. غير أن ذلك لا يعني خلو كتابه من الأخطاء الشائعة آنذاك. أما الأحكام المنتشرة عن مصادر الشهرستاني، فإنها تبقى مجرد فرضيات لا قيمة لها دون تحديد الصلة الفعلية لهذه المصادر بآرائه وطريقة استعراضه وتقييمه للمدارس الفلسفية وموقع هذه المصادر في موسوعته ككل. فالفرضية القائلة باستناده إلى كتاب (صوان الحكمة) أو (تتمة الصوان) أو الكتابات المنسوبة إلى فورفوريوس أو فلوطرخس، لها قيمتها العلمية فقط في حالة تتبع استمرار التقاليد الإغريقية في عالم الإسلام وكيفية تغلغلها في الثقافة الإسلامية وموقف الشهرستاني منها وكيفية استمرارها وغربلتها في موسوعته.

أما المصادر المباشرة التي يمكننا العثور عليها من خلال جمع المادة المتناثرة في كتاباته، فإنها لا تتجاوز إشارات عامة لكتب بعض الفلاسفة والشراح. فعندما يستعرض آراء انكساغورس، فإنه يشير إلى استفادته من آراء فورفوريوس وأرسطو. وعندما يتكلم عن سقراط، فإنه يشير إلى أنه يورد ما حكى عنه فلوطرخس في كتاب المبادئ. أما حكمة سقراط، فإنها موجودة في كتاب "فادن". وفي حديثه عن أفلاطون فإنه يستند إلى كتاب النواميس وكذلك مقالة الألف الكبرى من كتاب أرسطو ما بعد الطبيعة. وفي حديثه عن هوميروس، فإنه يشير إلى كتابات كورفس. ويستند في استعراضه لآراء أرسطو إلى شرح ثاميسطيوس وابن سينا. وفي حديثه عن "شبهات" برقلس يستند إلى كتاب فورقليس المنتسب إلى أفلاطون. وفي كلامه عن آراء السكندر الأفروديسي، يشير إلى كتابه في النفس.

مما سبق يتضح بأن الشهرستاني لا يشير بالأسماء المحددة إلا إلى ارسطو وأفلاطون وبرقليس وفورفوريوس وثاميسطيوس وفلوطرخس وكورفس والسكندر الأفروديسي وأبن سينا. كما نعثر عنده على عبارات تثير إشكاليات جديدة أمام البحث العلمي. ونعني بذلك تلك الكلمات التي أوردها في بداية الجزء الفلسفي من كتابه حال الكلام عن الحكماء اليونان القدماء (الأساطين السبعة)، عندما أكد على أنه "يذكر مذاهبهم على الترتيب الذي نقل في كتبهم"، أما في مجرى كلامه عن أرسطو فإنه يشير إلى أنه جمع الكثير من آرائه "من كتب متفرقة، فنقلها على الوجه الذي وجدت".

 ومن الصعب تحديد هذه "الكتب المتفرقة" بصورة يقينية تامة، لكننا نستطيع تحديد اغلبها من خلال دراسة ثقافة العصر في بحثها عن فلاسفة العالم القديم، وكذلك تقاليد علم الملل والنحل الإسلامي. فإضافة للكتب الحقيقية والمنحولة للفلسفة الأرسطية والأفلاطونية، والأفلاطونية المحدثة، والفيثاغورية، وبقراط وبرقلس ويحيى النحوي وشذرات الفلسفة السابقة لسقراط، فإن الثقافة الإسلامية في ترجماتها تمثلت أيضا التقاليد الإغريقية العريقة للدوكساغرافيا (علم النحل أو المدارس الفلسفية). ولعل من أشهرها الكتاب المنسوب إلى فلوطرخس (ت حوالي 127م) عن "آراء الطبيعيين"، الذي شاع اسمه في النص العربي تحت عنوان "كتاب فلوطرخس في الآراء الطبيعية التي تقول بها الحكماء". حيث شكل هذا الكتاب تمثيلا واستمرارا لكتاب ثيوفراسطيس الشهير عن "آراء الطبيعيين". أما تعظيم الشهرستاني لثيوفراسطيس وفلوطرخس كشراح في تاريخ الفلسفة، فقد كان مبنيا فيما يبدو على حدسه لبقايا تأثيرهما الخفي في علم النحل (الدوكساغرافيا). فإذا كان ثيوفراسطيس (ت حوالي 285 ق.م) قد وضع أسس هذا العلم مستندا إلى المنهجية الارسطية في التصنيف، فإن الكتابات الأخرى مثل تاريخ الفلاسفة أو آراء الفلاسفة المنسوب لجالينوس مثلت الصيغة التي مثلها في الثقافة الإسلامية فن "طبقات المشاهير" وحكمهم الأخلاقية. وبغض النظر عن المعلومات الخاطئة والأوهام التي نقلت إلى عالم الإسلام من الهيلينية المتأخرة، إلا أن حصيلتها العامة شكلت إلى جانب كتابات المسلمين المتخصصة في هذا المجال، بؤرة ما دعاه الشهرستاني "بالكتب المتفرقة".

غيرا إن الشهرستاني اختط في تصنيفه المنهجي أسلوبا جديدا استند في جوهره إلى المزاوجة بين التقاليد الإغريقية والإسلامية من خلال التركيز على أولوية العلم الفلسفي. وهذا ما يمكن ملاحظته على مثال مواقفه النقدية من المصادر. وبغض النظر عن مدى اقترابه أو ابتعاده عن الحقيقة فإنه أصاب من حيث المبدأ. بمعنى أنه لم يأخذ التراث السابق على علاته. وفي نفس الوقت وظف معطيات العلم الإغريقي والإسلامي ضمن منهجيته الموضوعية النقدية، كما هو جلي في تصنيفه للفرق وتحليل آراءها والمقارنة بينها. حيث انطلق في استعراض آراء الفلاسفة استنادا إلى كتبهم والى ما كتب عنهم، آخذا الترتيب الزمني الذي وجده عنهم. ذلك يعني انه يقبل بالتصنيف التاريخي كما هو دون أية إضافة جوهرية. لكنه حالما يتكلم عن الأساطين السبعة الأوائل، نراه يعقب قائلا: "ونحن تتبعناها، وتعقبناها نقدا". وهي نزعة نقدية نراها تظهر بين الحين والآخر بصورتها المباشرة من خلال تدقيقه الدائم لصحة الآراء ونسبتها إلى الفلاسفة وكذلك في إشاراته النقدية وشكوكه الصريحة.

فقد تعامل الشهرستاني بحذر من المواد المجموعة عن آراء الفلاسفة وكيفية عرضها. ومن المحتمل، أنه كان يدقق بين المصادر المباشرة للفلاسفة التي كانت بين يديه وبين ما تحويه الكتب المؤرخة الجامعة لأقوال الفلاسفة وحكمهم. ونرى ذلك حتى في العبارة، التي سعى لتدقيقها وتحقيقها لغويا وفلسفيا ومفهوميا. فعندما يتناول آراء سقراط، نرى الصيغ التي يضعها تختلف من حيث الدقة الفلسفية والفصاحة عما هو موجود في النص العربي من الكتاب المنسوب إلى فلوطرخس. إذ يورد آراء سقراط بالصيغة التالية: "إن مبادئ أصول الأشياء ثلاثة وهي العلة الفاعلة والعنصر والصورة. والله هو الفاعل". بينما في كتاب الآراء الطبيعية بعبارة: "إن المبادئ ثلاثة وهي الله والعنصر والصورة. والله هو العقل". وهو تدقيق وتحقيق يعكس اجتهاد الشهرستاني الشخصي لإبراز ما يراه صحيحا في تقاليد الدوكسوغرافيا الإغريقية. فعندما يتكلم على سبيل المثال، عن آراء أفلاطون حول "البخت" فإنه يستند إلى أرسطو، الذي نقل عنه قوله، بأنه "أثبت البخت أيضا مبدأ سادسا، هو نطق عقلي، وناموس لطبيعة الكل". في حين ينسب كتاب الآراء الطبيعية هذه الفكرة (أو الصياغة) إلى هيراقليطس، حيث نقرأ عبارة: "هيراقليطس يقول بأن جوهر البخت هو النطق العقلي الذي ينفذ في جوهر الكل". وما يورده "فلوطرخس" من أراء خروسيبوس عن البخت، ينسبها الشهرستاني إلى آراء جرجيس.

إن هذه الاختلافات بين استعراضه وبين ما هو وارد في (الآراء الطبيعية) يعكس أيضا موقفه النقدي من آراء الفلاسفة وصياغاتها في الكتاب المذكور. لهذا نراه يشير في معرض تحليله للكيفية التي نقل فيه فلوطرخس آراء هيراقليطس، من أن الأول نقل عن الثاني زعمه "أن الأشياء إنما انتظمت بالبخت، والبخت هو نطق عقلي ينفذ في الجوهر الكلي". ويصل أحيانا هذا التدقيق إلى مستوى التحليل اللغوي والفكري والمقارن. ففي المستوى التحليلي نرى أيضا أمانة الشهرستاني العلمية في تجنب الحكم القاطع في حالة غياب المعرفة اليقينية كما هو الحال في استعراضه آراء أرسطو. فهو يشير إلى أنه وجد إلى جانب ما استعرضه من أفكار أرسطو "الحقيقية" بعض الكلمات والفصول المنسوبة له "فنقلها على الوجه الذي وجدت، وإن كان في بعضها ما يدل على أن رأيه على خلاف ما نقله ثاميسطيوس واعتمده ابن سينا"، بالأخص في قضايا حدوث العالم ومفهوم "لم يزل" وإمكانية اندثار العالم وتحديد العناصر الأربعة، ومخالفته لآراء أفلاطون بصدد قضايا النفس وغيرها. وهو موقف يحتوي على حدس علمي بصدد الخلاف القائم في الموقف من تراث المشائية الارسطية وشراحه. كما نراه يعلق على الفكرة المنسوبة إلى سقراط التي قالها لبقراط، قائلا "وهذا بكلام القدماء أشبه". بعبارة أخرى إن الشهرستاني لا يقف عند حدود الشك المعرفي والنقل الموضوعي لما وجده في كتابات المؤرخين للفلسفة وشراحها، بل ويقارن بعضها بالبعض على أساس "تاريخية" الأفكار وصياغتها اللغوية ومضمونها المفهومي. وليس عبارة "بكلام القدماء أشبه" سوى دليل على إدراكه نماذج الصيغة الفلسفية وموضوعاتها القديمة السابقة للفلسفة الأرسطية.

إن تدقيق الشهرستاني النقدي للمصادر يتضمن من حيث منهجه قيمة علمية، تتجلى ملامحها أيضا في المقارنات الحاذقة لآراء الفلاسفة. فعندما يتكلم عن آراء أرسطو في شروح ثاميسطيوس عن قضية كون "واجب الوجود واحد" واستنتاجه القائل بأن "محرك العالم واحد، لأن العالم واحد" نراه يشير إلى أن هذا من "نقل ثاميسطيوس"، لان هناك من الارسطيين من ذهب إلى أن "المبدأ الأول واحد من حيث انه واجب الوجود لذاته". ومن الممكن الاستشهاد هنا بأحد النماذج التحليلية المقارنة التي تتصف بحياد موضوعي تام كما هو الحال في استعرضه للخلاف بين شروح ثاميسطيوس وابن سينا للأفكار الأرسطية. فقد رد ثاميسطيوس على منتقدي الفكرة الأرسطية القائلة، بأن كون الأول يعقل أبدا ذاته تؤدي إلى إصابته بالتعب والكلل، قائلا "إنما لا يتعب لأنه يعقل ذاته، وكما لا يتعب من أن يحب ذاته، فإنه لا يتعب من أن يعقل ذاته". في حين رد ابن سينا على هذه الانتقادات قائلا: "ليس العلة أنه لذاته يعقل أو لذاته يحب، بل لأنه ليس مضادا لشيء في الجوهر العاقل. فإن التعب هو أذى يعرض بسبب خروج عن الطبيعة، وإنما يكون ذلك إذا كانت الحركات التي تؤدي مضادة لمطلوب الطبيعة". من هنا يتضح، بأن إيراد الشهرستاني لشرح ابن سينا بالضد من شرح ثاميسطيوس لم يكن مجرد مقارنة عابرة أو لمحة ذكية، بقدر ما كان يعبر عن رؤيته لاتجاهين متباينين في فهم واستيعاب الفلسفة الأرسطية، وتأييدا ضمنيا لابن سينا. وهو تأييد نابع من ميل الشهرستاني وابن سينا قبله إلى اعتبار الفلسفة علما حسب التقاليد الأرسطية.

*** 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2267 الثلاثاء 06 / 11 / 2012)


في المثقف اليوم