دراسات وبحوث

قصة الديانة الفرعونية (2)

الوجه الآخر للآلهة: لقد اعتبرت الأسطورة المصرية انّ تل (السكينتين) هو المكان الذي ظهر عليه (آتوم)، وبالتالي هو المكان الأزلي، وهذا الاختيار لارض مرتفعة يظهر عليها المخلوق الاول يتطابق مع الرؤية الاسلامية الشيعية التي ترى انّ الظهور الاول لآدم كان على ارض هضبة النجف المرتفعة، او (جبل الكوفة) .

لكنّ الأسطورة المصرية لاحقاً يبدو انها أدمجت أحداثاً اخرى في هذه القصة، لتنتج مفاهيماً قابيلية ابليسية خاصة . فقد افترضت - حسب مصادر التاريخ الفرعوني - انّ هذا التل الأزلي يقع ضمن (جزيرة اللهب)، وإطلاق هذا الوصف على الجزيرة يستدعي صوراً فريدة عند دمجه بالمعتقدات الاخرى للفراعنة، حيث كان للمصريين تلالاً أزلية اخرى، منها تلّ عين شمس الذي يعلوه حجر مخروطي كان بداية ظاهرة المسلّات الغريبة في الحضارة الفرعونية، والتي تشترك فيها حضارات وثنية كثيرة حتى في اصقاع بعيدة جدا عن الارض الفرعونية، وتتشابه هذه الظاهرة في وجودها مع ظاهرة الاهرامات .

وفي حين كانت الرواية الإبراهيمية لظهور آدم بسيطة، كانت الرواية الفرعونية معقدة، وترى انه ظهر للمرة الاولى على شكل طائر (البنو Phoenix)، وهذه الصورة تذكّرنا بفكرة ظهور مخلوقات غريبة للسحرة والمتعاملين مع عوالم الجنّ . وَمِمَّا يلفت النظر انّ المصريين كان لهم مجموعة من التلال المشابهة في مجموعة من المدن، مما يثير تساؤلات مهمة حول حقيقة إيجادها اذا كان التل الأزلي واحداً مرتبطاً بالظهور الاول للبشر ! .

القصة الاخرى الملفتة والتي يمكن دمجها مع قصة (جزيرة اللهب) هي معركة الاله (رع حور اختي)، التي خاضها حين كان حاكماً على النوبة ضد مؤامرة حيكت ضده في مصر . انّ هذه المعركة لم تكن ضد البشر هذه المرة، بل ضد مخلوقات مختلفة تم توصيفها بما يعني الأرواح الشريرة او الآلهة الأقل رتبة، وهي بالمعنى الإبراهيمي تعني الجآن . وفيها استقلّ الملك (رع حور اختي) سفينته، يرافقه (حورس)، لكنّ حورس بعد الوصول لمصر اقلع طائراً من سفينة الملك باستخدام (قرص الشمس)، مهاجماً اعدائه من السماء، ملحقاً بهم الهزيمة حتى اضطروا الى الهروب . ثمّ يعود حورس الى سفينة الملك، حيث يمنحه (تحوت) لقب (حورس بحدتي) . ثم يتفقد (رع حور اختي) ارض المعركة برفقة الآلهة الآسيوية (عشتارت)، ولا نعلم سرّ وجود آلهة آسيوية في معركة عظيمة مفصلية في تاريخ الآلهة المصرية، لكن الذي افهمه انّ هناك تحالفاً كان بين المنطقتين لمواجهة خطر كبير تعرضت له المنطقة هدد وجودهما . وقد ظهر لاحقاً انّ حورس لم يقضِ على الأعداء تماماً، حيث عمد الفارّون منهم الى النزول الى الماء بشكل (تماسيح وأفراس نهر)، مهاجمين سفينة (رع حور اختي)، لكنّ معركة بالسلاح الأبيض نشبت بينهم، قادها حورس، انتهت بالقضاء عليهم، بعد تسللهم الى السفينة . ثم اقلع حورس باستخدام قرص الشمس مرة اخرى، ترافقه الآلهة (نخبت) التي تأخذ رمز النسر الحامي، والآلهة (وادجت) التي تأخذ رمز الأفعى، ليغيرا من جديد على الاراضي المصرية ويخضعاها لسلطة الملك (رع حور اختي) . لكن يتجدد القتال في (تحل) قرب الحدود الآسيوية، وقائد المتآمرين كان (ست)، الذي فرّ لاحقاً متخذاً شكل الثعبان، مما يكشف انه استخدم ذات تقنيات الآلهة (وادجت) . لكنّ حورس هزم الجميع، فقرر الملك مكافأته واتخاذ (قرص الشمس) كظاهرة مقدسة في جميع المعابد .

انني كإنسان معاصر أعيش تقنيات العصر الحديث سيتبادر الى ذهني عند قراءة احداث هذه المعركة تصوّر واحد لسفينة الاله الملك (رع حور اختي) و (قرص الشمس) للاله القائد (حورس) هو (حاملات الطائرات)، وربما ذلك ما يُفسر انّ الأسطورة لم يرد فيها ذكر البشر، حيث كانت الآلهة وَالْجِنُّ هما بطلاها حسب القصة المصرية القديمة .

انّ قصة معركة الطائرات هذه كان لها شبيه في عدة حضارات اخرى، مثل الحضارة الهندية حيث معركة الآلهة الكبرى (الفاميناس) في (حضارة راما) كانت سماوية او فضائية، وفي حضارة ألمايا القديمة كان هناك الاله او الملك (بكال) الذي استخدم ما يشبه الصاروخ لزيارة العالم الاخر، حيث يظهر وهو يمسك بيديه لوحة تحكم، فيما قدمه على كابس او شيء من هذا القبيل، فيما في نهاية النقش ما يشبه فوهة لخروج اللهب، والملفت للنظر انّ هذا الملك - الذي تقع حضارته في المكسيك اليوم - هو احد الذين بنوا هرماً شبيهاً لأهرام فراعنة مصر .

يرى بعض الباحثين في المصريات مثل (تشيرني) أصلاً حقيقياً لهذه الأساطير، بسبب الصراع بين اتباع حورس واتباع ست، وربما يكون ذلك مقبولاً الى حد ما، لكنّه يخالف تصوّرنا المعاصر عن بدائية العالم القديم، كما اننا لا نملك تفسيراً واضحاً لهذه الأساطير الضخمة، ولا يمكننا أيضاً ان ننفي حقيقة وجودها بعشوائية ومزاجية . لكنّ الامر الأهم هو وجود التقنيات القتالية الضخمة لدى تلك الحضارات، ودخول حضارات غير بشرية في القتال، ودموية تلك المعارك وشراستها، مما يكشف عن انهيار سكّاني واقتصادي رافق كل ذلك . وقد نقلت أسطورة اخرى هي أسطورة (دمار البشر) كيف انّ الآلهة غضبت على البشر بسبب أعمالهم السيئة، وارادت تدميرهم، لكنها لاحقاً عفت عنهم وحاولت استنقاذهم .

وقد كان المصريون يعتقدون بوجود عوالم اخرى، مثل عالم (دِت Det)، وأنّ هناك مخلوقات ترافق الآلهة وتحظى بقوى خارقة خاصة . لكنّ المصريين كانوا يعتقدون انّ الملك وحده هو من يستطيع التواصل مع الآلهة، باعتباره ابناً لها، لذلك كانت المنقوشات الاولى تظهره وحده من يبتهل الى الآلهة . ويبدو انّ سلسلة من الملوك احتفظوا بأسرار مهمة تتعلق بعلم التواصل مع العوالم الاخرى، استطاعوا من خلالها التأثير في الناس، وربما من خلال اتفاقيات سبقت هزيمة المخلوقات التي شاركت في المعارك الكبرى السابقة، تضمنت خضوعهم لارادة تلك الحضارات غير البشرية مقابل انتفاعهم بتقنيات خاصة تنتجها تلك الحضارات، اثبتت فاعليتها في خضمّ الصراع . وربما لم يكن جمهور الناس متقبّلاً لفكرة التعامل مع المخلوقات التي كانت تحارب ضد حورس وتحوت، لذلك احتفظ الملوك بأسرارهم، وحاولوا الظهور بصورة اكثر نفعاً للناس . لكن مع مرور الزمن ومع ازدياد الاضطراب الفكري تغلغلت عقائد هؤلاء الملوك في الناس، وبدأت تظهر قدرة عامة للتعامل مع تلك المخلوقات، التي أخذت صبغة وعنوان الآلهة، في فلسفة دينية جديدة مخترعة ومبتدعة . لذلك يظهر في المنقوشات الاثرية اللاحقة انّ العامة من الناس يبتهلون الى الآلهة، وليس الملوك وحدهم . ثمّ ظهرت رسومات الآلهة (القزمة)، التي هي مجموعة من الكائنات التي تتصف بصفات القزم (القزم ذو الوجه الكبير والظهر الطويل والعجز القصير) كما جاء في الأساطير اللاحقة، مثل الآلهة (بس) و (عحا) و (توريس)، لكنّ هذه الآلهة الاقزام كانت مع ذلك تستطيع ان تصل الى السماء ! . (يَٰبَنِى ءَادَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ ٱلْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَٰتِهِمَآ ۗ إِنَّهُۥ يَرَىٰكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُۥ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَٰطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) .

وقد وردت رسومات (القرين) في الكثير من النقوش المصرية، وهي فكرة متكررة وثابتة في العقيدة المصرية، كما في منقوشة الاله (حكاو) والملك (أمنحوتب الثالث)، ولا نعرف المعنى الذي قصده المصريون من القرين، وهل هو ذاته المعنى الذي ذكره القران الكريم ( قَالَ قَرِينُهُۥ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُۥ وَلَٰكِن كَانَ فِى ضَلَٰلٍۭ بَعِيدٍۢ) و (قَالَ قَآئِلٌۭ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌۭ) و (وَقَالَ قَرِينُهُۥ هَٰذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ) و (حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَٰلَيْتَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ)، حيث يبدو انّ للسلوك البشري حاكمية على هذا الاختيار للقرين كما في (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُۥ شَيْطَٰنًۭا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٌۭ) و (وَٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيْطَٰنُ لَهُۥ قَرِينًۭا فَسَآءَ قَرِينًۭا) .

الأديان الإبراهيمية عموماً متفقة على وجود مخلوقات غير الانسان، لكنّها خفية (جآنّ) . فقد ورد في القران الكريم سورة كاملة باسمهم، ومنها يتضح انهم كائنات عاقلة مكلّفة، تعيش ذات التساؤلات التي نعيشها، وتهتم لقضايا كثيرة نهتم لها . لكن من هذه السورة التي فيها (بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌۭ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوٓا۟ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًۭا [الجزء: ٢٩ | الجن (٧٢)| الآية: ١]) نعرف انّ لهذه الكائنات القدرة على الاستماع لعالمنا، ومن خلالها نعرف انهم تواصلوا مع عالمنا باستمرار .

لكن مع ضرورة ان ندرك انّ هناك مخلوقات اخرى خلقها الله كما نصّت الأديان الإبراهيمية، وهم الملائكة، الذين هم غير الجنّ هيئة وتكليفا . حيث هم الذين جعلهم الله قوانين تتحكم في مجريات الكون، وربط وجودهم بالعرش، والعرش هو أصل كل شيء إنار بنور الله .

قال أمير المؤمنين عليه السلام: (إن العرش خلقه الله تعالى من أنوار أربعة: نور أحمر، منه احمرت الحمرة، ونور أخضر منه اخضرت الخضرة، ونور أصفر منه اصفرت الصفرة، ونور أبيض منه [ابيض] البياض، وهو العلم الذي حمله الله الحملة وذلك نور من عظمته، فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة، بالأعمال المختلفة والأديان المشتبهة، فكل محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته لا يستطيع لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فكل شيء محمول والله تبارك وتعالى الممسك لهما أن تزولا والمحيط بهما من شيء، وهو حياة كل شيء ونور كل شيء، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً) .

والعرش هو المقترن بتدبير الامر، حيث يقول تعالى (ان ربكم الله الذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والارضَ في ستةِ ايامٍ ثمّ استوى على العرش يُدبّرُ الامرَ) . وقرن الله تعالى عمل الملائكة بتدبير الامر، وقد أشار جلّ جلاله الى ذلك حين قال (فالمقسمات أمرا)، حيث قال صاحب تفسير (الميزان ( وقوله : (فالمقسمات أمرا) عطف على ما سبقه وإقسام بالملائكة الذين يعملون بأمره فيقسمونه باختلاف مقاماتهم فان امر ذي العرش بالخلق والتدبير واحد فإذا حمله طائفة من الملائكة على اختلاف أعمالهم انشعب الامر وتقسم بتقسمهم ثم اذا حمله طائفة هي دون الطائفة الاولى تقسم ثانيا بتقسمهم وهكذا حتى ينتهي الى الملائكة المباشرين للحوادث الكونية الجزئية فينقسم بانقسامها ويتكثر بتكثرها) . ويمكن ادراج قوله تعالى (فالمدبرات أمرا) في هذا المعنى، حيث ذكر صاحب الميزان انها في الملائكة ايضا، (تَنَزَّل الملائكة والروح فيها باْذن ربهم من كلّ امر) .  وَمِمَّا يؤيد هذا الدور العملي في الخلق للملائكة ان الله تعالى جعل انقضاء الامر مقرونا بهم، حيث قال تعالى (ما نُنزّلُ الملائكةَ الا بالحقِّ وما كانوا إذاً مُنظَرين)، و قال ايضا جلّ شأنه (يوم يَرَوْن الملائكةَ لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا)، و (ويوم تشقق السماءُ بالغمام ونُزّلَ الملائكةُ تنزيلا)، و (هل ينظرون الا ان يأتيهم الله في ظُلَلٍ من الغمامِ والملائكةُ وقُضِيَ الامر والى الله تُرجعُ الأمور) .

ومن لطيف التعبير القراني عن عمل الملائكة هو قوله تعالى (له مُعقّبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من امر الله إِنّ اللَّهَ لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم وإذا أراد اللهُ بقومٍ سوءاً فلا مَردّ له وما لهم من دونه من وال)، حيث جمعت الآية ما نريد من كون الملائكة يعملون كقوانين تحفظ الانسان من الأوامر الكونية لله، طالما ارتبطت نفس الانسان بأولئك الملائكة، لكنه حين يقطع ارتباطه بهم - بمعاصيه وخروجه عن حقلهم الإيجابي - يخلّون بينه وبين تلك الأوامر الكونية .

وحين نعلم من اثار الباحثين - مثل احمد سوسة وجرجي زيدان والأستاذ كنغ والمؤرخ ماسبرو - انّ المصريين هم حصيلة لخليط من مجتمعين احدهما ساميّ هاجر الى مصر بحدود الألف الرابع قبل الميلاد يصبح القول بأصل توحيدي للعقائد المصرية أمراً منطقيا، وتكون هذه الأساطير وليدة الحضارة الآدمية العراقية بدرجة كبيرة من القبول . ويرى الأستاذ L.W.King  انّ الساميين الذين هاجروا بحدود الألف الرابع قبل الميلاد هم من نقل مصر الى العصر الحديدي، الذي عرفوا فيه الاَلات واستخداماتها .

السحر شفرة الفراعنة

يشير بعض الباحثين الى انّ مفردة (ديانة) لم تكن متميزة في المجتمع المصري، وانّ كلمة (حكا hike) التي تعني (القوى السحرية) هي الأقرب لهذا المفهوم في ذلك المجتمع . وكانت هذه القوى مقتصرة في الأدب المصري القديم على الآلهة والملك الحي، لكن نلاحظ انها في الدولة الوسطى أصبحت اكثر سرياناً في المجتمع العام، مما يعني انّ تعاليم الشفرات السحرية صارت متداولة ومتفشية ومقبولة، وذلك يستتبع انّ العقيدة التي تستند اليها انتشرت أيضاً كدين عام للدولة، من خلال ازاحة العقائد الأقرب للديانة العراقية .

لقد تضمنت نصوص الاهرامات في الدولة القديمة ونصوص الأموات في الدولة الوسطى وكتاب الموتى في الدولة الحديثة الكثير من التعاويذ والتراتيل السحرية، التي كان هدفها التواصل مع الآلهة لحماية الميّت في رحلته ضمن العالم الاخر، رغم انها كانت في الأصل مكتوبة لحماية ونفع الأحياء .

وقد اعتقد المصريون انّ الآلهة تمتلك قوى خارقة، يشاركها الملك في ذلك نتيجة لمعرفته بعالم الأسرار الماورائية . لكنّهم اعتقدوا لاحقاً انّ المتعلّمين لهذه العلوم يمكنهم تسخير قوى الآلهة لصالحهم حين يمتلكون قدرات معرفية اعلى من الآلهة المقصودة، لذلك رأوْا انّ الاله سوف يكون مسخّراً لخدمة الساحر الذي يمتلك تلك المعرفة الباطنية .

والمصريون اعتقدوا تماماً بوجود عالم اخر، غير منظور، وله وجود حقيقي، وهو فوق عالمنا الطبيعي في قدراته، ورأوا انّ التراتيل السحرية لها تأثير كبير في العالمين الطبيعي والماورائي . وآمنوا انّ (الكلمة) هو جوهر السحر، وأنها تؤثر فيما تُطلق عليه، لذلك كانوا يختارون الأسماء بعناية، ويحذرون من نطق الكلمات التي يعتقدون بأنها تجلب اللعنة .

لكن الملفت انهم في كثير من نقوشاتهم المهمة جمعوا بين (حكا) التي هي الشفرة السحرية وبين (ماعت) التي هي نواميس الكون وقوانينه، في إشارة مهمة جداً تدلّ على الترابط الوثيق بينهما، وهذا يعني - كما اعتقدتُ دائما - انّ السحر كان في نظر المصريين تصرّف بفيزياء الكون، لولوج العوالم الاخرى، والتأثير في مجريات الحوادث، وليس هوى ميتافيزيقيا أسطورية .

ورغم انّ السحر تحوّل الى طقس من طقوس العبادة في الديانة المصرية إِلَّا انّ ممارسته ومستويات تلك الممارسة تتفاوت، فالسحر لدى الملك في مستوى ارفع من السحر لدى العامة . وفي المعابد كانت التراتيل السحرية والتعامل مع الأرواح في العوالم الاخرى ترتبط بالكاهن المرتّل (xry hpt)، وهو كذلك يقوم بمعالجة الكثير من الحالات المرضية . حيث ارتبط السحر في مصر القديمة بالطب، وكان العامة يحملون التمائم الشافية او الواقية .

وقد حمل السحرة في الدولة المصرية لقب (حري تب)، بمعنى (من يقوم بالشعائر) او (الكاهن المرتل)، فيما حملوا في الفترة المتأخرة لقب (كتبة نصوص الآلهة)، مما يعني توّغل العقيدة السحرية في المجتمع الى الدرجة التي اُعتبرت فيها نصوصاً الهية .

وقد وردت اسماء العديد من السحرة الذين كانوا يلمّون بثقافة عامة ومعرفة كبيرة، مثل (ديدي) و (چاچا ام عنخ) و (مري رع)، فيما نقلت احدى البرديات شغف (واس ام عنخ) ابن (رعمسيس الثاني) بالسحر وبالأثار القديمة .

وكان الى جانب الكاهن المرتل كاهن اخر بعنوان (وعب wab)، والذي يقوم بمهام خاصة في بيت الحياة (pr-anx)، الى جانب كاتب نصوص الآلهة . وكان السحر بجزئين، احدهما شفهي، والآخر عملي . ويأخذ الاسم مركزاً محورياً في الممارسة السحرية، حيث يتمّ تدمير صاحبه من خلال تركيز الطقس على المعرفة بالاسم .

ومن الطبيعي ان تحفل أساطير حضارة تقوم على الشفرة الباطنية بالعديد من قصص السحر، وتسرد تلك الأفعال السحرية الخارقة للآلهة . ومن هذه الأساطير (إيزيس - رع) و (عقارب إيزيس) و (قصة الأخوين) .

ومن هذه القصص ما جاء في بردية (وستكار)، التي تتحدث عن مجموعة الروايات تمّ القائها بين يدي الملك (خوفو) باني الهرم الأكبر، والتي تدور حول قدرات (الكاهن المرتل) . حيث في احدى تلك الروايات تحدّث الراوي عن الساحر الكبير (چاچا ام عنخ) الذي شقّ البحيرة الى نصفين بارتفاع يصل الى عشرين ذراعاً لاستنقاذ احدى مجوهرات مرافقة الملك (سنفرو) احد ملوك الدولة القديمة . وهذه القصة تكشف حقيقة ما قام به النبي موسى عليه السلام من معجزة كانت جذورها ترتكز في العقل المصري للدلالة على الاعمال الإعجازية الكبيرة، ( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَٱضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًۭا فِى ٱلْبَحْرِ يَبَسًۭا لَّا تَخَٰفُ دَرَكًۭا وَلَا تَخْشَىٰ [الجزء: ١٦ | طه (٢٠)| الآية: ٧٧])، (فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍۢ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ [الجزء: ١٩ | الشعراء (٢٦)| الآية: ٦٣])، (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ فَأَنجَيْنَٰكُمْ وَأَغْرَقْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [الجزء: ١ | البقرة (٢)| الآية: ٥٠])، وهذه النصوص القرانية كاشفة عن ظاهرة خاصة في ذلك المجتمع الغريب عن واقعنا الحالي .

اما أسطورة (إيزيس - رع) فتكشف لنا عن أهمية معرفة اسم الحقيقي للآلهة - المفترضة -، ومن ثمّ نطقه للتمتع بمزايا خاصة يملكها ذلك الاله وحده، وقد استخدمت إيزيس ذكائها - حسب القصة - لخداع رع والاستحواذ على قدرات مشابهة لقدراته .

وفي أسطورة (عقارب إيزيس) يبدو التركيز على القدرات الشفائية للآلهة، وهي تلامس الوجدان الشعبي، وتحاول ربط الناس بالآلهة، عبر افهامهم ضرورة الاستجابة لها والاحسان اليها، ومن ثمّ الاستفادة من قدراتها وتمائمها الخاصة .

وقد ارتبطت الرسومات السحرية بديانة الشمس كثيراً كما الاثار المكتشفة، وبالتأكيد لم تكن هذه الديانة ترى في الشمس - بذاتها - إلهاً، لكنّ رمزية الشمس ربما كان لها دلالة اخرى تحتاج الى بحث، لأنّ المعتقدات المصرية كانت معقدة ولم تكن بدائية . حيث انّ ربط الأدوات والوسائل السحرية كان بربّ الشمس لا بالشمس ذاتها كما يبدو، اذ انّه في رحلته يتعرّض لمخاطر متجددة يوميا .

الامر الذي يثير التساؤل أيضاً هو ربط السحر في مصر القديمة بالرّبات الإناث، بصورة اكبر من الأرباب الذكور، كما هي الآلهات (إيزيس - نفتيس) والالهات (سخمت - حقات - سرقت - نيت) . ومع ذلك ارى انّ الترجمة التي اعتمدها الباحثون الغربيون - بفهمهم الذي يعاني إشكالاً فلسفيا - هي السبب في هذا التصوير، ففي حين كانت إيزيس ونفتيس آلهة بالمعنى الفلسفي المصري، لم تكن الآلهات (سخمت - حقات - سرقت - نيت) سوى قوى ووسائل او ظواهر فيزيائية حملت اللفظ المؤنث، وربما كانت (نيت) أيضاً لها أصل فلسفي كإيزيس .

قد يعتقد البعض – تساهلا – ان السحر لا يعدو الممارسات والصور الخادعة لاعين واذهان الناس , لكن هذا ليس هو الواقع بكل تأكيد . ان الوقائع والحوادث التي تسبب بها الممارسون للسحر على الارض تدحض كل الدعاوى الفقيرة لمن يعيشون ما تزقه عليهم دعوى التحضر والعصرنة . اما الاديان فقد اثبتت وجوده بكل تأكيد , دون استثناء , في اطار انتقاده واظهار مساوئ اللجوء اليه , وكذلك شرحت الشرائع سبل مقاومة آثاره  .

(قالَ ألقوا فلمّا ألقَوا سحَروا أعيُنَ الناسِ واسترهبوهم وجاءوا بسِحْرٍ عظيم)، وكما نلاحظ فالآية قسمت السحر الى انواع ومراتب ثلاث – وهي ذات المراتب التي اشار اليها الشهيد محمد محمد صادق الصدر في كتابه ما وراء الفقه - :

1 – سحر الاعين

2 – الاسترهاب

3 – السحر العظيم

وتتدرج المراتب تصاعديا , كما تتدرج معها تأثيراتها , فالاول ربما يكتفي بالخداع البصري , والثاني ينشأ في داخل الانسان الهدف شيئا من الخوف .

اما الثالث فهو تحكم فيزيائي بالكون , عن طريق مجموعة قواعد , كان القدماء من البشر يجهلون علتها , رغم انهم يعلمون استخدامها , لذلك ادخلوها ضمن العلوم الغريبة وسموها (السحر الاسود) , بينما اتخذتها اقوام اخرى كشرائع , فيما هي فيزياء وفق توصيفنا المعاصر , لكننا كاي طفل في الطبيعة لازلنا في بداية معارفنا . ولكن تم زق هذه القواعد الفيزيائية من قبل مخلوقات سبقتنا بحضارتها لآلاف السنين , وهي الجن .

لو عثر شخص ما في الالف الثالثة قبل الميلاد مثلا على جهاز هاتف يعمل بنظام الاندرويد ماذا ستكون ردة فعله , او انه حصل على كاميرا سوني ؟ , فهو سيدخل كل ما وجده ضمن منظومة السحر , فيما ندخلها نحن اليوم ضمن نطاق التقنية القائمة على الفيزياء , وكذلك قواعد السحر التي نجهل علتها اليوم , فربما تكون علما وتقنية في المستقبل .

ويمكننا الإحاطة ببعض أشكال وطقوس السحر إجمالاً، وهو في كثير من الأحيان اتفاق بين الساحر وشيطان، في معظم الحالات يتم تعيين ما يصل الى اتفاق بين الساحر والشيطان , والتي تتطلب من الأول ارتكاب بعض الطقوس الوثنية، سواء سرا أو علانية , والثاني يقوم بتوفير الخدمات التي يحتاجها الساحر أو إرسال شخص ما للقيام بهذه المهمة عادة . يتم تعيين اتفاق يصل بين الساحر وواحد من رؤساء قبيلة من الجن والشياطين .

ظلمات الكفر تغطي وجهه الساحر مثل سحابة سوداء. إذا كنت تتصل بالمقربين منه، سوف تكتشف أنه يعيش في البؤس النفسي مع زوجته وأولاده، وحتى مع نفسه. انه غير قادر على النوم بسلام في الليل بضمير مرتاح. يستيقظ في كثير من الأحيان حتى في حالة الهلع عدة مرات في الليل، وقد تقوم الشياطين بإيذائه شخصيا او عائلته .

لكن الملاحظ ان على الساحر دائما القيام بطقوس وثنية ولا اخلاقية او مخالفة للشرائع السماوية , مما يؤكد ان الهدف منها والذي ترتضيه الشياطين كثمن هو انحراف الانسان وتلبسه ثوب المعصية , فكثيرا ما يقوم ساحر بكتابة بعض الآيات القرآنية مع القذارة، وبعض الكتابة عليها باستخدام الحيض أداء بعض كتابتها تحت أقدامهم .

يؤكد الخبراء المختصون بالممارسات السحرية ان من أقواها السحر الفرعوني , ويليه أسهل نسبيا من الأول، ويمارس هذا في الهند على نحو مفرط. , وفي مثل هذا النوع تتم الدعوة إلى التضحية بالأشياء لآلهة مختلفة مثل bhuwani، chumari، luuna، bheron وغيرهم متفرقات. أيضا بواسطة الجواهر والإضاءة، ووضع عطور في أماكنهم .

وهناك انواع تتعلق بالسيطرة على ارواح معينة , لاهداف خاصة , سيما ما يتعلق بالارواح القوية , او يقوم السحرة احيانا بالتعاون مع الشياطين بالهجوم على بلدان محددة لاسباب دينية , كما اكد حدوث مثل ذلك بعض العارفين والروحانيين ضد العراق اليوم .

كما ان هناك انواعا سحرية تستخدم الشياطين من الجن لخلق الخمول في اشخاص معينين , ومن شأن الساحر ارسال الجن الى الشخص المستهدف، أوعز له ليستقر في دماغه وجعله منطويا على ذاته وحداني. والجن يبذل قصارى جهده لتنفيذ المهمة، وأعراض هذا السحر سوف تظهر، وفقا لنقاط القوة والضعف .

فيما هناك سحرا يستخدم الجن لغزو احلام الاشخاص , الساحر يرشد من الجن أن يظهر لشخص في كل من الحلم والواقع، في شكل حيوانات وحشية والهجوم عليه , او يسمع اصواتا لايسمعها القريبون منه . الأعراض وفقا للغاية القوة والضعف من السحر. فإنها قد تزيد إلى حد الوصول إلى الجنون، وربما يقلل أيضا إلى حد كونه مجرد الوسوسة. بعض أعراض هذا السحر الضحية تعاني كوابيس , والمريض يسمع أصواتا تتحدث اليه عندما يستيقظ، ولكن غير قادر على رؤية من أين هذه الأصوات قادمة . المريض يسمع همسا كثيرا .

وهناك سحر الفودو يأتي من القارة الافريقية وهو قاتل للغاية , يتم باستخدام الدمى والابر .

ان للسحر شرائعه وقواعده , وهي ترتبط بمنظومات الشياطين ومراتبها ومحافلها , وكل ذلك يستند ويعتمد على المسافة الحضارية الطويلة للجن وتقنياتهم العالية , والتي سبقت وجودنا بآلاف السنين , والنتيجة ان السحر علم , لكننا لازلنا نجهل الكثير من طرق الوصول اليه , ونحتاج الى عمر حضاري كعمر اقوام الجن .

ان الملفت في عالم السحر والحضارات التي تستخدمه ارتباطه بصورة الآلهة الحيوانية والرموز الهجينة، كما في حضارة مصر الفرعونية وحضارات الهند الباطنية . فيما نلاحظ انّ سحر (الفودو) الأفريقي الذي يستخدم الدمى والإبر والسكاكين للطعن هو ذاته الموجود في الرسومات المنقوشة على الاثار الفرعونية المصرية .

لقد اقرّ القران الكريم بصورة واضحة انّ القدرات الخاصة لكهنة الفراعنة كانت سحراً [ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [الجزء: ١١ | يونس (١٠)| الآية: ٨١] .

 

في المثقف اليوم