دراسات وبحوث

شخصيات وأفكار وقيم من التراث: عمرو بن العاص

mutham aljanabi2توفي عام 43 للهجرة ودفن في مصر بعد أن بلغ من العمر ثلاث وتسعين سنة! وهو عمر مديد بمعايير الرذيلة قصير بمعايير الروح الأخلاقي. وما بينما تمادت وتصنعت شخصية عمرو بن العاص المتناقضة. وفي تناقضها أنتجت إحدى اعنف المفارقات الحادة التي تجعل من الضروري إعادة النظر بكلمة "الصحابة" و"الصحابي" من اجل وضعها ضمن سياقها التاريخي بوصفه لقب لأفراد مرحلة تاريخية لا غير. بمعنى تحريرها من الأبعاد الأخلاقية والروحية.

فكما أن المكان "المقدس" لا يقدس من يعيش فيه، كذلك لا تجعل صحبة النبي محمد بالمكان والزمان المرء جليلا. وفي كلتا الحالتين لا يقدس المرء ولا يجعله جليلا شيئا غير عمله. أما أعمال عمرو بن العاص الكبرى فانها تجسيد تام للرذيلة. وهي حالة لم تكن معزولة عما تراكم في وعيه النفسي من رذائل الجاهلية المكثفة في مصيره الفردي. فقد بيعت أمه في سوق عكاظ. وجرى تداولها في سوق النخاسة ثلاث مرات إلى أن وصلت إلى العاص بن وائل. كما أنها تزوجت مرات عديدة بعد ذلك. وهي حالة لا يمكن تحميل أمه (المرأة) مقدماتها وأسبابها، لكنها تغلغلت في شخصية عمرو بن العاص، بوصفه السبيكة التعسة لخراب الروح والجسد الجاهلي. أما الطلاء الإسلامي فانه لم يستطع إخفاء صدئه الداخلي وعفونته النتنة! وليس مصادفة أن تبرز كتب التاريخ والسير والأدب والسياسة أولوية الدهاء والمكر فيه. من هنا أوصاف "من دهاة العرب في الجاهلية"، و"كان رجل حرب ماكر وداهية" وما شابه ذلك. بحيث لا نعثر على أي وصف إسلامي تقليدي يبرز أهمية الأبعاد الروحية والأخلاقية فيه. ذلك يعني ملازمة صفات المكر والدهاء إياه حتى موته. بمعنى انحلال أو انعدام الأخلاق النبيلة في سلوكه الشخصي. مع ما ترتب عليه من سيادة السلوك المحكوم بالمنفعة الخالية من قيم الروح والعقيدة. وهي صفات تجعل منه احد أرذل الشخصيات السياسية في تاريخ الإسلام الأول، بوصفه الوجه الآخر لمعاوية. وكلاهما من صنف واحد هو الدهاء السافر وانعدام الأخلاق التام.

فمن المعروف عنه قبل إسلامه هو انه كان مهموما بقتل النبي محمد والمسلمين الأوائل. لهذا جرى انتخابه ممثلا لقريش من اجل طرد أو قتل المهاجرين المسلمين الأوائل إلى الحبشة! وهو سلوك يعكس نفسيته أيضا، بمعنى استعدادها لتحمل المشقة من اجل القتل والثأر! أما تحوله لاحقا إلى "صحابي جليل"، فينبغي النظر إليه على انه النتاج الطبيعي للخديعة التاريخية للأموية في ابتداعها فكرة أو اسم "أهل السنّة والجماعة" التي كانت تعني وتترادف مع فكرة الخضوع للسلطة. من هنا اندراج عمرو بن العاص فيها. أما من الناحية الفعلية فقد اسلم عمرو بن العاص بعد فشل قريش في غزوة الأحزاب. كما اسلم آل أمية ومروان بعد فتح مكة. ويقال انه اسلم تحت تأثر قول ملك الحبشة الذي أشار إليه بأن محمدا نبي بالفعل!! بينما تقول رواية أخرى بأن الملك طرده بسبب هداياه التي قدمها إليه وطلب بمقابلها تسليمه المسلمين المهاجرين من اجل قتلهم! ومهما يكن من أمر هذه السرديات "الجليلة"، فإنها تعكس في الواقع الحالة التي ميزت إسلام من انتمى إليه في وقت لاحق، واقصد بذلك آل أمية وبنو مروان. وفي هذا يكمن استعداده "للعمل" بوصفه أسلوبا للتعبير عما فيه. وهو سلوك محكوم دوما بالمصلحة والفائدة. لهذا نراه يتولى قيادة الجيوش في معارك فتح الأردن ومصر. ويدعم عثمان بن عفان قبل أن يعزله عن ولاية مصر. ثم يتحول إلى ألد أعداءه. والسبب هو إمارة مصر. فقد أعفاه عثمان من اجل أصحابه وأقاربه، وبالأخص بعد أن ولى مصر عوضا عنه عبد الله بن سعد العامري (اخو عثمان بالرضاعة! سبق وان ارتد زمن النبي وأهدر دمه لكن عثمان استوهبه، توفي سنة 59 للهجرة واعتزل الصراع آنذاك). وهو خلاف كان على تولي الخراج وإدارة الحرب. وقد سحب عثمان الخراج من عمرو بن العاص وأعطاه إلى عبد الله بن أبي سرح. من هنا انهماك عمرو بن العاص في التأليب على عثمان، بحيث تنسب إليه العبارة القائلة، بأنه كان يؤلب حتى رعاة الغنم وأغنامهم على عثمان! لكنه يصبح في طليعة المدافعين عن عثمان والداعين لأخذ الثأر بدمه بعد تولي علي بن أبي طالب الخلافة. من هناك قيادته لجيوش معاوية في الحرب ضد علي، واستعداد للكشف عن عورته لكي ينقذ نفسه، بعد أن تعرض للهزيمة في مبارزة فردية مع الإمام! واليه تعود فكرة رفع القرآن على الرماح وخديعة التحكيم. وهي مكونات تعكس في كلها كلّ الرذيلة التي اسمهم في حرف تاريخ الإسلام والدولة، بحيث يمكن وضعه إلى جانب معاوية في موضع الإفساد المادي والمعنوي الأكبر في تاريخ الإسلام. إذ جسّد في هذا السياق كل حلقات الرذيلة السياسية والأخلاقية. وليس مصادفة أن يكون الوحيد من بين أتباع الأموية (إلى جانب الحجاج الثقفي!) من بقي واليا على مصر حتى موته! وتنسب إليه العبارة التالية قبيل موته:"اللهم أمرتنا فعصينا، ونهيتنا فما انتهينا!". وهي عبارة ينبغي فهمها بصورتها المباشرة!

***

ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم