دراسات وبحوث

حديث الولاية: بمقدار ما تعاني تسعد

مجدي ابراهيممن صفة العارف التي تقوم على الإيمان، ويقوم الإيمان أساساً عليها، يلزم لهذه الصفة - عند التّحقق - أن تأسس على المكابدات والمجاهدات؛ فمكارم العارف على التحقيق موصولة بمكارهه، ومكارهه في معاناته. وما من عجب فإن النفس المستقيمة هى النفس التي تعاني: وهى في معاناتها تتألم. غير أنها في كل حالاتها تعاني الألم، فالألمُ موجودُ في كل الحالات، لكن ألم الاستقامة غير ألم الانحلال.

نعم! قد تعاني النفس في استقامتها أشد المعاناة، ولابد لها من المعاناة ترويضاً وتطبيقاً لفاعليّة الجهاد وإيثاراً لطاعة الله على طاعة هواها، وهى في ذلك تعاني ألم الاستقامة؛ أعني بقاء النفس دوماً على أمر الاستقامة. ولكن هذه النفس المستقيمة إذا فَلَتَ منها ميزان الاعتدال وانفرط عقد جهادها لشهواتها وأهوائها، ولم تعد تستطيع القدرة على المقاومة، كان عناؤها أكبر وأشد وأثقل عليها، وكان ألمُها ممَّا لا تحتمل له أثراً، ذلك لأنه ألم الانحلال الذي لا يضبطها لتكون في معية الله. ففي كل الحالات الألم بالنسبة للنفس موجود، ومن استقامة النفس أنها تعاني على الدوام لا محالة.

والنفس المعَوَجَّة هى التي لا تعاني؛ لأنها تستروح إلى ما هى عليه، ولا تشتاق مطلقاً إلى فضيلة التغيير، لكن النفس المستقيمة أو التي تطلب الاستقامة هى التي تعاني مزيداً من المعاناة حتى تجد بغيتها حاضرة معها محققة لها في مزيد من التطبيق والتحقيق. والقارئ مُرْجُوُّ أن يلحظ أنه قد تكررت معنا عمداً كلمة (المعاناة) في هذا السياق عدة مرات، ولتكرارها هنا عمداً دلالاته المقصودة عندنا؛ إذْ المعاناة تقابل "التجربة الصوفية" فيما تحمله من شدِّ وجذب، ومن قبض وبسط، ومن قوة وضعف، ومن توتر وحيرة، ومن قلق واضطراب في بعض الأحايين بل وفي أكثرها، تلك هى المعاناة التي نقصدها حين تتكرر معنا عمداً يَصْحُبه سبق الإصرار. إننا لنقصد التجربة الروحيّة التي يعيشها المتصوف، إذْ يلزمه الجهاد أو يلزم نفسه به في كل حال، يلزمه الجهاد فيها بغير انقطاع، والجهاد وحده دَاَلُّ على المعاناة.

مجرَّد كلمة "الجهاد" مُجَرَّدَةً توحي بمفردها بالألم، فلا يوجد جهادُ مطلقاً بغير ألم وبغير عناء. وجهاد العارف في حياته الروحيّة تجربة من أعمق التجارب الحياتية؛ لأنها كذلك من أعمق آيات الجهاد؛ ولأنه جهادٌ يحول النفس من حال في الحياة إلى حال وينقلها نقلاً من مُرَاد إلى مُرَاد. إنما الألمُ بالنسبة للنفس القوية يعني الجهاد لأدرانها وآفاتها فهو إذن في جميع الحالات موجود، ولن يستطيع الفرد المستقيم أن يتخلص من عذاباته النفسية إلا بوجود "إرادة" مطواعة؛ فهناك ما يَشُدُّه إلى أسفل، وهناك ما يجذُبه إلى أعلى، وفي كلتا الحالتين هو بين الشدِّ إلى هنا والجذب إلى هناك في عذابات. لا شك كانت تلك العذابات تحتاج إلى جهاد مع كونها ناتجة أصلاً من فاعلية الجهاد؛ لأن النفس تعاني فيها كما قلنا أشدَّ ألوان العناء. فالألم في جميع الأحوال موجود: موجودٌ غير مفقود, لكنه ألم مقرون بالسعادة؛ لأن فيه مخالفةً لهوى النفس على الدوام.

وجودُ الألم معناه أن الروح تطلب خلاصها لتتحرر من وطأتها الجسدية وثقلها المادي، وخلاصها لا يكون إلا بضريبة مفروضة، ولا يحصل إلا بسلوب من النفس في أعز ما تهوى وتشتاق وتريد وتتمنى من منالات حسيّة ونزوع ملموس؛ فالذين يجاهدون نفوسهم يتألمون كثيراً، وبمقدار معاناتهم تجيء من فورها سعادتهم.

أي نعم؛ بمقدار ما تعاني تسعد ..!

هذه حقيقة كبيرة من حقائق جهاد العارفين. هنا؛ علينا قبل أن نستطرد في شرح هذه الحقيقة أن نُفَرِّق بين نوعين من الألم. الأول: ألم السعادة. والثاني: ألم الشقاء. ألمُ السعادة قبل التجربة. وألمُ الشقاء بعد التجربة. فأنت سعيد قبل أن تجرِّب المعصية؛ لأن المعصية شقاء ومذلة. أنت سعيد قبل أن تجرِّب الرذيلة؛ لأن الرذيلة تعاسة محققة وخذلان بكل تأكيد. أنت سعيد قبل أن تجرب الخطيئة؛ لأن الخطيئة استعباد لا حرية، بل هى موت ودمار. أنت سعيد قبل أن تجرِّب الغفلة؛ لأن الغفلة جناية كبيرة عند أولى العزم من أهل التحقيق: شَرٌّ يستوجب التوبة والإنابة.

ولكننا مع ذلك نتساءل: هل كانت هذه السعادة تحملُ ألماً؟ والجواب يأتي بالطبع، نعم! نعم هنالك ألم .. إنه ذلك الألم النفسي، الباطني، الجُوَّانيِّ: ألمُ الرَّفْض والمقاومة، وهو ألمُ في البداية لكنه سعادة في النهاية، هو ألمُ يعتصر النفس عصراً قبل أن تجرِّب الرذائل والمحظورات، وقبل أن تَقْدِم على فعل الضرر الذي يلحقها. أفئن هى قاومت وانتصرت مع شدة الألم نجحت، فينقلب ألمُها من فوره إلى سعادة مُحَققة. فالألم الواقع عليها هنا هو ألم الرفض، أو نتيجة لفعل الرفض، هو ألم المقاومة، أو هو مُصَاحب لعملية المقاومة، هو ألم ناتج عن إرادة الامتناع. فأنت من هاهنا سعيد بألمك قبل التجربة، أي قبل ممارسة مثل هذا السلوك البغيض أو ذَاَك، حتى وإنْ كنت تتألم من أجله، بيد أنه ألم سعادة لا ألم شقاء. وعليه؛ فألم السعادة يكمن في تلك المجاهدة الدائمة والمقاومة المستمرة والمعاناة الرافضة لكل خنوع يمضي مع النفس في إتيان هواها. والرفض هنا شيء عظيم وجليل هو الذي يُضفي على الشخصية الرافضة سحرها من جانب العظمة وإيهاب الجلال، هو أبدع إمكانيات النفس ضد طغيانها وضد هواها، وضد ما تسببه لصاحبها من عجز ومرض وبلادة وجهالة دائمة، حتى صنوف العجز والمرض والبلادة والجهالة يمكن رفضها من قبيل النفس المستقية، ويمكن التغلب عليها بفعل المجاهدة المنظمة الدائمة. أما ألم الشقاء؛ فهو بعد التجربة، أي بعد أن يخوض الفرد تجربة الشرور التي يقترفها.

جَرِّب إنْ شئت كل صنوف الضياع وأترك لنفسك هواها كيفما شاءت، ودع عنك المجاهدة, ودع عنك المقاومة والامتناع، ودع عنك كل ما يقهر نزوع النفس لديك، جَرِّب جميع الأفعال التي ترافق هوى النفس الطبيعي؛ فأنت إذْ ذَاكَ في النهاية مع سعادة النفس بداية، ستكون شقياً لا محالة، وفي الشقاء كل ألوان الحسرة والألم بغير مَنَازَع.

ذلك هو ألم الشقاء الذي يأتي بعد التجربة؛ لأنه ألم يمضي بالنفس إلى اقتراف الضرر الذي يتحقق منه المرء من الوهلة الأولى، وهو مع هذا يجرِّبه ليكون بتجربته سعيداً أو يَتَوَهَمْ ذلك. هذا الضرر لا يعود على أحد إلا على المُجرِّب نفسه، تماماً كما أن ألم السعاة لا يعود نفعه على أحد إلا على المُجَرِّب عينه، كذلك ألم الشقاء لا يعاني منه أحد إلا مُجَرّبه، وتلك جريرة النفس مع صاحبها: أن توُدي به في طريق المهالك، وليس هذا بغريب:" فرُبَّ نفس عَشَقَتْ مَصْرَعَهَا ". إنها لحقيقة كبيرة من حقائق جهاد العارفين مع أنفسهم، استخلصوها لنا من خلال تجاربهم, حقاً:"بمقدار ما تعاني تسعد".

لكنها حقيقة أبعدُ ما تكون عن التطبيق الواقعي والتنفيذ الفعلي إذا كانت النفس ضعيفة، والإرادة خربة، والعزيمة بالية، والمثابرة فاترة، والهمة ساقطة، فلا تنتظر إذا كانت أحوال النفس على تلك الأوصاف أن تكون هنالك حقيقة ظاهرة أو باطنة تحتمها قوة العرفان في المعدن العارف، ولا يتأتى لك أن ترجو سعادة من وراء تلك المجاهدات النفسية حين تكون النفس فقيرة السعي نحو الأهداف العظيمة تتلاقى معها على استعداد واكتمال.

تأمل قوله تعالى:" وَاَلَّذينَ جَاهَدُوا فينَا ". النجاحُ الحقيقي للإنسان يتلخص في عبارة واحدة:" ترويض النفس وحَمْلها على المكاره ". حملها على المكاره من طريق الصبر؛ وما الصبر سوى حَبْس النفس على المكاره! فالصبر كله فضيلة كبيرة هو" عَزْمُ الأمور". أتدري كم مرة وَرَدَتْ "عزم الأمور" في القرآن الكريم؟ في ثلاثة مرات فقط؛ هى نصف الدين حقيقة لا مجازاً:

الأولى: في آل عمران آية (186):" لتُبلَوُنَّ في أمَوَالَكُم وَأَنْفُسكُم وَلَتَسْمَعُّنَ منْ الذَّينَ أُوُتُوا الكتَابَ منْ قَبْلكُم وَمن الذَّينَ أشْرَكُوا أذَى كَثيرَاً، وإنْ تَصْبرُوا وَتَتَّقُوُا، فَإنَّ ذَلكَ منْ عَزْم الأمُور ".

والثانية: في لقمان آية (17):" يَا بُنَيَّ أقمْ الصَّلاة وَأمُر بَالمَعْرُوُف وأنْهَ عن المُنْكَر وَاصْبر عَلى مَا أَصَابَكَ؛ إنَّ ذَلكَ منْ عَزْم الأمُور ".

والثالثة: في الشورى آية (43):" وَلمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ؛ إنَّ ذَلكَ لمنْ عَزْم الأمُور ". فلتنظر إلى هذه الآيات الكريمة وتتدبرها جيداً تجد أن مصدر الأخلاق الجميلة هو "عَزْمُ الأمُور" كما سَمَّاه القرآن، وهو مصدر كل خُلق جميل حَثَّتْ عليه شريعة القرآن. عزم الأمور نيةٌ في القلب خفية، وقدرة في المنع قوية، وَرَدُّ للنفس عن بعض ما تشاء، لكنما نفوسنا الضعيفة نفوس خَربَة تشاء الكسل وتأنف من بذل المجهود، تشاء المتعة وتمتنع عن الإقلاع، تشاء الأكل الكثير والراحة والنوم وتمتنع عن الجوع والمشقة والسّهر، تشاء إتباع الهوى والشهوة والشيطان وتمتنع عن حظيرة الله والاستقامة والإيمان، تشاء الرذيلة وتمتنع عن الفضيلة؛ فلن يكون خَيْرٌ لها ولن يتم، ما لم يردها صاحبها بعزم الأمور عن بعض ما تشاء.

والأصلُ في ذلك كله هو الصبر جهاداً، والتحلي تصبُّراً بأطيب الفضائل وأكرم الأخلاق.

حقيقةً مصدر الأخلاق الجميلة هو "عزم الأمور" كما سَمَّاه القرآن، مصدر الأخلاق الجميلة هو القدرة على الامتناع، ورد النفس عن بعض ما تشاء، وضبطها بهذا القانون الأعلى الذي يجري على صفته الشمولية، التامة، الكاملة. مصدرٌ الأخلاق هو أن يشعر الإنسان بالتبعة المسئولة، وأن يدين بها نفسه، وأن يُسَاءل ضميره فيها. مصدر الأخلاق أن يكون الإنسان سيد نفسه، وأن يملك زمام أمره، وأن يتحلى بفضائل الجهاد كما سَنَّهُ نظام التَّعَبُّد الصوفي.

كان إبراهيم بن أدهم يُشَدّد على الصالح بقطع عقباته ويقول: " لن ينال الرجل درجة الصالحين حتى يجتاز ست عقبات؛ الأولى: أن يغلق باب النعمة ويفتح باب الشدة. والثانية: أن يَغْلق باب العز ويفتح باب الذل. والثالثة: أن يغلق باب الراحة ويفتح باب الجهد. والرابعة: أن يغلق باب النوم ويفتح باب السَّهر. والخامسة: أن يغلق باب الغنى ويفتح باب الفقر. والسادسة: أن يغلق باب الأمل ويفتح باب الاستعداد للموت "(الرسالة القشيرية, ص 98 - 99).

تلك هى أهم الصفات الواجبة على المُجَاهد: غلق باب الراحة وفتح باب القسوة على نفسه، فيما لو عرف للجهاد مَعْناه، وعرف له من ثم َّ قيمة نافعة في هذه الحياة؛ فليس ينقصه سوى العمل وسوى التطبيق ليكون بهما عارفاً بفضائل العرفان.

أي نعم؛ الذين يجاهدون نفوسهم يتألمون؛ لأن الألم رفيق المعاناة إذا كانت ثمرة المجاهدة هو هذا العناء، ولأن المجاهدة تزكية، وفيها خُلَاصُ الأرواح من أدران الغفلات، وفيها كذلك ألمٌ وعناءٌ ومكابدةٌ هى الظواهر النفسيّة المُصَاحبة لعملية الجهاد: أنْ تعرف كيف تعاني؛ أنْ تعرف كيف تتألم، أنْ تعرف كيف تكابد، حتى إذا ما عرفت كيف تعاني وتذوَّقت هذه المعاناة كنت مجاهداً. وإذا عَرفْتَ كيف تتألم، وتذوَّقت هذا الألم، صرت مجاهداً. وإذا عرفت كيف تكابد وَتَذَوَّقت هذه المكابدة كنت من المجاهدين حقاً وصدقاً، وما أطيبُ وصف شاعرنا العربي حين قال:

لا يَعْرِفُ الشَّوْقَ إلا مَنْ يُكَابِدَهُ     وَلا الصَّبَابةَ إلاَ مَنْ يُعَانِيَها

يَصفُ القشيري طريق التصوف في أربع خلال للمجاهدين في سبيل الله، فهم يجاهدون في سبيل الله على أربع حالات: الحالة الأولى: يجاهدون بنفوسهم من حيث استدامة الطاعات. والحالة الثانية: يجاهدون بقلوبهم بقطع المنى والمطالبات. والحالة الثالثة: يجاهدون بأرواحهم بحذف العلاقات. والحالة الرابعة: يجاهدون بأسرارهم بالاستقامة على الشهود في دوام الأوقات (لطائف الإشارات؛ تحقيق إبراهيم بسيوني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية، القاهرة سنة 1983م, ص 432).

من ذلك ترى في نص القشيري أسس المجاهدة تتمثل في أربعة: المجاهدةُ بالنفس، والمجاهدةُ بالقلب، والمجاهدةُ بالروح، والمجاهدةُ بالسِّر؛ فقوام الحياة الروحية كلها مجاهدة النفس أولاً موقوفة على دوام الطاعة، وهذه مجاهدة بدنية تتعلق بالظاهر، وتبذل جهدها في مقاومة أهواء النفوس وطغيان الشهوات، ثم يترقى العبدُ صَعدَاً في طريق المجاهدة الباطنة ليجاهد ثانياً بقلبه فيقطع مُنَاه من كل شيء سوى وجه الله فيما يُرضي الله؛ ليترقى ثالثاً فيجاهد بروحه بحذف أية علاقة عائقة؛ ليترقى رابعاً فيجاهد بسرِّه ليكون دائم الاستقامة في جميع الأوقات على منن الشهود.

ويتبين من هذا؛ أن الجهاد هو أساس الحياة الروحيّة عند صوفية الإسلام لا يتخَلَّف عنه متصوف حقيقي مطلقاً في جميع مقاماته وأحواله، ويفيدنا نص القشيري بمثل هذه الأسس مجتمعة في النفس، والقلب، والروح، والسّر. وأساسها الأول، هو مجاهدة النفس؛ لأنه بمثابة القاعدة التأسيسية ينبني عليها مجاهدات القلب والروح والسِّر؛ يفيدنا النص إذا نحن عرفنا القاعدة الأساس عند المتصوفة، وحملناها محمل التجريب عرفنا تباعاً؛ ومن خلال هذا المحمل؛ كيف تتحقق صفة العارف، وعرفنا من ثمَّ مغزى قولهم بمجاهدة القلب، وما يتلوها من مجاهدة الروح، ثم مجاهدة السرِّ التي يعرفون فيها ما لم يعرفه سواهم من منن الكشف وعطايا الشهود.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم