دراسات وبحوث

الأشباح والأرواح (16): نهاية الوحي وبداية الخلافة.. دراما التأويل والسلطة

mutham aljanabi2إن تحول "خلافة الراشدين" إلى فكرة روحية، وأنموذج عملي أعلى، ومثال أخلاقي تام، ومعيار سياسي مطلق، يشير إلى جوهريتها المتسامية في الذاكرة الإسلامية ومكونات وعيها النظري والعملي. بمعنى خروجها على ما هو معتاد ومألوف في تاريخ الدولة والسياسة. وهي رؤية وجدانية ومجردة عن حيثيات التاريخ الفعلي. من هنا مرجعيتها وسموها اللذين لا يخلوان من أوهام التاريخ وكسل الوعي الإيماني. لاسيما وأنه وعي لا مكان فيه لمعايير الرؤية النقدية. وحالما يجري رفع هذه الصورة والمعيار إلى مصاف المرجعية المقدسة، فإنهما يصبحان جزء من معتقدات الإيمان، وقواعد العقائد، وحجج العقل التقليدي. مع ما فيها من حالة متناقضة من حيث أسسها التاريخية ومجراها الفعلي وتأثيرها الواقعي.

فقد كانت بداية "خلافة الراشدين" فعلا تاريخيا، ارتبط بكيفية حسم الصراع الأولي لصالح المهاجرين في شخصية أبي بكر الصديق. وقد كان هذا أساسها. أما في مجراها فقد كانت عملية سياسية مرت بثلاث مراحل أو منعطفات كبرى، الأولى وهي المرحلة التأسيسية التي مثلها أبو بكر وعمر بن الخطاب، بوصفها بداية الدولة. والثانية هي المرحلة السياسية التي مثلّها عثمان بن عفان، بوصفها بداية السلطة. والثالثة هي المرحلة التاريخية التي مثلها علي بن أبي طالب، بوصفها بداية الدولة السياسية، أي بداية الحضارة الإسلامية وصيرورة مكوناتها الثقافية ومرجعياتها الكبرى. وهي تحولات كبرى حددت بدورها طبيعة العلاقة بين السلطة والمثقف.

وشأن كل بداية كبرى، فإنها عادة ما تختزل الصراع بصورة حادة وسريعة وسهلة. وليس مصادفة أن تبتدع الثقافة الإسلامية لاحقا عبارة "لقد كانت خلافة أبو بكر فلتة". وبغضّ النظر عن الإمكانيات المتنوعة في تأويلها، لكنها تصب في المجرى العام لما يمكن دعوته بالبداية الصعبة. أنها شأن كل ولادة أولى تحتوي بالضرورة على وحدة الإغراء والألم. وفي هذا يكمن سرّ بريقها الباهر في الوعي التاريخي والعقائدي على السواء.

فمن الناحية التاريخية كانت خلافة أبي بكر بداية الدولة، ومن ثم انتهاء الوحي. وهو الأمر الذي جعل من الاجتهاد السياسي بداية الاستقلال الفعلي في تاريخ الأمة بوصفها كينونة جديدة. وهو تحول أعطى للشخصية السياسية أبعادا روحية، كما جعل من الروح أداة التنسيق الدائم للأفعال من خلال رفعها إلى مصاف الصورة المتسامية والمرجعية العملية، كما نعثر عليها في الصيغة المباشرة التي جعلت من تسلسل الأشخاص في الخلافة تسلسلا في الفضائل المجردة والشخصية. وعادة ما تغري هذه الرؤية الوعي الديني والتقليدي، لكنها لا تشفي غليله. ومع كل احتجاج فكري وواقعي عليها تستثار فيه حمية التوكيد و"البرهنة" والبحث عما يمكن توظيفه في سلسلة العقائد.

وهي الصورة التي نعثر عليها فيما يسمى بالمواقف السنّية من شخصية أبي بكر. فجميعها يجمع على أمور عامة مثل كونه أول الخلفاء الراشدين، وأول من آمن بالنبي محمد من الرجال، وأنه من الصحابة الذين رافقوا محمدا منذ بداية الدعوة، وأنه أول من اسلم من أهل قريش، وأنه والد عائشة زوجة الرسول، وأم المؤمنين. وسمي بالصديق لأنه صدّق النبي في خبر الإسراء، وقيل لأنه كان يصدّق النبي في كل خبر يأتيه من السماء. كان يدعى بالعتيق، لأن النبي قال له:"يا أبا بكر أنت عتيق الله من النار". وقيل لُقّب بـكلمة عتيق لأنه كان جميلا. وقيل كانت أمه لا يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به البيت، فقالت:اللهم إن هذا عتيقك من الموت، فهبه لي! كان سيدا من سادات قريش، وممن حرّموا الخمر على أنفسهم في الجاهلية. شهد حروب النبي واحتمل الشدائد وبذل الأموال. وكان رفيق النبي في هجرته إلى المدينة. وثاني اثنين في الغار. وكان ممن يفتي على عهد النبي. كما أنه الذي حمل الراية يوم تبوك. وإليه عهد النبي بالناس حين اشتد به المرض. وأنه احد العشرة المبشرين بالجنة. بويع بالخلافة يوم وفاة النبي سنة 11 للهجرة. حارب المرتدين والممتنعين عن أداء الزكاة، وأقام دعائم الإسلام. افتتحت في أيامه بلاد الشام وقسم كبير من العراق. توفي ليلة الثلاثاء لثمان خلون من جمادي الآخرة، بعد أن بلغ من العمر ثلاث وستين سنة، وكانت مدة خلافته سنتان وثلاثة أشهر ونصف[1].

هذه هي الصورة الواقعية والتاريخية المتسامية، أي المجردة من كل حيثيات الحياة البشرية، والتي يمكن رؤية أنموذجها "الروحي" في تصوير أبي نعيم الأصفهاني عندما قال عنه:"أبو بكر الصديق، السابق إلى التصديق، الملقب بالعتيق، المؤيد من الله بالتوفيق، صاحب النبي في الحضر والأسفار، الشفيق في جميع الأطوار، وضجيعه بعد الموت في الروضة المحفوفة بالأنوار، المخصوص في الذكر الحكيم بمفخر فاق به كافة الأخيار وعامة الأبرار، وبقى له شرفه على كرور الاعصار، ولم يسم إلى ذروته همم أولي الأيد والأبصار"[2]. وهي صورة روحية مصاغة بمعايير الرؤية الصوفية. ومن ثم لا إلزام فيها لغير رفعة المعنى القائم في فكرة الأولياء، إي في سلسلة الروح الإسلامي الممثلة في شخصياته الكبرى. وهي صورة لا إلزام سياسي أو عقائدي فيها على عكس ما هو مميز للتقاليد السنّية المتأخرة التي حاولت أن تجعل من تصوراتها عن فضائله مناقب عقائدية. وليس مصادفة أن نعثر في نماذجها المختلفة على اشتراك دائم لبعض منها، هو "الحد الأدنى" الذي يجعل منه "أولا" في كل شيء بعد النبي محمد! بحيث توصلوا في نهاية المطاف إلى جعل ذروة مناقبه كونه أول الخلفاء الراشدين، ومن ثم فهو أفضل هذه الأمة بعد نبيها، وخلافته منصوص عليها، وقد أُمر النبي بالاقتداء به، لأنه من أحب الناس إليه بحيث اتخذه أخـا له، وذلك لأن الله زكـاه، بل أنه يدعى من أبواب الجنة كلها![3]

تعكس هذه الصورة المرّكبة تداخل التاريخ والعقائد، لأنها تحتوي على قدر واحدة من الواقعية والمزاج المذهبي. ومن ثم فهي الحصيلة المتراكمة في الوعي التاريخي الإسلامي عن دوره الهائل بالنسبة للإسلام من جهة، وعن ضرورة تحصينه من هجوم التيارات التي وجدت في سلوكه السياسي من اجل الاستحواذ على السلطة خروجا على "الوصية النبوية". وفي كلاهما إفراط وتفريط منبعه نمطية الوعي الديني العقائدي. ولكن حالما نضع صيرورته الشخصية ضمن سياقها التاريخي، فإنه يأخذ بتمثيل الوحدة المغرية بين تفاعل القيم النموذجية وتحقيقها الفعلي في شخصيته الواقعية. وهو تفاعل وجد تعبيره في حصوله الأولي على تسمية الصدّيق. وسواء ارتبط ذلك بتصديقه منذ اللقاء الأول بالدعوة الجديدة لمحمد وغايتها المعلنة، أو بيقينه الجازم بأن كل ما يقوله محمد هو صدق، وبالأخص مع فوران الشك العربي الجاهلي بإمكانية الإسراء والمعراج، فإن تفاعل هذه القيم والمواقف في اسمه وسلوكه الشخصي على امتداد الدعوة الإسلامية يكشف عن شخصية متماسكة يرتقي فكرها وتفكيرها إلى مستوى الإيمان، وإيمانها إلى مستوى الفكر والتفكير. بمعنى غياب التجزئة المحتملة في قلوب الشخصيات الكبرى حالما تنتقل من حالة لأخرى، كما هو الحال بالنسبة لعمر بن الخطاب أو معاوية بن أبي سفيان، أي تلك الشخصيات التي لعبت دورا هائلا في بناء أشكال الدولة، بحيث أصبح كل منهما مثالا فاعلا في الوعي الثقافي والصيرورة التاريخية للحضارة الإسلامية.

فقد جسّد أبو بكر في شخصيته وسلوكه العملي أنموذجا فريدا طبع من حيث الجوهر فكرة الخلافة بوصفها استخلافا لحقيقة الفكرة النبوية. وحقق عبر تفعيل القيم بذاته احد النماذج الراقية في إخلاصها الحي للعقيدة الجديدة، سواء في سلوكه الشخصي أو في مواقفه من السلطة والدولة والقيم والمبادئ العليا كما وضعها الإسلام المحمدي. وبهذا المعنى يكون قد جسّد من الناحية التاريخية ما يمكن دعوته بنهاية الوحي وبداية الخلافة. ومن هذه الوحدة الجديدة للنهاية والبداية ظهرت للمرة الأولى مقدمات الدراما التاريخية للتأويل والسلطة، أو الأيديولوجية والممارسة العملية.

فالسلطة عروة الأفراح ومأتم الأتراح. وفيها ومنها تفوح كل الروائح الممكنة للنفس والجسد. الأمر الذي نعثر عليه في حصيلة الأفراح المرافقة للأمة الناشئة والأتراح المواكبة لأعدائها من "مرتدة" وقوى خارجية، وعبير الرائحة الزكية في عرف الثقافة وتقاليد الإسلام الدينية والدنيوية. وليس مصادفة أيضا أن يصبح محور الخلاف السياسي العريق للفرق الإسلامية، وبالأخص بين تيارات السنّة والشيعة. وهو خلاف سياسي من حيث الجوهر ارتقى و"تسامي" إلى مصاف الرؤية العقائدية والدينية. مما افسد مضمونه، لكنه أبقى على أبعاد الرؤية السياسية، التي كانت منذ البدء الفاعل والحافز الجوهري في الاختلاف بوصفه اجتهادا ملازما لفكرة الدولة والسلطة. ومن الممكن رؤية هذه الحوافز ردّ فعله وسلوكه التي يصورها ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة) بعبارة تقول:"أتى الخبر إلى أبي بكر ففزع أشد الفزع وقام معه عمر فخرجا مسرعين إلى السقيفة"[4]. وينمّ هذا السلوك عن رؤية سياسية تدرك أهمية السلطة، ظل يلازم شخصيته حتى مماتها. إذ نعثر عليه في أهم سؤالين من بين ثلاثة أسئلة أراد توجيهها للنبي محمد، وفي أمرين ندم عليهما قبيل موته من بين ثلاثة لهما علاقة بقضايا السلطة. فمن بين الأسئلة الثلاثة التي أسف على عدم استفساره عنها من النبي محمد قبل موته هي: "لمن هذا الأمر من بعده"، و"هل للأنصار فيها من حق". أما الأمور الثلاثة التي ندم على فعلها فاثنين منها وردت على لسانه بالشكل التالي:"ليتني تركت بيت علي، وإن كان أعلن عليّ الحرب"، و"ليتني يوم سقيفة بني ساعدة كنت ضربت على يدي احد الرجلين"، ويقصد بذلك تأييده لأبي عبيدة أو عمر بن الخطاب باستلام الخلافة[5].

غير أن للتاريخ مساره الخاص وحكمه المناسب في جعل شخصية أبي بكر نموذجا أوليا للخلافة السياسية. ومن ثم بداية الدولة. أما حكمه عليه فيقوم في مأثرته الهائلة التي استطاع أن ينجزها في غضون سنتين وثلاثة أشهر هي مدة خلافته أو رئاسته للسلطة السياسية الجديدة، بوصفها أحدى أهم المراحل العاصفة والهائلة والعصيبة والتأسيسية في فكرة الدولة وتاريخها. وقد أنجزها بنجاح باهر. إذ استطاع القضاء على الخلافات الداخلية وقطع دابر الارتداد الديني، بوصفه الأسلوب المناسب لتوحيد الدولة. ومن ثم توجيه القوى الداخلية المتراكمة وعنفوانها الصاعد صوب تحقيق الحلم المغري للإمبراطورية الإسلامية الجديدة، التي صنعت أيضا وحدة التاريخ والروح في شخصيته المثالية. مع أنها كانت تتسم من الناحية الفعلية بتعقيد كبير، كما أنها لا تخلو من طابع درامي هائل. وليست الأمور الثلاثة التي ندم عليها قبل موته سوى مؤشر على مستوى الملازمة النفسية لإشكاليات السياسة والسلطة والدولة في أخلاقه الباطنية والفردية. ومن الممكن العثور على طبيعة وقسوة هذا الصراع الخفي والعلني أيضا في العبارة والخطابة التي وجدت انعكاسها "الأدبي" فيما استجمع لاحقا تحت عنوان "بلاغات النساء". حيث ينقل لنا احمد بن طاهر البغدادي عبارة عائشة في الدفاع عن أبيها تقول فيها:"ذاك والله حصن منيف، وظل مديد، وفيء قريش ناشئا وكهفها كهلا"[6]. بينما ردت عليها فاطمة بنت النبي محمد في مواجهة سلوكه السياسي بسحب ارثها، قائلة "أأبتز ارث أبي، وفي الكتاب أن ترث أباك ولم أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا، فدونكها مخطوطة مرحولة تلقاك يوم حشرك"[7]. وهي صورة تتمثل في الواقع دور وموقع الشخصيات التاريخية الكبرى، بسبب هول المرحلة وضخامة مهماتها التي تفرز أيضا ظاهرة استصغار الكبار وتكبيرّ الصغار.

***

 

  ا. د. ميثم الجنابي

.............................

 [1] ابن الأثير: أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج3، ص205.

[2] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج1، ص28.

[3] ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج3، ص64. 

[4] ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، ج1، ص9

[5] ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، ج1، ص 28-29.

[6] احمد بن طاهر البغدادي: بلاغات النساء، ص3.

[7] احمد بن طاهر البغدادي: بلاغات النساء، ص14

 

 

في المثقف اليوم