دراسات وبحوث

الأشباح والأرواح (11): قرآن محمد وقراءة الوجد والوجود

mutham aljanabi2لقد تكاملت شخصية محمد الظاهرة والباطنة في قراءتها الجديدة لمظاهر الوجود، بمعنى انطلاقها من مبادئ ومنظومة آخذة في التكامل. ومع كل خطوة متحركة في ميدان المواجهة والتحدي والصراع أخذ محمد يكتشف أكثر فأكثر صوته من جديد وصداه المتناثر في القرآن. وأخذ هذا الاكتشاف يتمظهر أكثر فأكثر في فكرة القرآن بحد ذاته.

فالقرآن في بداية الأمر لم يتعد مطلب "القراءة". وبالنسبة لمحمد لم يكن أكثر من صوت أقلقه وأثار هلعه وتخوفه عما إذا كان حلما أو سحرا أو جنونا. ووجد رد الفعل هذا صداه اللاحق في مواقف العرب الوثنية. فقد اعتبروا ما يأتي به أما كذب أو أباطيل أو أساطير الأولين. ونعثر على هذه المواقف في أقوالهم التي تعج بالملل والضجر والتأفف مما يأتي به مثل: "لقد سمعنا ما تقول" و"كفى أساطير الأولين". بل دفعهم هذا النزاع المباشر للقول{لولا انزل هذا القرآن على رجل من أهل القريتين عظيم}. وعندما أجابهم بأنها إرادة الله وليس رغباتهم، فإنهم وجدوا فيما يقوله مجرد أقاويل يتقولها كما في قوله {أم يقولون تقوله، بل لا يؤمنون}.

وعندما قالوا له، أليس من الأفضل أن ينزله الله عليك دفعة واحدة لنرى ما فيه انطلاقا من أن الله يعلم كل شيء، ولكي نعلم بدورنا ما فيه دفعة واحدة كما في قولهم {لولا انزل عليه القرآن جملة واحدة}، فإن الإجابة كانت نقضا موازيا يقوم فحواه في أن القرآن هو قراءة متجددة مهمتها تثبيت القلوب في المواقف كما في قوله {لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا}[1]، إضافة إلى مهمته الكبرى الموجهة للناس عامة وليس لمن يجادل فيه، انطلاقا من انه {قرآن فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا}[2]. ووضع هذه الرؤية في موقف يطالب بقراءة {ما تيسر من القرآن}[3]، وذلك لأن القرآن ميسر {للذكر فهل من مذكر}[4].

وعندما اتهموه بأنه لا يقول إلا ما يلقنه البعض (من أصحاب الديانات الأخرى)، فإن الرد كان مباشرا أيضا، بأن لسان من يشيرون {إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين}[5]. وشقت هذه الفكرة لنفسها الطريق حتى نهاية الجدل من خلال التركيز غير المباشر على أصله وأصوله من اجل أن يكون مفهوما ومعقولا ومقنعا لهم مثل قوله {قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون}[6]، و{إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}[7]، و{يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا}[8]. وعندما قالوا له بأن ما يقوله مجرد شعر كأشعارهم، فإن الإجابة كانت مباشرة أيضا كما في قوله {وما علمناه الشعر وما ينبغي له}، وإنما هو {ذكر وقرآن مبين}[9].

لقد أشعره الجدل والخلاف والمعارضة والصدود الصماء بشقاء كبير، بحيث خاطبه وحيه مرة قائلا {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. إلا تذكرة لمن يخشى}[10]. وفعلت هذه التذكرة فعلها في مواساة نفسه المتقلبة بين دفئ الأزل الإلهي وبرودة الدهر الجاهلي. إذ نراه مرة يواسيه بأن ما فيه هو تذكرة ليس أمامك سوى مهمة إبلاغها والتبشير بها كما في قوله {ضربنا من كل مثل لعلهم يتذكرون}[11]. ولا بأس من أن يتدبره بالفكر والعقل، إذ {لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كبيرا}[12]. من هنا مطالبته إياه بالتحصن الذاتي والاستعاذة بالله من أقوالهم وردودهم، كما في قوله {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان}[13]، أو الانعزال عنهم كما في قوله {إذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا}[14]. ولا يعني هذا الانعزال الابتعاد المادي بقدر ما يشير إلى أن انعدام الإيمان بما يقوله يصنع أغشية كثيفة وحجب تمنع المرء أيا كان من سماع حقيقة القرآن، بوصفها قراءة حية وصادقة للوجود والكون والقيم.

وقد وجدت فكرة كون القرآن قراءة حية وصادقة للوجود والكون والقيم صداها المبكر في "ليلة القدر"، بوصفها بداية القراءة المديدة والصافية. وترمز هذه الصيغة إلى أن ما فيه هو رؤية دائمة وخالصة. إذ لا تعني {إنا أنزلناه في ليلة القدر}[15] سوى ظهوره في أول رؤية لليل الجهل والجاهلية بعيون القدر والقدرة الإلهية. كما أن عبارة {خير من ألف شهر}[16]، وأنها {سلام حتى مطلع الفجر}[17] إشارة رمزية على مداها الزمني الكبير وصفائها التام. بمعنى أن ما في القرآن هو سيل من الحقائق التي لا يشوبها ضجيج النهار في مكة ولغط تجارها والمتسكعين فيها. وهي حالة جلية لمن قضى لوحده ليلة واحدة في وديان الجزيرة النائية! حينذاك يمكن أن يرى الأزل في صمت الصخور وأنين الزمن فيها. وهي مفارقة يمكنها أن ترفع الكلمة المسموعة في الحلم واليقظة إلى مصاف التحدي التام. فالكلمة تفقد رونقها وبريقها وأنينها وصداها في الضجيج، لكنها تتحول إلى متعة أبدية في خلاء الجزيرة ووديانها كما لا يصدح الصوت الجميل بدون فراغ يتلقف حروف الآلة المعزوف عليها. بحيث جعلته هذه الحالة يتحدى في وقت لاحق معارضيه بأفكار ومواقف مباشرة مثل قوله {فليأتوا بحديث مثله إذا كانوا صادقين}، وأنهم مهما يقولوا، فإن ما يقوله ويقرأ به الوجود وأحداثه {هو قرآن مجيد في لوح محفوظ}[18]، وأن القرآن هو {آيات وكتاب مبين}[19]. بل وترتفع مجموع آياته إلى قرآن عظيم وحكيم، وفرقان الحق عن الباطل. وهو تحسس وإدراك بلغ غايته في مخاطبة وحيه إياه بعبارة:{وانك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم}[20]، و{يتبارك الذي انزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا}[21]. أما خاتمة هذه الأفكار فهي الحكمة العملية القائمة فيه، التي قدمها القرآن المتكامل نفسه بمطلب:{وننزل من القرآن، ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين}[22].

إن تحول القرآن إلى شفاء ورحمة للعالمين يفترض بدوره اليقين القائل، باحتوائه على الأدوية المعقولة للأمراض الفعلية والممكنة، وكذلك على مبادئ ومفاهيم وقيم ورؤية قادرة على بعث الرحمة في الوجود. بمعنى قدرته على محاكاة نموذجها المتعالي في الله بوصفه الرحمن الرحيم. من هنا فكرة الكتاب بوصفه قرآنا، والقرآن بوصفه كتابا، أي وحدتهما التامة في المبدأ والغاية والوسيلة. إذ لا معنى للكتاب بدون قراءة كما إننا لا نقرأ إلا ما هو مكتوب. بعبارة أخرى، إن القرآن يتحول إلى كتاب الوجود والإنسان. إذ لا تعني مخاطبة وحيه إياه بكلمات {كتاب انزل عليك}[23]، وأنه {كتاب أحكمت آياته}[24]، وأنه {كتاب لا ريب فيه}[25]، سوى التدليل الدائم على ضرورة تذليل الشك الممكن من خيبة الأمل المترتبة على المناكدة العنيدة للعرب الوثنيين. وقد ثلمت هذه الخيبة أحيانا صبره وتدنيه من حالة الانكسار كما نعثر عليها في وحيه الذي خاطبه مرة {كتاب انزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين}[26]. ذلك يعني أنه كان يقف أحيانا أمام هاوية الانكسار المعنوي التي تثير في نفسه خوف السقوط في أعماقها السحيقة. بينا لا هاوية في الواقع سوى حالة الإقرار بحال الهزيمة. ونعثر على هذه الحالة في النفي الدائم للشك والقلق، وكذلك في التحذير والنقد والإيناس المبطن كما في قوله {إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين}[27]. فهي الذروة التي تتوحد فيها فكرة الحق والإخلاص الفردي في العمل. حينذاك يصبح الوحي نورا للنفس والآخرين. ونعثر أيضا على هذه الصيغة في العبارة القائلة {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد}[28].

إن بلوغ المعاناة الذاتية درجة إبداع الحق في الهاجس والرؤية والوسيلة والغاية عادة ما يؤدي إلى الفعل بمقاييس ومعايير الإخلاص. وحالما تصبح فكرة الإخلاص للحق مبدأ ومنتهى العلم والعمل، حينذاك تتفتح الإمكانات والاحتمالات المتعددة لمنافذ السمو المادي والمعنوي، أو على الأقل إنهما يذوبان في جميع الأفعال بما في ذلك أكثرها عادية انطلاقا من أن الحق (المطلق) هو الكلّ. وبالتالي فهو موجود في كل وجود، أي في كل صيرورة وكينونة. الأمر الذي يذلل في النفس الفاعلة شعور التناقض والتضاد من خلال رفعهما الدائم إلى مصاف الوحدة الحقيقية. حينذاك يصبح المطلق البداية والنهاية، والأول والآخر، والظاهر والباطن، والقابض والباسط، والجبار والسلام، والمحي والمميت، والغائب والحاضر، والقريب والبعيد، والموجود والمعدوم. وحينذاك أيضا يصبح الإبداع في الكلمة والفكرة، والقول والعمل فعلا واحدا من حيث كونه تجسيدا مخلصا للحق. من هنا فكرة "الكتاب الحق" و"الكتاب المبين"، حيث تصبح الأمور كلها جلية وواضحة، وأقرب إلى البديهة! إذ لا تعني فكرة "الكتاب الحق" سوى وحدة الأزل والأبد الذائبة في مبدأ الإخلاص. من هنا احتوائه على كل تجليات الوحدة المتسامية للمتناقضات. وهي وحدة وجدت تعبيرها الخاص في فكرة "اللوح المحفوظ"، بوصفها الصيغة التي تحتوي بقدر واحد على إمكانية تأويلها بمعايير الأزل والأبد، والثابت والعابر. أذ تشير هذه العبارة إلى كتاب ومكتوب، ومحفوظ بالذاكرة والوجود. بمعنى انه مخطوط بحروف شأن أي كتاب ومكتوب لنا كالقضاء والقدر، وتحفظه ذاكرتنا لأنها شكل من أشكال تجليات الحق (الله). فهو اللوح الذي يحمل الحق الإلهي مهما تكسرت أشكاله في وجدنا ووجودنا وذاكرتنا ومصيرنا، كما سيقول النفري مرة من انه رأى السفن تغرق والألواح تطفو! وهي الحالة التي أنتجت فيما يبدو حصيلتها في الفكرة القائلة انه {قرآن مجيد في لوح محفوظ}[29].

إن تحول القرآن إلى لوح محفوظ في ذاكرة الوجود، يعني قطعه الشوط الضروري لاستكمال دورة ما يمكن دعوته بتاريخ الحق المتسامي. إذ أصبح الأزل والأبد فيه شيئا واحدا، كما انه الدورة الدائمة للأول والآخر والظاهر والباطن، والحاوية المتجددة في تأمل المجددين لعلوم الأوائل والأواخر. كل ذلك أعطى له إمكانية أن يكون "كتابا حقا" و"كتاب الحق"، ومن ثم "نورا للعالمين" والناس أجمعين. فهو كالشمس يستضيء بها ويستدفئ العالم والجاهل، والجماد والحي، والصغير والكبير. وقد احتوت هذه الحالة في أعماقها على  إمكانية تجاوز الحدود الضيقة للأفراد والأمم والزمان والمكان والتقليد والظنون. مع ما يترتب عليه من تكامل في الرؤية تجاه إشكاليات الوجود. وهو تكامل يتحول إلى "معجزة" حالما يرتقي إلى مصاف التجاوز الشامل للحدود المألوفة. إذ ليست "المعجزة" في الواقع سوى تجاوز المألوف. وقد أثارت هذه الحالة مختلف الردود والصدود من تشكيك وتشفي، واستهزاء وتسخيف، وتجريم وتخوين، وشتيمة وشماتة. كما أنها الحالة التي تحفّز ما يقابل ذلك من إيمان ويقين، وصبر وتحد، وقبول للمعقول والمتخيل.

(يتبع...)

 

 ا. د. ميثم الجنابي – مفكر وباحث

.............

[1] القرآن: سورة الفرقان، الآية 32.

[2] القرآن: سورة الإسراء، الآية 106.

[3] القرآن: سورة المزمل، الآية 20.

[4] القرآن: سورة القمر، الآية 17.

[5] القرآن: سورة النحل، الآية 103.

[6] القرآن: سورة الزمر، الآية 28.

[7] القرآن: سورة الزخرف، الآية .3

[8] القرآن: سورة مريم، الآية 97.

[9] القرآن: سورة يس، الآية 69.

[10] القرآن: سورة طه، الآية 2-.3

[11] القرآن: سورة الزمر، الآية 27.

[12] القرآن: سورة النساء، الآية 82.

[13] القرآن: سورة النحل، الآية 98.

[14] القرآن: سورة الإسراء، الآية 45.

[15] القرآن: سورة القدر، الآية 1.

[16] القرآن: سورة القدر، الآية 3.

[17] القرآن: سورة القدر، الآية 5.

[18] القرآن: سورة البروج، الآية 21-22.

[19] القرآن: سورة الحجر، الآية 1.

[20] القرآن: سورة النمل، الآية 6.

[21] القرآن: سورة الفرقان، الآية 1.

[22] القرآن: سورة الإسراء، الآية 82.

[23] القرآن: سورة البقرة، الآية 2.

[24] القرآن: سورة هود، الآية 1.

[25] القرآن: سورة البقرة، الآية .2

[26] القرآن: سورة الأعراف، الآية 2.

[27]القرآن: سورة الزمر، الآية 2.

[28] القرآن: سورة إبراهيم، الآية 1.

[29] القرآن: سورة البروج، الآية 21-22.

 

 

في المثقف اليوم