دراسات وبحوث

معيار الاستقلال الفكري للغزالي (1-2)

ميثم الجنابي"خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به

في طالع الشمس ما يغنيك عن زحل" 

إن تقييم التجربة الذاتية للغزالي في (المنقذ من الضلال) أقرب ما تكون إلى تعميم تجربة استقلال الفكر في بحثه الدائم عن الحقيقة. وقد أشار الغزالي بوضوح إلى أنه سار بين جميع الفرق مترفعاً عن التقليد. غير أن آراءه هذه لا تعني رفضه أو نفيه التام لتراث الأسلاف، رغم تضمنه الجزئي لهذا الموقف. فقد كان الغزالي يعي ضرورة الوحدة المرنة بين الحقيقة والتاريخ. وحتى حالما ستتراءى له في يوم ما، بعد مرضه وأزمته النفسية والأخلاقية والفكرية، بصورة "القذف النوراني الإلهي"، فإن الأخير لا يمكن فهم حقيقته إلا ضمن إطار واقعية التقاليد الاجتماعية والنفسية والصوفية وأزمة الوعي العقلاني، التي خاض غمارها بقوة  بحيث أدت به في إحدى درجاتها إلى هاوية الشك تجاه حقائق المعرفة كما هي. وبالتالي لا يمكن توقع هذه الأزمة خارج إطار مساعيه الفكرية العقلانية، التي أخضع كل ما في الوجود إلى مبضع العقل الباحث في كل يقين عن يقين لكي يبلغ، كما تقول الصوفية، حق اليقين وعين اليقين.

فالغزالي كما يقول في (المنقذ) "لم يبحث عن سر الصوفي بل وعن جرأة الزنديق"[1]. وفي كل هذه العملية لم يدع بلوغ الحقيقة. وذلك لإدراكه القائل، بأن ادعاء امتلاك وناصيتها هو تضييق فعلي لما اسماه بالرحمة الإلهية تجاه الخلق. بينما يستلزم ذلك مساعي البحث الدائم عنها في كل ما هو موجود. من هنا تشديده على أنه ليس في الوجود علاج للمرض المطلق بل لمرض معين[2]. ولم تعن هذه الفكرة في آرائه سوى ضرورة البحث الدائم والحر عن الحقائق، أي بمعزل عن اثر وتأثير التقليد والهيبة المعنوية لأي كان، بل وبالضد منهما. ومن الممكن الاشارة هنا إلى تلك النصيحة التي قدمها في (ايها الولد) لسائله عندما طالبه بالاستفادة من ممارسة الخضر وموسى ونصيحة الأول للثاني، التي نظر إليها بوصفها نصيحة الخضر للنبي محمد على لسان موسى وبالتالي إمكانية تحولها إلى نصيحة لأي كان. بمعنى الدعوة للسير الشخصي من أجل معرفة ما لم يعرف استنادا الى معنى الاية القرآنية: "سيروا في الأرض وانظروا". تلك الممارسة التي جسدت الصوفية أحد تجلياتها الرفيعة بمفهوم بذل الروح. إذ لا معنى ولا قيمة للحقائق دون بذل الروح، تماماً كما قال أحد المتصوفة الكبار "إن قدرت على بذل الروح فتعال، وإلا فلا تشتغل بترهات الصوفية".

إن هذا الاستنتاج العام هو حصيلة تطور طويل، شكلت الاستقلالية الفكرية مقدمته وأساس تطوره وأحكامه اللاحقة. فقد حقق الغزالي في ذاته وإبداعه الفكري وحدة التطور الفكري الروحي لمرحلته في سعيه نحو الاستقلال الفكري. وشأن جميع المفكرين العظام لم يكن هو نفسه إلا نتاج مرحلته وظروفها ومقدماتها المتراكمة في كافة الميادين، التي جعلت منه حصيلتها الطبيعية وحامل استمرارها الفعلي. إذ من الصعب، بل من المستحيل فهم وتقدير عمق وقيمة تآلفه الفكري خارج إطار هذه الظروف والمقدمات. ومما هو جدير بالاهتمام هنا هو أن قضية التآلف الفكري ليست حصيلة إدراكنا المعاصر وفهمنا الجديد للغزالي، بقدر ما كانت هي نتاج وعيه الخاص. وإذا كان من الصعب رؤية الطابع الخاص والمستقل لتآلفه الفكري بفعل ثقل الجهاز التقييمي الذي بلورته تقاليد الملل والنحل الإسلامية ووطأة الصراعات الفكرية السابقة[3]، والتي مازالت تخيم على أغلب البحاثة المعاصرين، فإن ذلك لا يعكس إلا محدودية التصورات عنه لا حقيقته كما هو. ونحن لا نسعى من وراء ذلك إلى القول، بأن الغزالي أعلى مما في تقييمات منتقديه وأوطأ من إطراء مداحيه. فقد جمع هو في كل واحد ما بدا غاية في التعقيد. أما إلى أية درجة أفلح فذلك جزء من أحكام الماضي، أما الحاضر فليس أمامه سوى مهمة وعي ذاته في ضوء ما أبدعه الماضي ليرى ما هو جوهري فيه بوصفه عنصر وعيه الدائم. وأن استقلال الغزالي الفكري وسعيه صوب وحدة الحقيقة والإصلاح تمثل تياراً خالد الشعلة.

فالاستقلال الفكري مشروط دوما بواقعه التاريخي. وإذا كان التصنيف الإسلامي السابق والذي أثر على شخصية الغزالي وتحديده وكذلك بلورة مواقفه من التيارات الفكرية وانتمائه الشخصي لبعض منها، فانه قد ساهم أيضاً في إدراجه عنوة في فرقة الأشعرية والشافعية وغيرهما. وهذا بدوره كان احد نتائج المرحلة ونوعية صراع المدارس والمذاهب والفرق وتكلّسها الذاتي، كما هو جلي في محاولة كل منها إضفاء "الصفة الشرعية" على ما فيها من أجل كسب الأتباع الجدد وإبراز قوة المذهب. غير أن هذه التسميات رغم صحة بعض عناصرها، تظل ناقصة في استيعاب الحقيقة التاريخية للشخصيات الكبرى، خصوصاً عندما ترتقي إلى مصاف الاجتهاد الفعلي. آنذاك يكف الانتماء المذهبي عن أن يضغط على ذهنية المفكر ويصبح الانتماء العقائدي مجرد وسيلة الاستقلال الفعلي، أي أنه لا يفعل إلا على تأكيد استقلالية المفكر عن الآخرين. وبهذا المعنى يفسح المجال أمام التطور الذاتي المستقل حتى ضمن إطار المنظومة الفكرية التي اعتنقها وانتمى اليها. ولكن هل ظل الغزالي أسير قناعة ما محددة، أو تيار ما محدد أو مذهب ما معين، أم انه أوسع من أن تحويه أي من التيارات السابقة؟ وقبل الاجابة عن ذلك يجدر القول، بان ذلك لا يعني أن أكثر الشخصيات قيمة هي تلك التي لا تخضع لتحديد صارم. ومن مفارقات هذه الظاهرة، ان تصبح "هلامية" الشخصية بمعايير التقييم التقليدية وصعوبة حدّها وتحديدها ذات قيمة في استثارة السعي نحوها تماماً كما هو حال السراب بالنسبة للعطشان. غير أن الغزالي بالخلاف عن ذلك هو من أولئك الذين يكشفون مع كل تطور تاريخي وازدياد معرفي عن أنهم معلمون ذو شأن كبير.

إن الغزالي أوسع وأعمق من كل تلك الأحكام القديمة المؤيدة له. ولعل المفارقة التاريخية والعلمية تقوم في أن من أدرك أو ما يمكننا أن نستشفه من أحكام دقيقة عن الكثير من جوانب شخصيته واستقلاله وسعيه لإبداع تآلفه الفكري، هم اولئك الذين صبوا جام غضبهم عليه بالنقد والتجريح. فقد أكد ابن تيمية (ت- 728 للهجرة) على سبيل المثال، ما اسماه بشخصية الغزالي المضطربة لأن "عنده من الذكاء والطلب ما يتشوق به إلى طريقة خاصة الخلق"[4]. وهي ذات الفكرة التي سبق للذهبي وأن عبّر عنها بما دعاه بدخول "سيلان ذهنه مضايق الكلام ومزال الأقدام. وليس هذا سوى الطريق الخاصة". كل ما في الأمر، أن أحدهما عبّر عنه بدقة كلامية تحليلية والآخر بروح التشفي العقائدي للخيال المذهبي.

لقد أكد الغزالي على أن من غاية الحمق أن يجمع المرء بين الاقتداء وبين التقدّم، أي لا يمكن الجمع بين متضادين في آن واحد. إذ التقليد والاستقلال نماذج ومناهج متضادة. تماماً كما لا معنى لأن تصلي وراء الإمام وترفع رأسك قبله! وإذا كانت هذه الفكرة البسيطة صحيحة في معيار وإطار العبادات الدينية، فإنها كاملة الانطباق على شخصية الغزالي. بمعنى إذا كان لا يسمح للتقليد والاستقلال أن يجتمعا في أبسط ممارساتها فمن العبث أن يمارسها هو في ميدان الفكر. وإذا كان الغزالي يرفض التقليد فليس ذلك إلا نتاج وعيه الخاص باستقلاليته الفكرية، التي هي بدورها حصيلة تطوره الفردي.

ومن الصعب أن نحصر استقلاليته في مجال ما محدد. وإن أفضل تجل لها هو إبداعه الفكري ككل. وقد أشار هو في (الإحياء) إلى أن ما يحاول أن يؤسس له هو إعادة النظر بالمكونات الاساسية للمنظومات الفكرية السابقة وبالتالي فان ما يميز عمله الجديد أو ما يمكن دعوته بـبديله الشامل هو استخلاصه المنظومي الجديد. ذلك يعني انه كان يدرك مضمون وأهمية ما يطرحه ويميزه عن الآخرين في استيعاب الظواهر الفكرية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية وحلولها في مختلف الميادين وعلى كافة المستويات. فهو يشير في بداية (الإحياء) إلى أن ما يميز كتابه عن المؤلفات الأخرى ذات الصلة بالموضوع هو "حلّ ما عقّدوه وكشف ما أجملوه، ترتيب ما بددوه ونظم ما فرّقوه، إيجاز ما طوّلوه وضبط ما قرروه، حذف ما كرروه وإثبات ما حرروه وتحقيق أمور غامضة اعتاصت على الافهام لم يتعرض لها في الكتب أصلاً"[5]. إننا نقف هنا أمام محاولة ربط شكل ومحتوى المنظومة الفكرية الجديدة، التي تحوّل فيها التصوف إلى العنصر العملي لمنظومة الاخلاق المطلقة، أو العمود الفقري (الروحي العلمي) للفكرة الأخلاقية؛ والكلام إلى أيديولوجية التعامل مع قضايا العقائد في وعي العوام ومتطلبات ومستلزمات الوجود الاجتماعي الاقتصادي والسياسي، والفلسفة إلى منهج التحليل.

وقد تكلم الغزالي هنا أساساً عن التجربة الصوفية ومستويات التعبير عنها، بوصفه اسلوب ادراك الحقائق بصورة جزئية وذاتية كما وضعها في (الاحياء) بعبارة تقول: "إذ الكل وإن تواردوا على منهج واحد، فلا مستنكر أن يتفرّد كل واحد من السالكين بالتنبه لأمر يخصه ويغفل عنه رفقاؤه"[6]. لقد سعى الغزالي هنا الى أن يدمج في صرحه النظري فردانية الوعي والممارسة الصوفية، ومن ثم تحويلهما إلى جزء جوهري في الثقافة المعرفية الأخلاقية العامة لعصره، بمعنى أنه حاول إزالة "الاغتراب المعرفي" المحترف تجاه تيارات الفكر الكبرى القائمة آنذاك. ولم يتجاهل حتى أبسط تجلياتها وأشكالها، أو تلك التي تبدو حالياً كما لو أنها من "سذاجة العصر". لقد استند في محاولته النظرية هذه إلى إعادة تقييم التجربة التاريخية الفكرية للاتجاهات التي خاض غمارها.

وبغض النظر عن أن بديله الجديد يبدو في ظاهريته استمرارا لما مضى، فإنه في الواقع تهذيب شامل ومضموني للتراث الإسلامي ككل. فهو يقدم على سبيل المثال، لكل فصل من فصول (الإحياء) الآيات والأحاديث والآثار، التي لا ينبغي النظر إليها كما لو انها مجرد تعبير  عادي عن الانتماء الاسلامي والأسلاف، أو كتعبير عن الذهنية التقليدية وما شابه ذلك من أحكام  ظاهرية وعامة. انها تمثل في بالنسبة له تعبيرا عن محاولة استشفاف التجربة التاريخية الواقعية والخطابية السائدة آنذاك. إنها تقدم مواد ومؤشرات استنباط الفكرة الجديدة. فتقييم التجربة بما في ذلك المؤدلجة (والحديث النبوي الذي يستعمله الغزالي هو في الأغلب من الموضوع المؤدلج) لم يكن ذا وظيفة ايديولوجية في منظومته الفكرية. إنه يدمجها في مؤلفاته ويحللها بطريقة تجعلها توابع لفكرته الأساسية. وهذا ما يفسّر سبب الهجوم الشديد اللاحق ضد "شناعته" في استعمال الأحاديث النبوية والآثار.انه يدرج مختلف الافكار في منظومته أيا كان مصدرها، مازالت هي قادرة على التعبير الظاهري عن فكرته الجوهرية. فالجمع والحشر الكبير للأقاويل المتعددة المصادر حول قضية ما من القضايا تؤدي إلى توسيع المخيلة وشحذ دقة المقارنة وإيجاد الصلة المشتركة، التي ميزت فكر الغزالي. فعندما يتكلم عن التجربة التاريخية المتباينة لمختلف الشخصيات الإسلامية وغير الإسلامية، التي عادة ما يبدأها بالتراث النبوي المحمدي مروراً بالصحابة والتابعين والحكماء، فإنه يصنف لنا بصورة واعية تطور الأفكار والأحكام بصدد القضية المطروحة. فعندما يتكلم عن "فضيلة الصمت"، فإن الممارسة العملية لشخصيات الثقافة الإسلامية والسياسية والفكرية (وليست الاسلامية فقط) تقدم مادة "نظرية" هائلة بالنسبة له. فأبو بكر، على سبيل المثال، كان يضع حصاة في فمه يمنع بها نفسه عن الكلام، وابن مسعود كان يقول"ما شيء أحوج إلى طول سجن من اللسان"، وطاووس كان يردد "لساني سبع إن أرسلته أكلني"، بينما كان الحسن البصري يقول "ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه"، أما الأحنف بن قيس، فأجاب في مجلس معاوية بن أبي سفيان على استفسار الأخير له عن سبب صمته: "أخشى الله إن كذبت وأخشاك إن صدقت"[7]. إن كل هذه المادة تعطي له إمكانية التحليل العقلاني والأخلاقي لفضيلة الصمت، أي أنه يستند إلى التجربة الأخلاقية والسياسية والفكرية ليعمّق حقيقة فضيلتها. وينطبق هذا بدوره على كافة القضايا التي يناقشها. فعندما يتناول آفة الغضب، فإنه يؤكد على أن القرآن نظر إلى الغضب باعتباره من حمية الجاهلية. بينما بلورت "آثار" الثقافة اللاحقة استنتاجات عديدة، تؤكد على أن أقدر وقت لهلاك المرء في حالة  غضبه، وأن الغضب هو مفتاح الشر، وأنه يصيّر المرء إلى ذلّة الاعتذار.  إنها التجربة التي تولّد نقيضها: فضيلة الحلم. فالمرء لا يثبت عقله عند الغضب، تماماً كما لا تثبت روح  الحيّ في التنانير المسجّرة. أما الحلم فهو العلم الأعظم. وبالتالي لا معنى ولا قيمة للعلم بدون تزيينه بالحلم. إذ هو دعامة العقل. ولا يمكن للمرء أن يبلغ مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله. بل ان الحلم أرفع من العقل لأن الله تسمى به. فعندما قال رجل لعمر بن عبد العزيز: اشهد أنك من الفاسقين! أجابه: لن نقبل شهادتك!

إننا نقف أمام لوحة عريضة يقدمها حول مختلف القضايا والتي تتحول فيها المادة المعروضة إلى جزء من أسلوب التحليل الضروري، بفعل تضمنها عناصر ومكونات الأحكام اللاحقة، أي تضمّنها وحدة الحكم الاخلاقي العقلاني والتجربة التاريخية الثقافية، التي عادة ما يعبّر عنها في بدايات تحليله بعبارة "إن كشف الغطاء عن الحقيقة أولى من نقل الأقاويل المختلفة".

وقد حدد ذلك بدوره أهمية وقيمة الفكرة بحد ذاتها، وبالتالي إمكانية دمجها في منظومته الفكرية. ولا يمكن عزل ذلك عن الاستقلالية الفكرية، التي تنزع بفعل متطلبات عالمها الروحي وإدراكها الفعلي  للنظر الى الأفكار باعتبارها هويات مستقلة. الامر الذي يجعل من النظر الى الحقائق وقبولها بغض النظر عن حاملها وقائلها، تماماً كما لا يغير طبيعة العسل وجوده في إناء الحجّام. آنذاك تصبح كافة الانجازات الحقيقية للوعي والمعرفة الانسانيتين مقبولة بحد ذاتها. مما يؤدي بدوره إلى صياغة المبدأ الدقيق في التعامل الفكري مع الحقائق من خلال تغييب ثقلها التاريخي والعقائدي. وقد تعامل مع هذه الحالة وطبقها بدرجة فائقة من الجرأة والحذر. إذ نراه يرفع من شأن إظهار أهمية الفكرة بحد ذاتها فوق كل العوارض العقائدية والمذهبية، لينقلها بالتالي إلى مستوى المبدأ النظري. وليس مصادفة أن يكرر في أماكن عديدة من مؤلفاته عبارة انه "لا معنى للاشتغال بالأسامي، فإن المصطلحات مختلفة، وأن الضعيف يطلب المعاني من الألفاظ وهو عكس الواجب"[8]. وليست هذه الصيغة في منظومته الفكرية سوى وسيلة وإمكانية الاستعمال المتعمد بما في ذلك للأحاديث المنكرة والموضوعة والأقوال "الشنيعة" للمتصوفة، بل والمناقضة من حيث مظهرها الخارجي للشريعة، وللمنطق والعقل (من حيث لفظه)، إلا أنه يصهرها في منظومته للدرجة التي تتخذ فيها هذه الأقوال والأحاديث طابع العنصر العقلاني المكمّل، أي يحوّلها إلى جزء من الفكرة المنظومة. فالحديث القائل مثلاً، بأن "الله يتجلى للناس عامة ولأبي بكر خاصة "يتحول إلى جزء أو مثال لتوضيح فكرة التباين في معرفة الله وإدراكه، أو بصورة أدق إلى جزء من فكرة مستوى ولذة المشاهدة. ولهذا علّق على هذا الحديث قائلاً "لا ينبغي أن يظن أن غير أبي بكر ممن هو دونه يجد من لذة النظر والمشاهدة ما يجده أبو بكر"[9].

فالغزالي يفسره ضمن إطار تصوراته عن المشاهدة والرؤية المرتبطتين بمستوى وعمق المعرفة. إنه يحوّل شخصية أبو بكر إلى صورة ومثال لشرح الفكرة لا مثال مطلق لتجليها. وينطبق هذا بدوره على الصيغ الظاهرية العديدة والأخبار والأحاديث النبوية، التي لا تشكل بحد ذاتها بالنسبة له أهمية جوهرية قائمة بنفسها. والاستثناء الوحيد هنا للآيات القرآنية، التي بدورها تصبح جزء من الفكرة لا مصدرها، ودليلاً "ايجابياً" عليها، ومثالاً للكشف لا وسيلة لليقين. فالغزالي شأن أساتذته القدماء كالباقلاني يدرك أن أهمية القرآن "النظرية" هي أهمية "إسلامية"، بمعنى أنه لا يشكل مادة برهانية بالنسبة لغير معتنقيه، أي أن القرآن لا يشكل بحد ذاته مادة برهانية  بذاتها. ويمثّل في هذا المجال ما سبق للتقاليد الكلامية إن صاغته في موقفها من التفسير والتأويل العقلانيين. غير أنه يدخلها في عالم الصوفية، الذي تصبح  الكلمة فيه وتتحول إلى تعبير ومقياس للحقيقة، بعد أن تمتلئ بمشاهدة التجربة الصوفية وتذوقها الخاص. لهذا السبب يمكن أن نفهم سر تلك الأعداد الهائلة من الأحاديث التي اعتبرتها التحقيقات الإسلامية من أصناف المنكر، والضعيف، والذي لا أصل له، وما شابه ذلك[10]، أي كل ما أعطى لمنتقديه لاحقاً فرصة اتهامه بالكذب والتذبذب. أما في الواقع فلا كذب ولا ذبذبة ولا زندقة ولا إيمان فيما يطرحه. إنها مجرد جزء من الرؤية "الباطنية" أو الذوقية للصوفي، التي تصبح فيها الكلمة رمزاً للمعرفة المتعمّقة لا المعرفة ذاتها. وقد صرّح الغزالي في أكثر من موضع وبالأخص حالما ميّز بين درجات وأتباع المعتقدات إلى أن الدرجة الأعلى لها (أرباب البصائر) هم "أولئك الذين نظروا إلى أنفسهم ثم إلى سائر أنواع المخلوقات فتأملوها فرأوا على كل منها خطاً منطبعاً ليس بعربي ولا سرياني ولا عبراني ولا غير ذلك"[11].  وليس مصادفة أن يورد الغزالي هذه اللغات الثلاث. لقد أراد الكشف بصورة غير مباشرة عن لا أهمية النص بحد ذاته العربي (القرآن)، السرياني (الانجيل) والعبراني (التوراة). فعندما يستشهد الغزالي على سبيل المثال بالحديث المنسوب للنبي محمد عن رأيه بما يقال من أن عيسى مشى على الماء، قائلا "لو ازداد يقيناً لمشى على الهواء[12]. والغزالي يدرك فيما يبدو إلى أية درجة يمكن أن تصفع عبارة من هذا النوع الضمير الإسلامي الورع والوعي الارثوذوكسي النصراني، بل وتناقضها مع مفاهيمه ذاتها عن النبوة التي لا تستلزم زيادة اليقين، إذ أنها ذاتها التجلي الأمثل لليقين المطلق. إلا أنها تصبح ضمن آراء الغزالي مثالا مقبولا لتوضيح فكرة الازدياد في ايضاح اليقين، أي يصوغها بروح التقاليد الصوفية، التي أعجبتها أيّما إعجاب في رمزيتها عبارة عامر بن عبد قيس القائل: "لو كشف لي الغطاء لما ازددت يقيناً". مما جعل الغزالي يشدد على ضرورة فهم ما يقوله باعتباره رموزاً وإشارات[13].

إن الجوهري فيما يقوله الغزالي هنا هو إظهار الفكرة لا الاستعارة والاستشهاد بالأقوال. وليس ذلك في الواقع سوى أسلوب تحطيم الأطر العادية في الوعي والتعامل مع المادة المطروحة بالشكل الذي تعطي فيه للفكر والتفكر حرية التعامل مع مادته وبالتالي إبراز هوية الفكر المستقلة. غير أن هذه الممارسة مرتبطة، كما سنرى لاحقاً، بخصوصية المعرفة الصوفية وموقف الصوفي من موضوع ومادة معرفته. أما أسسها الشخصية بالنسبة للغزالي، فقد سبق وأن تبلورت في مجرى صراعه السابق، أي في مجرى تلك العملية الطويلة من الصيرورة الفكرية التي ثقّفت عنده مرونة التعامل مع المنظومات الأخرى. وليس بالإمكان فهم حقيقة هذه المرونة وتبلورها دون رؤية عناصر التحليل الواقعي والمنطقي عنده، أي النظر إلى الظواهر في ترابطها وحركتها وتعدد جوانبها وتأثيرها المتبادل وطابعها التاريخي الملموس. مما حدد بدوره موقفه من ضرورة التعامل الملموس مع القضايا وأهمية الأحكام والتقييمات النسبية، ومن ثم فسح المجال لرؤية الواقع في ظل احتفاظ الفكرة المجردة المبدئية بأهميتها المستقلة. فالغزالي لم يرفض التحديد الصارم للمفاهيم، بل وقف بالضد من اضفاء الصيغة المطلقة عليها. لقد كان يطبق الفكرة المجردة ويضعها في الوقت نفسه ضمن سياق طابعها الملموس والنسبي. الامر الذي اعطى لآرائه طابعاً راديكالياً في امكانية توظيفها الاجتماعي والسياسي. فعندما يتكلم على سبيل المثال، عن الحب والبغض في الله، فإنه يدرك الوحدة في التناقض، ولكنه يربط أقطاب التناقض في الموقف العملي. فمن أحب بسبب، كما يقول الغزالي، فبالضرورة يبغض لضده. وهو كما يكتب "طرفان متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر"[14]. والغزالي يدرك في الوقت نفسه صعوبة المقابلة العملية في الموقف من اختلاط المتناقضات، أي في حالة امتلاك الظاهرة اقطاب التناقض وطابع المتناقضات نفسها، مثل اختلاط الطاعات بالمعاصي. لكنه يكشف في مواقفه هذه عن أن التسامح في الأحكام يتطابق مع تعدد جوانب الظاهرة  نفسها. فهو لا يرفض، على سبيل المثال، الشخصية ككل بفعل أقطاب الظاهرة المتناقضة ولا يتقبلها كلياً كما هي. فالمحبة والبغض يمكنهما أن يكونا في آن واحد وتجاه شخصية واحدة، مثل أن نحب ونبغض في الآن ذاته الزوجة الحسناء  والفاجرة، والولد الذكي الخدوم والفاسق… الخ.

وقد حدد تعامله الملموس مع الظواهر في تجلياتها ومستوياتها المتباينة نظرته إلى الوظيفة الواقعية، ولكن بعد تقييمه لصيغتها المجردة. فهو يربط على الدوام بين الصيغة المجردة والواقعية،و الشكل والمضمون، والوظيفة والغاية للظاهرة، وبالتالي تحديد قيمتها النسبية والمطلقة. وعمّق هذا النزوع الواقعي استقلالية الأحكام الغزالية تجاه مختلف القضايا المعروضة للدرس والنقاش، وبالتالي حدد التوجّه العام في منظومته الفكرية المناهض للنظريات والنظرات الأحادية الجانب تجاه مختلف القضايا. فعندما يناقش قضية العزلة والمخالطة، فإنه يتكلم في آن واحد عما يدعوه بفوائد وغوائل العزلة، وفوائد وغوائل المخالطة، أي أنه يرفض الحكم المطلق بصدد أفضلية كل منهما بصورة مجردة. لهذا نراه يحذر من التسرع في الأحكام، إذ أن "كل مفّصل فإطلاق القول فيه بلا أو نعم خلف من القول محض، ولا حق في المفّصل إلا التفصيل"[15]، أي ضرورة الملموس في المطلق، والحقيقة الملموسة، لا الأحكام العامة، الشكلية والوحيدة الجانب أياً كان مضمونها، بل التفصيل الملموس بعد دراسة مختلف جوانب الظاهرة المعنية. لكن ذلك لا يعني رفض التعميم بحد ذاته، بقدر ما انه سعى للتوكيد  على أن كل تعميم ينبغي أن يكون ملموساً، وكل ملموس ينبغي أن يستند إلى فكرة معممة. فهي الصيغة التي يمكنها أن تشكل المعيار الوحيد الحق، الذي يمكن تطبيقه على كافة القضايا والأخلاقية منها بالأخص.

ومع ذلك فإن أحكامه المستقلة، هي ذاتها نتاج لمنهجيته القائمة في تتبع ودراسة الظواهر الواقعية وتأثيرها المتبادل، وطابعها الملموس ووظيفتها الفعلية من حيث ارتباطها بالنشاط الاجتماعي للإنسان وتقييمها الأخلاقي. وقد حدد ذلك بدوره تباين مستويات وتجلي هذه الظواهر ، ومن ثم تباين مستويات ونوعية الأحكام عنها. فعندما يتطرق لقضية العزلة فإنه لا يتطرق إليها من وجهة نظر أهميتها في "المعراج" الصوفي وسلوك السائرين فحسب، بل ويكشف عن مستويات تجليها وأهميتها في ميادين السياسة والأخلاق والمعرفة. وفي كل ذلك ينظر إلى حركتها وطابع هذه الحركة السلبي منه والإيجابي، بمعنى نظريته الى الصيرورة الدائمة التي تعطي للمبادئ العامة مضامينها المتغيرة. مما يجعل من منظومته في استقلالها الفكري، ظاهرة بارعة للوعي التحليلي. لهذا رفع الحذر من إطلاق الأحكام التقييمية قبل أو دون رؤية الأسباب الواقعية للظاهرة وبواعثها وترابطها الى مصاف الضرورة. فهو يؤكد على أنه إذا "عرفنا فوائد العزلة وغوائلها تحققت أن الحكم عليها مطلقاً بالتفضيل نفياً وإثباتاً خطأ"[16]، بل ينبغي أن ينظر المرء إلى الشخص وحاله ،وإلى الخليط وحاله، وإلى الباعث على مخالطته، وإلى الفائت بسبب مخالطته... ويقاس الفائت بالحاصل فعند ذلك يتبين ويتضح الأفضل"[17]. وفي الوقت نفسه حارب الغزالي امكانية تغلغل السفسطة في هذا النوع من المواقف والتحليل.

فتاريخ الغزالي كله منذ بداياته الأولى، هو تاريخ الصراع ضد السفسطة. مما أعطى لمرونته الفكرية مضموناً اجتماعيا وأخلاقياً يتصف بالتجانس المبدئي في أطروحاته. فعندما يتكلم على سبيل المثال، عن "بدعة" الوقوف للشخصية كتعبير عن الاحترام والإجلال، فهو يقدم من جهة مثال العرب والصحابة، الذين لم يتقيدوا ويعرفوا تقليد القيام للشخص أياً كان بما في ذلك للنبي محمد، إلا أنه يعتبر القيام في البلاد التي جرت العادة فيها بإكرام الداخل بالقيام مما لا بأس به. وطبّق اسلوبه هذا على مختلف القضايا الفكرية التي أثارت في وقتها جدلاً بين المفكرين والفقهاء والمتصوفة، مثل قضية الغناء والرقص وغيرها من القضايا. ومن الممكن النظر إلى موقفه من علاقة النسبي والمطلق في الظاهرات كأحد التجليات الملموسة لمرونته الفكرية. ومن المناسب ههنا الإشارة إلى موقفه من نسبية الظاهرة ومضمونها الأخلاقي، أي طابعها الشرطي. فإعطاء رغيف لسائل هي طاعة مستحسنة، ولكن إعطاء ملك من الملوك رغيفاً أو رغيفين لسائل منكر عند الناس. وبقدر ما ينطبق هذا على المسائل العادية والتافهة، فإنه يمكن أن يكون مثالاً للقيم الأكثر شأواً فيسموها. من هنا تمسكه وتطويره للفكرة الصوفية الأخلاقية القائلة بأن مباحات العوام سيئات الأبرار، وحسنات الأبرار سيئات المقرّبين، أي النسبي في المطلق، دون أن يفقد الأخير أهميته كمثال شامل.

ذلك كله يذلل الاتهامات والأحكام الضيقة التي وجهت للغزالي عما يسمى بانتقائيته الفكرية. فالغزالي لم يكن أسيراً للانتماء المذهبي أيا كان مشربه. لقد كان هدفه وغايته الحقيقة. فهو يضع على سبيل المثال، جالينوس والحكماء (الفلاسفة) في مصاف أئمة الاسلام[18]، أي أنه لا يأبه بموقع ومكانة وانتماء الشخصية الفكرية في العرف والتقليد العاديين، مقارنة بقرب أو بعد الشخصية المعنية عن الحقيقة. لقد رفض الغزالي المرونة والمساومة اللامبدئية. ومن الممكن القول، بأن آراءه لا تتميز بالانتقائية المبدئية، بل بمبدئية الانتقاء. فعندما يناقش فكرة الحب والبغض في الله فإنه يقدم أولاً كمثال فكرة أبي ذر الغفاري (ت-32 للهجرة) القائلة "إذا انقلب أخوك عما كان عليه، فابغضه من حيث أحببته". ثم يقارنها بما ورد في "الاسرائيليات" من قصة ذهاب أحد الأخوين العابدين، اللذين كانا يسكنان الجبل إلى السوق لشراء اللحم، وكيف عشق إحدى النساء ومن ثم مكوثه في المدينة، بفعل شعوره بالخجل أمام نفسه، مما حدا به إلى البقاء وعدم الرجوع. وقد حدا ذلك بالعابد الآخر إلى تفقده، وبعد العثور عليه، أنكر الأول معرفته به بفعل خجلته مما فعله، مما دفع بالثاني بعد معرفة بواعث الانكار إلى أن يحبّه ويعزّه أكثر مما سبق. وعلّق الغزالي على ذلك قائلاً "هذه طريقة قوم وهي ألطف وأفقه من طريقة أبي ذر"! لكنه وجد في الوقت نفسه في طريقة أبي ذر الأحسن والأسلم[19]. فالطريقة الأولى ألطف لأنها تتضمن الرفقة والاستمالة والتعطّف الذي يصنع إمكانية الرجوع والتوبة، وأفقه من حيث أن الأخوّة عقد نزل منزلة القرابة فإذا انعقدت تأكد الحق ووجب الوفاء[20].

ان الغزالي يذلل هنا الحدود التقليدية (الشكلية) للفقه، الذي شدد على أن الحكم إذا ثبت بعلّة فالقياس أن يزول بزوالها، لينقله إلى ميدان الفقه الأكبر، أي الموقف الأخلاقي من الإنسان باعتباره كياناً قابلاً للإصلاح، ومهمة التعامل معه على أساس السمو الاخلاقي والروحي. فهي العملية التي يمكن أن يجري من خلالها تطويره الروحي الدائم، لأن ممارسة كهذه تصنع الحياء عند دوام الصحبة على عكس المقاطعة فهي لا تصنع سوى الاصرار الأعمى. غير أن طريقة أبي ذر أحسن وأسلم لأنها لا تترك الأمر سائباً، أي أن الغزالي يربط في كل واحد، وعلى أساس أخلاقي نفسي، ما سبق للشافعي (ت- 204 للهجرة) ان قاله بأنه لا ينبغي للمرء أن يكون حماراً أو شيطاناً، إن استغضب فلم يغضب وإن استرضى فلم يرضَ. ويقدّم الغزالي أمثلة كثيرة عن نزعته المبدئية في انتقاء الحقيقة ضمن سياقها الملموس ونسبيتها وقيمتها الاجتماعية الأخلاقية، بعد دراسة معمّقة لحدّها وحقيقتها.

من الممكن القول، بأن الوحدة الداخلية لآرائه وترابطها، ترتقي إلى مصاف الضرورة المنطقية. وهذا ما سأتناوله لاحقاً حالما أتطرق الى مختلف جوانب منظومته التآلفية، وذلك لأن المهمة الحالية تقوم في استعراض وتحليل مواقفه الاجتماعية السياسية والأخلاقية، والطابع المرن لآرائه ومواقفه الفكرية العملية، أي كل ما يساهم في إبراز واستيعاب وتحديد استقلاليته الفكرية، وبالتالي دحض الأسس الوهمية لوصمه بالانتقائية. على العكس! فقد حارب الغزالي  دوما الانتقائية الفكرية من خلال مواقفه البديلة وليس عبر مواجهتها المباشرة. فهي المواقف التي تتسامى على مختلف نماذج التشنج المذهبي. فعندما يتكلم على سبيل المثال، عن المواقف المتباينة تجاه "أهل المعاصي"، فإنه لا يستند إلى فكرة المعصية واللامعصية، رغم أنه يحددهما حالما يتكلم عنهما باعتبارهما مفاهيم مجردة. ، بل ينطلق من تطبيق أفكاره بصورة غير مباشرة، أي أنه لا يحكم على الفكرة بالرجال، بل على الرجال بالفكرة. ولم يضع مفاهيمه ومواقفه هذه ضمن صيغة مجردة وشكلية فارغة، بل من خلال جعلها قضية أخلاقية عملية. ومن هنا ذوبان الحكم المباشر في تتبع المشاهدة التاريخية وتجارب الاسلاف لا بوصفها مثالا مطلق وملزم للجميع، بل بوصفها مظاهر مختلفة لاستيعاب الفكرة المجردة ذاتها. وفي الوقت نفسه شدد على انه لا يمكن لأية فكرة وسلوك ان تكون حكما مطلقا او استنفاذا تاما للفكرة المجردة. فأحمد بن حنبل (ت-241 للهجرة) كان على سبيل المثال، شديد الانكار "لأهل المعاصي" واختار المهاجرة (المقاطعة) في مواقفه من يحيى بن معين لقوله "اني لا أسأل أحداً شيئاً ولو حمل الشيطان إلي شيئاً لأخذته"، ومن الحارث المحاسبي (ت-234 للهجرة) لأنه كان في تصانيفه في الرد على المعتزلة يورد أولاً آرائهم ثم يرد عليها، مما يحمل الناس على التفكّر فيها[21]، ومن أبي ثور (ت- 240 للهجرة) تجاه تأويله الحديث "إن الله خلق آدم على صورته". في حين نظر آخرون البهم بعين الرحمة. والغزالي يأخذ بالاتجاهين. فتجربته الحياتية وتطوره الفكري هو تجل ملموس لذلك. إلا أنه لم يفهم ويمارس المقاطعة (الهجر) في إظهار الجفاء الصامت والحسي والمباشر، بل من خلال الدفاع عن الفكرة والقناعة الشخصية، كما هو جلي في كل كتاباته السابقة (للإحياء)، بما في ذلك هجومه العنيف ضد مخالفيه. وهو لم يتفاد الاقرار "بعين الرحمة" والتمسك بها عملياً، بالقدر الذي يسمح به صراع الأفكار. فقد أكد في آخر كتاباته الكلامية ما قبل (الإحياء) على أن "المجادلة والمعاندة داء محض لا دواء له، فليتحرّز منه جهده وليترك الحقد والضغينة ولينظر إلى كافة خلق الله بعين الرحمة"[22]. وهي ذات الفكرة، التي سيعمّقها لاحقا في (الإحياء) وغيره من المؤلفات. بمعنى محاولة ربط الاتجاهين انطلاقا من الحقيقة وتجلياتها النسبية ووظيفتها العملية وليس من خلال الانتقاء العندي. وقد ظل الغزالي متمسكاً بفكرة النظر بعين الرحمة تجاه الجميع، ولكنه سيدرك أيضاً إمكانية احتواءها على المداهنة. إذ أن أكثر بواعث الاغضاء عن المعاصي، هي "المداهنة ومراعاة القلوب والخوف"[23]. فالمرونة الفكرية لا تعني بالنسبة له سوى النفي الفعلي للمداهنة، مما يؤدي بدوره إلى فسح المجال أمام حرية الفكر والممارسة.

فالتجربة السلفية تكشف عن أن ممارسة البغض والهجر والإعراض لا تدخل في "ظاهر العلم تحت التكليف والإيجاب"، أي أن المواقف الشخصية لا يمكنها ولا ينبغي لها أن تتطابق مع القانون الرسمي (الشريعة). وإذا كانت هذه النظرة تتضمن بعض "التنازلات" ضمن الاطار العام لمواقفه من وحدة الدين والدنيا، فإنها تبدو مقبولة ضمن إطار تصوراته وأحكامه عن العقل والشرع في صياغتهما ومضمونهما الصوفيين، باعتبارهما العلاقة الأعمق والأشمل، والأكثر تجريداً لعلاقة الدين والدنيا.

فما يسمى "بالرقائق الدينية"، أي المواقف المتباينة في نظر وممارسات الأوائل تجاه "مرتكبي المعاصي" كانت موزّعة بين الرفض والمقاطعة واللامبالاة الظاهرية والنظر بعين الرحمة. وعندما يتقبل الغزالي هذه المواقف جميعاً ضمن سياقها التاريخي،فإن ذلك لا يعني انتقاءه العندي لها، بقدر ما يعبر عن حرية اتخاذ الموقف الذي استند، كما سنرى، إلى المضامين الجديدة في نظراته تجاه الوجود ومعنى الحياة، وموقف الانسان من الحق (المطلق).

وقد تعدت حرية المواقف عند الغزالي مجال الحقوق الفقهية. وإذا كان من الصعب حد حرية القناعة الشخصية (الباطنية) في ميدان الفكر، فإن الغزالي حاول ابرازها من خلال تحطيم حواجز الفقه التي حاولت ان تبني نتائج التجارب السياسية والمصالح الاقتصادية على أسس منطقية. لقد ابقى الغزالي على هذه الابعاد المنطقية لكنه حاول اخضاعها إلى تقييم أخلاقي يناسبها. ومن الممكن رؤية ذلك في مواقفه وتقييمه للمؤسسات الرسمية (الحكومية) ومهماتها الاقتصادية والسياسية. غير أن إبداعه الأكبر هنا يقوم في تعميق ما اسماه بالفقه الأكبر، أي عالم الروح الأخلاقي والمعرفي. ففي الوقت الذي ابقى فيه على فكرة الحقوق ووظيفتها الاجتماعية والسياسية، فانه حاول تذليل قوتها القمعية وضغوطها "الشرعية" على عالم الإنسان الروحي، من خلال ازالة "قدسية" الفقه في التعامل مع عالم الروح والفكر. ولم يتطرق الغزالي الى هذه المسألة بوصفها قضية مجردة، بل حاول شأن المتصوفة الكبار ممارستها بصورة فردية وشخصية. ولعل في موقفه من السلطة احد نماذجها الملموسة، حيث نراه يجد في الابتعاد عنها المقدمة الضرورية لحرية الفكر والتفكير. لكن ذلك لا يعني عنده تطابق أو تشابه مناهضة السلطة مع الخمول والوداعة الشخصية! على العكس! لقد كانت تلك مجرد الصيغة المتسامية للموقف من الوسائط. وسوف ينظر الغزالي في وقت لاحق إلى كل العلاقات الاجتماعية والسياسية ومؤسساتها، بما فيها السلطة، باعتبارها وسائط في وحدة الوجود، أي لا تمتلك بحد ذاتها قيمة مطلقة، وان القيمة المطلقة لا توجد إلا في المنطق، كما  لا يمثل المطلق في الوجود سوى الروح الاخلاقي المعرفي، أي المدرك لذاته كجزء من الكلّ

ذلك يعني، إن آراء الغزالي هذه لم تكن معزولة من حيث صيرورتها عن تجربته الشخصية وقناعاته بقيم التجربة الفردية باعتبارها وسيلة وأسلوب بلوغ الحقيقة. لقد حاول الكشف عن ضرورة الصلة الداخلية القائمة فيما بين الحقيقة الموضوعية ومستوى إدراكها في التجربة الفردية. فلا حقيقة ولا معرفة موضوعية دون استقلال النفس في مداركها. وما عدا ذلك مجرد تقليد إيماني ساذج. غير أن الغزالي لم يسع هنا للقول بمركزية الإنسان في التعامل مع الوجود.  إنه سعى إلى تأسيس التناسق والتجانس الوجودي المعرفي الأخلاقي للإنسان، مما أعطى بدوره للمعرفة العلمية في تجربتها الفردية قيمة هائلة.

ان الغزالي لم يحوّل التجربة الفردية إلى معيار مطلق للحكم على الحقيقة، لكنها يمكن أن تكون وسيلة بلوغ الحكم المطلق. فعندما ينتقد الأفكار المتضادة في مواقفها مما يسمى بتذليل الغضب والشهوة، فإنه يكتب قائلاً "وقد جرّبنا  ذلك بطول المجاهدة وعرفنا أن ذلك من مقتضى المزاج والطبع. فإنه قط لا ينقطع عن الآدمي. فانشغاله به تضييع زمان بغير فائدة"[24]، أي أنه ينتقد منهج التطرف الفكري بجميع اشكاله المتضادة من طبيعية سائبة وإرادة متطرفة. فالأولى ترفض إمكانية تغيير الأخلاق والثانية تفصل الأخلاق عن أرضها المادية (البيولوجية والاجتماعية). مما يجعل من كلتا الفكرتين في نهاية المطاف، مكملتين إحداهما للأخرى في سلسلة تشويش إدراك الحقيقة. وقد حددت هذه المواقف استنتاجه القائل بواحدية الحقيقة. وليس ذلك من حيث الجوهر سوى الاقرار بالطابع الموضوعي للحقيقة. وبالتالي لا انتقائية ولا تبريرية ولا سلفية ولا لاعقلانية، بل وحدة السعي المستقل في بحثه عن الحقيقة.

وسوف نرى في وقت لاحق، بأن منظومته الفكرية لا تتقبل من حيث الجوهر عناصر التبرير. فتطوره الفكري هو نموذج لمعاداة التبرير. وإذا كان الغزالي قد سبق وإن مارسه في البداية، وبالاخص في بعض مواقفه من قضايا الكلام والسياسة، فإنه يكون قد صنع في الوقت نفسه عناصر تفتيتها الداخلية من خلال تعميق قوة العقل الجدلية والشك المعرفي. وهذا ما نلمسه بوضوح في (تهافت الفلاسفة) و(المستظهري). وبالتالي ساهم التبرير الجزئي، أو بصورة أدق الأدلجة المحترفة في تعميق الأزمة النفسية الأخلاقية التي وجد في ضرورة تذليلها الكلي أسلوب بلوغ الحقيقة. وينطبق هذا بدوره على ما يدعى أحياناً في الدراسات المعاصرة "بأرثوذوكسية" الغزالي. بينما الأرثوذوكسية فكراً وممارسة لا تحتمل إمكانية تطبيقها الشكلي على الاسلام. وفي حالة "أسلمتها"، أي فهمها ضمن إطار الثقافة واللاهوت الإسلاميين، فإن مثالها المناسب للمقارنة هو السلفية الصارمة والحشوية المتطرفة. إضافة لذلك إن للسلفية مظاهرها ومضامينها المتباينة. فإذا كان المقصود بها التقليد الأعمى للسلف فذلك ما يتعارض بصورة كلية مع آراء الغزالي. وإذا كان المقصود بها الأخذ بالتجربة السلفية فذلك مرتبط بطبيعة استيعابها من قبل المفكر. إذ أن مضمون هذا الاستيعاب يحدده كل من ظروف المرحلة والمهمات التي يطرحها المفكر. وقد سار الغزالي في مجرى هذين الاتجاهين الأخيرين، أي عدم إهماله لتجارب الاسلاف من جهة، وتأكيده على أهميها القصوى باعتبارها مصدراً من مصادر وعي الذات وضرورة بعثها على أساس فهم الحقائق المجردة وظروف المرحلة، من جهة أخرى. وقد كان (الإحياء) في جوهره نتاج تأمله وتجربته الفكرية في هذا المجال، أي أن (الإحياء) كان العمل الإحيائي (الاصلاحي)، الذي ربط الفهم الجديد لتقاليد السلف بمهمات الحاضر. ولا تمت هذه الممارسة للسلفية بصلة جوهرية من حيث أسسها الفكرية. فتجربة الغزالي هي تجربة الوعي الثقافي في مختلف اتجاهاته (الكلام والفلسفة والفقه… الخ) والمصهورة في تعاليم الصوفية وطريقتها. ومن هنا لا معنى للسلفية بل وحتى  التسنن بالمعنى التقليدي للكلمة. وذلك لأنه لا سنيّة ولا تسنن في الفكر الصوفي. فالأخير يمتلك مقوماته الخاصة وطريقه الخاص في الوعي والممارسة،والتي تتعارض في جوهرها لكل "أرثوذوكسية" أو سنيّة ممكنة. وإذا كانت الدراسات المعاصرة تطلق عبارة "التصوف السنّي" عليه وعلى غيره، فلأنها استندت في حالات عديدة على مثال شخصيات معينة كعبد القادر الجيلاني (ت-561 للهجرة) وشهاب الدين السهروردي (ت-632 للهجرة) و الحسن الشاذلي (ت- 656 للهجرة) وغيرهم. أما في الواقع، فإن مثال هذه الشخصيات لا يتطابق مع المفهوم السنّي العادي. فما بين "حقائق" الصوفية وطبيعة إدراكها الأمور ومواقفها من العالم وبين السلفية تباين لا يردمه إلا الجهل بحقيقة هذين الاتجاهين. وحتى في حالة عبد القادر الجيلاني، فإن تقييم وفهم طريقته ظل متبايناً في تقاليد الصوفية نفسها. فإذا عظّمه البعض فلأنه أحد نماذج التقاليد الصوفية لا الصوفية النظرية والعملية، كما هو جلي في عبارة أحد تلامذته أبو السعود الشبلي البغدادي، الذي وصفه ابن عربي" بالفتى الظريف الملامتي، الخفيّ البريّ"، الذي قال عن أستاذه "طريق عبد القادر في طريق الأولياء غريب، وطريقنا في طريق عبد القادر غريب".

لقد سعى الغزالي إلى تجاوز الصراعات المذهبية والفرقية الضيقة. وبهذا المعنى فإن الغلاف اللاهوتي لصياغاته الفكرية لم يعق ديناميكية المضامين الفكرية وتجاوز التجزئة المذهبية التي أصبحت من بين أهم عناصر ومميزات الفكر اللاهوتي العقائدي المسيطر آنذاك، أي أن صراعه ضد انعزالية وعصمة المذاهب التي حولت آراءها ومواقفها إلى بديهيات عقائدية وأركان صلدة ويقين غير قابل للجدل، يتضمن عناصر الفكر الحر، رغم أن نفيه لها لم يتخذ صيغة المقاطعة الظاهرية. بصيغة أخرى، إن محاولته رفع وإزالة  فكرة العصمة والحقيقية الابدية المميزة للذهنية المذهبية آنذاك، كانت تعني في تاريخيتها تقديم افتراض سياسي فكري جديد يتسم بجرأة راديكالية هائلة ضمن وسط متصدع بصراعاته المذهبية والفرقية الضيقة.   (يتبع....)

*** 

 

ا. د. ميثم الجنابي

.....................

[1] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص 80 -81.

[2] المصدر السابق، ص 126.

[3] ميثم الجنابي: ثقافة التقييم والأحكام في الإسلام (تقاليد علم ملل والنحل)، دمشق، 1993.

[4] ابن تيمية: موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، القاهرة، 1951، ج1، ص 199؛ نقض المنطق: القاهرة 1951 ص55-56.

[5] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص 3.

[6] المصدر السابق. ياقوت الحموي: معجم الادباء(ارشاد الاريب الى معرفة الأديب، ج4، ص38-40.

[7] المصدر السابق، ج3، ص111.

[8] الإحياء ج4، ص308.

[9] المصدر السابق، ص 313.

[10] انظر على سبيل المثال لا الحصر ما افرده السبكي عما اسماه "بالأحاديث الغريبة في كتاب الإحياء او الملاحظات والتصنيفات التي كتب عنها العراقي في (المغني عن الاسفار) وتكملة ابن حجر العسقلاني.

[11] الغزالي: الإملاء ص 20.

[12] تورد المصادر الاسلامية هذا الحديث بصيغ متباينة. فابن ابي الدنيا يورده في (كتاب اليقين) عن قول بكر بن عبد الله المزني على مثال قصة مشي عيسى على الماء بعد ان تفقّده الحواريون، أي شبيهة بتلك الصيغة التي يصرها انجيل متي (الاصحاح 14:24-25). اما ظاهرة المشي على الماء وشخصية المسيح فيها كما يوردها ابو منصور الديلمي في (مسند الفردوس) على لسان المسيح نفسه القائل :"لو عرفتم الله حق معرفته لمشيتم على البحور ولزلزلت بدعائكم الجبال. في تشبه أو تستند إلى الفكرة الواردة في انجيل متي (الاصحاح 21:21).

[13] الغزالي: الإحياء، ج4، ص97.

[14] المصدر السابق، ج2، ص166.

[15] المصدر السابق، ص 232.

[16] المصدر السابق، ص229.

[17] المصدر السابق، ج3، ص339.

[18] المصدر السابق، ج2، ص184.

[19] المصدر السابق، ج2، ص184

[20] المصدر السابق.

[21] لقد اثارت هذه القضية جدلا واسعا بما في ذلك بين احمد بن حنبل والحارث المحاسبي، الذي ساهم في نقل الفكر المنظم إلى الاوساط الصوفية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الغزالي نفسه قد طبق أسلوب المحاسبي كما نراه بصورة جلية في كتبه (مقاصد الفلاسفة) و(المستظهري أو فضايح الباطنية) و(تهافت الفلاسفة). ليس ذلك فحسب، بل وأثّر المحاسبي نفسه في تصوف الغزالي. لكن الغزالي حاول أن يعطي لأسلوبه طابعا منهجيا وعلميا ما زال يمتلك لحد الآن قوة فكرية ومنهجية. وبالأخص تأكيده على أن الجدل العلمي والعميق يستلزم أولا عرض آراء الخصم عرضا منهجيا دقيقا لا لبس فيه ولا تشويش وتشويه من اجل الرد عليه. لهذا وجد في اعتراضات الحنابلة افتراضات سطحية. بل اعتبرها مزاعم لا اساس متين لها، لاسيما وأن أفكار الآخرين موجودة في كتبهم ومنشورة بين الناس. وقد ظل الغزالي امينا لهذا الأسلوب والمنهج رغم تعرّضه لبعض التغيير والتعديل. ففي مرحلته الصوفية لم يعد الجدل ذا قيمة علمية، وليس أسلوبا لبلوغ الحقيقة. من هنا جدله مع الأفكار بوصفها هويات ومبادئ وقيم أفكار مستقلة. وكان هذا بدوره نتاج الفلسفة الأخلاقية الصوفية من جهة، ونفي للأساليب العقيمة والمتشددة المميزة لجدل المرحلة، وعلم الكلام بشكل خاص وأساليبه في التهجم والتكفير وتشويه سمعة الخصوم. لقد أراد الغزالي أن يزيل من الجدل آفة الجدل نفسه، والاستعاضة عنه بالبحث عن الحقيقة كما هي.

[22] الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص 7.

[23] الغزالي: الإحياء، ج2، ص168.

[24] المصدر السابق، ج3، ص55.

 

في المثقف اليوم