دراسات وبحوث

الغزالي في الدراسات القديمة والمعاصرة

ميثم الجنابي"لو كان بعد النبي نبي لكان الغزالي" 

يفتقد الغزالي شأن المفكرين العظماء إلى حياته الشخصية، بمعنى أنها عادة ما كانت تختبئ في خبايا الأسرار. أما الأخبار التاريخية التي توردها عنه كتابات السير والطبقات[1]، والشروح والاختصارات والردود عليها[2]، فهي لا تتعدى في الأغلب تعبيرها وتصوراتها وأحكامها الخاصة عن الغزالي. بمعنى أنها تجرّد الطابع الاجتماعي والسياسي والتاريخي في شخصيته لترفعه إلى مصاف الحكم المجرّد على موقعه في التاريخ الفكري للخلافة. وقد ساهم هو شخصياً في هذه الصورة الباهتة عنه. ففي مراحله الأولى، كان الحماس المفرط والسعي للشهرة قد أقفلا عليه حتى خاطر الرجوع لتذكّر الماضي. وفي وقت لاحق، عندما واجه حقيقة ذاته وجهاً لوجه، فإنه فّضل رمي كل ماضيه الحياتي وأبقى شعلة الفكر لحالها بوصفها جوهر وجوده، الذي لم يعد يربطه بالحياة والسلطة سوى تغلغل الفكرة المطلقة فيه، والتي جعلته أسيرها الواعي. فما كان يبدو حرية بالنسبة له في بداية الأمر تحول إلى قيد، وما كان قيداً تحول إلى ضرورة روحية خالصة. آنذاك لم يعد الماضي حلقة مفقودة، بل أصبح "الآن الدائم"، بوصفه فعل المطلق في وجوده المندهش بلحظات التأمل الخاطفة. لهذا لم تتخذ سيرته الذاتية حالما اخذ بكتابتها صيغة ومظهر حياته الخاصة، بقدر ما تحولت الى سيرة "المنقذ من الضلال". فالمهم فيها ليست جوانب حياته الشخصية، بل حركة وتطور الروح التي تتبعها، بوصفها حركة التطور الفكري التاريخي للخلافة منذ النبي محمد حتى نهاية القرن الخادس الهجري. لقد تتبع مراحل الاتجاه الفكري المجرّد على مثال شخصيته حتى بلوغه التصوف، والذي فتح له طريق العودة لرؤية حقيقة النبوة على أسس جديدة. إنها العملية التي رأى فيها ضرورة استعادة أو إحياء الحق من جديد، كما بدأه في (الإحياء).

وقد استثارت هذه الظاهرة في الوعي التقييمي اللاحق لشخصية الغزالي ضروباً شتى من الأحكام التي لم تر الصلة الداخلية في تطوره الفكري ومشروعه الروحي البديل. كما لم تر ما فيه من انعكاس لرؤية آفاق الخلافة المسدودة، ومحاولة استعادة واستثارة الإصلاح الاجتماعي السياسي الشامل من خلال المنظومة الفكرية الجديدة وروحها الأخلاقي. الأمر الذي يفسر لنا طبيعة ومصدر التقييمات المتباينة والمتناقضة عنه عند المفكرين والدارسين على السواء.

فالاتجاهات الفكرية اللاحقة نظرت إليه في الاطار العام، نظرة المجزّئ. إنها جزأت الوحدة الداخلية في تطوره، بفعل تلك القواعد والقوالب الجاهزة التي حكمت عليه بها في موشور رؤيتها الذاتية العقائدية. بينما وقف الغزالي من حيث الجوهر خارج إطار المذاهب القائمة، مما جعله هدفاً للتجريح المتعدد الجوانب. ففي مجرى حياته الأولى لم يترك اتجاهاً فكرياً أساسياً ومهما آنذاك إلا وخاض غماره. ونفّذ مفارقة الوجود التي استغربها الحلاج (ت 309هـ) عندما وجد نفسه مرمياً في اليمّ مكتوفاً، لكنه خرج منه دون أن يبتلّ بالماء. واستثار ذلك حفيظة واستغراب الأغلبية. فقد وجد عبد الغافر الفارسي(ت529هـ)،  كما ينقل لنا ابن عساكر (ت571هـ)، في تحول شخصيته من الزعارة والجأش والبأس والنظر بعين الازدراء والاستخفاف بمعارضيه وكبره وخيلاءه وطلب الجاه والعلو في المنزلة إلى مضادها، إفاقة بعد الجنون[3]. أما ابن الجوزي فينقل عن أبي منصور الرزاز قوله، بان ما كان على أبي حامد الغزالي حال دخوله بغداد عام 484 للهجرة من ملابس وركاب بقيمة خمسمائة دينار، فلما تزهّد وسافر وعاد إلى بغداد لم يكن قيمة ما كان عليه أكثر من خمسة عشر قيراطاً. بينما استغرب الوزير أبو شروان في آخر زياراته للغزالي بعزلته كيفية رده عليه قائلاً: "إن المرء أجير في زمانه وهو محسوب عليه، فليوفر ذلك على نفسه عوضاً عن زيارته"، مما حدى بالوزير للقول "لا إله إلا الله! هذا الذي كان له في أول العمر القاب افتخر في حمل بعضها"[4]. بينما وجد الذهبي (ت-748هـ) في حياة الغزالي وانقلاباته الفكرية "سر الله في خلقه"، إذ "أدخله سيلان ذهنه في مضايق الكلام ومزال الأقدام ولله سرّ في خلقه".[5]

غير أن هذه التقييمات "التاريخية" لا تعبّر إلا عن رؤية المسار الشخصي للغزالي ومحاولة تصويره دون أن تقدّْم استيعاباً نقدياً له.فتقييمه هو الآخر ظاهرة تاريخية، لم يكن بإمكانها أن تنعزل عن نشاطه الفكري وتعدد ميادين إبداعه من جهة، وتقاليد التقييم الفكرية السائدة آنذاك من جهة أخرى. وبهذا المعنى فهو لا يشكل شذوذاً في هذا المجال، إلا أنه الأكثر تعقيداً. فقد دحض الغزالي الجميع، وتقبّل منهم ما تقبّل لأنه نفسه كان نتاج الثقافة القائمة آنذاك. لهذا فإن الموقف منه قد بني على ذات الأساس، أي دُحِض من قبل الجميع وتقبّله الجميع كلّ بمستواه واستيعابه ومدرسته. فالأحكام الأولية عنه لم تتعد حدود رؤية الصدمة التي أحدثها في الوعي التاريخي التقييمي بصيغة "الإفاقة بعد الجنون"، أو "سرّ الله في خلقه"، رغم أنه قائم كما أشار الذهبي بدقة فيما أسماه "بسيلان الذهن في مضايق الكلام". إلا أن هذا الحكم العمومي، الذي حاول أن يفسّر مسار الغزالي الفكري، هو نتاج مائتي سنة من التقييمات العديدة التي ابتدأت إشاراتها الأولية منذ الأعوام الأخيرة لحياته وبعد موته.

لكن إذا كانت التقييمات النقدية تواجه صعوبة وضرورة البحث عن أسس لها في تحليل شخصية وآراء الغزالي، فإن الأحكام التقيمية العامة لموقعه في ثقافة الخلافة، كانت أسهل من الأولى. إلا أنها استندت دون شك، إلى نفس المقدمة الضرورية لكل حكم تقييمي، أي إلى إدراك مستوى وعمق مأثرة الشخصية في الوعي والوجود التاريخي للأمم والثقافة. وقد أورد تاج الدين السبكي في (طبقاته الكبرى) الكثير من الأحكام التقيمية التي يمكن الاستشهاد ببعض منها كأمثلة نموذجية. فقد قال عنه الإمام محمد بن يحيى بن منصور (ت-548 للهجرة)، أحد أشهر تلامذته وشارح كتابه "البسيط" ما يلي: "الغزالي لا يعرف فضله إلا من بلغ أو كاد يبلغ الكمال في عقله"[6]. بينما اعتبره شيخ الشاذلية أبو الحسن الشاذلي(ت- 656 للهجرة)، استناداً إلى رؤيته الصوفية، "الحبر الذي لا مثيل له في أمم الأديان الأخرى"[7]. بينما اعتبره السبكي "حجة الإسلام وجامع شتات العلوم والمبرّر في المنقول منها والمفهوم"[8]، و"قطب الوجود والبركة العامة لكل موجود والطريق الموصل إلى رضا الرحمن"[9]. وقد جرى رفع قيمته الشخصية في الوعي الثقافي للخلافة إلى الدرجة التي قيل بها عنه "لو كان بعد النبي نبيٌ لكان الغزالي!". وقد استند هذا الحكم ليس إلى شخصيته الفريدة ومثالها الأخلاقي الصوفي، بل وإلى إبداعه الفكري بحيث تحولت بعض كتاباته إلى معجزة، كما قال النووي (ت-676 للهجرة) "لو كان الغزالي نبياً لكان معجزته الوجيز". في حين جرى تصوير (الإحياء) بعبارة "كاد الإحياء أن يكون قرآنا".

إلا أن  ابو حامد محمد بن محمد ما كان بإمكانه أن يكون الغزالي لو لم يواجه في الفكر المناهض له، تقييمات تسلبه موقع الأصالة والقوة. فقد أورد طاش كبرى زادة (ت-962 للهجرة) الفكرة القائلة بأنه على الرغم من كل إنجازاته الكبرى، فإنه لم يخلص من قيل وقال، حتى خوطب بعبارة: إنك ما عملت شيئاً، أخذت الفقه من كلام شيخك امام الحرمين الجويني (ت- 478 للهجرة) في (نهاية المطلب)، و"التسمية لكتابك من الواحدي (ت- 468 للهجرة)[10]. بينما يورد صلاح الدين الصفدي (ت964هـ) ما سبق وإن جرت الاشارة اليه أعلاه، ويضيف لها تعليق البعض من أن (نهاية المطلب) لإمام الحرمين كانت زبر من حديد، فجعلها الغزالي زبر خشب[11]، أي أن مأثرة الغزالي ليست إلا حذلقة تلفيقية يقوم جوهرها في سرقة مضمون كتاب وتسمية آخر والربط بينهما، أو كما قال الصفدي في نقله، ليست مأثرته سوى في تحويله سندان الحديد إلى سندان خشب.

وقد كانت كل هذه التقييمات حصيلة التداخل والتنافر النقدي التحليلي، والاتهام العقائدي، والتعبير المجازي للثقافة العامة ككل، والتي نعثر في الدراسات المعاصرة على بعض صداها.

وإذا كان من الضروري بالنسبة للتحليل التاريخي أن يبتدئ من نقطة زمنية ليرتقي منها إلى تتبع استمرارها في الوعي الاجتماعي اللاحق فإنه من الممكن الابتداء بتلك التقييمات التي أطلقها تلميذه، القاضي أبو بكر بن العربي (ت543هـ) ، الذي حتى في انتقاده للغزالي لم يتجرأ أكثر من أن يردد كلمات "نحن وإن كنا نقطة من بحره فإننا لا نرد عليه إلا بقوله قلت كذا"[12]. إلا أن هذه العبارة لا تعدو كونها صياغة خجولة للفكرة التي سيطرحها ابن العربي نفسه في قوله "إن شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فما استطاع"، أو تنقل عنه أحياناً بصياغة أخرى:"دخل في بطون الفلاسفة فما استطاع الخروج"، أي حصيلة الإشارات الأولية، التي حاولت أن تكشف في الغزالي إلى جانب الفقيه الشافعي، شخصية الفيلسوف الأكبر (في الصيغة الأولى)) أو المتفلسف (في الصيغة الثانية. وفي كلتا الحالتين فإن الفلسفة أخذت تبرز في الوعي التقييمي له، بوصفها جزء مكوناً أساسياً في منظومته الفكرية، والتي ستطورها حذاقة المعاداة للفلسفة والتهكم منها كما نراه في التعبير الجميل، القائل بأن الغزالي أمرضه الشفاء. إلا أن هذا التقييم الحذر الذي رافقه منذ البداية هجوم عنيف من جانب الفقهاء، إضافة إلى التقييمات العديدة الأخرى التي سنتناولها بالتحليل والنقد، أدى إلا أن يمزج في كل واحد سبيكة التعميم الأحادي الجانب، بإكسابها وإلباسها على الغزالي نفسه، فالطرطوشي محمد بن الوليد يشير في رسالته إلى ابن المظفر، كما ينقل الذهبي، إلى أنه رأى الغزالي وكلّمه شخصياً حيث شاهد فيه رجلاً جليلاً من أهل العلم يجمع العقل والفهم وممارسة علوم زمانه، إلا أنه هجر العلوم وأهلها ودخل التصوف ثم شاب آراءه بآراء الفلاسفة ورموز الحلاج، وكاد ينسلخ عن الدين، فلمّا عمل (الإحياء) عمد إلى التكلّم في علوم الأحوال ومرامز الصوفية وكان غير أنيس بها وغير خبير بمعرفتها، فسقط على أمّ رأسه، وشحن كتبه بالموضوعات من الحديث[13]، أي أننا نقف أمام إضافة جديدة جدية تحاول أن تربط الوعي الفلسفي عند الغزالي بآراء المتصوفة "المتطرفة"، إلا أن هذا التقييم يعاني من عدم تجانس ونزعة عندية(ذاتية). لكنه يشير في الوقت نفسه إلى بعض الجوانب "الباطنية" في آراء الغزالي، بمعنى أن الصياغات الخارجية لآرائه مجرد غلاف. وسوف نلاحظ لاحقا عدم دقة هذه التقييمات عموما في موقفها منه. إلا أن الاستنتاج الأكثر خطورة هو القائل بجهل الغزالي حقيقة التصوف، هذا الحكم الذي سيأخذ به أيضاً بعض المتصوفة المتأخرين، وإن ضّمنوه مضامين أخرى.

أما محمد بن علي المازري (ت- 536هـ) الذي أفرد كتاباً خاصاً كما يقول الذهبي، بعنوان (الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء) حاول البرهنة فيه على أن آراء الغزالي في (الإحياء) تتردد بين مذاهب الموحدين والمتصوفة وأصحاب الاشارات والفلاسفة، وانه استبحر الفلسفة قبل علم الكلام وكان كثير العكوف على رسائل اخوان الصفا، ومصدره في الفلسفة ابن سينا (ت- 428هـ)، وفي التصوف كتب أبي حيان التوحيدي(ت-414 هـ). أننا نقف أمام محاولة  فرز بعض المصادر الجوهرية في رؤية تطوره الفكري وحقيقة آرائه. ومما لاشك فيه أن الغزالي قد تأثّر بمصادر الفلسفة بشخصية ابن سينا، وإخوان الصفا وكتابات التوحيدي. غير أن ما يقدّمه المازري من تردد الغزالي بين المذاهب (الموحدين والمتصوفة والفلاسفة) له أهميته الخاصة، وذلك لأن هذه الأحكام ستوضع لاحقاً في تقييمات الكثير من الاتجاهات الفكرية في موقفها منه.

بصيغة أخرى، رغم اعتراف أغلبية مفكري تلك المرحلة بقوة الغزالي، فإن الكثير من تقيماتهم، ظلت تتسم بالمواقف السلبية منه، مما ساهم بدوره في صنع الأرضية الايديولوجية والنفسية لإحراق كتبه في المغرب بأمر السلطان علي بن يوسف بن تاشفين (ت- 537 للهجرة).

لقد اثر الغزالي في فكر المغرب والأندلس تأثيرا كبيرا. ومن الممكن الاشارة هنا الى بعض من تلامذته مثل القاضي ابو بكر ابن العربي، ومحمد بن تومرت (ت- 525 للهجرة). غير ان هذه الشخصيات لا يمكنها مع ذلك تفسير كل حيثيات أو آلية تأثير الغزالي في الحياة الفكرية والسياسية للمغرب والأندلس. وليس من الصحي الفكرة الشائعة احيانا عن ان تأثره مرتبط اساسا بنشاط تلامذته هناك، اضافة الى اهتمامه الشخصي بالمغرب. ولعل فتواه ليوسف بن تاشفين دليلا على ذلك. اضافة الى كونه وجد في "الفكر الاندلسي صورة حية للفكر الاسلامي الذي يسعى هو لنشره. من هنا يمكن فهم سبب ثناءه على مؤلفات ابن حزم" كما يؤكد الباحث بالينثيا في كتابه بهذا الصدد (ترجمة حسين مؤنس، القاهرة، 1955). انه استنتاج مفتعل، اذ اننا لا نعثر في كل ما كتبه الغزالي سوى اشارة واحدة فقط عن ابن حزم وبصيغة عابرة نسبيا تشير بدورها الى ضعف معرفته بمؤلفاته. لقد اثر الغزالي في فكر المغاربة والأندلسيين بنفس الطريفة التي اثر بها المغاربة وأهل الاندلس بالمشرق. والسبب الفعلي القائم وراء ذلك هو قوة تأثير الفكرة والإبداع الفكري لأعلام الاسلام. فقد كان الموقف من (الإحياء) شبه واحد او متشابه في المشرق والمغرب. وبالتالي، فحتى حرق كتاب الإحياء في المغرب هو دليل على أثره وتأثيره. كما تجدر الاشارة ها الى ان فقه الفقهاء وسلوكهم ومواقفهم لا يشكل بحد ذاته اساسا او معيارا للحكم على طبيعة ونوعي تأثير الغزالي الفكري في المغرب والأندلس. وفي سلوكهم من كتب الغزالي وحرقها نعثر على اتجاه ومستوى ونوعية التأثير الفعلي لكتابات الأعلام الكبار. فقد كان السبب الجوهري وراء مهاجمة الفقهاء في المغرب لكتاب الإحياء ليس بسبب ما في آرائه الكلامية او الفلسفية او الصوفية، بل بسبب ما فيه من نقد لاذع للفقه والفقهاء. حيث اضطر علي بن يوسف بن تاشفين للرضوخ الى مطالبة الفقهاء آنذاك بحرق (كتاب احياء علوم الدين)، دون ان يعني ذلك قبوله بأحكامهم او مناهضته الشخصية للغزالي وفكره. لقد كان اضطراره بأثر الضغط الفعلي للفقهاء بوصفه الدعامة اللاهوتية للسلطة من جهة، وبأثر اهمية الوحدة والاستقرار في الدولة من جهة اخرى. فالمعلومات تشير ايضا الى وجود قوى متعارضة آنذاك بين الفقهاء وعلماء الدين حول هذه القضية. فقد كان ابو القاسم بن حمدين من اشد المناهضين له، وبالمقابل كان ابن النحوي من المؤيدين للغزالي. غير ان التأثير الحقيقي والفعال للغزالي في المغرب والأندلس يظهر من خلال الفلسفة والفلاسفة (ابن باجة، وابن طفيل وابن رشد) والتصوف (ابن عربي ومدرسته). وظل هذا التأثير قاما وفعالا عبر تناقضاته الخاصة. فابن عربي يورد في كتابه (روح القدس في محاسبة النفس) حادثة طريفة عن احد المتصوفة (ابو عبد الله بن زين اليابري) الذي هو حسب وصف ابن عربي "من افضل الناس، كثير الجد والاجتهاد والتقشف وكان يقرأ النحو بجامع العريس باشبيلية لا يؤبه له غامضا في الناس اعتكف على كتب ابي حامد (الغزالي). قرأ ليلة  تأليف ابي القاسم بن احمد في الرد على ابي حامد فعمي. فسجد لله في حينه وتضّرع، وأقسم انه لا يقرأه ابدا فرّد الله عليه بصره"[14]. تعكس هذه النادرة استمرار الصراع وشدته من معارض ومؤيد للغزالي. وفي الوقت نفسه يمكن العثور في هذه النادرة على صورة الغزالي الاسطورية في الوعي العادي. وهذا بدوره لم يكن معزو عن تأثيره الفكري الكبير على شخصيات دول المرابطين والموحدين في المغرب آنذاك. ولعل الطريفة التي يوردها كل من احمد الناصري في كنابه (الاستقصا لأخبار المغرب الاقصى)، واحمد الونشريسي في (المعيار المعرّب من فتاوي افريقيا والأندلس والمغرب) عن لقاء احد الشيوخ الفاسيين بالغزالي في بغداد بعد حرق (الإحياء)[15]، أي في اعوام 502-503 للهجرة، وتأثر الغزالي ودعوته على دولة المرابطين بالزوال ليس إلا احدى الصور الخيالية الشعبية. اذ لم يكن الغزالي آنذاك في بغداد بل في طوس. اضافة الى ان حالته الفكرية والروحية والأخلاقية والعلمية لا مجال فيها لنفسية الانتقام، بل تتعارض تعارضا تاما مع منظومة الاخلاق الجديدة التي بلورها في (الإحياء) وكتبه اللاحقة.

ومع ذلك، فإن لهذه الظاهرة شذوذها الخاص. فالغزالي يكشف هنا أيضاً عن فرادة أصيلة! لقد جرى الاعتراف النسبي "بنبوته" في وطنه وأحرق في الاماكن البعيدة على عكس ما سيحدث لابن رشد وابن عربي أو للكثير من مفكري تلك المرحلة الكبار: يولدون بالمشرق ليموتوا بالمغرب، أو يهربوا من المركز إلى الأطراف، أو بالعكس، أي تلك الديناميكية التي وحّدها الغزالي في ذهنه وشخصيته مما أكسبها أصالة نادرة وأعطى لمصيرها قوة لن تخمد، رغم خموله الأخير في طوس.

إن الادراك الحقيقي لشخصية وتطورها لم تكن عملية بسيطة بالنسبة لمعاصريه، أي لأولئك الذين امتلكوا قدرة التحليل العلمي الدقيق ورؤية موقعه الفعلي في الثقافة الفكرية آنذاك. فالغزالي بدا في أعين الجميع كما لو انه حركة متموجة، رغم استقامتها الداخلية. وإن الاشارات الأولية ظلت تحمل في ذاتها أجنّة الأحكام القيميية، وفي الوقت نفسه أفصحت عن صعوبة إدراك الظاهرة الغزالية. فالتقييمات الأولية لم تر سوى اعوجاج الغزالي، ولم يكن بإمكانها رؤية وكشف "الاستقامة" وراء حركته المتموجة. وبما أن الوعي التقييمي السائد آنذاك كان يبني تصوراته وأحكامه على أمثلة ملموسة ومستقيمة وواضحة للعيان، يبدأ بها المفكر وينتهي عليها، فقد اضطرته في حالات عديدة إما أن يطوّع الغزالي لثقافته التقيمية، أو أن يرميه خارجها، أو يبحث عن رديف ممكن لها في الثقافة السالفة المصورة لسير الرجال والمفكرين.

فالغزالي يخضع، شأن غيره، لإمكانية المقارنة مع بعض ممثلي الفكر الاسلامي الكبار كالأشعري (ت- 324هـ)، غير أن الأخير سار في مجرى علم الكلام متحولاً من إحدى مدارسه إلى أخرى، مما أوحى في ذهن معاصريه إلى مطابقته مع ظاهرة "التقدم" و"البديل" السنيّ، التي صاغ الفكر السابق بعضاً من مقوماتها الأساسية. اما في الواقع فلا يعني انتقال الغزالي في الحالة المعنية الى مدرسة اخرى ضمن اطار الأشعرية نفسها، سوى احد اشكال تمظهر الاشعرية نفسها في تيار مستقل او متميز آخر.  اضافة لذلك، ان هذه العملية ليست من انتاج الاشعري فقط، بل وأتباعه ومعارضيه في الوقت نفسه. فقد كان الاشعري من حيث الاصل "معتزلي مرتد" او "منحرف". وبالتالي، فهو يتشابه بهذا الصدد مع الشخصيات الكبرى للاعتزال، بمعنى تمايزها فيما بينها بصدد مختلف القضايا. لكن ما يميز الاشعري بهذا الصدد هو خروجه التام عن تقاليد الاعتزال من خلال نفي او معارضة اغلب المفاهيم والأساليب الجوهرية للاعتزال. وقد تحسس هذا الخلاف والابتعاد عن الاعتزال بمعايير الرجوع الى "اهل السنة والجماعة". من هنا رسوخ النظرة الي باعتباره احد اهم اكبر ممثلي اهل السنة والجماعة، على الاقل في مجال الكلام وعقائد الاسلام الكبرى (اصول الدين). ولا يستقيم هذا التقييم مع حقائق الأمور وذلك بسبب تشعب وتنوع واختلاف الفكر والتفكير حول هذه القضية بما في ذلك ضمن تيار "اهل السنّة والجماعة".

أما حياة الغزالي و"تحولاته" الفكرية فقد كانت أقرب إلى ظاهرة صعبة التقولب في كيان ما قائم من المدارس والفرق. وهذا مايفسّر لنا غياب دمجه أو تحليله في كتاب الملل والنحل للشهرستاني (ت-548 هـ)، وفي كتابات الملل والنحل الاسلامية اللاحقة. والاستثناء الوحيد قد يكون كتاب المعتزلي الزيدي ابن الرتضى (ت-840 للهجرة). ففي تحليله ودراسته لفرقة الصفاتية في تيارها الأشعري، يتناول الشهرستاني كل من الاشعري والباقلاني (ت-403هـ) والجويني أستاذ الغزالي، في حين يتجاهل الغزالي كليا. إذ لا يشير إليه بتاتا في كل كتابه الضخم، وهو المتوفى بعد موت الغزالي بثلاث وأربعين سنة. فالشهرستاني لم يترك أية شخصية كبرى دون أن يتطرق لها أو يستعرض آراءها. ولايمكن تفسير غياب الغزالي في تحليلاته لاعتبارات عقائدية أو مذهبية. فعمل الشهرستاني هو دراسة موضوعية للمدارس الفكرية القائمة آنذاك، او اننا نستطيع تفسير أو تأويل ذلك بما يتوافق مع اقرار الشهرستاني المستتر بأشعرية الغزالي أو اتجاهه الصفاتي. بمعنى إدراك خصوصية فكره، التي جعلت من الصعب إدراجه في التقسيمات القائمة آنذاك، أي من الصعب إدراج فكره ضمن إطار الجهاز المفهومي التقويمي القائم آنذاك، أو يكون قد ادرجه في الصوفية، لاسيما وأن الشهرستاني من بين مؤلفي علم الملل والنحل الإسلامي الذين لم يدرجوا الصوفية أو يشيروا إليها في كتاباتهم. ومن الصعب الاجابة عما أضمره الشهرستاني، إلا أن غياب الغزالي في منظومته الفكرية والتصنيفية عن الملل والنحل، يشير إما إلى إدراك خصوصيته الفكرية، واما إلى نظرته إليه كصوفي، ولهذا لم يدرجه بفعل عدم حديثه عن المتصوفة. ففي هذا الجانب يختلف الشهرستاني عن غيره من مؤلفي كتب الملل والنحل الاسلامية بهذا الصدد. فالأشعري يشير مرة واحدة وعابرة الى الصوفية ولكن بدون حكم خاص ايا كان شكله ونوعه، باستثناء ما هو شائع من استعمال كلمة "الغلاة". اذ يشير الى ان بعض منهم ممن يقول بالحلول ينتمون الى اصحاب الغلاة[16]. غير انه لا يشير الى اسم معين. وقد يكون قد قصد بذلك الحلاج، لاسيما وانه كان من معاصريه ومتبعي اخباره ومقتله عام 309 للهجرة. اما البغدادي (ت-429 للهجرة) فمشهور في موقفه المعارض والنقدي الحاد من الحلاج[17]. غير انه يفرد عبارات تتعلق بمصوفة "اهل السنّة". ويقصد بهم "اولئك الذين ابصروا فاقصروا، واختبروا فاعتبروا... وعلموا ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك مسؤول عن الخير والشر...، وجرى كلامهم في طريق العبارة والإشارة على سمت هل الحديث"[18]. وعلى الرغم من عدم تعيين هذا الاتجاه بشخصية ما اوسم محدد، بسبب صعوبة بل استحالة وجود هذا النوع بين المتصوفة، لكنه يدرجهم مع ذلك في آخر درجات ا"هل السنّة والجماعة". اذ يضعهم ما قبل الدرجة الاخيرة، اي بعد كل من المتكلمين والفقهاء واهل الحديث واهل الادب والنحو وأهل القراءات والتفسير. وما بعدهم فقط الجيش والعوام! اما ابن حزم الاندلسي(ت- 456 للهجرة) فقد كان اشد غلوا من البغدادي في موقفه من المتصوفة. اذ نراه يضعهم جميعا في سلة الغلاة الى جانب غيرهم ممن "ليس من اهل الاسلام"[19]. بل نراه يشنّع بالحلاج[20]، ويأبي سسعيد بن ابي الخير[21]. وفي موقف اخر يتكلم عما اسماه "بسنع الشيعة والخوارج والمرجئة والمتصوفة والمعتزلة وشنع لقوم لا تعرف فرقهم"[22]. وبالتالي، فان اغفال الشهرستاني ذكر المتصوفة يمن النظر اليه على انه موقف متعمد له دلالته التصنيفية والمعرفية والقيميية. بمعنى محاولة الخروج من مضيق التقاليد السائد انذاك في معاداة التصوف واتهامه بمختلف صنوف الاتهام.   

وقد كانت الحصيلة الأكثر عمقاً وتجانساً في الوقت نفسه، للنماذج العامة المذكورة أعلاه في مواقفها من تحديد ابداعه الفكري هي الاشارة إلى ظاهرة التناقض فيه. وقد كانت هذه الاشارة وتعمّقها اللاحق قد جرت ضمن تقاليد النقد الفلسفي، التي يمكن الاشارة من بينها إلى ابن طفيل (ت-580 هـ) باعتباره أحد ممثليها الأوائل. ونعثر على هذا النقد الفلسفي عنده في موقفه من كتب الغزالي. وكتب بهذا الصدد يقول:"أما كتب الشيخ أبي حامد الغزالي، فهو بحسب مخاطبته للجمهور يربط في موضع، ويحلّ في آخر، يكّفر بأشياء ثم يتحللها"[23]. وقد نظر إلى كتبه (تهافت الفلاسفة) و(ميزان العمل) كنموذج ممكن لهذه المقارنة النقدية. إلا أن ابن طفيل شدد في الوقت نفسه على عظمة الغزالي في كلماته القائلة: "لاشك عندنا في أن الشيخ أبا حامد، ممن سعد السعادة القصوى ووصل تلك المواصل الشريفة القدسية". أما التناقض الذي يشير له ابن طفيل، فهو ليس تناقض الحقيقة في فكر الغزالي، بقدر ما هو تمظهره  الكلامي ــ العقائدي (الايديولوجي). لهذا ربط هذا التناقض بمفهومي الحل والربط، والمخاطبة للجمهور. بصيغة أخرى، إننا نكتشف هنا بعض عناصر الرؤية النقدية للتناقض المترتب على تأثير فكرة وسلوك الخاصة (النخبة) والعامة (الجمهور) في الفكر. وهذا ما وضعه ابن طفيل بالفعل في استعراضه المختصر لتناقض الغزالي، دون أن يعني ذلك تخلّصه هو منه، أي أننا نقف أمام نفس التقييم، في خطوطه العامة، عند ابن رشد (ت-595هـ)، كما نعثر عليه في (تهافت التهافت) و(فصل المقال).

لا يمكن فهم حقيقة تقييم ابن رشد لشخصية الغزالي وإبداعه الفكري بمعزل عن (تهافت التهافت) والأزمة الاجتماعية السياسية والفكرية التي تعرّض لها بعد مهاجمته من جانب الفقهاء والمتكلمين،  والتي عرضته للمطاردة، أما كتبه فللحرق، كما كان الحال بالنسبة "لغريمه". فابن رشد من بين المفكرين الكبار الذين فهموا الغزالي في وحدة الصراع معه. لهذا نراه يسير معه شوطاً ويحاربه في آخر، متتبعاً حقيقة وأثر الغزالي، ومشاركاً جزئياً مصيره الخاص. وبهذا المعنى، فإن كل منهما يكمّل الآخر، وإن باتجاهات متباينة. ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا يبدأ في (فصل المقال) باستعراض ظاهرة البدعة والموقف منها.

لقد حارب الغزالي في اعماله النظرية الاولى البدعة من الناحية الشكلية، ولكنه أيّدها من حيث الجوهر. لقد استند إلى فكرة الاجتهاد الدائم، وكان ممثلاً صريحاً وعميقاً لها، منطلقاً من أن ما ليس موجوداً لا يحرّم ما سيظهر، أي ذات الفكرة التي سيضعها ابن رشد في مقدمة وجوهر اطروحاته. إذ أن استعراض تطور العلوم الاسلامية بحد ذاته يكشف عن ظهور ما لم يكن في الصدر الأول من تاريخ الاسلام. وإذا كان ذلك واقعاً، فمن العبث أن يعتبر إدخال المقياس العقلي في التحليل والدراسة بدعة على أساس عدم وجوده في السابق. وبهذا المعنى لا يوجد أي خلاف جوهري بين حقيقة آراء الغزالي وبين ابن رشد في هذا المجال.

إن الخلاف يظهر في أسلوب التأسيس للفكرة، والذي ارتبطت به وحددته نسبياً، الأهداف المتباينة لكليهما، والتي أدى إليها موضوعياً استيعاب أهمية ووظيفة هذا التأسيس وتأثيره الممكن في الوعي والوجود الاجتماعي. فعندما ينتقد ابن رشد، على سبيل المثال من يحارب الفلسفة أو بصورة أدق من ينهي عن النظر فيها (وقد مارس والغزالي ذلك ظاهرياً من خلال وضع وصنع أسلوب الامتعاض النفسي تجاه حلولها لقضايا "الميتافيزيقيا الالهية"، فانه استند إلى الفكرة القائلة بأن هذه المحاربة لا معنى لها في حالة اجتماع ذكاء الفطرة والعدالة الشرعية والفضيلة الخلقية في المرء[24]. فالشيء الذي يؤدي إلى إبعاد الخلق عن معرفة الله حق معرفته هو الجهل وليس الشمائل التي جرت الاشارة اليها. من هنا يبدو واضحاً، بأن ابن رشد لم يهاجم الغزالي بحد ذاته أو بصورة مباشرة، بل انتقد التأثير السلبي للغزالي بهذا الصدد، والذي وجد انعكاسه في التأييد المنافق للآراء والمواقف الفقهية المتعصبة ومحدوديتها المعرفية وتحجّره المذهبي.

فقد كان كل من الغزالي وابن رشد يشعران بالقرف من المواقف الفقهية التي تدعي امتلاكها المعيار الوحيد والحاكم للحقيقة. وانعكس موقفهما المشترك في إدراكهما العميق للطابع العابر والجزئي لحقائق الفقه من جهة، وحرية الفكر وعالم الروح غير المتناهي من جهة أخرى. لقد سار ابن رشد هنا أيضاً في خطى الغزالي، إلا أنه يتجاوزه في صريح العبارة ويتباين عنه في نموذج الوعي وتجربة المعرفة. فابن رشد ينظر إلى الضرر المتأتي من دراسة الحكمة لا بسببها كما هي بل كشيء عارض، تماماً كما يؤدي الماء أحياناً وظيفة الموت بالنسبة للعطشان. إلا أن هذا الموت بفعل الماء عارض في حين أن الماء هو المنقذ من حيث جوهره. وعندما يطبّق هذه الفكرة على الفقه والفقهاء فإنه يسير في الواقع في نفس اتجاه الاراء النقدية للغزالي تجاه الفقهاء. إذ كم فقيه، كما يقول ابن رشد، كان الفقه سبباً لقلة ورعه وخوضه في الدنيا، بل ان أكثر الفقهاء يمكن إدراجهم تحت هذا الحكم، رغم أن الفقه يقتضي بجوهره "الفضيلة العملية"[25]. وهذه الصياغة تبدو أقلّ تهاوناً بما لا يقاس مقارنة بما طرحه الغزالي في موقفه من الفقهاء. ولم يكن وصولهما إلى نفس النتيجة مجرد صدفة ظاهرية، أو مجرد انعكاس بسيط لتجربتهما الشخصية، رغم أنهما سببان لا يمكن إغفالهما إذا أخذنا بنظر الاعتبار كونهما كانا فقيهين رفيعي المستوى. إن هذا الحكم حول الفقه والفقهاء، الذي يشير إلى التباين الفعلي شبه المطلق بين "الفضيلة العملية" للفقه وحالة الفقهاء الفعلية، ما هو في الواقع سوى الصيغة الظاهرية للمبدأ الأكثر عمقاً عند كل منهما، بمعنى الاقرار بحرية الفكر وفضيلة المعرفة. وذلك لأن ما يقدمه ابن رشد بهذا الصدد هو مثال من أجل الدفاع عن جوهر الحكمة (الفلسفة)، بوصفها مساع "لمعرفة الله حق معرفته"، أي المعرفة الحقيقية. فقد أدرك ابن رشد حقيقة الغزالي.ولهذا السبب أيضاً جعله علماً من أعلام حرية الفكر. فالغزالي كما يقول ابن رشد "لم يكفّر الفارابي وابن سينا في قضايا قدم العالم ومعرفة الجزئيات وحشر الأجساد. إذ أن الظاهر من قوله في ذلك أنه ليس تكفيرهما إياهما في ذلك قطعاً، إذ قد صرّح في كتاب (التفرقة) ان التكفير بخرق الاجتماع فيه احتمال"[26].

لم يكن هذا الموقف والاستنتاج الذي بلوره ابن رشد محاولة لتدجين الفكر الغزالي من أجل تحييد إرهاب الفقهاء، بقدر ما انه يعبّر عن إدراك عميق لضرورة ردم أساس التحزب المفتعل من جانب الفقهاء لجزيئيات الفكر الغزالي. فقد أزال ابن رشد فكرة التجزئة الذاتية تجاه ابداع الغزالي، وأبرز عوضاً عنها فكرة التحول. ولم يسع هو من وراء ذلك إلى اكتساب شرعية لتفكيره الحر ولا بفعل المعاناة المشتركة التي يمكن أن تؤدي اليها افعال الفقهاء المشترك في إحراق كتبهما، بل استناداً إلى ما هو جوهري في الفكر الغزالي، الذي بنى كامل وجوده على أساس حرية خرق الاجماع مازال هذا الأخير  يحتمل الظن لا اليقين.

لقد وصل كل مهما إلى نفس النتيجة، لكن بطرق متباينة. ولم يكن هذا التباين في الطرق بالنسبة لابن رشد قضية فكرية خالصة ومجردة، بل وكانت تتضمن على ابعاد اجتماعية وسياسية. اذ ادرك ابن رشد طبيعة هذه الابعاد في الخلافات الفكرية والعقائدية، على الاقل في ما يتعلق منها بالمسائل الثلاث التي ادرجها الغزالي في (تهافت الفلاسفة) تحت حكم التكفير. غير ان وقف الغزالي هذا كانت من مواقفه التي لازمت المرحلة الثانية (الكلامية الفلسفية) في تطوره الفكري. وعندما يشدد ابن رشد عل كتاب الغزالي "التفرقة" (التفرقة بين الاسلام والزندقة)، فانه كان يسعى الى ابراز حقيقة الغزالي المتأخر من اجل سحب البساط من تحت ارجل الفقهاء المتحجرين الذين تمسكوا بالغزالي "المجاهد" و"حامي السنّة" لا الغزالي المتسامح و"الهرطقي" "الزنديق"! من هنا يمكن فهم مهاجمة ابن رشد لكتاب (تهافت الفلاسفة) وليس كتاب (الإحياء)، ولماذا وجد في كتاب (فيصل التفرقة) ما يمكن دعوته بحليف المساومة. لقد التقيا في وسط الطريق واختلفا في مساره اللاحق باحثا كل منهما عن الحقيقة بطريقته الخاصة. عموما يمكننا القول، بان ابن رشد قد أدخل الاعتبار الفكري والسياسي في تقييم الغزالي. ولم يعن ذلك توفيقية أو انتقائية الغزالي، كما سيفهم الكثير من دارسيه اللاحقين كلمات ابن رشد عنه "مع الأشعرية أشعري ومع الصوفية صوفي ومع الفلاسفة فيلسوف"[27]، والتي يستكملها بالبيت الشعري، الذي يوحي هو الآخر عن الطابع الانتقائي والانتهازي للغزالي:

يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمـن      وإن لقيت معدياً فعدنان

اما في الواقع فقد عكس ابن رشد في سلبية المظهر ايجابية المضمون، أي الأسلوب ذاته الذي اتبعه الغزالي والكثير من مفكري تلك المرحلة تحت ثقل سلطة الفقه والفقهاء. لقد أدرك ابن رشد وظيفة وحقيقة البرنامج الإصلاحي للغزالي، رغم تباينهما وتعارضهما بصدد الكثير من القضايا. فقد أشار ابن رشد إلى أن التأويلات العديدة المتباينة التي يقدّمها الغزالي، التي تجعله أشعري مع الاشعرية وصوفي مع الصوفية ما هي إلا محاولة "تكثير أهل العلم بذلك"[28]، التي أدت بنظر ابن رشد إلى نتائج معاكسة. وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة استنتاجه، إلا أن ما هو جوهري هنا هو أن التقييم الرشدي بني على أساس إدراك نتائج التجربة الغزالية في مظهرها المتسم "بالمساومة" لا حقيقة الغزالي نفسه. فالغزالي كما نفهم من آراء ابن رشد، لم يسلك هذا السلوك الظاهري إلا لأجل إيجاد أكبر عدد ممكن من المؤيدين، ومن ثم لأجل محاربة الحشوية والمجسّمة والسنيّة المتشددة وإجبارهم على القبول بإمكانية التأويل، مما فسح المجال أمام خرق الاجماع وبالتالي الاقرار بحرية الرأي. بصيغة أخرى لقد أراد ابن رشد الكشف عما لم يفلح به الغزالي في طرحه وحله لعلاقة الغاية بالوسيلة، والأسلوب بالمضمون. وبهذا المعنى فإن الاراء النقدية في (فصل المقال) ضده هي محاولة صنع بديل آخر لحل هذه العلاقة، استمدت اغلب مقوماتها وعناصرها من إعادة النظر بالفلسفة العالمية، ودراسة نجاحات وإخفاقات الفلسفة الإسلامية في استعراضها النقدي عند الغزالي وتجربته الفكرية ككل. لقد حاول ابن رشد مستندا ً في رؤيته التحليلية والنقدية لما وضعه الغزالي، أن يجد مستوى جديد لاستيعاب الصلة بين الحكمة والشريعة (الفلسفة والدين). وهذا ما يبرز بوضوح في التفسير اللاحق، الذي يقدمه لمفهوم ومضمون (إحياء علوم الدين). فهو لم يكتب هذا الكتاب، كما يقول ابن رشد، إلا بفعل الانحراف المتزايد تجاه "العلم النفساني"، أي علم الزهد وعلوم الآخرة، وبالتالي الابتعاد عن "العلم العملي" أو "العلم البدني"، أي الفقه. مما أدى به إلى وضع (إحياء علوم الدين) من أجل ربط الاثنين في كل واحد[29]، أو ما يمكن دعوته الآن بوضع الأساس الفكري لوحدة الأخلاق والسياسة أو المشروع الاصلاحي الشامل.

ويتميز موقف ابن رشد بهذا الصدد وحكمه الضمني على مستويات عديدة. إذ نرى فيه ادراكه الخاص للطابع الاصلاحي في فكر الغزالي ومنظومته الفكرية العامة من خلال ايجاد الصلة او التوليف الممكن بين التصوف والشريعة، كما عمل هو على ايجاد الصلة الممكنة بين الحكمة والشريعة. لكن مع ذلك، ينبغي الحذر من الانسياق وراء ما يضعه ابن رشد في تقييمه لإبداع الغزالي في (الإحياء). وذلك لأن (الإحياء) اكبر وأوسع من مجرد ايجاد الصلة او الربط بين التصوف والشريعة. كما انه من حيث الجوهر، ليس محاولة للربط بين اتجاهين فكريين (نفسي وبدني= التصوف والفقه). بمعنى انه ليس رد فعل تجاه انحراف ما ايا كان نوعه ومستواه، رغم اهمية هذه الاشياء بالنسبة لبواعث الابداع الفكري، لكنه لا يفسر حقيقة ومضمون (إحياء علوم الدين) بوصفه ظاهرة فكرية تاريخية توليفية كبرى. فكتاب (الإحياء) من حيث حوافزه الداخلية هو نتاج تطور الغزالي الفكري التلقائي. وعلى اساس هذه التلقائية فقط يمكن فهم حقيقة ومضمون جوانبه الاخرى. 

غير ان المفارقة التي نواجهها بهذا الصدد تقوم في أن التصورات والأحكام الدقيقة التي يقدمها ابن رشد قد جرى تجزئتها لاحقاً بأخذ الصيغة المجردة العامة المتعلقة بتحديد وتقييم شخصية وإبداع الغزالي، التي توحي بانتقائيته وتلفيقيته، تماماً كما فعل خصوم الفلسفة في اعلاء (التهافت) وإغفال (الإحياء)، أي أننا نكتشف نفس العملية العادية في الصراعات الفكرية، التي تجزئ حقيقة الوحدة بأخذ ما هو مناسب لها لأنها الوسيلة الوحيدة "للفوز" في هذا النوع من الصراع العقائدي، والتي حالما يجري استغلالها وتغلغلها في نسيج الجدل والبحث، فإنها تتحول إلى أسلوب ومصدر الأحكام اللاحقة.

ومع ذلك تجدر الاشارة إلى أن التقييمات لتي تتسم بطابع الاتهام لشخصية وإبداع الغزالي من جانب الفكر والمفكرين لم تكن معزولة عما مارسه هو ذاته قبل مرحلته الصوفية. فالجدل الفكري والخلافات المذهبية بما في ذلك تلك التي خاضها في بداية نشاطه الفكري لم تكن معزولة عن مصالح السلطة وصراعها السياسي والأيديولوجي. ومن الصعب بقاء الحقيقة متسامية بذاتها في أجواء من هذا القبيل دون أن تتمرّغ تحت أقدام السلطان و"تهذّب" تحت شفرة التقليد المذهبي. فالتوجه العام في هذا النوع من الصراع الفكري عادة ما تلازمه مساعي الاتهام والفضيحة، مما يغيّب في حالات عديدة مهمة البحث عن الحقيقة وإبعادها الى ما وراء تخوم معارضتها العندية والمذهبية. وفي الوقت نفسه يجعل من آراء المناهضين خطأ محضاً وضلالاً. فما عمله الغزالي في بداية نشاطه الفكري تجاه معارضيه كان لابد من دفع ثمنه لاحقاً وإن بعد الموت!

فالتقييم الذي صاغه ابن رشد، خيّم على ذهنية الكثيرين من دارسي الغزالي، ومنكسراً في حالات عديدة على موشور التراث الجدلي والمذهبي للمدارس والاتجاهات المختلفة. فالداعي الاسماعيلي المطلق علي بن الوليد(ت- 612هـ) في ردّه الشديد والعميق في كثير من جوانبه كما وضعه في كتابه (دامغ الباطل وحتف المناضل) على كتاب الغزالي (المستظهري أو فضايح الباطنية)، نراه يفرد باباً خاصاً يتضمن شرح "مروق الغزالي من الدين وتلونه في المذاهب"[30]. وفيما لو وضعنا جانباً الانتقادات المذهبية الايديولوجية المنصبّة في إطار الكشف عن مروقه من الدين و"إلحاده"، فإن الغزالي يظهر في تقييمه كشخصية قلقة مفتقدة للثبات المبدئي. فقد نشأ، كما يقول علي بن الوليد، على ملة الإسلام ثم مرق عنها إلى التفلسف قائلاً بنفي الوسائط (من نبي وإمام… الخ) ومعتمداً على العقل، حيث اضطره إلى الهيام "في أودية الانتحالات والانثناء عما يلتزم به من المقالات. ما شاد مقالة من المقالات إلا انثنى فهدمها، ولا أحكم عقيدة من العقائد إلا تعقبها بالنقض بعدما أبرمها. فهو تارة كما قلنا فلسفي وبرهة معتزلي ومدة أشعري وحيناً شبه حشوي[31].

وهنا تجدر الاشارة الى ان الداعي الاسماعيلي المطلق يبني احكامه فيما يسميه بمروق الغزالي والالحاد والطابع الفلسفي لكتاباته تستند الى كتاب (النكت والعيون) المنسوب للغزالي. مع ان هذا الكتاب من الكتب النحولة، اي ليس من ضمن قائمة كتب الغزالي الصحيحة. وبالتالي، تعكس هذه الظاهرة طبيعة الجدل الفكري وما يلازمه احيانا من الوقوع في اخطاء جسيمة من هذا القبيل. ومفارقة هذه الظاهرة تقوم في ان كتاب (النكت والعيون) الذي يورد الداعي الاسماعيلي بعض فقراته تقترب في بعض جوانبها من الفلسفة الاسماعيلية. اما اتهام الغزالي بالتفلسف باعتباره "خطيئة" فهو امر غريب لحد ما بالنسبة للتقاليد الاسماعيلية التي اكثر من ابدع في هذا المجال. ذلك يعني ان هموم علي بن الوليد هنا خاضعة لاظهار عيوب الغزالي. وهنا تختلف الغاية واسلوبها في نقد الغزالي مقارنة بابن رشد، رغم انهما كلاهما يستندا في الاغلب الى المادة الحية التي لازمت ابداع الغزالي وفكره. وهذه بدورها كانت جزء من تقاليد المرحلة من جهة، وعنصرا ملازما للجدل الفكري المميز للفكر الديني المذهبي من جهة أخرى. إاذ يمكننا رؤية ذلك على مواقف الكثير من الفرق الإسلامية والتيارات المذهبية والعقائدية. واغلب مواقفهاى واحكامها لا يتصف بالطابع العلمي المجرد،ة كما ان الكثير منها ينظر الى بعض جوانب الفكر الغزالي من زاوية الرؤية العقائدية ومبادئها او قواعدها السائدة. ويمكن اتخاذ ما كتبه ابن المرتضى (الزيدي المعتزلي) نموذجا لذلك. فهو من بين الكتاب الموضوعيين والممحصين للفكر والافكار، لكننا نراه يعتبر الغزالي جبريا. وهو حكم حدده في الاغلب اثر الصراع المعتزلي الاشعري اكثر مما حدده الموقف العلمي الدقيق من فكر الغزالي. اذ نراه يدرج الغزالي عنوة فيما اسماه بفرقة المجبرة الاشعرية الى جانب الباقلاني والجويني وابن الخطيب الرازي[32]. 

 إننا نقف هنا أمام تقييم مذهبي فكري يرتقي الى مصاف "الأخذ بالثأر" لما اقترفه بحق الباطنية (الإسماعيلية) في كتبه العديدة وخصوصاً (المستظهري أو فضايح الباطنية). والأغلب أنه لم يكن حصيلة التقييم الذي تركه ابن رشد في هذا الصدد. فتقييم الداعي الاسماعيلي المطلق ذو مضمون ووظيفة أخرى. لقد سعى علي ابن الوليد إلى كشف ما أسماه  بالتقلّب والتغير غير المبدئي في فكر الغزالي وأفعاله، وبالتالي غياب الحقيقة في آرائه. بمعنى أن أحكام وآراء الغزالي ما هي في نهاية المطاف سوى "ادلجة" المصلحة حسب العرض والطلب من جانب السلطة. وقد أصاب الداعي الاسماعيلي جزئياً في انتقاداته وأحكامه تماماً كما أصاب الغزالي جزئياً في انتقاده للباطنية. فكلاهما تشاطرا وتقاسما الخطأ التاريخي لثقافة الاتهام الفكري المذهبي العقائدي. غير أن الدقة الجزئية والنسبية للأحكام القييمية من جانب الداعي الاسماعيلي تنطبق على بعض نتاج الغزالي للمرحلة الأولى في مساره الفكري.

إن تقييم الغزالي كمفكر متقلب متغير قلق وما شابه ذلك، لم ينحصر في إطار الاتجاهات التي سبق وأن حاول هو نفسه دحضها ومهاجمتها فيما سبق، بل وعند بعض الاتجاهات الصوفية التي اعتبر نفسه أحد ممثليها. وهي ظاهرة لها شذوذها النسبي في تقاليد النقد الصوفي. فالفيلسوف الصوفي الكبير ابن سبعين (ت- 669هـ) صوّر الغزالي في كتابه (بد العارف) بالعبارة التالية: "لسان دون بيان وصوت دون كلام، وتخليط يجمع الأضداد، وحيرة تقطع الأكباد. مرة صوفي، وأخرى فيلسوف، وثالثة أشعري، ورابعة فقيه، وخامسة محيّر. وإدراكه في العلوم القديمة أضعف من خيط العنكبوت، وفي التصوف كذلك، لأنه دخل الطريق بالاضطرار الذي دعاه لذلك من عدم الإدراك[33]. بينما نراه في احدى رسائله يشير إلى ما أسماه "باضطراب الغزالي في رسائله"[34]. واستند هذا الحكم الصارم من جهة إلى موقف ابن سبعين المعارض لعناصر "اللاهوت السلبي"، الذي وجد في آراء الغزالي الكلامية تأييداً لها، ومن جهة أخرى إلى استيعاب جديد لآراء ابن رشد وابن عربي (ت- 638هـ) في موقفهما من الغزالي. ولعل الاستثناء الوحيد الذي وجد في هذا التنوع و"التقلب" في آرائه ايجابية كبرى، هو ابن خلدون. فقد أشار إلى ما أسماه بمأثرة الغزالي في تطوير الفقه من خلال استعماله وتطويره الفقه الاستدلالي[35]. أما في علم الكلام، ففيما أدخله في الرد على الفلاسفة وجهازهم المفهومي[36]، وبجمعه (تآلفه) بين التصوف الخالص والسنّة، أو بجمعه بين طريقة القشيري (ت-465 للهجرة) والسهروردي (ت- 632 للهجرة)، أي أنه حوّل التصوف، كما يقول ابن خلدون، من عبادة إلى علم[37].

وفيما بعد ستتحول ظاهرة "الاضطراب" و"التقلب" و"التحول" في شخصية الغزالي وإبداعه الفكري من "رذيلة" الى "فضيلة". آنذاك تحصل ظاهرة التعدد على صفة الايجابية، بوصفها حالة وظاهرة وشخصية موسوعية كبرى. ولم يعد متقلباً بين الفرق ومضطرباً ومتحرياً في وديان الأفكار بل الفقيه الشافعي وحامي السنّة وقامع الفلاسفة والمتصوف السنّي. حيث أخذ الاعتراف بها يسري خفياً بين أغلب الأوساط الفكرية والمذهبية، بما في ذلك الحنبلية والفقهاء المتشددين أمثال القاضي عياض (ت- 544 للهجرة)، الذي وصفه "بذي الأنباء الشنيعة والتصانيف العظيمة"، وابن الجوزي الذي اعتبر أطروحته في "الإحياء" وكتبه الصوفية الاخرى تركاً لقانون الفقه، في حين ردد سبط ابن الجوزي (ت- 654 للهجرة) ما قاله ابن الجوزي، أما القرطبي (ت- 671 للهجرة (فوصفه بشناعة أضاليله وأساطيره المباينة للدين، في حين اقترب ابن تيمية (ت- 728 للهجرة) من  آراء ابن الصلاح، أي ترك كتبه والكفّ عن الحكم عليه وتفويض أمره إلى الله! إلا أن ذلك لم يقف حائلاً دون انتقاده في (نقض المنطق) وغيرها من الكتب.

من كل ما سبق تبدو بوضح الصورة المعقدة والشائكة لشخصية الغزالي وإبداعها الفكري وتطورها الروحي في تقييمات المعاصرين له والتابعين. ومن الممكن النظر إلى كل ما قيل من أحكام عامة وخاصة تجاه مختلف جوانبه الأساسية، باعتبارها شكلاً من أشكال تأثيره في الفكر اللاحق. إذ لولاه لأصبح من غير المتوقع ذلك الاهتمام البالغ به. إلا أن هذا الاهتمام والتقييم المستمرين لا يعكسان موضوعياً، إلا الجانب التقييمي والنقدي وليس طبيعة واستمرار تأثيره اللاحق.

والمهمة الآن لا تقوم في تتبع هذه الظاهرة، إذ أنها تشكل بحد ذاتها مادة مستقلة، قد لا يكون الغزالي على الدوام مسئولا عنها بصورة مباشرة، أي أنها المادة والموضوع والقضايا المرتبطة باستمرار الفكر. فتطور الشخصية الفكرية هو إبداع وجودها الملموس، بينما تأثيرها هو اضمحلال وسريان عناصر منظومتها الفكرية في تاريخ الثقافة. والصورة القاتمة أحياناً والمضيئة أحياناً أخرى عنه هي في الغالب من "وعي روح العصر" ومستوى التطور الثقافي، ومستوى الاستمرار والانقطاع تجاه الارث الثقافي، وبالتالي حدود استيعاب الإبداع الفكري للماضي في حالة عدم الرجوع إليه ضمن محيطه الفعلي وخصوصية المرحلة.(يتبع....)

 

ا. د. ميثم الجنابي

.............................

[1] من بين الذين تناولوا حياة الغزالي الشخصية والفكرية وتقييم بعض جوانبها، أو تحليلها الجزئي، او محاولة فهمها كما هي او فهمها العام هم كل من عبد الغافر الفارسي (ت- 529 للهجرة) في كتابه (السياق لتاريخ نيسابور)، والقاضي ابو بكر بن العربي (ت- 543 للهجرة) في كتابه (القواصم والعواصم)، وابن عساكر (ت-571 للهجرة) في كتابه (تاريخ دمشق)، واين الجوزي (ت-597 للهجرة) في كتابه (المنتظم)، وياقوت الحموي (ت-626 للهجرة) في كتابه (عجم البلدان)، وسبط ابن الجوزي(ت-654 للهجرة) في كتابه(مرآة الزمان)، ومحي الدين النووي(ت-676 للهجرة) في كتابه (الطبقات)، وابن خلكان (ت-681 للهجرة) في كتابه (وفيات الاعيان)، والذهبي (ت-748 للهجرة) في كتابه (اعلام النبلاء)، واليافعي (ت-768 للهجرة) في كتابه (مرآة الجنان)، وتاج الدين السبكي(ت-771 للهجرة) في كتابه (طبقات الشافعية الكبرى)، وابن كثير (ت-774 للهجرة) في كتابه (البداية والنهاية)، ومحمد الواسطي(ت- 776 للهجرة) في كتابه (الطبقات العلية في مناقب الشافعية)، وابن الملقن(ت-790 للهجرة) في كتابه (العقد المذهّب في طبقات حماة المذهب)، وابن قاضي شهبة(ت- 851 للهجرة) في كتابه ( طبقات الشافعية)، والعيني (ت-855 للهجرة) في كتابه (عقد الجان)، وجامي (ت-898 للهجرة) في كتابه (نفحات الأنس)، وطاش كبرى زاده (ت-963 للهجرة) في كتابه (مفتاح السعادة ومصباح السيادة)، وصلاح الدين الصفدي (ت-964 للهجرة) في كتابه (الوافي بالوفيات)، والمناوي(ت-1031 للهجرة) في كتابه (الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية)، والعيدروس باعلوي (ت-1038 للهجرة) في كتابه (تعريف الأحياء بفضائل الإحياء)، والزبيدي (ت-1205 للهجرة) في كتابه (اتحاف السادة المتقين في شرح أسرار إحياء علوم الدين). 

[2]  شكلت اغلب مؤلفات الغزالي مادة وموضوعا للشروح والاختصار والعليق وكتابة الحواشي والردود. من هنا اختلاف قيمتها بالنسبة لفهم شخصية الغزالي وحقيقته وابداعه الفكري. ولم يكن ذلك نتاج او حصيلة الاساليب المتنوعة في الموقف من كتاباته. ومن ثم تباين مستوى نوعية وقيمة ما كتب عنه. والمعيار الاساسي هنا لا يقوم فيما اذا كانت هذه الكتب محكومة بالتأييد أو المعارضة، كما لا يمكن تقييم افضلي نوع على اخر، على سبيل المثال اعتبار الاختصار اردأ من الشروح أو بالعكس. وذلك لأنها جميعها تمثل انماط مختلفة لثقافة لعصر والتقاليد الإسلامية من جهة، وكونها تتمثل مراحل او سلسلة المعارف وتوسعها وتعمقها حول القضايا التي تناولها الغزالي، او تلك التي جرى البحث عن جوانبها الغامضة والقابلة للتأويل في مؤلفاته من جهة اخرى. من هنا اختلاف هذه الكتب، بمعنى انها ليست على نسق واحد بسبب اختلاف مراحل الكتابة عنه وتنوع الانتماء المدرسي والعقائدي لمن كتب عنه في وقت لاحق. ومن هنا ايضا تباين محتواها ووظيفتها. فمنها ما لاقيمة علمي له، وبالأخص تلك التي تتعلق باختصار مؤلفاته، لكنها ذات وظيفة معرفية معقولة. بينما كان البعض الاخر منها يسير ضمن تقاليد الجدل الفكري والعقائدي والعلمي والفلسفي، وبالأخص في ميادين الفقه والكلام والفلسفة. بينما اهتم الاخر بقضايا الحديث من صحيح ومنحول. ومع ذلك كانت الحصيلة العامة لما كتب عنه تقوم في تسليطها الضوء على مختلف جوانب حياته وشخصه ومؤلفاته وآراءه وأهميتها جميعا بالنسبة للثقافة الاسلامية ككل.

فقد ساهم في شرح مؤلفاته الفقهية (كالوسيط والوجيز والمستصفى) كل من أسعد العجلي(ت-600 للهجرة)، وابن الصلاح(ت-642 للهجرة)، وعبد الكريم القزويني (ت-623 للهجرة)، وحمزة التنوخي (ت-727 للهجرة) وغيرهم. 

في حين ساهم في اختصارها كل من احمد الاشبيلي(ت-651 للهجرة)، ومحي الدين النوي(ت-676 للهجرة)، وابن الملقن (ت-790 للهجرة)، وابن حجر العسقلاني(ت-852 للهجرة).

بينما رد عليه كل من ابن ابي الدم (ت-624 للهجرة)، ومحمد الكردري(ت-642 للهجرة)، وعبد العزيز الديريني(ت-751 للهجرة)، ونجم الدين الاصفهاني(ت-751 للهجرة)، ومحمد الزركشي(ت-794 للهجرة). وشهاب الدين المكي(ت-972 للهجرة).

اما كتبه الكلامية ذات الصلة بقضايا الإمامة والسياسة وخصوصا كتبه المتعلقة بالرد على الاسماعيلية والتشيع (كالمستظهري او فضائح الباطنية)،فيمكن العثور عليها في عدد كبير من الكتابات الشيعية بشكل عام والإسماعيلية بشكل خاص، كما هو الحال عند حميد المحلي (ت-653 للهجرة)، ومحمد بن الحسن الديلمي(ت-711 للهجرة). اما الردود المعارضة للغزالي فتجدر الاشارة الى كنابات الداعي المطلق علي بن الوليد (ت-612 للهجرة).

وضمن هذا السياق تعرضت مؤلفاته الكلامية والفلسفية كما هو الحال بالنسبة لكتاب (تهافت الفلاسفة) و(الاقتصاد في الاعتقاد). وإذا كان كتاب النهافت الاكثر "حظا" في اثارة الشروح والردود، فلان ذلك مرتبط بخصوصيته الفكرية ومنهجه وموضوعاته المثيرة للجدل. ولعل رد ابن رشد (ت-595 للهجرة) عليه في "تهافت التهافت" من بين اكثرها اثارة وشهرة. ولم تخمد جذوة الردود عليه والتعليق والذب عنه على مدار قرون لاحقة، كما هو الحال في الجدل الذي دار حوله بين مصطفى البرموني(ت-893 للهجرة) وعلاء الدين الطوسي(ت-887 للهجرة). إلا أن الشروح والتعليق والردود الاوسع كانت من نصيب كتابه الاكبر (احياء علوم الدين). فقد اختصره كل من احمد الغزالي (ت-520 للهجرة)، وابن الجوزي(ت-597 للهجرة)، ومحمد العجلوني(ت-820 للهجرة) وكثير غيرهم.بينما شرحه عدد كبير من علماء الاسلام واشهرهم بهذا الصدد الزبيدي (ت-1205 للهجرة). في حين رد عليه بصورة مباشرة وغير مباشرة كل من ابن الجوزي ومحد المازري (ت- 536 للهجرة)، وأحمد السكندري(ت-683 للهجرة). اما الكتابات التي تناولت بالتدقيق والتحقيق والنقد موقف واستعماله للاحاديث النبوية فقد انقسمت فيما بينها بين مؤيد ومعارض. فاولئك الذين شككوا بمعرفته بالحديث كان هدفهم في الاغلب هو اثبات خروجه على اهل السنّة والجماعة او للبرهنة على انه خضع في اواخر حياته لتقليد المتصوفة دون وعي وتمحيص لمواقفهم من الحديث. بل وسعى البعض للكشف عن انحرافه في قضايا الفقه والفقه وقوانينه بشكل عام. وقد كانت نتيجة هذه المواقف احراق كتبه وبالأخص كتاب (الإحياء) في المغرب. اما من دافع عنه فقد رد على كل هذه الاتهامات والشبهات ومن ثم ابراز قيمته وشخصيته باعتباره "حجة الإسلام" و"حامي السنّة" وما شابه ذلك. بل ان بعضهم وجد في اهتمامه البير في اواخر حياته دليلا قاطعا على رجوعه التام لاهل السنة والجماعة. اننا نعثر في هذه المواقف المتعارضة والمتضادة على حالة الصراع الفكري والعقائدي آنذاك، لكنها في الوقت نفسه تشير الى موقعه الهام في الثقافة الإسلامية ككل، كما انها تكشف الكثير من جوانب شخصيته وفكره، أي مدى تأثره واستعماله للحديث والقرآن ونوعية التأثير الخاص للتصوف في مساره الفكري ونمط تفكيره اواخر حياته، وقضايا الظاهر والباطن. ومن بين الشخصيات المهمة التي تناولت هذه الجوانب تجدر الاشارة الى كل من ابن الجوزي، وتاج الدين السبكي(ت-771 للهجرة)، وابن الملّقن، وزين الدين العراقي(ت-806 للهجرة) وابن حجر العسقلاني.

إن الحصيلة العامة لكل ما كتب عنه فيما مضى تقوم في ابراز مأثرته الفكرية ودراسة مختلف جوانب حياته وإبداعه النظري. ففيها نعثر على كمية ونوعية القضايا التي مازالت باقية التأثير والأهمية في الابحاث والدراسات والمؤلفات الكبيرة المعاصرة. الامر الذي يعطي للأبحاث القديمة قيمتها العلمية والثقافية ايضا. وهذا بدوره مؤشر على وجوده الفعال في هموم الفكر النظري المعاصر ايضا. ففي الدراسات القديمة نعثر على نوعية الشعور والحدس الملازم لاحتكاكها المباشر به بوصفه احد اقطابها ومصادرها النظرية والروحية. لكنها تفتقد في الوقت نفسه الى ادوات البحث العلمي الحديث وكمية التراكم المعرفي بتراث الغزالي نفسه. ومع ذلك يمكننا الجزم، بان لكل مرحلة اكتشافاتها الخاصة للحقائق وفهمها الخاص للأحداث والوقائع. ومن ثم تحتوي على نجاح وإخفاق متنوع. لكنها تشكل في نهاية المطاف احدى المقدمات الجوهرية والضرورية لتوسيع وتعمق البحث العلمي النقدي التحليلي، ومن ثم تأسيس وترسيخ عناصر ومبادئ البحث الحقيقي عن الحقيقة.  

 [3] ابن عساكر: تاريخ دمشق

[4] ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والامم، ج9، ص169،

[5] الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 17، ص535، ج18، ص187، 619، ج19، ص403، ج20، ص32.

[6] تاج الدين السبكي: طبقات الشافعية الكبرى، القاهرة، 1906، ج4، ص106.

[7] المصدر السابق، ج4، ص131.

[8] المصدر السابق، ج4، ص102.

[9] المصدر السابق، ج4، ص105.

[10] هو علي بن أحمد بن محمد بن علي، أبو الحسن الواحدي النيسابوري. والإشارة تجري هنا الى تفاسيره الثلاثة:(البسيط)، و(الوسيط)، و(الوجيز)، التي اخذ الغزالي عناوينها وجعل منها عناوين تصانيفه في الفقه. طاش كبرى زاده: مفتاح السعادة ومصباح السيادة، حيدرآباد، ج2، ص202.

[11] صلاح الدين الصفدي: الوافي بالوفيات، اسطنبول، 1931، نشر ريتر، ج1، ص276.

[12] الذهبي: سيرة أعلام النبلاء.

[13] المصدر السابق.

[14] ابن عربي: روح القدس في محاسبة النفس، ص82.

[15] يورد الشيخ محمد المنتصر الكتاني هذه الحكاية في مداخلته عن الغزالي تحت عنوان (الغزالي والمغرب) في كتاب (ابو حامد الغزالي في اذكري المئوية التاسعة لميلاده، القاهرة، 1962، ص701-715).

[16] الأشعري: كتاب مقالات الاسلاميين، ص13.

[17] عبد القاهر البغدادي: كتاب الفرق بين الفرق، ص197-199.

[18] المصدر السابق، ص242

[19] ابن حزم: كتاب الفصل بين الملل والنحل، ج2، ص112.

[20] المصدر السابق، ج2، ص114.

[21] المصدر السابق، ج4، ص188.

[22]  لمصدر السابق، ج4، ص226-227.

[23] ابن طفيل: حي بن يقظان، مصر، مطبعة واديالنيل، 1299 للهجرة، ص6.

[24] ابن رشد: فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الإتصال، الجزائر، (استنادا الى طبعة ليدن بتحقيق، ج. حوراني، 1977،ص11.

[25]  المصدر السابق، ص11-12.

[26] المصدر السابق، ص17.

[27] ابن رشد: فصل المقال، ص27-28.

[28] المصدر السابق، ص27.

[29] المصدر السابق، ص29-30.

[30] علي بن الوليد: دامغ الباطل وحتف المناضل، بيروت، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، تحقيق مصطفى غالب، 1982، ج1، ص33.

[31] المصدر السابق، ج1، ص33-34. 

[32] احمد بن يحيى ابن المرتضى: كتاب القلائد في تصحيح العقائد، بيروت، دار الشروق، 1985، ص59). 

[33] ابن سبعين: بد العارف

[34] ابن سبعين: الرسالة الفقيرية، ضمن (رسائل ابن سبعين)، القاهرة، الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1965، ص14.

[35] ابن خلدون: المقدمة، دار الفكر، ص361.

[36] المصدر السابق، ص370.

[37] المصدر السابق، ص372. وهنا تجدر الإشارة إلى أن كل ما نعثر عليه،وبالأخص في الدراسات الحديثة عن ربط الغزالي للتصوف بالسنّة هو من نتاج التقييم والفكرة التي وضعها ابن خلدون. وعموما هي فكرة ليست دقيقة وتجافي معنى وحقيقة التصوف بما في ذلك تصوف الغزالي.

 

 

في المثقف اليوم