دراسات وبحوث

حديث الولاية .. الأحوال الباطنة

مجدي ابراهيملئن كُنَّا رددنا من جانبنا في المقالة السابقة تلك الخاصة العرفانية إلى "قوة الإيمان" وأسندنا إليها ارتقاء الذوق وارتقاء العقل وارتقاء الوجدان، كما أسندنا إليها " تثوير" الأنشطة الروحيّة من فكر وفن وأدب وعلم في الوعي الإنساني؛ فلأن الإيمانَ شَوْقٌ من أشواق الروح الإنساني، فيه مغالبة الروح وترقيها دوماً لإدراك الغيب المجهول، وبمقتضى تلك المغالبة يستطيع الإنسان أن يتفرَّد وأن يستقل كما يستطيع أن يبدع في استقلاله وتفرده. إننا حين نشهد مقومات الصلاح في الفرد الصالح نشهدها فنشهد منه الظاهر فقط، ولسنا نرى منه الخفي المستور، وهذا الخفي المستور إنما هو روح تنبض بالأحوال الباطنة، بالتوتر والتفرد والاستقلال وتعبِّر عن ذات العارف في الطلاقة الروحيّة ومناجاة الواحد، وفي التوجه بكل الطاقة الفاعلة: بالهمة الطليقة من قيود المحسوس والملموس نحو ما يملأ فيها الشعور بأعمق معطيات التجربة مع الواحد، مع المطلق. ربما قد لا ندرك في حقيقة الأمر نماذج لتلك الكيفية التي تتلاقى عندها مثل هذه "المقومات": أعني حركتها الجُوَّانيَّة المضمرة وأحوالها الخفيّة، وربما لا ندرك أيضاً كيف يتمُّ تفعيل الباطن الذي صدر عنه الوعي الإيماني؛ لأن هذا عمل باطني صرف، محض خفاء ومحض معاناة: هو عمل نفس تتغالب ووجدان يتصارع في الباطن بشتى المتناقضات.

ولكن من المؤكد أننا نُدْرك "الآثار" و"الأعمال"، وبمُجَرَّد إدراكنا لها تصف لنا من فورها شيئاً عن تلك الأحوال الباطنة فتخبرنا عن فاعليتها وتوجهاتها وتحيطنا بدخائلها في الوعي الغائر العميق السحيق المستقر - في غير استقرار! - في تابوت الحكمة: (= القلب). وحيثما ندرك بالذوق مثلاً - ومدارك الذوق عزيزة ونادرة - مقومات الاستقامة والصلاح، ندرك من فورنا هذا النزوع الدائم الذي يُغَالب النفس الإنسانية فيشدها من السكينة إلى الثورة، ومن الهدوء إلى التوتر، ويُسْتَشْعَر فيه الشوق المتدفق إلى الغيب المحجوب ومعانقة المطلق؛ ربما لأننا نفتقر إلى الممارسة الفعليّة والتطبيقية يُخيَّل إلينا أن هذه الصفة تخلو من الواقع الذي نعيشه أو يخلو الواقع الذي نعيشه منها، ونحن نعيش الواقع على الغفلة والاستنامة والنكوص، لكن التحليل الذوقي الكاشف لطبيعة الإيمان والاطلاع من خلال ثماره وآثاره على نوره في القلوب، ثم تذوق هذه الآثار قد يعطي صورة تهيئ الذهن فعلياً لعملية الإدراك لمقوماته من حيث استقرت بين شغاف قلوب أربابه وذويه.

أولى هذه الإدراكات المقوِّمة للإيمان، الامتثال للترقية من طريق الوعي بالصفات التي يترقى بها الفرد الباحث عن الإيمان، ذلك الطلعة الشغوف بمطامح الوصول إلى "الحقيقة" في ذاتها بعيداً عن ظروف الجماعة المحيطة به.

وأقول "الباحث عن الإيمان" وأنا أعني ما أقول: البحث عن الإيمان مقدّمة ضرورية لابد منها للبحث عن الحقيقة المغيّبة. البحث عن الإيمان من أجل التحقيق يقتضي الجهاد في سبيله، والمجاهدة تزكية وتحلية. في كل فرد منَّا صفات مذمومة يتخلى عنها؛ أو المفروض أنه يتخلى عنها؛ في سبيل التزكية بالصفات المحمودة والبقاء عليها بعد تحصيلها، ومغادرة كل ما يعيق الوصول إليها من طريق التمحيص الداخلي لنشاط النفس في مساربها وتوجهاتها, وفيه الإشارة إلى قوله تعالى في سورة (آل عمران، آية 141): " وليُمَحّص اللهُ الذَّينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكافرينَ ".

والمحق هنا هو "الإزالة"، ونزع البركة كما في قوله تعالى:"يَمْحَقُ اللهُ الرّبَا وَيُرْبي الصَّدَقَات"؛ هنالك تصير المجاهدة بمثابة مفتاح الوصول إلى تلك الحقيقة المغيبة والمجهولة. وفي المقابل لا يتسنى الوصول إلى تلك المجاهدة ما لم يكن هاهنا دافع " الإيمان" قوياً، وهو يقوى ويشتد بمقدار فاعلية الجهاد وبمزيد من العزم عليها إنْ في الشدة وإنْ في الضعف. يدور الإيمان في تلك المرحلة الحاسمة منه مع فاعلية الجهاد قوة وضعفاً، ويزداد وينقص بزيادة المقاومة وضعفها.

هنالك يترقى بمقتضى المجاهدة ذلك الفرد الذي أخذها مأخذ الجد في جميع مستوياته الإدراكية: يترقى في النفس ويتهذب في الضمير والوجدان، ويتعالى على جميع نقائصه المعرفية والسلوكية؛ لأنه حينذاك يمضى في طريق المعرفة على بصيرة بكل صفة معلومة السبب غير مجهولة الإدراك، ويقوده المعلوم من الصفات إلى المجهول، بمقدار ما يقوده المعلوم من الحقائق إلى المجهول منها، لكن هذا المجهول من تلك الحقائق لم يعد مجهولاً مع فضيلة الجهاد، بل يتكشف كل لحظة في الوعي الباطن، ويترقى الفرد مع التكشف ترقياً روحياً وأخلاقياً يعجب الإنسان لفعله، وقد يأخذه الزهُّو، وتأخذه الفتنة؛ بما يمكن أن يصل إليه في سبيل العرفان، ومن هنا قد نعذر عبارات الصوفية الشاطحة؛ لأنهم بلغوا من طريق الجهاد ما لم يبلغه سواهم؛ فصدرت عنهم مثل هذه العبارات تعبيراً عن حالات الزهو والتيه بما وصلوا إليه، لكنه ليس تيهاً بالنفس ولا زهوَّاً بها بمقدار ما هو فَرَحٌ بالله وزهو فيه وتيهٌ به.

ففي طريق المعرفة يتوحَّد الفرد العارف مع الموضوع المعروف، ويتصل المخلوق بالخالق ليصبح إنساناً كاملاً وتتلاقى حينذاك مع الترقي من التراب المجبول إلى أفق الأرواح والعقول، جميع المزايا التي تطلعه بصدق على جوانب الإدراك الذاتي بالصفات الإدراكية العليا وهو في الحق لم يكن إدراكاً ذاتياً محض إدراك بل كان توفيقاً من أعلى محض توفيق. يصقل هذه الجوانب شوق النزوع الدائب إلى المعرفة ولكونه إدراكاً ذاتياً؛ فليس يخفى فيه أن يكون مجرَّداً في القيمة مدركاً لخواص المعرفة وسريانها (حالاً باطناً) في نفسه أولاً قبل أن يصل بها - بالعقل بعد الكشف - نفوس الآخرين.

من المعلوم لدينا بالضرورة أن أخص مقومات الإيمان أنه كما قلنا فيما تقدَّم يرتكن على"القدرة"، ولا تتم مقوماته على الحقيقة، ولا يكتمل في النفس المؤمنة إلا بهذه "القدرة"، وكل إيمان يفتقر إلى القدرة هو إلى العجز أقرب منه إلى القوة، ولن يكون الإيمان إيماناً وصاحبه موصوف بالعجز والضعف؛ لأنه لا يعطي تصوراً واضحاً لطبيعة النفس المؤمنة وأحوالها: ماذا عَسَاهَا تكون, وما هى تلك المؤهلات التي هيئت لها خصائص النزوع الباطني كيما تكون نفساً مؤمنة على الحقيقة؟ وما معنى أن تكون النفس مؤمنة، وهى تتبطن مثالب ونواقص وآفات تعوق عملية "التحقق الباطني": شرط الإيمان وشرط القدرة والاقتدار في كل حال؟

تلك كانت أسئلة تأتي الإجابة عنها لتحدد مصير النفس فيما لو كانت "ذاتاً مؤمنة"؛ فضلاً عن أن تكون بمقتضى الإيمان "ذاتاً عارفة"، وهى تعيش حالات الإيمان على جميع أصعدته: النظرية والعلمية, الفكرية والتطبيقية, النفسية الداخلية والخارجية الظاهرية وفق قانون الرياضة، حتى إذا ما كانت هناك شرائح من طبقات المجتمع الذي يجيء بين جنبَاته ذلك الفرد القادر على تحقيق صفات الإيمان في ذاته العارفة؛ تهيأت نفسه من جديد لإدراك الواقع الفعلي والحياتي، لكن هذا التهيؤ لايتأتى بمعزل عن خبرة الباطن المصقول بالوعي الصوفي خَاصَّة - لا الوعي العادي - وإنما يتأتى وفق ما يحكمه من قانون الإيمان من حيث كونه شعوراً دافقاً وإحساساً عارماً وفيضاً من الطمأنينة القلبية والاتصال المباشر، ثم بتلك الكيفية التي يصير بمقتضاها فرداً مؤمناً على الحقيقة دون المجاز.

لا تتأتى بحال تلك القدرة لفهم حيوية الإيمان بغير جهاد للنفس يسوسها ويدركها حين يدرِّبها ويذيقها طعم الحلاوة الداخلية، فتنمو القدرة في أعماق الباطن فاعلية واقتداراً على مجاوزة العراقيل المانعة وإحياء طاقات العوامل الدافعة.

ومن أهم تلك العراقيل المثبطة لهمم السائرين تلك الشرائح المختلفة تُصَادف "العارف" من طبقات المجتمع بما كان قد تخلى عنه بدايةً إذْ تعتبره (أي هذا الذي كان تخلى عنه) هو كل شيء من ألوان الإدراكات؛ وهو الحقيقة الوحيدة التي يدركونها ولا يدركون غيرها شيئاً في عرفه هو، وفي قناعاته هو، وفي إدراكاته هو. وتحاول تلك الشرائح التي تُصَادفه على الدوام في مجتمعه بين اختلاف طبقات هذا المجتمع وتنوع شرائحه، أن تَسْلب منه تلك "القدرة" لتضفي عليه "العجز" أو تغريه بدلاً من تأملاته الذاتية؛ بمعايشة الجماعة وآفاتها والمجتمع وأمراضه، وماذا يصلح الفرد أصلاً في مجتمعه، وأغلب أفراده معطلين عن تلك القدرة الإيمانية وهم عاجزون عن المضيء فيها قدماً بمقدار عجزه هو عن مسايرة المجموع، والتضحية بتعطيل قواه الباطنة من أجل أفسادها مع الجماعة وإفساد الجماعة لها: الجماعة التي يعمل هو على الدوام لأجلها، ومن أجلها فيما لو علمت.

أشار ابن سينا إلى صفة العارف هذه، من حيث أحواله الباطنة التي تجيء فلا يحتمل فيها قط شاغلاً مهما كان أو أياً ما كان، يصرف سرّه عن التوجه إلى الحق؛ فقال:" العارف له أحوال لا يحتمل فيها الهَمْس من الخفيف فضلاً عن سائر الشواغل الخارجة، وهى في أوقات انزعاجه بسرّه إلى الحق؛ إذا أتاح حجاب من نفسه أو من حركة من سره، قبل الوصول؛ فأما عند الوصول: فأما شغل له بالحق عن كل شيء، وأما سعة للجانبين بسعة القوة، وكذلك عند الانصراف في لباس الكرامة فهو أهش خلق الله ببهجته (الإشارات والتنبيهات مع شرح نصير الدين الطوسي؛ تحقيق د. سليمان دنيا؛ دار المعارف سنة 1958م؛ ص 774).

أفلا نعيد هنا وصية أستاذ الشاذلي، الشيخ عبد السلام بن مشيش، لمّا أن قال له الشاذلي: أوْصني، فأوْصَاه وصيته الأخيرة قبل أن يُفَارقه ليُطلعه على رفض الشواغل والعوائق كيما يمتلك أحواله بعيداً عن ترهات المجموع؛ ليكون مشغولاً بالحق عن كل شيء قائلاً له:" الله الله، والناس الناس، نَزِّه لسانك عن ذكرهم، وقلبك عن التماثيل من قبلهم، وعليك بحفظ الجوارح وأداء الفرائض، وقد تمَّت ولاية الله عندك، ولا تذكرهم إلا بواجب حق الله عليك، وقد تمَّ وَرَعَك. وقُلْ: اللهم أرحمني من ذكرهم، ومن العوارض من قبلهم، ونجِّني من شرهم، وأغنني بخيرك عن خيرهم، وتولني بالخصوصية من بينهم، إنك على كل شيء قدير" (يراجع ابن الصبَّاغ: دُرَّة الأسرار؛ ص 229) .

الله الله، والناس الناس: الله الله الإيمان كقدرة لا يتأتى إلا بالله. والناس الناس: الجحودُ كعجز ولو ظُن به القوة، واحتمل فيما يأتيه القدرة. وكما أن مقومات الإيمان قائمة في البداية على القدرة؛ فهو كذلك (أي الإيمان) في مسيرته إلى التحقيق هبة وتوفيق: التوفيق يعز ويُمْنع ويستحيل أن ينال منه أحدٌ كائناً ما كان. وإذا كان المقوم الأصلي لفاعلية الإيمان يستند إلى قدرة المجاهدة للشرور الإنسانية والأمراض النفسيّة والآفات الملازمة لعنصر الهوى البشري؛ فإن التوفيق فتحٌ روحي من عند الله، خصوصية اصطفائية، وهو العزاء فيما لو قوبلت تلك النزعة الروحيّة من قبيل المجموع باللامبالاة وعدم الاكتراث، بل هو "الضمان الإلهي" لورود الفردية الحرَّة المستقلة عن أهواء الآخرين مَوَارد الحق الصُّرَاح: التحقيق بالوحدة مع الله، والاتصال به، والبقاء معه على الدوام بغير قطيعة.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم