دراسات وبحوث

حديث الولاية: الإرادة

مجدي ابراهيمكثيرةٌ هى الأحيان التي نزعم فيها لأنفسنا أننا أصحاب عقول، وقليلةٌ هى الأحيان التي نَتَّهم فيها أنفسنا بالغفلة والجهالة والعبث في غير طائل! وما أكثر ما يكون المرء في تلك الحالة على البلادة والعنت ونكران الجميل: نكرانُ الجميل لا مع الخلق وكفى، بل مع الخالق، جل شأنه؛ فإن البطر نكرانُ للجميل مع ربِّ الناس، ربِّ العالمين. يبدو المرء في الواقع بعيداً في تلك الأحيان عن جميع الأوصاف الحميدة التي تؤهله لأن يكون من ذوي الوصف الجميل من الأخلاق والأفعال. لاحظ كل ما يمكن أن يكون موصوفاً به في مثل تلك اللحظات التي يضعف فيها، وتنبَّه جيداً إلى أحواله النفسيّة، إلى أفكاره وأفعاله وسائر تصرفاته تجده مخلوقاً تافهاً مرتعشاً لا يستطيع أن يقدِّم فكرة ولا عملاً ولا طريقاً للهداية والتهذيب: إرادته مسلوبة، وفكره مشوش أو مضطرب، وعمله مشلول، مُعَوَّق وَمَعْطُوب، لا يصلح أن يكون قائماً بين الأعمال النافعة المفيدة، تلك هى أظهر أحواله وأخلاقه وصفاً لحالات الضعف التي تعتريه، ومردَّها قلة الإيمان وجدب العقيدة .. وما أكثرها !

أذكر إني قرأت منذ زمن طويل للأستاذ العقاد عليه رحمة الله عبارة في كتابه "حقائق الإسلام وأباطيل خصومه" لا يقولها إلا فيلسوف خبير بمعالجة الأفكار الكبرى في مثل قامة العقاد طيَّب الله ثراه جاء فيها:" إنك تلمس أصالة الدين عند المقابلة بين فرد يؤمن بعقيدة من العقائد الشاملة وفرد معطل الضمير مضطرب الشعور، يمضي في الحياة بغير محور يلوذ به وبغير رجاء يسمو إليه. فهذا الفارق بين الفردين، كالفارق بين شجرة راسخة في منبتها وشجرة مجتثة من أصولها، وقَلَّ أن ترى إنساناً مُعطل الضمير على شيء من القوة والعظمة إلا أمكنك أن تتخيله أقوى من ذلك وأعظم إذا حَلَّت العقيدة في وجدانه محل التعطيل والحيرة ".

وعليه؛ فالعقيدة الإيمانية محور صادق وأمين يرتكز عليه العمل إذا هى حلت في ضمير الفرد أوجبت عليه مسعى التقدُّم والتعلق؛ فمن حيث جهة التقدم معرفته بالسلوك على هدى من موفور الاعتقاد، ومن حيث جهة التعلق وجوب الأعمال خالصة في إطار تلك العقيدة وفي إطار الانتماء إليها وتقديرها في البواعث التي يتحرك المرء بمقتضاها ويدور في فلكها. وطالما تعلق القلب بالعقيدة الدينية فرضت عليه الإرادة أن يكون عمله في إطارها مرهوناً بالتفتيش في بواعث العمل، وبواعث العمل على نحو من الأنحاء تبدأ بالخواطر، ويلزم للخواطر إرادة واعية.

هنالك أنواع ثلاثة من الخواطر تلمُّ بالنفس العاملة، ومع ذلك ليس بالإمكان أن يقوم العقل بالتفرقة فيها بين الأعمال إلا أن تكون في الأصل عاملة في نفس صاحبها ومسيطرة. الخاطر الأول خاطر شيطاني باعثه على العمل وسوسة الشيطان، وهو شيطاني لأنه إلقاء في النفس من جهة الشيطان. والخاطر الثاني خاطر نفساني: باعثه على العمل الشهوة وطلب الراحة، وهو حديث النفس وطلب الراحات للأبدان والأنفس. والخاطر الثالث، خاطر رباني باعثه العمل والتوفيق، وهو إلقاء من جهة الحق سبحانه، ولذلك كان الخاطر الرباني يرد بأسرار خطابات العارفين وإمداداتهم الإلهامية؛ إذْ كان سراً من الله بعد تزكية حال صاحبه واستقامة قلبه على منهاج العارفين. يلزم للتفرقة بين هذه الخواطر إذْ كانت بواعث إعمال إرادة يقظة ولا يلزم قيامها في نفس صاحبها بغير إرادة؛ فغياب الإرادة وفقدانها غياب في الوقت نفسه للخلق القويم والنظر السديد يشي بفقدان الإيمان وفقدان العقيدة ويدل فقدانهما على حالات الضعف دلالة التقريب.    

هذه حالة مَنْ تتفسخ لديه الإرادة فتنعكس بالسلب على المجموع ممَّن يحيطون به سواء؛ فالخسارة إذن مع تلاشي الإرادة ظاهرة واضحة في الحالتين: حالة الفرد الذي يفسد نشاطه كله بفساد إرادته وتنقلب حيويته إلى ضعف، وإدراكاته إلى فتور، واقتداره على الأفعال إلى خنوع وبلادة وتردي ونكوص. ثم حالة المجموع الذي ينتسب إليه هذا الفرد، إذْ الجماعة البشرية الصالحة والناهضة دوماً لا تتكون مطلقاً ممَّن أصابهم الضعف والفسُولة من جَرَّاء فقدان الإرادة، ولكنها تترقى دوماً من فعل أولئك الذين لديهم القدرة على العزم والحسم والنهوض بجليل التبعات، أعني أولئك العارفين من ذوي الهمم العالية؛ ومع توافر أركان الإرادة من قوة واقتدار وعزم وحسم وتصميم في الأفراد القادرين على توخي أركان الإرادة وتحققها فيهم؛ ينصلح حال المجتمع وتسمو إرادته الجمعية وينهض رجاله بالمسؤولية المنوطة بهم في كل حال وفي كل حين.

فالأخلاق في جوهرها إرادةٌ مسئولة وتبْعَة باطنة ووجود ملحوظ ينبغي أن يتحقق فلا مناص من توافرها في طبقات المجتمع بكافة طبقاته وأطيافه ودرجاته.

ويوم أن ننحِّي"الإرادة" جانباً من نطاق الأفراد يكون على المجتمع وحده تحمُّل العواقب الوخيمة يتضرَّر بها من فئات فقدوا مقومات التربية والترقية من طريق فقدهم لمزايا الإرادة؛ لاسيما تلك الإرادة التي نتحصَّل عليها من الشعور الديني العميق؛ لأن الدين هو أكثر المقومات ترقية للفرد وتربية لإرادته وتهذيباً لأخلاق المجتمعات. الوعي الديني من الأهمية بمكان بحيث يجيء لازماً لابد منه من لوازم الجماعة البشرية: إصلاحها وتعاونها وتآلفها وتوادُّها وتراحمها وحفظ السلامة فيها، وارتقاء أفرادها ذلك المرتقى العلوي الذي يوفِّر لها الأمانة والأمن كما يوفر لها التعايش السلمي بين أبنائها .. وليس هذا بالشيء القليل.

أنزع عن الفرد عقيدته التي يدين لها بالولاء، وأسلخ عنه ولاءه لمجموعة القيم التي يَحْتَكمُ إليها، ثم رَاقب حالته النفسية، ستجد جهازه العصبي كله في غاية الاضطراب، ستدمر كل مصادر الطمأنينة النفسية والقلبية لديه، وسيعيش حالات القلق والخوف والرهبة في أعلى درجاتها؛ لأنك في تلك الحالة نزعت من قلبه الرجاء والأمل، وهما أرقى مراقي العبودية من مخلوق يتوجَّه بهما إلى الخالق دُوناً عن سواه.

والشيء الذي يُقَالُ في فرد، يُقَالُ كذلك في مجتمع يعيش بغير ملاذ الإيمان: فما الكوارث وما الآفات وما الشرور وما الآثام التي يسقط فيها المجموع في مستنقع آسن إلا نتيجة حتمية لزعزعة اليقين بموارد العقيدة وروافدها الإيمانية؛ أو قُلْ هو نتيجة لاعتقاد لا يخالطه عمل، ولاعتناق لدين لا يمازجه سلوك، ولتبني أفكار نظريّة لا تمارس ولا تطبق: التنظير فيها شيء والعمل شيء آخر. العقيدة فيها في جانب والممارسة الفعلية في جانب آخر. الخطاب الأيديولوجي في كفة، والطريقة التنفيذية لهذا الخطاب في كفة مقابلة. هنالك هوَّةُ وسيعةٌ بين القول والعمل، أو بين التصوِّر والاعتقاد من ناحية، والحركة الفعليّة في الواقع العملي من ناحية ثانية؛ وتلك مشكلة الضمير العربي وأزمته الكبرى - ولو فيما نراه نحن - على وجه العموم.

إنما ضعف اليقين وقلة الإيمان وشلل الحيوية الروحيّة أمور تؤدي حتماً بالفردية إلى الوهم، وتفشي الوهم يؤدي حتماً إلى التخلف وظلمة السعي والعمل وانتشار الأمراض النفسيّة بين الأفراد فضلاً عن الجماعات؛ وإذا ضَعُفَ اليقين ونضبت الحيوية الروحية وغارت الحماسة الدينية، شاعت الأوهام في بواطن الفردية وكثرت، وبشيوع الوهم يضطرب السلوك، ويشل العمل النافع للفرد بكل تأكيد؛ فتتمثل أمامه الأوهام والخواطر الدنيا فلا يدرك سواها، بل كل ما يدركه حجاب؛ حتى إذا شاع الوهم وشاعت الخواطر السفلى في مدارك المحجوبين تَبَدَّتْ الحياة أمامهم وكلها حقائق! كأنها الحق الصُّرَاح الذي لا يخالطه باطل، تلك الحقائق التي يتصورونها من فعل الوهم، وهى في الحق سرابُ خَادعُ لعلم لا ينفع ولعَمل لا خير فيه!

إنه لزمن عجيب حقاً؛ ذلك الذي نتصور فيه الحقائق في حين لا ندرك فيه إلا الأوهام.

إذا كنَّا لا زلنا نبحث عن صفة العارف: الذي يمنع عن نفسه أوهامها وأهواءها ويدفع عنها عوائقها وعلائقها ثم يجلب وفق استعداده ما يؤهله للعرفان ويهيئ قلبه لقبول فيوضات الرَّحْمن المنان؛ فيلزمنا أن نقرر وفق غياب هذه الصفة من مجتمعاتنا أن هذا زمن ليس فيه من القيمة إلا ما يملأ النفوس من الأوهام، وبخاصة أوهام الآفات التي تصطدم مع العقول المستنيرة ولا تعطي تصوراً واضحاً لإتاحة الفرصة لها كيما تفكر في تصحيح الأحوال، إذْ تراها معوجَّة كما تراها سارية وكأنها تمضي على منهج منظم مضبوط، لكنه مكتظ بالعديد من الأخطاء الشائعة الشائهة، على ما تراه من كثرة الآفات والمعاطب والعقبات التي تلازم كل عمل في كل حال:

من زمن الآفات؛ زمن الغفلة السارية دوماً بغير عقال، زمن العقول التائهة الحيرانة التي لا تدرك ولا تعرف كيف تدرك؛ لأنها لا تريد أن تدرك، ثم تتصور على الضلالة أن اعوجاجها إدراك. زمن الأوهام الشائعة الشائهة في دنيا الضلال والعوج والبلادة والتشويه. زمن يفتقد فيه المرء معالم الثورة الداخلية فلا يمضي إلا إلى ضياع! من هذا الوجه الذي تشيع فيه الأوهام لتسلب الضمائر حيويتها الروحية إلى ما يقابله من فاعلية الإرادة الصوفية؛ سنرى الفروق الجوهرية بين سلوك وسلوك، أو بين التزام والتزام، أو بين رؤية ورؤية، أو بين عقل وعقل، أو بين خاطر يبعث على العمل مردة إلى الشيطان وإلى هوى النفس، وخاطر رباني هو الباعث على عمل الإنسان في كل حال، أو بين تصور للحياة في مقابل تصور آخر يصيب الحياة بالآفات والمعاطب والأوهام.

ومادامت هناك أوهام فمن المؤكد أن هنالك دعاوى تحركها رعونة الأدعياء، وكل دعيِّ هو في الواقع من أهل البصائر المطموسة والذي يتبعه في رأي أو في منهج أو في تقليد هو كذلك ذو بصيرة مطموسة، وأهل البصائر المطموسة ليسوا أهلاً للصحبة؛ لأنهم ليسوا أهلاً لأن يكونوا أصحاب وعي ينفتح على بصائر الصابرين من ذوي الصدق الخالص، إذْ البصيرة المطموسة وحدها هى التي تحركهم، وهى التي ترشدهم إلى ما في النفوس من مقدرة على خلق الشرور والآثام.

كذلك؛ هى هى التي تصوِّر لهم الحقائق أوهاماً، والخيال واقعاً والواقع خيالاً، كما تصوِّر لهم بصائرهم المطموسة تلك - خلافاً للبصائر المستنيرة التي تعطف مشفقة حتى على أصحاب الخطايا - أن يمضوا إلى درجة كبيرة من درجات الوعي بما في نفوسهم من مواهب وقدرات حصَّلوها من عنت التفكير في أذية خلق الله؛ يمضوا إلى تحطيم كل خير وكل سعادة يشعر بها الآخرون. إنَّ التدبير الحقيقي الذي يخلقونه بعقولهم المنحرفة الخاضعة للعمل بالخواطر السفلى كيما تنفتح على وقائع الأحياء، هو هو التدبير الذي يُقَدَّم على أنه خير؛ وخيرُ كثير، وهو في الواقع تدمير: أشر ما تنضح به سخيمة الإنسان !

ليس ينبغي علينا ولا يجوز أن نقول إنّ العيب فينا؛ فابحثوا - أفادكم الله!- عن عيوب نفوسكم لتستشعروا آفاتكم وتكتشفوها وتعالجوا - من ثمَّ - أمراضها.

كلا..! لا ينبغي علينا أن نذكر هذا وكفى، وعلينا من أجل ذلك أن نتصدى لا لأنفسنا فقط بل أيضاً لزماننا الذي يجدر به أن يتطَّهر كما تتطهر النفوس من أدرانها وآفاتها؛ لأنه بلا ريب زمن الغفلة الشائعة الشائهة والضمير الساقط في الغالب من أكثر الأفراد. وإذا كثرت الأوهام وكثرت التصورات واضطربت الدنيا بالمطالب الفانية؛ أدركتنا كوارث هى من فعل أيدينا تطيح بنا ما لم تتداركنا في المطلق رحمة السماء. لكن جميع هذه الأحكام الشائعة فينا ترتد إلى ضعف محقق بكل تأكيد سَبَبُه الأول والأخير يكمن فيما تقدَّم للوهلة الأولى في قلة الصبر على المكاره. وقلة الصبر على المكاره تعني فقدان الإرادة وفقدان المقاومة؛ وإذا فقدت الإرادة وفقدت المقاومة فقدت تباعاً أسس الأخلاق النافعة لترقِّي الفرد؛ وتهذيب مطامحه ومطالبه، وصار في جميع أحواله وأقواله عُرْضَة للضياع الذي لا شك فيه.

ومن هنا, كان ضرورياً للصوفي العارف أن يبدأ الطريق بضرب النفس وقهرها على الالتزام، وصار واجباً أن يتخلى وهو بإزاء رحابه العلوي عن الغرور الأجوف والإدعاء البغيض والأنانية الحمقاء، وأن ينصرف إلى ما يهمَّه من مرضاة ربِّه غير عابئ بما يتوهَّمه من انتصارات يتحصَّلها في وادي الحمقاء !

ألا ما أصدق حكمة الأستاذ الإمام "محمد عبده" حيث قال:" أخفى شيء على الإنسان نفْسَهُ؛ وليس من السَّهل أن يعرف دخائلها ". وفي كتابه "الرياضة وأدب النفس" (من تحقيق د. أ. ج. آربري؛ د. علي حسن عبد القادر، طبعة مصطفي البابي الحلبي، القاهرة سنة 1366هـ - 1947م؛ 86 - 87) قال الحكيم الترمذي بعد كلام طويل:" إن النفس إذا اعتادت اللذة والشهوة والعمل بالهوى، أقبل على فطمها عن العادة في كل شيء؛ فكلما أشتد عليها فطم شيء، فأقبل قبل (اشتداد) ذلك الشيء حتى تفطمها عنه، حتى يصير قلبك حُرَّاً؛ يألف الله عز وجل ببِّره ولطفه ".

ومن تعريفات سيد الطائفة "الجنيد بن محمد البغدادي" للصدق إنه قال في مخطوط له بعنوان"في الفرق بين الصدق والإخلاص" ما مفاده؛ إنه من الضروري في مسيرة الطريق لكي تتبدد من النفوس أوهامها:" القيام على النفس بالحراسة والرعاية لها؛ بعد الوفاء منك بما عليك ممَّا دلَّك العلم عليه, في إقامة حدود الأحوال في الظاهر؛ مع حسن القصد إلى الله عز وجل في أوَّل الفعل" (يُراجع: في الفرق بين الصدق والإخلاص؛ ضمن مخطوط رسائل في التوحيد؛ معهد المخطوطات العربية؛ لوحة 62 ش؛ وراجع كتابنا التصوف السُّني: حال الفناء بين الجنيد والغزالي؛ مكتبة الثقافة الدينية ، القاهرة سنة 2000م ص 562 وما بعدها).

وأنت ترى من تلك الشذرات البسطة والنادرة معاً، المعجونة بأرواح أذواق أصحابها ما من شأنه أن يفيد القيام على النفس بالمراقبة، والصمود عند زوغانها، واتهامها على الدوام بالتقصير، وحُسْن سياستها إلى حظيرة الجهاد؛ وفاءاً منك بما عليك في مدلول العلم والشرع ممَّا يقيم ظاهرك على التوجُّه بحسن القصد إلى الله في الأعمال والأفعال بُلْه الضمائر والأسرار. وإذا اتصلت السريرة القلبية بوحدة قصدها نالت ما تريد مما لم تكن تتوقعه مطلقاً. المهمُ هو هذا الاتصال؛ المهمُ هو رفع الهمَّة عن دنايا النفس والناس بالمرة واتصالها بالله سبحانه، ولنذكر هنا قول الإمام أبي العباس المرسي:" مَا رَأيتُ العزَّ إلا في رفع الهمَّة عن الخلق "؛ لنستحضر معه همِّم العارفين ومتوجهاتها العليا، واتصالهم فيما يجمعون عليه بالحضور بين يدي الله؛ وفيه قال الجنيد أيضاً في الفرق بين الصدق والإخلاص:" إذا اقتصرت همَّة عبد على الله، نال معرفته. وإذا أنال الله عبده معرفته، فقد حيزت له الدنيا والآخرة "؛ وتلك هى "رَبَّانيَّة المعرفة"؛ تتحقق للولي لينالها من فضل الله.

المُهم أن تقتصر الهمَّة فاعلة، وتنكمش في هذا المطلب وحده دون سواه. ومعنى اقتصار الهمة: ليُّ عنق النفس ليَّاً قوياً بالتمرين على فنون المجاهدة والتدريب على العناء، واستخلاص النفس لطرق الحرمان من الأوهام. هنالك يكون الفرح بالله لا يعدله فرح سواه، كما روى الإمام الجنيد في أدعيته المأثورة أيضاً، والتي تعطي النفس قوتها موصولة بالملأ الأعلى وتبقيها مع خالص الدعاء على بشرى بالفرح بالله:" اللهم أملأ قلبي بك فرحاً ولساني لك ذكراً؛ وجوارحي فيما يُرْضيك شغلاً. اللهم أمحُ عن قلبي كل ذكر إلا ذكرك، وكل حب إلا حبك، وكل ودِّ إلا ودِّك، وكل إجلال إلا إجلالك، وكل تعظيم إلا تعظيمك، وكل رجاء إلا لك، وكل خوف إلا منك، وكل رغبة إلا إليك، وكل رهبة إلا لك، وكل سؤال إلا منك " (يراجع: أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء جـ 10، ص 282، وانظر كتابنا: التصوف السُّني؛ ص 449).

ومن المؤكد أن الانتصار على النفس يكون بالدعاء؛ والتَّضَرُّع إلى الله في أن يعين العبد على نفسه، والثقة بالله في نيل المطلوب مادامت الهمَّة موصولة غير مقطوعة، ومادام النَّفَس العلوي باقياً على هِيجِّير الحضور وديدن العرفان.

لم تنقطع تلميحات الصوفية ولا تلويحاتهم في الإشارة المُعَمَّقة بوجوب الطَرْق الدائم على أن الوصول إلى الله تعالى لا يكون إلا بموت النفس؛ وموت النفس ليس يأتي من قبَل النفس أبداً، فما من نفس تريد أن تموت عما وقر فيها من آفات وشهوات وأوهام تحركها وتنقاد لها كما تنقاد السائمة لمن يقودها. ولكنه مع ذلك يأتي؛ وهو حين يأتي لا شك أنه يجيءُ من جناب علوي غير ميدان النفس المستبدة بصاحبها القادرة عليه مع قلة قدرته عليها. في هذا الجناب العلوي يعمل فيه التفويض عمله الفاعل، وتتزكى جذوته المشتعلة بقبس من دوام الدعاء، فالذي يعجز عن علاج نفسه لن يعجزه التسليم فيها لله؛ لأن الله خالقها بصيرٌ بها مطلع عليها بمقدار بصره وإطلاعه على العباد؛ فلزَمْ التفويض.

ومن ذلك ما قاله ابن عبّاد الرندي في شرحه على حكم ابن عطاء الله السكندري:"وسبيلُ المريد إلى الوصول إلى موت النفس إنما يكون بتقديم الافتقار والالتجاء إلى مولاه في أن يعينه ويقوِّيه على أمر نفسه، ويسهل عليه طريق سلوكه. وعليه أن يستعمل هذا (العلاج دواء لنفسه المريضة) في كل حال ووقت، وليجعله عُمْدَته فيما هو بسبيله" (شرح الرندي على الحكم العطائية، جـ2؛ ص 146).

وليس من شك؛ أن الدعاءَ مُخُ العبادة؛ فما من عَبْد يعبد الله ويتحقق من العبادة إلا وهو يدعوه. ومحور العبودية في مناجاة الله: هِجِّير العارف في مناجاته، وعبادته على الإخلاص توفيق؛ ولسهل بن عبد الله التُّسْتَّري شذرة رائعة تقول:"الأعمال بالتوفيق؛ والتوفيق من الله، ومفتاحها الدُّعَاء والتَّضَرُّع ".

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم