دراسات وبحوث

تمهيد (نقد العقل الإسلامي)

بما إننا في صلب عملية النقد للعقل الإسلامي، فالواجب يقتضي التمهيد لذلك بوصف وتعريف وموقف من رواة الأخبار، وهذه القضية من الأهمية بمكان، لأنها ستدلنا على أشياء متعلقة في صناعة الخبر وفي تقديمه للناس، وهذا يعني التعرف على الطبيعة وعلى الجو الذي كُتبت فيها الأخبار كذلك نتعرف على هوية هؤلاء الرواة، وحين نتعرف على كل ذلك ونعرفه عن قرب ستتكشف لدينا حقايق وأمور وأحكام في التاريخ والفقه والأصول وغيرها لم تكن واضحة أو ملتبسة لدينا، ومن هنا سنولي هذه المسألة عناية خاصة، لما لها من علاقة خاصة في نوعية الأخبار وطبيعتها وأثرها اللاحق على مجمل الأصول والفروع التي يُستنبط منها و من أجلها، ومن هنا برزت الحاجة للتخصص في هذا الجانب لدى الأقدمين وحتى لدى المتأخرين،

ونعرفه عن قرب ستتكشف لدينا حقايق وأمور وأحكام في التاريخ والفقه والأصول وغيرها لم تكن واضحة أو ملتبسة لدينا، ومن هنا سنولي هذه المسألة عناية خاصة، لما لها من علاقة خاصة في نوعية الأخبار وطبيعتها وأثرها اللاحق على مجمل الأصول والفروع التي يُستنبط منها و من أجلها، ومن هنا برزت الحاجة للتخصص في هذا الجانب لدى الأقدمين وحتى لدى المتأخرين، وفي هذا المجال أفردت لذلك المؤلفات والكتب التي تعتني وبشكل رئيسي بهذه الناحية، ومن هنا نشأ في الفكر الإسلامي علم أطلق عليه علم الرجال وعلم الدراية، والحق أن لهذا الأمر أعني تصنيف الرجال والحكم عليهم حساس جداً ومثير جداً، ولذا ومن أجل ذلك أميل أنا للاحتياط في هذه الشأنية [أعني تصنيف الرجال والحكم عليهم]، والسبب في العادة إن كثيراً من المواقف يتحكم فيها الفاعل السياسي والبيئي والمادي، وهذا ما يجعل من صناعة الأخبار أسيرة لهذا الفاعل، مما يجعل من منتجاتهم تأتي بحسب المقاسات التي يريدها و في الموضوعات والمسائل التي ينتخبها .

لذلك تبدو الحاجة إلى معرفة رواة الأخبار ضرورية لأنها ستحدد، نوعية الأخبار، ولماذا قيلت؟ وكيف أتت؟، ولأن مشروعنا هذا يستهدف نقد العقل، إذن فنحن بحاجة ماسة للتعريف بهؤلاء من جهة، والتعريف بالمادة التي يقدمونها من جهة ثانية، وهذا التعريف لازم للتمييز بين مادتي الخطأ والصواب والحق والباطل فيما نحن بصدده، والتمييز الذي نقصده هو ذلك التفريق في الأحكام على أساس المادة والعلم، وبالتالي فنحن لا ننطلق من عاطفة أو إستجابة لأمر ما أو إنسجاما مع مرحلة ما أو دورة حياة ما، بل هو نقد موضوعي أساسه ومادته الكتاب المجيد، وفي هذا المجال نحن ملتزمون بالقول المأثور: - [خذ ما وافق كتاب الله ورد كل ما خالفه]، هذه هي الضابطة أو هذا هو الميزان والمقياس الذي على أساسه نحكم على صحة الخبر أو خطئه، وإذا إلتزمنا بهذه القاعدة فسوف نتجنب ذلك الخلط والتشابك والإرباك السائد في المدرسة الإسلامية، وكلامنا هذا نُحيل له من أراد مراجعة قواعد إستنباط الأحكام الشرعية والعقيدية، التي ما أنفكت تحذو حذو ــ القذًة بالقذًة ــ مما جعل من منتجاتها لا تستجيب لما هو ضاغط وحاضر .

وبما إننا نعتمد التمييز المعرفي في محاكماتنا، لذلك ترآنا نقيس أشيائنا على العلوم الأكثر ضبطاً ومنها علم الرياضيات، طبعاً نريد هنا من لفظ - ضبط - يعني موازنة التي لا يدخل في بابها الظن ولا التوارد ولا الترادف، ولك أن تقول هي إذن عبارة عن مفاهيم ومصاديق، ذات دلالات مُحكمة وغير مُتشابهة حتى لا يحدث الزيغ المنهي عنه في كتاب الله، فإذا كان ذلك كذلك ـــ يعني النص ــ تأتي قضية السلوك والتعبير عنه كحكم ثانوي تابع للحكم الاولي

أصحاب الإجماع

هو مصطلح رجالي مُركب من لفظين [أصحابُ + إجماع]، وأصحابُ هو جمع صُحبه (وهم جماعة الرجل ورفاقه) واللفظ في أصله مصدر، حين يأتي مُنكراً يدل على الإستغراق والعموم، وأما لفظ إجماع فهو مصدر رباعي من أجمع، وله معنيان:

الأول: - يدل على العزم - .

والثاني: - يدل على الإتفاق - .

وبين المعنيين تفاوت وإختلاف من جهة في التصور، فالإجماع حين يدل على العزم يصح من الواحد، ولكنه لا يصح من الواحد في الإتفاق، وعرفه أبن بابشاذ: - هو إتفاق أهل كل علم على ما أجمعوا عليه -، وبناءا على ذلك يكون معنى - [أصحاب الإجماع] بحسب هذه التعاريف هم الجماعة الذين أتفقوا على أمر معين، وصار إتفاقهم حجة على غيرهم وعلى التابعين لهم !!، وهذا القيد جعلنا نبحث في أصل المصطلح وفصله ومن أين أتى ولماذا؟؟،

وفي الجواب نقول: - إن أصل هذا المصطلح ورد في وصف الشيخ الكشي لجماعة عاصرت الأئمة ورووا عنهم، والشيخ الكشي هو: - (محمد بن عمر بن عبد العزيز المعروف بالكشي نسبة إلى منطقة كش القريبة من سمرقند وهو صاحب كتاب الإختيار في معرفة الرجال)، وهو كتاب رجالي يبحث فيه قضايا الأخبار ورواة الأخبار، وقد قام (الشيخ الطوسي) بتَهذيب هذا الكتاب وتلخيصه وتبويبه .

وأصحاب الإجماع عند الشيخ الكشي هم ستة في كل طبقة، فهم ستة في الطبقة الرابعة، وستة في الطبقة الخامسة، وستة في الطبقة السادسة، وقال الكشي في وصفهم لقد: - [أجتمعت العصابة على تصحيح ما يصح من هؤلاء وتصديقهم لما يقولون] -، وأما وصفم بالعصابة فهو توكيد منه على أنهم جماعة من الناس أجتمعوا على أمر ما، وأصبح إجتماعهم هو المقياس الذي على ضوءه تصحح الأخبار وتضبط، ..

ولكن من هم أولئك الذين أجتمعت العصابة على تصحيح ما يصح منهم، قال هم أصحاب الإجماع الذين ذكرهم الكشي بحسب طبقاتهم وأسمائهم، وفي هذا الباب كان السيد البروجردي قد ألف كتابا أسماه (طبقات الرجال)، وكلمة ــ طبقة ــ هي كلمة اصطلاحية قديمة، ذكرها الواقدي في كتابه (المغازي)، و ذكرها محمد بن سعد في كتابه (الطبقات)، ذلك الكتاب المتداول في الأسواق والمكتبات العامة والمؤلف من ثمانية أجزاء

وفي طبقاته عرف السيد البروجردي الأمر على النحو الآتي:

الطبقة الأولى: وهم من عاصر النبي من أصحابه .

الطبقة الثانية: وهم التابعين، الذين رووا عن صحابة النبي .

الطبقة الثالثة: وهم تابعي التابعين، الذين رووا عن التابعين .

وعند السيد البروجردي كل طبقة لها فترة زمنية عاشتها، هذه الفترة بحدود الثلاثين سنة [وهذا على نحو تقريبي]، ومع نهاية كل فترة زمنية تبتدئ مرحلة جديدة وطبقة جديدة تليها وهكذا .

[وأما الطبقة الرابعة: فقد ابتدأت عنده مع حلول السنة 90 للهجرة، و هذا يعني إن التقدير الزمني [في ثلاثين سنة] لكل طبقة تقدير صحيح بلحاظ الإعتبار المتقدم، والذي يعني أن حوالي 80 % من الطبقة الماضية قد ذهب، وما يتبقى منها [أي من الطبقة الماضية] فيضاف للطبقة اللاحقة، وهؤلاء هم الذين يطلق عليهم ـــ بشيوخ الطبقة اللاحقة ـــ، ويجب العلم: إن الترتيب في كل طبقة إنما هو ترتيب إفتراضي إعتباري القصد منه التمييز والمعرفة لاغير] .

والطبقة الرابعة: هم أصحاب الإمام محمد بن علي الباقر، أي هم الذين عاصروه ورووا عنه، وهم ستة عند الكشي:

1 – زرارة بن أعين

2 – معروف بن خربوذ

3 – محمد بن مسلم بن رباح

4 – الفضيل بن يسار الهندي

5 – بريد بن معاوية العجلي

6 – أبو بصير الأسدي

والطبقة الخامسة: هم أصحاب الإمام جعفر بن محمد الصادق، أي هم الذين عاصروه ورووا عنه، ومنهم

1 - جميل بن دراج .

2 – عبد الله بن مسكان .

3 – عبدالله بن بكير .

الذي قال عنه الشيخ الطوسي كان: [عبدالله بن بكير فطحياً] ويعني إنه كان من أتباع عبد الله بن جعفر الصادق المعروف بالأفطح (والأفطح في اللغة هو الرجل العريض الرأس، وأصله من فطح فطحاً أي صار عريضاً) إذن فهو من الأفطحية، وما يدل على ذلك إنه روى أخباراً عن الإمام الصادق تأييداً لدعوتهم، كما في قوله: [الإمامة في أكبر أولاد الإمام، أو إن الإمام بعدي من يجلس مجلسي، وقوله ولا يغسل الإمام إلا الإمام وهذه الصفات كانت لعبد الله بن جعفر الصادق على حدً زعمه]، وقالت الفطحية في تأييد دعوآها: - أن الإمام الصادق أعطى مالاً لبعض أصحابه، وأمرهم أن يدفعوه لمن يطلبه منهم [ومن يطلب ذلك عليهم أن يتخذوه إماماً]، قال ولم يطلبه أحد سوى عبد الله بن جعفر -، (الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة ص 77 الحسني)

4 – حماد بن عثمان .

5 – حماد بن عيسى .

6 – أبان بن عثمان .

قال الكشي: كان أبان بن عثمان من الناووسية [وهم أتباع عجلان بن ناووس، الذين أدعوا أن الإمام الصادق لم يمت بل رفعه الله وسيظهر في أخر الدنيا ليملأها قسطاً و عدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً]، وقد روت الناووسية إنه: [إذا رأيتم رأسي (يدهده) عليكم من الجبل فلا تصدقوا بموتي فأنا صاحبكم صاحب السيف] - أنظر كتاب الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة ص 77

الطبقة السادسة: وهم أصحاب الإمام موسى بن جعفر الكاظم، وقد أدركوا بعضاً من حياة الإمام الرضا فاعتبروا من أصحابه أيضاً، وهم ستة كما ذكرهم الكشي

1- يونس بن عبد الرحمن .

2 – صفوان بن يحيى .

3 – عبدالله بن المغيرة .

4 – أحمد بن محمد بن أبي نصر البيزنًطي .

5 – الحسن بن محبوب السراد .

6 – محمد بن أبي عمير البغدادي .

قال الكشي: وهم من أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عنهم وأقروا لهم بالفقه والعلم، ولكن ماذا يعني هذا؟ هل يعني أن كل الذي يأتي به هؤلاء يُعدُ صحيحاً و صالحاً؟، حتى ولو كان الذي جاء عنهم عبارة عن مجاهيل و مراسيل، وهل يعني ذلك أن (أصحاب ألإجماع) هم من يجعلون من الخبر المجهول صحيحاً ومن المرسل معتمداً؟

هل هذا الذي يريده الكشي بالفعل؟

ولأن البحث حول صحة الإجماع وحجيته فقد أدلينا فيه برأينا في المقدمة فلا نعيد، ولكننا من باب التوكيد نقول: - أن غير واحد من علمائنا الأعلام قد نفوا حجية الإجماع -، وبحسب ما نعلم إن قلةً قليلة قالت بحجية الإجماع وألتزمت به، وأما عبارة - (تصحيح ما يصح عنهم) - فهي عبارة فضفاضة لا جدوى منها في البحث العلمي الذي يعتمد الدقة وليس حُسن الظن والحدس والتخمين، وعليه تكون عبارة الكشي إنما تعبر عن مرحلة تاريخية معينة و عن ظرف زماني و مكاني خاص، ولهذا لا يصح اعتبار ذلك الظرف صالحاً لكل زمان وكل مكان .

*

وأما الاجتهاد: فأصله فعل ثلاثي المصدر من مادة  - ج، ه، د -، والجُهد بضم الجيم هو الطاقة، والجَهد بفتح الجيم هو المشقة .

وأما الإجتهاد: من باب -الإفتعال - فهو صيغة لغوية تدل على المبالغة في الفعل .

والإجتهاد في اللغة: هو إستفراغ الوسع أي – بذله - فيما فيه طاقة ومشقة .

وهو في الإصطلاح: العلم بالاحكام الشرعية العملية من الدليل التفصيلي، والدليل التفصيلي هو الكتاب المجيد، وأما العقل فهو الدليل الدال على الكتاب، والحكم الشرعي: هو حكم عام في النظري والعملي من الأشياء ويدخل فيه الإعتقادي أيضاً ذلك لأن تحصيل الحكم الإعتقادي إنما يتم من خلال الإجتهاد والنظر، ولهذا يكون الإجتهاد عاماً في كل مجالات الحياة الفكرية منها والمعرفية والسلوكية، وكل حكم يقع مادة للإستنباط فهو حكم شرعي طالما يرتبط بالحياة، وقولنا هذا ناظر إلى طبيعة مقاصد الشريعة وأساسها التي أعتنت بالإنسان وبما حوله، وذلك كان الهدف من نزول الكتاب المجيد لتحقيق مصالح العباد في الحياة ودرء المفاسد والمخاطر عنهم .

والإجتهاد في أصول الفقه على نوعين هما:

الإجتهاد المطلق: الذي يُراد به الإجتهاد في كل أحكام الشريعة، والذي يدخل فيه الإجتهاد في المسائل المستحدثة أو مايُسمى بالإجتهاد الإنشائي

.

الإجتهاد التجزئي: وهو إجتهاد في بعض مسائل الفقه والأحكام، والفقيه المتجزء يكون بمقدوره الفتيا فيما إجتهد به .

والإجتهاد: واجب شرعي على نحو الكفاية وهو من

الضرورات الشرعية، وقولنا على نحو الكفاية:نعني به إن وجوبه يسقط مع قيام البعض به، وحجيته ثابتة في الكتاب المجيد كما في قوله تعالى: - [فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون] - التوبة 122 - .

ولولا حرف تحضيض، والفرقة: هي الجماعة من الناس الذين تفرقوا عن غيرهم من المواطن وتنكير - طائفة - مؤذن بأن النفر للتفقه ومايترتب عليه هو واجب كفائي، والتفقه: تكلف الفقاهة، وهي مشتقة من فقه بكسر القاف، والفقه أخص من العلم ويعني الفهم في الدين، والإنذار هو الإخبار بما يتوقع منه شر .

إن حاجة مجتمعاتنا إلى الإجتهاد هي حاجة ماسة، نابعة من الواقع ومايتطلبه من حلول لمشكلات تواجه الناس كل يوم، ولايجوز في هذه الحال الركون إلى إجتهادات من سبق، مهما كانت قوة ومتانة تلك الإجتهادات، ذلك لأن طبيعة الواقع وطبيعة المشكلات قد تغيرت، تبعاً لتغير الطبيعة الموضوعية للحياة، وهنا يكون الإجتهاد مطلباً شعبياً وإجتماعياً وهو حاجة عملية لتلبية ماهو مطلوب، وهنا يجب الإشادة بالشيعة الإمامية لأنها أبقت باب الإجتهاد مفتوحاً، حتى وإن كان في المسائل السلوكية الفقهية، فبقاء الباب مفتوحاً أمام طُلاب العلم يؤدي بالضرورة إلى تقدم العملية الفقهية، وتطور حركة الإجتهاد مما يطرح قضية الأعلمية للمجتهد في سباق علمي منهجي واضح الدلالة، وإن كنا لا نقول بالأعلمية ككونها قضية نسبية وإتصاف البعض بها أو الإشارة إليه بها وصف غير دقيق وغير موضوعي، لكنها في اللاوعي دعوة لتقديم الفكر الإجتهادي على نحو متميز يكون فيه المجتهد قد حقق نوعاً من الكفاءة والتأهيل اللازم.

ويشترط في المجتهد المطلق إن يكون بالغاً عاقلاً مريداً وعادلاً، وأما الإسلام فهو ليس شرطاً لازماً لأن كل إنسان هو مسلم بالضرورة وإن لم يتسمى، إلاّ مادل الدليل على خلافه، والإجتهاد الصحيح لازمه العلم بالكتاب ومقاصده والعلم بلغة الكتاب وفقهها، وأما العلم بالسنة فليس بلازم وقد تقدم بيان ذلك في مقدمة كتابنا - الفتاوى والأحكام -، و أما الإجماع فليس عندنا بشيء وقد مر الكلام بذلك فلا نُعيد ..

 

آية الله الشيخ إياد الركابي

 

 

في المثقف اليوم