دراسات وبحوث

البديل الاسلامي الحضاري المعاصر(1): الفكرة الحضارية للسلفية الدينية

mutham aljanabiيمثل سيد قطب في مواقفه الفكرية تجاه إشكاليات الحضارة المعاصرة والبديل الاسلامي نموذجا كلاسيكيا لثلاثية "موت الحضارة الغربية" والتعارض التام بينهما وأفضلية البديل الاسلامي. فهو ينطلق من اعتقاد شخصي وأيديولوجي يرتقي إلى مصاف المسلمة القطعية عما يدعوه بمأساة ودمار الحضارة الغربية (الاوروامريكية)، ومن ثم موتها المحتوم. وينطلق في موقفه هذا مما يسميه بتدمير الإنسان والحياة الإنسانية في الغرب. وذلك لان الحضارة الغربية تدمر أولا وقبل كل شي "خصائص الإنسان الأساسية". وان أهم عناصر "هذه المأساة" هي كل من الجهل المطبق بالإنسان، والتخبط الملازم لهذا الجهل، وبالتالي قيام حضارة مادية لا تلائمه ولا تحترم خصائصه. أما النتيجة فهي انهماكها في الموقف الآلي من الإنسان.

إن للموقف الآلي أشكاله ومظاهره في كل شي. فهو ينظر إلى المرأة على أنها حيوان جنسي، والى متطلبات الإنسان على أنها مادية صرف. الأمر الذي يجعل من هذه الحضارة إبداعا لا يلائم حقيقة الإنسان وخصائصه.

ينظر سيد قطب إلى الوجود وإشكالاته بمعايير الرؤية الدينية السلفية المتزمتة، أي انه لا يراها، بل يرى ويتذوق الوجود بمعايير ومقاييس العقائد الموروثة، أي أنها بلا عقل نقدي ولا حس إنساني ولا معاناة حية لتجارب الأمم. من هنا رؤيته للمرأة كامرأة بمعايير التقاليد البدوية والدينية والتقليدية وليس بمعايير الرؤية الإنسانية. أما إقراره الجزئي بان الحضارة المادية هي من صنع الإنسان، وان الحضارة الغربية الحديثة هي حلقة من حلقات الحضارة الإنسانية غير منفصلة عنها في جذورها العميقة، إلا أن نقطة ضعفها الجوهرية هي أنها لا تمتلك "العلم بحقيقة هذا الإنسان وخصائصه"، مع ما يرافقه من انعدام "الرغبة في احترامه وتكريمه". بمعنى إننا نرى نموا في الحضارة المادية الأوربية ولكننا نرى فيها في الوقت نفسه بقاء واستمرار "الجهالة المطلقة بالإنسان".

إن سبب هذا الخلل من وجهة نظر سيد قطب، يقوم فيما يمكن دعوته بالاستعمال الجزئي والنفعي الضيق لحصيلة القيم العلمية للحضارة الإسلامية. فقد قامت الحضارة الأوربية، كما يقول سيد قطب، على "أسس الاتجاهات التجريبية العلمية" التي أبدعها الأندلس والشرق الإسلامي، ومن روح الإسلام الواقعية الإنسانية. لكن المشكلة أو العقدة القاطعة لإمكانية هذه الجوانب العلمية يقوم في أن انتقالها إلى أوربا لم يرافقه انتقال "جذورها الفلسفية" سوية معها! إضافة لذلك، إن هذا الانتقال قد صادف حالة وفكرة "الفصام النكد"، كما يصفه سيد قطب، بين الدين والنهضة الحضارية. وهنا، كما هو الحال في اغلب أحكامه المتعلقة بالتاريخ والثقافة وإشكالاتهما المعقدة، عادة ما لا يرى المقدمات الفعلية للمسار التاريخي، أو انه يتجاهل قيمتهما الذاتية بالنسبة لهذا المسار، ولا يدرك طابعهما الجوهري الملازم لتجارب الأمم في تذليل ما ادعوه بالمرحلة الدينية اللاهوتية في الوعي. من هنا يمكن فهم تفسيره للمسار التاريخي للحضارة الأوربية على أنها نتاج "للفصام النكد" بين الدين والدولة، عوضا عن أن يرى فيه حاملا للفكرة الإنسانية نفسها. فهو يرتد هنا ويتراجع إلى الوراء خطوات كبيرة مقارنة بأفكار ومواقف الإصلاحية الإسلامية الحديثة. لكنه يجعل من هذا التراجع تقويما للفكرة الإسلامية فيما يتعلق بالموقف من الحضارة الأوربية. لكنه تقويم لا يتعدى في الواقع حدود النظرة المبسطة والمبتسرة لإشكاليات الحضارة المعقدة، من خلال إرجاعها إلى فكرة "الفطرة" الإنسانية. بحيث نراه يحول فكرة الفطرة، أي المكونات الطبيعية للإنسان ووجوده التاريخي، إلى هالة مقدسة، رغم أصولها الطبيعية. ومن ثم يجهل طبيعة وحقيقة الثقافة والحضارة بوصفها تهذيبا للفطرة وليس خروجا عليها. فالأصول الطبيعية للإنسان وثقافته تبقى في النهاية المكون الطبيعي لارتقائه الماوراطبيعي، بوصفها الحلقة التاريخية من اجل الرجوع إليها ولكن بمعايير التجارب العقلية والنزعة الإنسانية. الأمر الذي يلازمه بالضرورة مختلف مظاهر الخطأ والخطيئة، باعتبارها الحالة التاريخية لوجوده الطبيعي والثقافي. أما سيد قطب فانه يرجع ما يعتقد انحطاطا في الحضارة الغربي إلى كمية من العبارات اللغوية والبلاغية مثل "لم يكن بد" من "انهيار الحضارة" بسبب شرود "الإنسان عن ربه ومنهجه وهداه"، بسبب "جهل الإنسان نفسه"، وبسبب "جعل الإنسان من المرأة حيوانا لطيفاً"، وبسبب تعطيله "لخصائصه الإنسانية وحصر طاقته في الإنتاج المادي"، وبسبب "أقامة نظامه على الربا". أما النتيجة فهي حلول "عقوبة الفطرة به". وهي عقوبة "فادحة قاصمة مدمرة"، لعل أهم مظاهرها هي التناقص في النسل الذي يهدد بالانقراض، والتناقص في الخصائص الإنسانية المؤدي إلى البربرية، والتناقص في الذكاء والمستوى العقلي الذي يهدد بانهيار العلم الذي قامت عليه الحضارة، وبانهيار الحضارة ذاتها في النهاية.

إننا نقف هنا أمام رؤية اقل ما يقال فيها، عمياء أو غبية فيما يتعلق بالمسار التاريخي والواقعي للرقي الحضاري المعاصر. فالبشرية عموما في ازدياد مفرط، والعلم في تطور وارتقاء مثير وليس له مثيل فيما مضى، بل لا يمكن مقارنتهما من حيث الديناميكية والاكتشافات والتحقيق والتصنيع، والشيء نفسه بالنسبة للتحرر الفعلي من "منظومة الفطرة" البدائية صوب صيغتها العقلية والعقلانية والإنسانية. وهي عملية صراع عنيف وقاس، لكي يتحرر الإنسان من أولوية وجوهرية الغرائز الكامنة في "الفطرة الطبيعية" نحو تهذيبها الثقافي. بينما يرى سيد قطب فيها سر انتكاسة وسقوط الحضارة الغربية وكل أمراضها! ومن اجل استكمال هذا اليقين اللاهوتي، يستند إلى ما قاله برتراند راسل عن انتهاء العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض. وبقاء تلك السيادة إلى الأبد ليس قانوناً من قوانين الطبيعة. بل نراه يعتبره ناقصا أيضا بسبب ما اسماه بسطحية المقدمات ومادية الأسباب الملازمة لذهنية المفكر الغربي "أيا كانت قيمة تحرره العقلي"، وذلك لأنه يبقى "أسير عقلية وبيئة وحضارة معينة، لا تسمح له بأن يفكر وراءها، ولا أن يخرج من إسارها ليرى الأمر كله جملة، ومن زاوية أخرى جديدة" . لقد وجد في هذه الفكرة حكما ناقصا. وانه كان ينبغي القول، بأنه قد "انتهى العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض، لأن حضارة الرجل الأبيض قد استنفدت أغراضها المحدودة القريبة، ولم يعد لديها ما تعطيه للبشرية من تصورات ومفاهيم ومبادئ وقيم تصلح لقيادة البشرية وتسمح لها بالنمو والترقي الحقيقيين"، أي "النمو والترقي للعنصر الإنساني وللقيم الإنسانية والحياة الإنسانية". فهي حضارة "أصيبت بالعقم أو كادت بعدما ولدته في (الماجنا كارتا) الإنجليزية. ومبادئ الثورة الفرنسية. ومبادئ الحرية الفردية التي سادت في ما يسمونه". مما أدى في نهاية المطاف إلى هيمنة عناصر الدمار والموت كما نراها في "الخواء الذي ينخر في روح الحضارة الغربية بمذاهبها جميعا وبأنظمتها جميعا"ـ و"الخواء الذي تختنق فيه روح الإنسان وقيمته، بينما تتكدس الأشياء وتعلو قيمتها، وتطغى على كل قيمة للإنسان". لهذا نراه "يشقى ويقلق ويتحير، ويعاني من القلق والحيرة والشقاء والتعاسة والأمراض العصبية والنفسية والشذوذ والعته والجنون والجريمة"، كما نراه "هاربا من نفسه ومن المخاوف والقلاقل التي تلفه بها الحضارة المادية"، ونراه "هائما على وجهه يقتل سآمته وملله بما يقتل به روحه وجسمه وأعصابه من المكيفات والخمور"، بل نراه "يبيع أولاده ليشتري بهم ثلاجات وغسالات كهربائية". الخلاصة إننا نقف أمام انهيار تام لهذه الحضارة. بعبارة أخرى، لقد "انتهى دور الرجل الأبيض" بغض النظر عما إذا كان روسيا أم أمريكيا، إنجليزيا أم فرنسيا أم سويسريا أم سويديا". والسبب يكمن في "ذلك الفصام النكد" المميز للتاريخ الأوروبي، وفي جميع المذاهب والمناهج والنظم والأوضاع التي تقوم في الغرب.

إننا نقف هنا أمام صورة مبسطة للغاية ومبتذلة من حيث مستوى تحليلها لمقدمات وخصائص "الحضارة الغربية" وانعكاسها في الإبداع الأوربي على مدار قرون وكذلك محددات الرؤية النقدية الذاتية التي أفرزت عبارة "انتهاء دور الرجل الأبيض". وهنا تجدر الإشارة إلى أن آراء وأحكام برتراند رسل في مجال الفلسفة، وفلسفة التاريخ، والتاريخ الثقافي ليست من العمق والهيبة العلمية التي يمكنها أن ترتقي إلى مصاف دوره العلمي. لكن اجتهاده يبقى فرديا وجزئيا للغاية، ومع ذلك فان مقصود كلامه لا يعني ما عناه سيد قطب. إذ لم يعن انتهاء "دور الرجل الأبيض" انتهاء أو موت الحضارة الأوربية. مع أن هناك من هو أكفئ منه وأعمق بما لا يقاس في هذا المجال من بين الأوربيين الذين قالوا بأفول الحضارة الأوربية. وهي رؤية لا علاقة لها بفكرة موت الحضارة الأوربية كما هي، بقدر ما أنها تعكس الفكرة المنهجية عن القيم الذاتية للحضارات وتكافؤ قيمتها التاريخية الثقافية. وان لكل منها تاريخه الخاص وخصائص ولادته وحياته وموته. وهذا ينطبق على الجميع دون استثناء. وبالتالي، فهي رؤية تعكس احد نماذج المواقف النقدية المتراكمة في فلسفة التاريخ والثقافة. ومن ثم لا يرتقي أيا منها، مهما كان نصيبها من التدليل والبرهنة، إلى مصاف الحقيقة المطلقة أو اليقين التام. وهو الاختلاف الذي يميز الفكرة العلمية والتاريخية الثقافية عن الفكرة الدينية بشكل عام والسلفية المتشدد بشكل خاص، التي تعتاش على فتات الثقافة العلمية وتزدريها. فالصورة التي يقدمها سيد قطب عن فضائح الحضارة الأوربية هي من حيث جانبها "النقدي" نتاج التأثر السطحي بالنقد التاريخي والثقافي الأوربي نفسه بشكل عام وصيغه الانجلوسكسونية بشكل خاص. كما أن الصورة التي يرسمها سيد قطب عن معالم انحطاط واحتضار الحضارة الغربية تنطبق على "العالم الاسلامي" أولا وقبل كل شي. فالإمراض التي يشير إليها هي الأوسع انتشارا في العالم الاسلامي الآن. وعلى العكس من ذلك تشكل قوة النموذج الغربي قوة في كل شي. كما أنها حضارته متكاملة بذاتها وأصيلة وعظيمة، لكنها لا تخل من خلل هو جزء من مراحل الانتقال الثقافي الملازم لتاريخ التطور الثقافي للأمم وليس بسبب غربيتها. لكنها تستجيب لما يدعوه سيد قطب "بالتصور الاعتقادي" السلفي المتشدد الذي ينظر إلى أن كل أمراض ومظاهر احتضار الحضارة الغربية هو بسبب "تصورها الاعتقادي"  الكامن في مذاهبها ومناهجها ونظمها وأوضاعها الحياتية.

إن "التصور الاعتقادي" البديل الذي يقدمه سيد قطب بهذا الصدد يوحي كما لو انه لم يبق على قيد الوجود من حيث الطاقة والبدائل غير سيد قطب وأتباعه! والأغرب ما فيه انه يتخذ صيغة اليقين الجازم. بمعنى انه يصل إلى نتيجة تأملية صرف بلاغية بصورة تامة عن أن الحضارة الغربية عاجزة عن القيام بمهمات جعل الإنسان إنسانا! بل على العكس، أنها تهوي به إلى مصاف البهيمة وتسلبه كل "خصائصه الإنسانية". والسبب الرئيسي وراء كل ذلك هو عدم إدراكها بان الإنسان بذاته "عاجز عن وضع نظام شامل مضبوط صالح مصلح لحياته". ومن ثم فان أي نظام يضعه الإنسان بذاته لذاته لابد و"أن يعرّض الإنسان نفسه وحياته للعطب والدمار". 

وقد وضع سيد قطب هذه المقدمة الدينية المتزمتة الصرف والمقلوبة والمعارضة لتيار الوجود الطبيعي للإنسان وتاريخه الإنساني، بما في ذلك الديني، في صلب "نصوره الاعتقادي" عن البديل الحضاري الاسلامي. ليس التصور الاعتقادي الديني سوى احد التصورات الإنسانية، أي البشرية في تعاملها مع إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي. إذ ليس "الإلهي" سوى البشري بعد أن يتطاير في سماء الأوهام الجليلة ووحيها التاريخي، كما هو جلي في تنوعها واختلافها وصراعها الدموي أيضا، قديما وحاضرا، ما لم يجر تذليل البنية التقليدية للأديان تذليلا نهائيا عبر تحريرها من ثقل أولوية وجوهرية النص والمقدسات الوهمية.

فالتصور الاعتقادي عن البديل الحضاري الاسلامي عند سيد قطب هو احد النماذج الكلاسيكية للنمط السلفي التقليدي المتزمت في تعامله مع هذه القضية. ومن ثم يعكس النموذج الأولي والبدائي عن التاريخ والوعي الثقافي والبدائل الإنسانية. فهو يسحق الأخيرة سحقا تاما ويجعل من "خصائص" رؤيته للإنسان "خصائص إنسانية" مطلقة. بعبارة أخرى، إن الصفة الملازمة للوعي الديني المتشدد، الذي يستغني بتجربته الخاصة عن كل تجارب الأمم التاريخ، ويرفعها إلى مصاف المطلق والمقدس، لا يدرك الحقيقة البسيطة القائلة، بان ما يدافع عنه هي مجرد تجربة ماضية، وان اندثارها هو مجرد حالة طبيعية لازمت وجودها التاريخي واستنفذت طاقتها وقوتها، بوصفها مرحلة من مراحل التطور الثقافي. وان "البديل الإلهي" هو بديل بشري لا غير محكوم بنفسية وذهنية الأحكام الجاهزة والنصوص المقدسة، أي المتحجرة والمحاصرة للعقل الإنساني وطاقته الحية في التعامل مع الوجود والتاريخ بوصفها وعيا ذاتيا. من هنا رفضه لكل الأيديولوجيات بوصفها "أفكار جزئية سطحية، وكلها محاولات مصطنعة لا جذور لها في الفطرة البشرية". أما البديل لكل هذه "الأيديولوجيات" فه "التصور الاسلامي"، أي أيديولوجي سيد قطب. فحين نتلفت من حولنا في الماضي والحاضر والمستقبل، كما يقول سيد قطب، "لا نجد الحل المقترح لتجنيب البشرية ذلك الدمار إلا في التصور الإسلامي، والمنهج الإسلامي، والحياة الإسلامية، والمجتمع الإسلامي". الأمر الذي يجعل من "قيام المجتمع الإسلامي ضرورة إنسانية، وحتمية فطرية". 

فالبديل الاسلامي بهذا الصدد يقوم في تقديمه تصورا اعتقادي خاصا لا مثيل له في موقفه من النظرة إلى الإنسان وحقيقة فطرته واستعداداته، والنظرة إلى المرأة وعلاقة الجنسين، ومسألة النظم الاقتصادية والاجتماعية. ففي الموقف من الإنسان وفطرته واستعداداته، يقوم التصور الاسلامي في أن الإنسان كائن فذ وشديد التعقيد في هذا الكون، وله خصائص، الأمر الذي يقتضي وجود منهج للحياة الإنسانية يرعى تلك الاعتبارات كلها. وان هذا "المنهج الوحيد الذي راعى هذه الاعتبارات كلها" هو المنهج الاسلامي، الذي "يحقق غاية وجوده ويحقق التوازن في أوجه نشاطه، ويحقق فرديته وجماعيته كذلك". فكل ما كان قبله وبعده هو مجرد محاولات منحرفة عن جادة الصواب. ففي الأساطير الإغريقية كان الإنسان نداً للآلهة، ينازعها السلطة والمعرفة. فلما جاء العهد الروماني، باعتباره "الأساس الحقيقي للحضارة الأوروبية القائمة" بهت ظل الآلهة وبقى الإنسان يعبد ذاته وشهواته. ولما سيطرت النصرانية، كما تصورتها الكنيسة، على الدولة الرومانية، وسم الإنسان بالخطيئة ونكس رأسه بالذل. إذ اعتبرت ميوله الفطرية رجساً ودنساً، وعلاقاته الجنسية قذراً ووسخاً، وشعوره بذاته إثماً وخطيئة.. ولما وقع رد الفعل، وثارت أوروبا على الكنيسة، وعلى التصورات الكنيسة، وعلى المفهومات الدينية كلها بالإجمال، جدت مع الثورة نظرة جديدة للإنسان. وبالذات إلى العقل في الإنسان. وأصبح هذا العقل إلهاً في عصر التنوير. ثم انتهى عصر التنوير في القرن التاسع عشر بضربة قاصمة لهذا العقل وللإنسان معه. إذ جاءت الفلسفة الوضعية تعلن أن المادة هي الإله. فتضاءل العقل، وتضاءل معه الإنسان. ثم جاء داروين بحيوانية الإنسان. ثم  تمت الضربة القاضية على يد فرويد من جانب، وكارل ماركس من الجانب الآخر. والنتيجة هي "أن أوروبا ظلت تتراوح بين الإفراط والتفريط،  بين الكبت والتهور". وظلت هذه الموجة العاتية، كما يقول سيد قطب، في مدها حتى اللحظة الحاضرة عبر انتشارها إلى أمريكا ثم العامل ككل، بوصفها عاصفة مدمرة.

 أما المرأة وعلاقات الجنسين، فان التخبط في النظر إليهما "لا يتسق مع فطرة ولا خلق". والشيء نفسه ينطبق على النظم الاجتماعية والاقتصادية. إذ كما وقع التخبط والتطرف والهزات العنيفة وعدم اعتدال الميزان في الوسط العادل المتناسق، كما وقع في النظرة إلى الإنسان وفطرته واستعداداته. أما النتيجة التي توصل إليها سيد قطب بعد هذه الرؤية البلاغية المجردة، أي المعزولة عن إدراك حقيقة التطور التاريخي والانقلاب الهائل في المسار الإنساني الذي ذلل بصورة أولية مركزية الإلهة بمركزية الإنسان والطبيعة، ومن ثم الارتقاء عبرها إلى وعي الذات الإنساني، فانه يجد فيه مجرد مسار إلى "هاوية الدمار الأكيد". وذلك لانها حضارة صناعية محكوم عليها بالإعدام، بوصفه نتاج طبيعيا لما فيها. وذلك لانها حضارة "لا تعلم حقيقة الخير والشر" كما لا تعرف ما تؤل إليه الأمور.

ويضع سيد قطب هذه النتيجة اللغوية الخالصة في رغبته الحالمة عما يمكن دعوته ببصيص الأمل القائم فيما اسماه سيد قطب بالإذن الإلهي في تسليم "القيادة يد غير تلك اليد الرعناء المجنونة الشاردة المحمومة".

إن هذه الأحكام الساذجة عن مسار التاريخ الفعل وتعقيداته الهائلة في العالم المعاصر والمستقبل تنطلق من تضافر الأحكام النفسية البسيطة المميزة للبنية التقليدية المتحجرة وتقاليد الرؤية الدينية اللاهوتية التي تعتقد بان من الممكن تغيير العالم بالوعظ والإرشاد، وليس بالعمل التاريخي لتأسيس مرجعيات كاملة ومنظومات حية ودينامكية علمية وعملية عصرية في مختلف نواحي الحياة. بعبارة أخرى، إن البدائل بالنسبة لسيد قطب هي مجرد تصنيف وترتيب الآيات والأحاديث (النصوص الميتة)، باعتبارها أسس الوجود الحق. ومن هذه المقدمات يمكن فهم الأسباب والمحددات القائم وراء وضع سيد قطب هذه الرغبات المميزة للأحلام الأطفال وخرافة العجائز فيما اسماه بكيفية الخلاص، أي البديل الاسلامي الشامل.

ففي الموقف من الإنسان يستلزم ذلك الابتداء "من نقطة تصحيح مركز الإنسان في هذا الوجود"، بأنه ليس إلها وليس حيوانا. عندها ستتلاشى كافة المشاكل التي تنتج بأثر الصناعة والحضارة الصناعية. لاسيما وأنها كانت نتاج التأثر بنظرة الإسلام إلى الكون والحياة والإنسان ودور الإنسان في هذه الأرض. ومن ثم ستتلاشى أيضا مختلف المشاكل الناتجة عن هذه الحضارة الصناعية ورؤيتها المادية المتراكمة في نظمها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.  فهو يعتقد بان الاستمتاع المعاصر لها من جانب الحضارة الرغبة يقوم في تحويل ثمارها إلى استمتاع حيواني! بينما المهمة تقوم في أن يجري الاستمتاع بها بطريقة إنسانية، أي على الطريقة الإسلامية! وهي طريقة مجهولة الهوية ومنافية لمعنى العلم والتصنيع والتكنولوجيا. إضافة لذلك أن هذه الأحكام التأملية الصرف ليس بالإمكان بلوغها وتنفيذها، وذلك لانها لا تعدو كونها مجرد رغبات باطلة وغبية ومحكومة بنفسية التعالي المميزة للتسكع العقلي والعلمي والعملي.

إن النقد الجدي والواقعي والحقيقي هو نقد الواقع، أي البدائل العملية الفعلية. وهذه بدورها عملية تاريخية كبرى ومعقدة وليست معزولة في العالم المعاصر عن مختلف المتغيرات البنيوية الكبرى على النطاق العالمي. كما أنها محكومة بالضرورة بمسار العلوم الطبيعية واكتشافاتها والتكنولوجيا وتطبيقاتها، وليس بولع اللاهوت الديني الغائر في ثنايا القيل والقال والرغبات السقيمة. إن الفكرة المنهجية النوعية التي يدخلها سيد قطب من اجل تغيير منحى ومعنى "الحضارة الصناعية" الغربية هي مجرد "الاستمتاع بطيباتها في حدود منهج الله، مع التوجه لله بالعبادة والشكر والاعتراف على ما سخره للإنسان من طاقات في نفسه ومن مدخرات في هذه الأرض". فهي "الفكرة النوعية الكبرى" التي تجعل من منهجه "الرباني" منهجا "يرفض أن يستمتع الإنسان بخيرات الأرض ونتناج الحضارة كما يستمتع الحيوان".

باختصار إن البديل الحضاري الاسلامي الذي يقدمه سيد قطب لا يتعدى من حيث الجوهر أكثر من عبارات بلاغية وشعارات جوفاء عادة ما تميز العقل الكسول والروح المطمئنة إلى التلذذ بجنة على الأرض أو ما بعد الموت ولكن دون البلاء بدروب الحرية والإبداع الحر، بل عبر تمجيد الرب الغفور! ووضع هذه "الفكرة" و"المنهج" فيما اسماه "بطريق الخلاص"، كما لو أن العالم الأكثر رقيا وتقدما وتطورا وإنسانية (بمعايير تجاربه الذاتية) يسير نحو الهاوية والموت، بينما من يعيش على فتات "الحضارة الصناعية" ويستمتع بها بعد إضافة عبارات "الشكر لله بالعبادة والاعتراف على ما سخره للإنسان" هو حامل البديل الفعلي.

يدرك سيد قطب، بان هذا الكلام الفارغ لا يغني شيئا. ويعترف بان من الضروري للإنسان ويقينه أن يرى نموذجا عمليا مجسدا. لكننا لا نعثر عنده على شيء باستثناء عبارات عامة وفارغة مثل أن "المجتمع الإسلامي هو طريق الخلاص الوحيد للبشرية المهددة بالدمار والبوار"، و"إنه الاستجابة الوحيدة لنداء الفطرة في ساعة العسرة"، و"إن حتمية قيام هذا المجتمع بوصفه ضرورة إنسانية لإنقاذ الإنسانية، وبوصفه الترجمة العملية للمنهج الإلهي الذي لابد غالب". لكن هذه "الحتمية ليس معناها أن الطريق إليه نزهة مريحة". انطلاقا من أن "حتمية الميلاد لا تغنى من آلام المخاض". ويضع سيد قطب هذا الاكتشاف المثير للعقل الوجدان فيما اسماه بان "الطريق إلى المجتمع الإسلامي طويل وشاق وملئ بالأشواك". وبالتالي، فان المهمة تقوم من اجل بلوغه هو يقوم المسلم برفع تصوراته وأفكاره وخلاقه وسلوكه، وبالتالي واقعه الحضاري المادي إلى مستوى الإسلام.

إن هذه الأحكام والتصورات الخيالية والساذجة عما يسمى بنقل الوجود إلى مستوى الفكرة المثلى، أي بالضد من منطق الحق والحقيقة والأشياء والتاريخ الفعلي، الذي يستلزم ظهور وتراكم وتهذب الأفكار والقيم والمرجعيات في مجرى الوحدة النموذجية لعلم والعمل، لا تعني بالنسبة لسيد قطب سوى رفع كل شيء في الوجود الاسلامي إلى مستوى تصوره الخاص عن الإسلام. من هنا الاستدارة "الحضارية" صوب فكرة الحاكمية.

وسعى سيد قطب لتأسيس هذه الفكرة النموذجية في كتبه (نحو مجتمع إسلامي) و (خصائص التصور الإسلامي ومقوماته). واعتبر أن كلاهما يكمل الآخر في هذا المجال. ومضمونها يدور حول قضية واحدة، ألا وهي أن كل ما في عالم الإسلام ينبغي أن يعترف بحاكمية الإسلام، ومن ثم عدم الاعتراف بحاكمية أي منهج آخر غيره. فهو المبدأ الجوهري وما عداه إضافات وأجزاء. فالأول يمكنه النمو بمعاييره ومقاييسه، أي كان اجتهاده. بينما ما عداه هو بالنسبة للإسلام مجتمع جاهلي لا علاقة له بالإسلام، مهما ادعى لنفسه صفة الإسلام! كل ذلك يحدد ما دعوه سيد قطب بمزاولة العقيدة والمنهج في الحياة العامة والخاصة للأمة.

إن الإسلام، حسب تصور سيد قطب، بعد أن ظهر ونما وقضى على الجاهلية الأولى، قد ظل موجودا بغض النظر عن استرداد الجاهلية لزمام القيادة. إذ وراء تراجعه "عن مكان الصدارة في الأرض" ظلت موجودة منه "خطوط عريضة ومبادئ ضخمة" استقرت في حياة البشرية وصارت مألوفة للناس. وبما أن الجاهلية قد استعادت وجودها فلا بد للإسلام من أن يستعيد وجوده الأول. وفي هذا تكمن المهمة الحضارية للإسلام الحالي والمستقبلي. فقد أوشكت "قيادة الرجل الغربي للبشرية على الزوال" وذلك "لأن النظام الغربي قد انتهى دوره". فهو لم يعد "يملك رصيدا من القيم تسمح له بالقيادة". وان القوة الوحيدة القادرة على القيام بذلك هو الإسلام. فهو القوة القادرة على قيادة وإبقاء وتنمية الحضارة المادية (الأوروبية) بعد تزويدها بقيم جديدة كاملة وبمنهج أصيل وإيجابي وواقعي في الوقت ذاته. والطريق الأمثل والواقعي لذلك يفترض "إعادة وجود هذه الأمة لكي يؤدي الإسلام دوره المرتقب في قيادة البشرية مرة أخرى". وإذا كانت هذه المهمة تبدو الآن صعبة ومعقدة وشبه مستحيلة للبعض، فأنها ممكنة بسبب امتلاك الأمة الإسلامية مؤهلات خاصة لقيادة البشرية غير الجانب المادي الذي تفوقت به الحضارة الروبية.

إن الأمة الإسلامية ينبغي أن لا تهمل الإبداع المادي، بوصفه ضرورة ذاتية لوجوده، لكن الأكثر جوهرية وضرورية في الظرف الحالي هو "مؤهل العقيدة و المنهج الذي يسمح للبشرية أن تحتفظ بنجاح العبقرية المادية تحت إشراف تصور آخر يلبّي حاجة الفطرة كما يلبيّها الإبداع المادي. وأن تتمثل العقيدة والمنهج في تجمع إنساني، أي في مجتمع مسلم".  وذلك الإسلام هو الحضارة. فهو لا يعرف إلا نوعين اثنين من المجتمعات، مجتمع إسلامي وآخر جاهلي. والمجتمع الإسلامي هو المجتمع الذي يطبق فيه الإسلام بكافة مكوناته، أما المجتمع الجاهلي فهو الذي لا يطبق فيه الإسلام.

ووضع سيد قطب كل هذه الأحكام العقائدية والبلاغية الجازمة في استنتاجه القائل، بان قيام الحضارة الإسلامية المعاصرة لا يتوقف الآن على مستوى التقدم الصناعي والاقتصادي والعلمي، بل على بقاء أصولها الخاصة، التي تجعلها متميزة عن كل مجتمعات الجاهلية. وقد كان ذلك يعني بالنسبة له التمسك بمبدأ "العبودية المطلقة لله وحده"، بمعنى اتخاذه وحده إلهاً وعقيدة وعبادة وشريعة. وفي الحصيلة ضرورة اعتقداه التام والمطلق، بأنه لا حاكمية لأحد غيره. ومن ثم ينبغي تجسيد ذلك في الاعتقاد والتصور تجاه كل شيء. وفي الموقف من الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والأصول التي تقوم عليها يقوم في تمثل العبودية الكاملة لله وحده. وينطبق هذا على التشريعات القانونية وفي قواعد الأخلاق والسلوك وفي المعرفة أيضا. باختصار أن مضمون كل ذلك يقوم في الاسلمة التامة والشاملة لكل مناحي ومستويات الوجود الفردي والجماعي للأمة.

فهو العلاج الأول والأخير للمسلمين. ومن ثم فان الرجوع إلى مصادر الإسلام وحاكميته في كل شيء هو الأسلوب الوحيد للبديل والمستقبل. وكل ما عداه في عداء معه. وذلك لا أي من خارجه هو وبأي قدر كان يكفي لتسميم الينبوع الإسلامي الصافي.

وقد شكلت هذه الثنائية المتضادة مرجعية استنتاجه النهائي بهذا الصدد والقائلة، بان هناك دارا واحدة هي دار الإسلام، أي دار الدولة المسلمة والشريعة الإسلامية، وما عداها فهو دار حرب. علاقة المسلم بها إما القتال وإما المهادنة على عهد أمان. وبالتالي، لا ولاء بين أهلها وبين المسلمين. إذ لا إسلام في أرض لا يحكمها الإسلام ولا تقوم فيها شريعته، ولا دار إسلام إلا التي يهيمن عليها الإسلام بمنهجه وقانونه، وليس وراء الإيمان إلا الكفر، وليس دون الإسلام إلا الجاهلية، وليس بعد الحق إلا الضلال. 

وقد شكلت هذه الخاتمة الواضحة والدقيقة وضوح ودقة الفكرة الدينية المتشددة في موقفها من النفس والآخرين، بوصفها ثنائية الخلل والاغتراب المبطن. بمعنى أن الهمّ "الغربي" ظل متحكما فيها من حيث الرؤية والأسلوب والمنهج. والفرق الظاهري يقوم في مواجهة ما هو "غربي" بآخر إسلامي مناقض له ومبني على أساس النفي اللفظي المباشر أو القبول الجزئي بما فيه بعد صبغه بكلمات إسلامية. وفي نهاية المطاف كان البديل لا يخرج عن إطار الرؤية الدينية السياسية الراديكالية المتشددة تجاه النفس والآخرين. بمعنى أنها تستعيد ما هو "متكامل" في تقاليد الفرق الدينية المتزمتة، التي شكلت فكرة الحاكمية مصطلحها لا غير. ذلك يعني أنها بقيت ضمن سياق اللاهوت المتزمت وأسلوبه الخطابي. ومن ثم لا علاقة للفكرة الحضارية بفكرة الحضارة وتاريخها، والثقافة ومحدداتها، ومسارهما التاريخي. من هنا انعدام الرؤية التاريخية تجاه النفس والمستقبل، أي انعدام العناصر الضروري لتراك وعي الذات الثقافي والحضاري الاسلامي أيضا.

 

في المثقف اليوم