دراسات وبحوث

الأشباح والأرواح (6-1): الوحي والخلافة.. معاناة النص والسلطة

mutham aljanabi2إن علاقة السلطة والمثقف عادة ما تلازم الوجود التاريخي والسياسي للأمم، بوصفها إحدى معضلاته الكبرى. وبالتالي، فإن مقدماتها في المدنية ومظاهرها المتنوعة في حضارات الأمم. ونعثر فيها أيضا على إحدى صيغ ومستويات الرقي المعرفي والأخلاقي، بمعنى انها تحتوي بقدر واحد على مصادر الفخر والإعجاب والإدانة والشماتة. وبالتالي، فإنها تؤدي رغم كل تعرجات التاريخ إلى السير ضمن قواعد الحقيقة ومنطق الرقي الأخلاقي، مع ما يترتب عليه من تأسيس ثقافي لوحدتهما المتناسقة. وبغض النظر عن الطابع المتناقض لهذه الوحدة، فإنها تسهم في إرساء أسس الصيرورة التاريخية للأنا الثقافية للأمة. وبالقدر الذي نعثر في مختلف النماذج الواقعية لعلاقة السلطة والمثقف على تاريخ وجودهما الفعلي، فإننا نكتشف فيها أيضا على إشكالية وجودها الطبيعي. فإذا كان التاريخ بالنسبة للمثقف هو بمعنى ما إشكالية السلطة، فإنه بالنسبة للسلطة إشكالية الثقافة. وفي هذه العلاقة المتناقضة ووحدتها الدائمة تتبرعم معالم الإبداع والتقليد، والنقد والتأييد، والبحث والتبرير في الثقافات الكبرى. ومنها تتكون كيانات الأمم وهوياتها الثقافية ومصائرها التاريخية.

إن إلقاء نظرة سريعة على تاريخ العلاقة بين المثقف والسلطة يكشف عن إشكالاتها الكبرى وامتدادها العريق. فهي جلية المظهر معقدة المضمون، وفيها تتكشف مختلف ألوان الخطوط المتعرجة لدهاليز الثقافة، ونوعية إبداعها، وقيمتها بالنسبة للماضي والحاضر، وأثرها بالنسبة لوعي الذات الفردي والاجتماعي، وأهميتها بالنسبة للإبداع الحر. كما أنها العلاقة الأكثر مأساوية وإثارة، بوصفها المحك الفعلي لمستوى تهذيب الإخلاص للحقيقة. وما لم يجر إدراك حدود السلطة وعدم تناهي الحقيقة، فإن العلاقة تبقى إشكالية للطرفين ومصدرا لمآس لا تنتهي.

فالثقافة سلطة أيضا. لكنها من طراز خاص. كما أنها متنوعة المستويات والـتأثير والمآثر. وإذا كانت الصيغة العامة لنماذجها "السيئة" تقوم في سيادة التقليد والجبن المقيد بالخضوع "الواعي" للقوة، فإن نقيضها المباشر يقوم في مختلف الصيغ الداعية للحق والحقيقة والعمل بموجبها.

وبغضّ النظر عن الصعوبة الملازمة لتثبيت دعائم هذه "السلطة"، إلا أن إدراك قيمتها الشاملة كان وما يزال يشكل "المثال" المؤثر والغاية المحركة لخيال وعقل المثقفين وضمائرهم. كما كانت وما تزال حافز المبدعين الذين عادة ما يواجهوا مصيرهم الفردي والتاريخي في أحضان الملوك أو سجونها، في تقريبهم من السلطة أو إبعادهم عنها. وفيها ومن خلالها تتكشف طبيعة وتعقيد العلاقة الواقعية والمثالية بين المثقف والسلطة، وكذلك في طبيعة المواقف المتبادلة بين الحقيقة والسلطة.

فإذا كانت الجاهلية العربية تجهل صراع الفكر والسلطة (السياسية)، فإنها لم تجهل سلطان الكلمة وأهميتها بالنسبة للصراع. على العكس! فقد كانت هذه القضية من الأهمية والحساسية بحيث رفعت ثقافة العرب القديمة من شأن الكلمة إلى مصاف المقدس، كما نراه على سبيل المثال في أهمية الشعر وفاعليته في العقل والوجدان ومصير الأفراد والقبائل، وكذلك في عمق وقوة الكلمات المأثورة والحكم. ثم استمرارها في سحرية الكلمة والعبارة التي جعل منها القرآن في وقت لاحق آية كبرى (إلهية ومقدسة)، بعد أن ادخلها في أفلاك الأزل والأبد بحيث جعل منها مصدر الاشتقاق الدائم للتفسير والتأويل والتفقه.

إننا نقف هنا أمام وجهين مختلفين من حيث الوظيفة الفعلية للكلمة والعبارة. لكنهما يتمثلان أولا وقبل كل شيء تقاليد الذهنية العربية بهذا الصدد. فقد كانت العرب الوثنية "تعبد" الكلمة بطريقتها الخاصة بحيث نراها تجعل الكلمة الجميلة والعبارة الأخاذة سحرا. ووضعت هذا الموقف المباشر في منظومة الإبداع الفاعل في سرّ السحر المجهول لمصدر الكلمة وكيفية تناسقها الجميل في العبارة. من هنا فكرة شيطان الشعر. تماما كما جعلت من وادي عبقر (للجن والشياطين) مصدر العبقرية. وهي فكرة لها جذورها في قوة الاندهاش التي تثيرها الكلمة الساحرة في العقل والضمير. فالعبقرية جنون أيضا. والجنون فنون (أي متنوع الصور والأشكال والمستويات). إذ لم تعن كلمة شيطان الشعر هنا سوى قوته غير العادية، أي المافوق طبيعية. ومن ثم ليس الشيطان هنا سوى تيار الوجدان العارم، شأن سيول الأمطار في جزيرة العرب ووديانها. وهي سيول تجري أيضا في دماء الصراع الحامي وشدة الأفراح المحطمة لرتابة العادة. ومن خلالهما تراكمت فكرة الخروج على المألوف. فالخروج على المألوف مقدمة المعجزة، كما ستتوصل إليه تقاليد الكلام الإسلامي في وقت لاحق. وسوف يجري وضع هذه الفكرة في تقييم عبارة القرآن بوصفها "آية" وليس شعرا. ولم يكن مقصود المعارضة بين الشعر والآية هنا سوى معارضة الهوى بالوحي، والظن باليقين. فقد ادخل هذا الفارق الجوهري على سحرية العبارة، من خلال إرجاعها الى الله باعتباره العقل الكليّ والحكمة المطلقة، على عكس قوة العبارة القديمة باعتبارها هوى عارما وجنونا شيطانيا. وحالما جرى تذليل هذه الخلاف بعد سيادة واستتباب الفكرة الإسلامية في الموقف من مختلف مظاهر الوجود، حينذاك أصبح من الممكن قبول تراث القدماء "الجاهلي" بمعايير جديدة قادرة على دمجه في منظومة القيم الإسلامية ومفاهيمها الكلية. من هنا القبول بعبارة الحديث (النبوي) القائلة (إن من البيان لسحرا). بمعنى بلوغ حالة التوليف الثقافي لتقاليد البلاغة العربية وقيمتها بالنسبة للذهنية المجردة وذوقها الجمالي المسحور بقوة الكلمة الجميلة وبلاغتها الآسرة.

ولم يكن ذلك معزولا في العصر الجاهلي عن تأثير سلطة الانتماء للقبيلة. فقد كانت الجاهلية تتطابق مع سلطة القيم القبلية والإخلاص لها. ومنهما كانت تتراكم في الأقوال والأعمال والصور والرموز معاني الانتماء، الذي كان يحدد بدوره السلطة الخفية التي تمحورت حولها ثقافة الجاهلية. لكنها لم تكن سلطة القهر والإجبار، بقدر ما كانت سلطة التجبر والانجرار وراء قوة الانتماء القبلي وشروط تأثيره في القول والعمل. فالجاهلية لم تعرف ثقافة السلطة السياسية (الدولتية)، ومن  ثم لم يعرف الشاعر (مبدعها وصاحب أفكارها) من تناقض المواقف وانفصام الرؤية. لقد كان قوله فعله، وفعله قوله. من هنا كانت سلطة الحقيقة وحقيقة السلطة في تطابق تام مع شعور الانتماء للذات. والذات هي القبيلة. من هنا الإخلاص لها في كل شيء. ومن هنا أيضا قيمة إبداعهم العظيم في الشعر والقول المأثور. لكنه إخلاص لا يخلص للحق المجرد، بل للحق الجزئي القبلي الضيق. من هنا قوة اللسان والبيان. وذلك لأن منطق لسانه وسحر بيانه يقوم في مدح النفس وهجاء الأعداء. وقد كان هذا المنطق يتطابق أحيانا مع الحقيقة ويخالفها في أحيان أخرى. من هنا جاهليته، بمعنى جهله الحقيقة المجردة والحق والمجرد. وهي نتيجة حددها انتصار الإسلام وانبساط سيطرته شبه التامة على كينونة العرب التاريخية وصيرورتهم الثقافية الجديدة. بمعنى نقلهم من لغة البيان في التعامل مع النفس والآخرين إلى لغة الإيمان بالمقدس، أي المتسامي في الصورة والمعنى.

وتجدر الإشارة هنا إلى إنني استعمل هذا المصطلح بمعنى بسط وانتشار السيادة الإسلامية (الظاهرية) وانبساطها، أي ارتياحها الروحي وانتعاشها الباطني. بعبارة أخرى، انه يحتوي على وحدة الظاهر والباطن التاريخية الثقافية. فقد تمثلت هذه الوحدة مرجعية التوحيد الإسلامي. ووجدت تعبيرها وانعكاسها التاريخي المتراكم في تجارب الأمة الجديدة من خلال صيرورة الثقافة وكينونتها الكونية (العالمية)، بوصفها ثقافة شاملة لها مرجعياتها الخاصة والأصيلة.

وهو انتقال نقل علاقة أشياخهم وشعرائهم وأبطالهم (مثقفيهم) تجاه سلطة القبيلة والعرف والتقليد والحق الجاهلي إلى مصاف ساهمت في تأسيس رؤية وأسلوب جديدين في علاقة المثقف والسلطة. أما الأسس الجديدة لهذه العلاقة فقد وضعها الوحي النبوي لمحمد عبر تكوين ما يمكن دعوته بمرجعية القرآن ومبدأ الثقافة والبيان. (يتبع....)

***

 

 

في المثقف اليوم