دراسات وبحوث

الأشباح والأرواح (8): معاناة الإرادة بين القلق واليقين

mutham aljanabi2إن شخصية محمد الآخذة بالتبلور في مجرى اختبارها على مهمات النبوة، قد جعلت من كل ما يواجهه جزيئة في فلك الربوبية المترقبة بعيونها الساهرة على كل ما فيه، بما في ذلك أدق خلجاته وهواجسه وعواطفه. من هنا محاسبتها إياه، وتوبيخه وتوجيهه، وتعقب نواياه وتعنيفه، وتهدئته ومواساته. فعندما ضاق ذرعا من سلوك قريش فانه أصيب بخيبة أمل وشكوك فيما بدا له للوهلة الأولى ملاكا يعلمه قراءة الحقيقة التي تجعل الأقربون إليه اقرب بمعاني الروح والجسد والفكر. إلا أن التعنت القرشي المتربي بنفسية التجارة ومهارة المراوغة المكية قد أغلق عليه نوافذ الأبعاد السحيقة والبعيدة لأشعة الخلاص. وقد وصل به الأمر حدا من شعور اليأس نجد انعكاسه في التوبيخ العنيف القائل {ألم نشرح لك صدرك! ووضعنا عنك وزرك! الذي انقض ظهرك!} . لقد قال له وحيه الذاتي أو قراءة التحدي الهائل بعيون الإرادة المتنورة بماضيه، بأن كل ما كان هو جزء من إمكان طفيف فيما لو نظر إليه بعيون الأمل القائم في إمكانية التغيير. لاسيما وان الحقيقة المكملة لهذا التعنيف تقول أيضا، بأن {مع العسر يسر} . وأرجعه هذا التوبيخ، شأن كل قراءة إرادية للنفس، إلى مجرى التحدي العام. لكنها لم تكن الحالة الوحيدة والنهائية، وإلا لتحولت النبوة، بوصفها المهمة الكبرى لإعادة بناء الوجود، إلى مجرد نزهة صغيرة.

فالنبوة التي أججت في أعمق أعماقه نفسية وذهنية التحدي الشامل بحيث جعلته يرفض قبول كل شيء بما في ذلك الشمس والقمر ما لم يتمم الأمر، هي الوجه الآخر للسريرة المتوهجة والوجدان المرهف اللذين ميزا شخصية محمد طوال حياته. ونعثر على هذه الحالة في أوائل السور المكية عندما كانت تعتريه مشاعر العزلة القاتلة من جحود الوثنية واستهزائها المرعب به وبما يقول. كما أنها الحالة التي كانت تقضّ مضجعه نهارا وليلا وأوقات الضحى والنهار وقبيل المغيب. باختصار في كل انعطاف الظل، كما لو أنها معاناة ظله أيضا. فنرى القرآن يقسم له {والضحى. والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما قلى} ، أي أن مواجهتك لحالك ليس إهمالا لك، بقدر ما هو مصيرك الخاص. فالله لم يودعك ولم يبغضك.

لقد تحسس محمد حاله كما لو أنه مبغض من جانب إلهه! وفيها تنعكس حالة معبرة عن حدة البغض التي جابهته بها قريش، بحيث احتجبت عنه علاقة "الروح الأمين". وبدت له القضية كما لو أنها بغضاء شاملة. إلا أنها الحالة التي أرجعته أيضا إلى مجراه الطبيعي لكي يكتشف في ماضيه مستقبل الأمل النابع من تأمل حقيقة الانقلاب الهائل في صيرورته الجديدة. فقد خاطبه وحيه قائلا لم الشك في الآخرة؟! أليس هي أفضل من الأولى؟! و{لسوف يعطيك ربك فترضى} . وقد تقاسمت مراحل حياته الكبرى هذا العطاء، كما صورها الوحي في استفساراته وإجابته إياه {ألم يجدك يتيما فآوى؟! ووجدك ضالا فهدى؟! ووجدك عائلا فأغنى؟!} .

لقد قال له وحيه الذاتي، بأنك قد مررت بكل أصناف الحياة من أدناها إلى أرقاها. كما سوف نكفيك إياها في كل شيء. لكنها كفاية لا يمكن فهم حقيقتها خارج إرادة التحدي الكبرى التي ميزت محمد حالما أبدعت ذاته شخصية الوحي في أعماقه بوصفها ذاته المتلونة في أفعال الممكنات. وحالما تبلغ الإرادة مستواها التام، بمعنى تحولها من هاجس ونية وإدراك إلى تأمل فاعل، وعقل فعال، وحدس يصرخ في الكلمة والعبارة عن قدرته على مواجهة كل شيء باسم الحق، حينذاك يصبح الرفض والتحدي شعار المواجهة الأولى لكل ما يعترض مسار قدميه وحركة يديه وتأمل عقله وتذوق مزاجه وخلجات روحه الأخلاقي. وليس غريبا أن نرى تكرار لفظ "لا" و"كلا" وشيوعهما في الآيات المكية الأولى. مثل أن يواجه حالة الأيتام بقوله {كلا بل لا تكرمون اليتيم} . وأن يحدد طبيعة الانقلاب القذر في طبع الإنسان حالما يستغني بقوله {كلا إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى} ، أو أن يواجه وهم الخلود بالثروة كما في قوله {يحسب أن ماله أخلده. كلا لينبذن في الحطمة} . وأن ينفي سخف الفكرة البدائية عند من ألهاه التكاثر البهيمي كما في قوله {كلا سوف تعلمون. ثم كلا سوف تعلمون. كلا لو تعلمون علم اليقين} . وأن يؤكد على أن الخلاف حول ما يدعو إليه أمر زائل بسبب حقيقة ما يسعى إليه كما في قوله{النبأ الذي هم فيه مختلفون. كلا سيعلمون} . فهي "لاءات" صنعته وصنعها بوصفها الحركة الحية المعبرة عن وحدة المعارضة والتحدي.

فالاعتراض الحق عادة ما يوصل المرء إلى التحدي العملي والمواجهة الفعلية. ونعثر على هذا الانتقال من الاعتراض على الأمور الجزئية والخفية إلى مواجهة الآخرين بالرؤية الكونية في صرخاته الشديدة:{يا أيها الكافرون! لا اعبد ما تعبدون! ولا أنا عابد ما عبدتم! لكم دينكم ولي ديني} . وتوجت هذه الفكرة سلسلة الرفض والتحدي، ووضعت الحد الفاصل بين المؤمن والكافر، أو الأنا والآخر بوصفها تحديا للنفس أولا وقبل كل شيء. وشأن كل معارضة وتحد شامل لابد وان يصنعان روح المجاهدة. ونعثر في هذه الفكرة على بداية ما يمكن دعوته بالتكامل الذاتي لمحمد بوصفه نبيا عمليا، كما هو جلي في مخاطبته الذاتية:{فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا} . وهو جهاد تمثل مضامين المعارضة والتحدي.

وشأن كل تحد ومعارضة كبيرين كانا مصدر المعاناة الجديد للنبي محمد. وذلك لأن أصل المعاناة الفردية الكبرى عادة ما يتغذى ويتقوى من المعارضة والتحدي الكبيرين. وقد كان ميدانها ردود وصدود العرب الوثنيين. فقد عيرّوه بكل ما أوتوا به من إمكانية. ولم يتركوا شيئا مهما كان عاديا وطبيعيا إلا ووجدوا فيه ثغرة للتشفي والاستهزاء والسخرية. فقد عيروه بالأبتر، وكان الرد {إن شانئك هو الأبتر} . وطغوا في تكذيب كل ما يقوله، فجاء الرد:{والشمس وضحاها. والقمر إذا تلاها. كذبت ثمود بطغواها} . وجعلوا من أحاديثه موضوعا للاستغراب والضحك، فجاء الرد:{أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون} . وجاهدوا من اجل جعل القرآن مادة للاستهزاء والسخرية {وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذوها هزءا} . وعملوا على إبعاد الناس عنه، وتعمدوا عدم الاستماع كما في قولهم {لا تسمعوا لهذا القرآن} . ودعوا الناس الى هجرانه العلني كما نراها في الكلمات {إذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها، كأن في أذنيه وقرا} . بل نراهم يسعون إلى جعل اللغو فيه من اجل التشويش عليه وعلى أتباعه شعارا للعمل كما في قولهم{والغوا فيه لعلكم تغلبون} .

واعتبروه رجلا مخدوعا في وحيه من خلال التوكيد على أصابته بالسحر وكونه مسحورا، بل ووصفوه بالاسم كما في الآية {إن محمدا الا رجلا مسحورا} . وعندما كان يكرر أقواله وأحاديثه، فإنهم يشعرون بالسأم منها لأنها تكرار، وأنهم قد استمعوا إليها مرارا كما في قوله{وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا}. بل وصل بهم الأمر إلى أن خاطبه وحيه مرة قائلا:{ولو أنزلنا عليك كتاب في قرطاس فلمسوا بأيديهم لقال الذين كفروا "إن هذا إلا سحر مبين"} . والنتيجة كانت على الدوام واحدة - صدود دائمة وأوصاف متنوعة تجعل من كل ما جاء به النبي محمد كذبا وخداعا وزورا وبهتانا وسحرا وجنونا. وقد سجل الوحي هذه المواقف بكلمات تقول {وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا أفك قديم} . من هنا تقريرهم الصارم: {لن نؤمن بهذا القرآن، ولا بالذي بين يديه} .

لقد واجهته العرب الوثنية بمعارضة بدائية يقوم فحواها في انه{لو كان خيرا ما سبقونا إليه}. واستكملوا ذلك باستغرابهم الطبيعي والمحكوم بمعايير الجسد كما في قولهم:{أيتنزل عليه الذكر من بيننا؟} . فقد كانوا يرونه كل يوم شأنه شأنهم، فمن أين هذا الاختصاص "الإلهي" كما في قولهم {ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل ما تأكلون ويشرب ما تشربون. إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا}. من هنا مطالبتهم إياه بإنزال ملك عليهم كما في قوله {وقالوا لولا انزل عليه ملك}. ولم يكن ذلك معزولا عما يمكن دعوته بالرد الطبيعي للرؤية الطبيعية العادية والبدائية. بمعنى وقوفها عن حدود الملموس من اجل الاقتناع بفكرة المجرد. وبغض النظر عن الطابع الواقعي لهذه الفارقة، إلا أن مضمونها الفعلي وتأثيرها الوجداني يقوم في كونها جزء من نتاج المواجهة والتحدي المتبادل الذي لا يرضخ ما فيه إلا باليقين التام. الوثنية تطالبه بيقين ارضي وملموس، وهو يطالبهم بيقين الإيمان. فقد استغربت الوثنية كيف انه {جعل الآلهة إلها واحدا؟ إن هذا لشيء عجاب! ما سمعنا هذا في الملة الآخرة. إن هذا إلا اختلاق} . ووجدوا في فكرته عن المعاد والثواب غرابة لا يمكن عقلها كما في قوله {وقال الذين كفروا "هل نحدثكم عن رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد} . و{يقولون إنا لمردودون في الحافرة. إذا كنا عظاما نخرة. قالوا إذا تلك لكرة خاسرة}. بينما كانت الردود على قدر الصدود:{إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون، فبأي حديث بعده يؤمنون} ، وأنه {ما جعلنا البشر من قبلك الخلد. أفأن مت فهم الخالدون؟} ، وأخيرا لا معنى لاستغرابهم بوجودك الحي بينهم شأنك شأنهم لأنه سبق وان {أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية. وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل اجل كتاب} .

وقد دفع محمد فكرة "الآية" التي طالبته بها العرب الوثنية إلى ميدان الروح والإيمان والإرادة واليقين. ومن خلالها حاول إظهار نبوته الفعلية. لكن كفاية النبوة الحقيقة ليست عصا سحرية، بل عصا الوجود الغليظة. بمعنى أنها كفاية الأمل لا العمل. من هنا مخاطبة الوحي إياه: {إنا كفيناك المستهزئين}. ويعكس هذا الأمل أولا وقبل كل شيء، يقين الإرادة المصممة على إنجاز مهماتها الكبرى.

فالمعاناة الكبرى على قدر الهموم، لكنها حالما تكوي الروح والجسد، فإنها تصنع إرادة عارمة مداها التحدي العنيد! وفي الوقت نفسه لا تفقد الروح من تأملاته، ولا الجسد من آلامه، ولا النفس من حسراتها. فقد خاطبه وحيه مرة {ولقد نعلم انك يضيق صدرك بما يقولون}. وطمأنه في حالة أخرى قائلا {فلا يحزننك قولهم إنا نعلم بما يسّرون وما يعلنون}. وشأن كل روح مكتوية بهمومها، وجسد معرّض للاستهزاء والاستخفاف، عادة ما يؤدي مواساتهما وطمأنتهما بالمستقبل إلى استثارة القلق المتزايد.(يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم