دراسات وبحوث

الأشباح والأرواح (7): القرآن ومبدأ الثقافة والبيان

mutham aljanabi2قد يكون الزمن هو الوحيد القادر على أن يطوي في تياره كل ما هو عرضة للموت والزوال، لكنه يرمي لنا في نفس الوقت كل أشكال الممكنات والمفاجئات. فهو ليس فقط ما يظمئنا بل وما يروي عطشنا، ويمرض السليم بيننا ويشفي العليل منا، ويخمد الآلام ويثيرها فينا، ويسعدنا ويشقينا ويفرحنا ويبكينا ويقسو علينا ويواسينا. كما أنه سارق الذاكرة وحاميها، وصارفها وخازنها.

لكننا عادة ما ننسى ونتناسى لكي تكون ذكرياتنا وذاكرتنا اشد حدّة في تناول ما هو مستعد للحياة والبقاء والديمومة والصفاء. عندها سيكون بإمكاننا تجريد الأحداث الجسام عبر تحويلها إلى مآثر نقية. حينئذ يكون بإمكاننا النظر إليها على أنها جزء من ماضينا وتجارب أممنا. بل ونذهب ابعد من ذلك لكي نرى فيها صورة من صور التنقية الضرورية للروح. حينذاك يصبح رفع هذه المآثر إلى مصاف القدر، الصيغة الأكثر "منطقية" لرؤية مسار التاريخ وما فيه. عندها يكون بإمكاننا رؤية "حقيقة" مسارها كما لو أنها حتما وقدرا لابد منه. وحالما نرتقي إلى هذا المستوى من التجريد يصبح من "الطبيعي" أن نجعل منها لغزا محيرا أو سرا معقولا بمقدار ما فينا من قدرة على التأويل. آنذاك تصبح الفكرة والتاريخ شيئا واحدا. فالتأويل هو ملك المقدس وملكوته، كما أنه جبروت الرغبة الإنسانية في تكثيف ما تراه غاية الوجود والتاريخ. وحالما يجري تمثل هذه الحالة يتحول الزمن المفني لوجود الأشياء إلى باني الأشياء جميعها، كما يصبح المبرد الذي يسنّ حديد العمر صانع نشارة المرآة الجديدة التي نتأمل فيها حاضرنا ومستقبلنا.

وحالما تحول القرآن إلى الكتاب المقروء ليلا ونهارا في المساجد والمقاهي، والبيوت والشوارع، والمآتم والأعراس، والهجوم والفرار، والانتصار والهزيمة، فإنه يكون بذلك قد اختزل حقيقة العذاب الذي عانى منه محمد وأرهق روحه وعقله وجسده قبل أن يصبح معجزة. وهو "عذاب" التحدي المميز للشخصيات الكبرى. بحيث جعله يواجه الأبعاد الكونية له في سماع التأنيب والمؤاساة في الآية القائلة له "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى"(1). فكل شيء يبرهن على أن قدر الشقاء والعذاب على قدر المواجهة وحجم ما تتحداه وتقدمه من بدائل. وقد كان التحدي الأول لمحمد يقوم في مواجهة ذاته المتسامية بهيئة تحد لقراءة ما لا يعرفه، بوصفه الدرس الذي تلقنه للمرة الأولى في مواجهة من ينطق لنا الحروف ويعلمنا قراءتها. وواجه محمد هذه الحالة للمرة الأولى في غار حراء. لكنه تهجي للحروف، وتعلم لقراءة من نوعين ومستويين آخرين.

فالمشهور والمعلوم والمسجل في القرآن أيضا عن حادثة اللقاء الأول بين محمد والملاك (جبرائيل) في غار حراء هو حالة الهلع والاندهاش، التي تحولت إلى "غيبوبة" التوجس الذاتي عما إذا كان ذلك حلما من أحلام اليقظة، أو صورة من صور الجن والجنون، أو طيفا من أطياف الخيال، أو لقاءا ربانيا سوف يرفع محمد من مجرد "رجل أمين" من رجال قريش إلى نبي مرسل للعالمين. وسوف تتهمه الأعراب والعرب جميعا بهذه الصور، وبالأخص حالما اخذوا بوصف أقواله وأفعاله بالجنون والخيال المريض والكذب والأساطير، أي بكل تلك الصفات التي عادة ما توصف بها الرجال العظام حال تحديهم للتحجر الذهني والتقاليد اليابسة لأقوامهم وأممهم.

وقد واجه محمد هذه الاتهامات المرة والمريرة بادئ الأمر بذاته ولذاته قبل أن يواجهها من جانب الآخرين. وحالما جرى تذليل عقدة الخوف والشك من صدمة اللقاء الأول بملاك "الغيب" تحول الخوف إلى شجاعة، والشك إلى يقين، واللقاء الأول إلى بداية أزلية، والكلام إلى وحي، والتساؤل إلى إجابة. لقد انقلبت الأمور كلها رأسا على عقب، بمعنى أنها أخذت تسير، شأن كل تيار جارف من الهيجان والعنفوان والتعرج، إلى حالة الهدوء والسكينة والاستقامة. وقد تكون هذه العملية الأكثر تعقيدا بالنسبة للبصر والبصيرة والعقل والفؤاد في مسعاهم الدائم للبحث عن توافق في الرؤية يرتقي إلى مستوى التوفيق في العمل.

فالإجابة البريئة في عبارته القائلة، بأنه "ليس بقارئ" والممتلئة بتساؤل اغرب مما في طلب الوحي إياه (بأن "يقرأ") كانت في جوهرها تعبيرا عن حالة الاندهاش والحيرة المعرفية التي ترفع عظماء الرجال إلى مصاف الإحساس العميق بحدّة الهلع المتسامي. من هنا وقعها الشديد في أذنه وروحه للدرجة التي تحولت كلمة واحدة إلى عنوان الوحي كله. وكان بالإمكان أن تكون كلمات أخرى تحل محلها وتبقى الحقيقة هي ذاتها. إلا أن مصيرها التاريخي سوف يكون شيئا آخر. لقد شاءت الصدفة أن تصير حقيقة، وأن تصير الحقيقة صدفة. وهو لقاء نادر التكرار، لكنه يشكل على الدوام سرّ الإبداع التاريخي العظيم، أي الإبداع الأكثر خفاء بسبب جلاءه التام. من هنا استعداده للتأويل غير المتناهي.

فقد كان الصدى الأول للوحي الذاتي يقوم في مطالبته إياه بان يقرأ. وهي العبارة التي ابتدأ بها قرآن محمد التاريخي ليتحول لاحقا إلى قرآن الكلمة الأزلية وعنوان الفكرة الأبدية. إلا أن هذه الدورة المرفوعة إلى مصاف المطلق لم تكن في بدايتها أكثر من معاناة الإرادة المتسامية في مسعاها لإدراك حقيقة المجهول. ونعثر على هذه المعاناة في العبارة المقتضبة للآيات التي تطالبه بكلمات:{اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. أقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علّم الإنسان ما لم يعلم. كلا إن الإنسان ليطغى. إن رآه استغنى… كلا لا تطعه واسجد واقترب}(2).

إننا نقف أمام مطالبة بالقراءة أرهقت كيانه الجسدي، لكنها صنعت في الوقت نفسه كينونته الروحية. وذلك لأنها لم تكن من حيث حقيقتها التاريخية والماورائية سوى سر القراءة الأبدية للحقائق الخالدة. وشأن كل قراءة أولية تفترض تعلم تهجي حروفها. من هنا ينبغي فهم إجابته بأنه ليس بقارئ، على أنه لم يتعلم قبل ذلك تهجي حروف الوجود بالشكل الذي يمكنّه من تجاوز حدود وجوده الطبيعي الذي صنعته تقاليد العرب الوثنية. فقد طالبه ملاكه الروحي بأن يقرأ حقائق الوجود الأولى، التي تقول بأن هناك غاية سامية في الوجود ينبغي أن تكون للمرء ربا، وأنه ككل كيان مخلوق عرضة للزوال، وأن الإنسان لا يختلف عن كل موجود، وأنه{خلق من علق}(3)، بينما حقيقته صيرورة تفترض تعلمه هذه الحقائق، التي تعادل بدورها ما يكتسبه الإنسان في مجرى كشفه للمجهول. ومن ثم يفترض تعلم هذه الحقيقة محاربة الطغيان أيا كان نوعه، واستكمالها بتعلم نطق اللسان والجنان المعارض، بوصفه اقترابا من الله (الحق).

لقد واجه هنا محمد للمرة الأولى الصوت الروحي في أعماقه، الذي كشف له وهو في ظلمة حراء، أسرار الوجود والحياة. فأسرار الوجود الكبرى هي عناصر أولية بسيطة، وإن سر الطغيان في المال والغنى، وإن الموقف الحياتي الحق يفترض الاعتراض والانتفاض، كما أن استمراره هو سجود دائم أمام الحق واقتراب دائم منه. ولم تكن هذه الحقائق مجهولة على العرب، لكنها كانت مجرد أمور معلومة وليست مبادئ معقولة وعملية. وهو واقع يعادل الجهل بها. وهي فكرة تضمنتها الآية المذكورة أعلاه عندما أشارت إلى أن الله علم الإنسان ما لم يعلم. لكنه حالما يستغني فانه يستغني عن حقيقة العلم. وهو إدراك صدح في أعماق محمد عند أول مواجهة له بملاك المطلق الأخلاقي، الذي طالبه بالاعتراض والانتفاض على حالة الخروج الجاهل عن صراط الإدراك الضروري لحقائق الوجود. لقد طالبه بقراءة الحقيقة بنفس القدر الذي طالبه بحقيقة القراءة. وهي وحدة تستفز العقل والقلب والضمير وتوحدهم في إرادة فاعلة بعد أن تهدأ في يقين ذاتي. لهذا لم يجب محمد حالما سمع النداء للمرة الأولى بكلمة "علمني!"، شأن كل رجل بلغ الأربعين عاما من أعوام العرب العصيبة من حروب وتجارة وتنقل. على العكس لقد جاءت ردود فعله مغايرة للطلب! بحيث كانت اقرب ما تكون إلى رد فعل تلميذ مبتدئ، حصل على تعبيره النموذجي في (سورة المدثر). فقد ارتعد محمد وانهارت فرائصه شأن كل كيان مرهف الإحساس، حال وقوع الكلمات على أوتار روحه المتوترة في بحثها عن سكينة مثلى. لقد هلع محمد من صدى ظلمات حراء الحائرة في أعماقه. وعندما لاذ بالفرار من سماع النداء، فإنه وجد ملاذه في البحث عن غطاء جديد يقيه وقع نور الاكتشاف المحير للبصر والبصيرة. لهذا طالب خديجة بأن تغطيه بكلمات "دثريني! دثريني!". وسوف تصدح هذه الكلمة في سماعه بالآية {يا أيها المدثر!}(4). وهنا للمرة الأولى تحولت المعاناة المنطوقة في الكلمة إلى وحي. وهو تحول اقرب ما يكون إلى رجع الصدى الروحي في العقل والوجدان، كما نراه جليا في الدعوة {يا أيها المدثر! قم فأنذر! وربك فكبر}(5)..

إننا نقف هنا للمرة الأولى أمام انعطاف تاريخي هائل في عقل محمد ووجدانه. وهو انعطاف صنع منهما سبيكة حية يمكن وضعها بعبارة "القراءة المعقولة بمنطق الوجود، والروح المهموم بإرادة العمل". ذلك يعني انه اخذ يتعامل مع كل ما يواجه إرادته المهمومة بمبادئ الدعوة الجديدة ومنطق قراءتها الخاص. فعندما قال أبو لهب عنه "تبت يدا محمد" فإن الآية ردت عليه بعبارة {تبت يدا أبي لهب. وتبّ ما أغنى عنه ماله وما كسب. سيصلى نارا ذات لهب}(6). وعندما عيرّه العاص بن وائل بالأبتر، رد القرآن {إنا أعطيناك الكوثر. فصلّ لربك وأنحر. إن شانئك هو الأبتر}(7). وعندما همزه ولمزه من كان مستقويا بما لديه من المال والجاه جاء الرد {ويل لكل همزة ولمزة. الذي جمع مالا وعدده. يحسب أن ماله أخلده. كلا لينبذن في الحطمة}(8). وعندما وجد انعدام البال تجاه اليتيم، نسمعه يقول {أرأيت من يكذب بالدين. فذلك الذي يدع اليتيم}(9). وعندما وجد قومه لا يهتمون إلا بالتكاثر (الحيواني والثروة) رد قائلا {ألهتكم التكاثر. حتى زرتم المقابر. كلا سوف تعلمون}(10). مما جعل من الأحداث والشخصيات والمواقف والمجريات والهواجس والنوايا والكلمة المعلنة والمستترة، جزء من قراءة ذاتية أشبه ما تكون بقراءة النفس.(يتبع...).

 

 ميثم الجنابي

 .......................

(1) القرآن: سورة طه، الآية2.

(2) القرآن: سورة العلق، الآية 1- 9.

(3) القرآن: سورة العلق، الآية 2.

(4) القرآن: سورة المدثر، الآية 1.

(5) القرآن: سورة المدثر، الآية1-3.

(6) القرآن: سورة المسد، الآية 1-3.

(7) القرآن: سورة الكوثر، الآية1-3.

(8) القرآن: سورة الهمزة، الآية 3-4.

(9) القرآن: سورة الماعون، الآية1-2.

(10) القرآن: سورة التكاثر، الآية1-4.

 

 

في المثقف اليوم