دراسات وبحوث

النبوة (2)

كنا قد قدمنا للقراء الأعزاء في الحلقة الماضية معنى النبوة، وقلنا إنها: معرفة يقينية يحصل عليها بعض الناس عن طريق الوحي -، وفي هذه الحلقة سنُتابع البحث ونناقش في طبيعة النبي:

وهل هو صاحب شريعة وأحكام (مشرع)، أم إنه كما قلنا: مفسراً للوحي الذي يأتيه من عند الله - ؟، والدليل الثابت: إن طبيعة النبي هي في كونه مفسراً للوحي -، هذا من الناحية الفعلية، يتشارك مع ماتذهب إليه المقولة التوراتية في معنى النبي، إذ ورد في الإصحاح 7 النص 1 من سفر الخروج، ما نصه: [يا موسى قد جعلتك رباً لفرعون وهارون أخيك نبيك] -، ومضمون النص يعني: [إن هارون كان مفسراً لكلام موسى عند فرعون (أو مترجماً له)]، ويؤيد هذا المعنى ما يقوله الكتاب المجيد قال تعالى: [وأخي هارون هو أفصح مني لساناً، فأرسله معي ردءاً يصدقني، إني أخاف أن يكذبون] - القصص 34، ولفظ - أخي - في لغة العرب وردت مشتقة من - أخ - المختلف في دلالتها:

1 - بين أن تدل على أن - الأخ - هو الشقيق من جهتي الوالد والوالدة.

2 - وبين أن تدل على أن – الأخ - يكون من جهة الوالد فقط .

3 - وبين أن تدل على أن - الأخ - يكون من جهة الوالدة فقط .

4 - وبين أن يكون معنى - الأخ - دال على القرب من جهة الإيمان والمعتقد والرأي، قال تعالى: إنما المؤمنون أخوة – الحجرات 10، وقال تعالى: يا أخت هارون .. – مريم 28 .

 وبحسب ما تقوله بعض المدونات التاريخية: إن هارون لم يكن أخ لموسى من والدته، بل هو أخ له من أبيه -، ويقولون: إن والدة هارون كانت من أهل مصر، وقد توفيت حين كان رضيعاً -، أي إنها لم تكن يهودية، وهذا سبب نجاته من القتل والموت الذي كان يتوعد به فرعون كل مولود يُولد من إمرأة يهودية، ويقولون كذلك: إن (أم موسى) إنما تكفلت برعاية هارون ورضاعته وتربيته -، وهناك قول أخر يذهب إلى: إن أم هارون هي نفسها أم موسى، ولكن هارون كان أكبر من موسى، ولذلك نجا من الموت الذي كان يتوعد به فرعون، إذ لم يكن بعد قد نبه فرعون كهنته إلى خطر المولود اليهودي، بقولهم (إنه سيولد)، أي لم يكن قد ولد بعد .. - .

 وأما الأم في لغة العرب هي كما الأب لا تعني الوالدة بالضرورة، فقد تكون - الأم والدة - وقد لا تكون، كذلك الأب قد يكون والداً وقد لا يكون، ومفهوم لفظ - الأم - من أم يم أماً وإماماً، والأم: هي الراعية والمربية والمديرة -، ولا يطلق العرب لفظ الأم هكذا على الوالدة، وقد وضح الكتاب المجيد هذا البيان بقوله: [ووالد وما ولد] البلد 3، ومن هنا قالوا: ليس كل والدة أماً، وليس كل أماً والدة -، ويدخل في هذا قوله تعالى: [يا أبن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ..] - طه 94، فالأم هنا ليست بمعنى الوالدة بل بمعنى المربية والراعية، وأما جملة - أفصح مني لساناً -، ولفظ - أفصح - من الفصاحة وهي الطلاقة والوضوح في البيان، وإضافة اللسان للدلالة على المعنى المُراد في البيان اللغوي، وأعترف موسى بذلك دليل على أن هارون كان أدق منه في إيضاح المعلومة وبيانها، ولهذا أستعان به وطلب أن يكون مساعده ووزيره في مهمته التي كُلف بها قال: [وأجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي] طه 29 - وفي تلبية المطلب قال تعالى: [سنشد عضدك بأخيك ..] القصص 35، وعموماً فاللسان في لغة العرب أداة في التوضيح والشرح والبيان، وجاءت هنا مبالغة في الوصف والتعريف، بدليل ورود لساناً مبنياً على النصب بصيغة المفعول في إشارة إلى: أن هارون كان أفصح في لسان المصريين من موسى -، والسبب معلوم من جهة التاريخ، فموسى قد خرج مهاجراً من مصر - تلقاء مدين - القصص 22، بعد حادثة القتل الشهيرة التي قيل فيها: [يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس ..] - القصص 19، إذن فهروبه وهجرته كانت سبباً في أن يكون لسانه أقل فصاحة من هارون، بسبب البيئة والنشأة والتربية التي أثرت عليه بشكل واضح .

ونعود لبيان ما في سفر الخروج، فنقول: إن هارون كان نبياً لموسى من حيث إنه المفسر لكلام موسى عند فرعون -، فالنبوة هنا في هذا السياق تعني هذا المفهوم، وبحسب المقولة التوارتية فإن: موسى كان إلهاً لفرعون -، ومعنى إلهاً هنا أي رباً، أي إن موسى كان يريد أن يكون المربي والمعلم والمرشد لفرعون، ويكون هارون هو من يبين ذلك ويشرحه ويترجم معناه، والرب الصفة هو الأسم الدال على معنى المربي في لغة العرب (والفرق بين صفة الإله وصفة الرب معلوم) .

وهكذا تقول الترجمة العبرية للفظ (جالاه نيفا)، فالحرف الثالث يجب أن يكون من حروف الوقف، ولو حذفناه يصبح اللفظ - جالا نيفا -، وأصله اللغوي - شور فطيم نف - ومعناه الكلام المفسر، هكذا قال الحبر - سليمان يارشي - في معنى لفظ (نيفا)، وقد خالفه في ذلك - أبن عزرا – حين وجه له ولتفسيره نقداً، مع إن - أبن عزرا - ربما كان مخطأً ولم يكن في ذلك محقاً، لنقص واضح في معرفته باللغة العبرية .

 بقي أن نقول: إن لفظ نبؤة هي لفظ عام يشمل كل النبؤات -، في حين ان الكلمات الأخرى تدل على معنى خاص ينطبق بعض منها على نوع معين، والبعض الآخر على نوع آخر، وهكذا يُعرف علماء اللغة الأنبياء بالمفسرين لله، بمعنى إنهم يُفسرون ما يأتي لهم بالوحي من قبل الله، تقول التوراة البابلية: إن من يستمع للنبي يصبح نبياً كما أن من يستمع للفيلسوف يصبح فيلسوفاً -، وإلى ذلك ذهب العلامة الطباطبائي في الميزان ج2 حين قال: النبي هو من يملك شرف العلم بالله وبما عنده .. - .

ولكن هل يختلف النبي عن الرسول ؟، نقول: نعم يختلف النبي عن الرسول، إذ النبي لا يمتلك سلطة على العباد سوى السلطة الروحية والفكرية (ولهذا فهو إمام دين)، وأما الرسول فهو صاحب سلطة على العباد، بإعتباره حاكماً ومنفذاً للأوامر والنواهي (ولهذا فهو إمام دنيا)، والنبوة والرسالة هي صفات إضافية لهذا الإنسان الذي صار نبياً و رسولاً، والصفة النبوية أشمل وأعلى رتبة من الصفة الرسولية، فمن خلال النبوة تتم العلاقة بين الله وبين الناس عن طريق الوحي، والرسالة هي مشتقة أو قل هي مندكة في النبوة [من حيث كونها تعبيراً عن الخبر الصادق]، والذي يُراد منها معنى البيان والتبليغ والتشريع، وليس للرسول علم مستقل إذ ما يحصل عليه فمن النبي يكون .

 والنبي يجب أن يكون معصوماً والرسول كذلك لكن بشرط هنا، في النقل والتبليغ وكل ما يأتي به من الوحي، والضبط في ذلك نقرئه بقوله تعالى: [وما ينطق عن الهوى] النجم 3، وبقوله تعالى: [ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين] - الحاقة 44 و 45 و 46، وفي السياق ذاته أقتضى التوكيد من الله عبر الوحي إلى النبي: إنه ليس مسموحاً البتة النطق أو الكلام عن الله من قبل الوحي أو من قبل ينقضي الوحي - أي إن المسموح به فقط وفقط هو الكلام من الوحي وبعد إنقضائه وتمامه، قال تعالى: [.. ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه ..] – طه 114، والتأكيد على النبي بإعتباره المخاطب الأول و الذي عليه يتنزل الوحي، وحين قلنا: إن النبي ليس آمراً أو ناهياً، إنما كنا ننظر إلى دوره في الواقع -، ودور النبي من حيث هو إرشاد وتوجيه إلى ما يأتي به الوحي، وفي هذا ليس هناك أحكاما أو أوامر تعبدية .

 ويجري هذا الحكم حتى في مسأئل الحرب و القتال، وليس صحيحاً ماذهب إليه البعض في فهم المُراد من قوله تعالى: [يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال] – الأنفال 65، والتحريض على القتال هو الحث عليه ولا يكون ذلك من النبي إبتداءاً، إنما يكون في سياق الدفاع في حال تعرض المؤمنين للظلم والإعتداء، وفي هذا ليس هناك شرطاً واجباً أو معلقاً في أن يكون النبي مؤوسساً للدولة والحكم، بل إن: الدفاع هو شيء فطري لا علاقة له بتشكيل الدولة أو غيرها -، وفي هذا يتساوى الإنسان مع كل الكائنات حين تتعرض للإعتداء فهي تدافع عن نفسها كتعبير فطري ورد فعل طبيعي، وفي قصة طالوت وداوود مثلاً في عدم وجوب كون النبي هو من يتقدم الصفوف في الحرب، بل كان النبي داوود تحت أمرة طالوت الملك، وهكذا يجب أن نفهم دور النبي محمد في تحريضه المؤمنين على القتال، لأن ذلك كان يجري في نفس السياق، الذي جاء بعد الأذن الشرعي والسماح بالدفاع والقتال عن المؤمنين .

 أما الدولة: فهي مؤوسسة إجتماعية، أو قل هي شأن إجتماعي يصنعه الناس لحاجاتهم إليها في الإدارة والأمن والنظام والقانون -، وإدارة هذه المؤوسسة من مهام الحاكم الدنيوي والذي هو هنا (الرسول أو الإمام)، ومنه وردت الصيغة القائلة: [إني جاعلك للناس إماما ..] البقرة 124، أي جعلتك حاكماً عليهم، والحكم جاء لا حقاً بعد النبوة، إذ إن إبراهيم كان نبياً قبل أن يكون رسولاً أو إماماً، ومعنى كان في السياق هو القيد المرتبط بشؤون الناس وما يلزم في إدارتهم، ثم إن النبي محمد لم يشكل دولة بالمعنى الذي نفهمه في المدينة، إنما كان يُنظم شؤون الدعوة والجماعة المؤمنة به .

 وأما ماذهب إليه البعض من الكتاب في هذه المسألة فليس على ما ينبغي بل هو مردود حتماً، لأنه لا يستقيم و معنى النبوة ولا يستقيم ومعنى القتال في الكتاب المجيد، فالكتاب المجيد حدد بشكل واضح طبيعة القتال في الدفاع ورفع الظلم من على الناس، ولم يشرع القتال على نحو الإبتداء معتبراً ذلك تعدِ وظلم صريح ممنوع، فالقتال الممنوع هو الإبتداء بالحرب على الغير من غير ظلم منهم أو تعد، و لم يأمر النبي بذلك ولا حتى الرسول، وأما القتال المسموح به شرعاً فهو القتال من أجل الدفاع وردع المعتدي والظالم، وهذا القتال لا يحتاج الأمر به لدولة أو نظام حكم، بل يحتاج إلى مجوز شرعي وقد ورد ذلك كما يظهر بقوله تعالى: [أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ..] - الحج 39، إذن فالقتال المسموح والمأذون به شرعاً يكون من أجل رفع الظلم والتعدي، وقد مر في كتابنا (الجها في الإسلام): إن الأمر بالقتال من جهة المولى إرشاديا و ليس تعبديا -، إنما كان مرتبطاً بمصلحة الناس و الوجود العام .

 ولكن هل النبوة أعم من الرسالة ؟، والجواب: نعم النبوة أعم من الرسالة وهي جزء منها، ومعنى أعم يعني أشمل فكل رسول هو نبي في الأصل، وصفة المبالغة هنا تفيد ما يدل عليه المعنى في الواقع، من حيث السعة والإيمان والمساحة ولغة الخطاب، وهذه لا تتحدد بزمان أو مكان معينين، ولا بقوم أو طائفة أو ملة بعينها، بل هي للجميع، والإيمان بقوانينها وبخطابها للعموم ولا يخالف في ذلك إلاَّ جاهل، إذ لا أحد في الكون يُنكر طبيعة الليل والنهار وتعاقبهما وهكذا في كل القوانين الكونية، وليس من شرط يلزم إن يكون إتباع هذه القوانين أو الإيمان بها إيمان بنبي معين .

ثم إن النبوة كما قلنا سابقة للرسالة، فلا يكون الرسول رسولاً إذا لم يكن نبياً، وليس بالضرورة ان يكون كل نبياً رسولاً، وقوانين النبوة مطلقة وليس هي كما قوانين الرسالة مقيدة في الزمان والمكان والقوم والجماعة التي تؤمن بهذا النبي رسولاً، وسواء أكان النبي أو الرسول فهما ليسا صاحبي التشريع، فالنبي هو المكلف بالإرشاد إلى الأمر المولوي، أما الرسول فهو المكلف بتنفيذ الأمر المولوي، وصاحب الأمر هو الله والتشريع جزئية تتعلق بتنظيم حياة مجتمع ما يكون قد آمن بهذا النبي رسولاً من عند الله، ويعني هذا إبطال القول: بأن الرسول هو صاحب التشريع، حتى ذهب قوم للقول: بأن حرام محمد حرام إلى يوم القيامة وحلاله حلال إلى يوم القيامة، معتبرين التحليل والتحريم من شؤونات فعل محمد الرسول وأمره، والحق إن محمداً ليس سوى منفذ لهذه الأحكام ومشيرا إليها، فالحرمة والحلية ليست من صنع محمد الرسول إنما هو تابعا ومرشدا ومنفذا وخاضعا لها كذلك، ولكن هذه التشريعات حين تُنسب إليه فمن باب علمه بها والأمر متوجه إليه على نحو مباشر، ولا بد من الإعتراف إن أصل الأمر الإرشادي فيه عموم وإطلاق، لا كون الأمر منه بما هو بالذات لأنه لا يأمر بشيء يكون غير مأمور به من قبل المولى .

وهذا القول يخص الأحكام الشرعية المنصوصة، وحين يقول لنا: [ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فأنتهوا] – الحشر 7، وما مطلقة بمعنى الذي يأتيكم به الرسول من عند الله من أمر أو نهي، فيجب الإمتثال إليه وإطاعته، والكلام هنا في مجال التشريعات وقيد الرسول يخرج النبي من صلاحية الأمر والنهي الدنيوي، أي إن الرسول هو الحاكم الدنيوي وهنا يكون من صلاحيته الإجتهاد في الإحكام بما يتناسب وحاجة الناس، وفعل الإجتهاد ممنوع على النبي لا من جهة التقييد أو التخصيص، والرسول هو المجتهد بعنوان كونه الملتصق بحاجات الناس على نحو مباشر، أما النبي فدوره يتعلق بالجانب العقلي والفكري المحض، والرسول يكون دائماً في مقام تفصيل الحكم على الحوادث المعينة، من حيث كونه حاكماً دنيوياً ولهذا ورد: أطيعوا الرسول ... - النساء 59، ولم يرد: (أطيعوا النبي)، فالنبي لا يقدم قوانين للمجتمع تخص معاشهم وحياتهم اليومية، ولكن الرسول هو من يقوم بتنفيذ وتقديم هذه القوانين للحياة والمجتمع، ولا علاقة للإجتهاد بمعنى قوله: (وما ينطق عن الهوى) النجم 3، فالرسول في إجتهاده إنما يستخدم بُنات أفكاره وما يرتبط بالواقع، ولا دخل للوحي في ذلك، وصفتي النبوة والرسالة هما صفتان زائدتان كما قلنا وتتعلقان بالوحي وترتبطان به ولا تتعديان إلى غيره .

ومادمنا نبحث في جدلية النبوة والرسالة، فقد طرح لنا الكتاب المجيد موضوعة المحكم والمتشابه كموضوعة تحتوي الكتاب وتشير إلى معنى النبوة والرسالة، قال تعالى: [هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُن أم الكتاب وأُخر متشابهات ..] - آل عمران 7، ولفظ - أنزل - بمعنى جعل، ولفظ - عليك - بمعنى إليك، والجملة الخبرية في محل بيان طبيعة الكتاب وما يحتويه، ويفصل فيقول: إن في الكتاب (أيات محكمات)، ولفظ - آيات - جمع آيه ودلالتها على الشيء الغير مألوف، والمُراد إن الذي جاءتت به لم يكن مألوفاً، وأما - محكمات - جمع محكم من أحكم الشيء أي شد وثاقه وأتقنه قالت العرب، وكل شيء يوصف بالمحكم فيعني هو ذلك - الشيء المتقن - الذي لا خلل فيه ولا ضعه، سواء من حيث الصنع والتركيب أو من حيث الدلالة والبيان، وأما المحكم في عند الأصولي فهو:

1 -: ما عُرف معناه، من غير حاجة لوسيلة إيضاح - .

2 -: ما لا يحتمل إلاَّ وجهاً واحداً - .

3 -: ما أستقل بنفسه، ولم يحتج إلى ما يدل عليه - .

 والنص المتقدم قال في - وصف الكتاب -: بأن فيه آيات محكمات، وقد أطلق على هذه المحكمات صفة - أم الكتاب -، والأم: كما نعرفها هي الأصل أو الحاضنة والمتقدمة على غيرها، وهكذا تكون - المحكمات - هُنَّ أصل الكتاب وحاضنته والمتقدمات على غيرهن، وكأن المُراد بهذا الوصف القول: إن الأصل في الكتاب أن يكون محكماً بيناً واضحاً - .

وفي مقابل هذا: تكون الأُخر (متشابهات)، بصيغة المنكر للدلالة على الخلط وعدم التمييز والضمير يعود على الآيات، والمتشابه: من الأشياء في لغة العرب أصله من الشبه والتشابه، الذي يختلط فيه الأمر على من ليس مؤهلاً، والمتشابه من الأفعال هو ما يقود للخلط والتشويه وعدم الدقة والوضوح، والمتشابه في الآيات هي ما أستأثر الله بعلمها وبما تؤول إليه وتنتهي - .

 والتقابل الموضوعي بين المحكم والمتشابه، هو تقابل بين موضوعات النبوة و موضوعات الرسالة، ونقول::

 وموضوعات النبوة تمثل المُتشابه من الآيات وتعنيه، والتي تحتاج في فهمها إلى إدراك و إمعان نظر و تدبر، لأنها في الغالب العام مسائل ومباحث علمية وعقلية وفكرية، ولذلك جعل الله العلم بها يحتاج إلى تأويل، والتأويل: أصله من آل بمعنى ما تؤول إليه معرفة الأشياء وتنتهي وهذه من خواص علم الله، ثم جعل - الراسخون في العلم - مؤيدين وممضين على صحة تلك المآلات وتلك النهايات، وفق هذا النص: [يقولون آمنا به كل من عند ربنا] آل عمران 7، والراسخون في العلم: هي صفة تمييز وإختصاص في العلم الحياتي والكوني، والفقه ومبباحثه لا تدخل في هذا الحيز، وأما إطلاق لفظ الراسخ في العلم على الإنسان هو من باب التأكيد والتوكيد على علو كعب هذا الإنسان في مجال إختصاصه العلمي والعقلي، وكما قلنا: يخرج من هذا الوصف كل رجال الدين وحتى الفقهاء منهم، ذلك إن مجال عمل الفقيه هو ليس العلم المحض بل هو في بيان إنطباق الحكم على الموضوع، ومادة الحكم متوفرة وبكثافة في الكتاب المجيد، قال تعالى: [.. فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ..] - التوبة 122، والكلام في النص عن معنى التعرف على أحكام الدين ثم العمل بها ونشرها في الحيز والمكان الذي يتحركون فيه، وهذا العمل لا يدخل البتة في مجال البحث العلمي أو في دائرة الراسخون في العلم .

 وأما المُحكم من الآيات فهي موضوعات الرسالة، والتي تضم في العادة مسائل حياتية وإجتماعية وقانونية، تواجه المجتمع والناس كل يوم، ولا تحتاج هذه الموضوعات إلى تأويل بل تحتاج إلى فهم وشرح وبيان للمعاني لمن تعوزه معرفة ذلك، وكما إن هذه الموضوعات لا تحتاج إلى تأويل كذلك هي لا تحتاج إلى - راسخين في العلم - بل تحتاج إلى رجال دين وفقهاء كما أكدت على ذلك سورة التوبة النص 122 .

و طبيعة فعل الرسول وعمله يكون في دائرة المحكم من الآيات والنصوص، وهذه الدائرة عبارة عن قوانين وتشريعات في الأمر والنهي، وهي لا تحتاج إلى تأويل بقدر ما تحتاج إلى جعل الحكم منطبقاً على موضوعه، وبيان المفهوم و المصداق على أساس المناسبة بينهما حكماً وموضوعاً، وأما ساحة فعل النبي وعمله فتكون في المتشابه من الآيات، وهذه الساحة تحتاج إلى البحث والنظر والتدبر (التأويل)، وبين التفسير والتأويل فارق مفاهيمي في اللغة وفي التعاطي والفهم، لكن ما تقتضيه الضرورة والحاجة جعل بينهما تعاون وإشتراك، في بعض المعاني وما يتطلبه التأويل، فالوصول إلى الغاية لاتتم من دون معرفة معاني الموضوعات، لذلك ومن هذا الباب أقتضى التلازم والتعاون والإشتراك، وبقي أن نقول: إن موضوعات الكتاب تنقسم بحسب الدلالة والمعنى إلى موضوعات شرطية أو موضوعات مطلقة:

 والشرطية: هي تلك الوسائل أو الوسيلة التي بها نصل أو نتعرف على الشيء الآخر أو إليه .

والمطلقة: هي تلك الموضوعات المستقلة بذاتها والتي لا تحتاج إلى غيرها .

 لذلك قيل: [النصوص الشرطية هي تلك النصوص التي تعبر عن الفعل حين يكون مُريداً لغيره، وأما النصوص المطلقة فهي تلك النصوص التي تعبر عن الفعل الضروري في ذاته]، قال الأصولي: والمطلق هو ذلك الفعل الذي يكون جازماً أو قاطعاً في حال لم يرد التقييد فيه - .

ولكن هل الرسول في مقام التشريع منزه عن الشك والترديد في الأحكام ؟، ولكن ما المُراد بالحكم الترديدي ؟، الحكم أو الأحكام الترديدية: هي الأحكام القلقة والقابلة للنفي والإثبات، وهو غير الأحكام الإيجابية والتي يكون فيها النفي والإثبات من الأمور الواقعية، وهي غير الأحكام البرهانية كذلك والتي يكون فيها النفي والإثبات من الأمور الضرورية .

ومادمنا نعتبر النبوة والرسالة صفات إضافية زائدة، فهذا يعني إن الأصل الأولي للنبي والرسول - إنه كائن بشري -، وهذا الأصل من صفاته الشك والترديد في الأحكام وفي الموضوعات التي تقابله، وفي هذا الأصل الأولي لا يكون منزهاً أو معصوماً، والكتاب المجيد أعتبر هذا الأصل من الملازمات و الخصائص التي يتميز بها، ولأنه كذلك فهو يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق ويتزوج ويتناسل، قال تعالى: [وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ..] - الفرقان 25، وقال تعالى: [وما أرسلنا قبلك إلاَّ رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كتنم لا تعلمون * وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين] – النساء 7، 8، والذي يميز النبي أو الرسول عن غيره هو في (الإصطفاء)، والذي به يكون قدوة لكل من أراد أو يريد لنفسه خيراً، قال تعالى: [أولئك الذين أتيناهم الكتاب والحكم والنبوة .. أولئك الذين هدى الله .. فبهدآهم إقتده] – الأنعام 89، 90، ولم يفت الكتاب المجيد: أن يُنبه إلى تلك الحقيقة، كون الذي أتى به الأنبياء والرسل يستعصي على باقي البشر أن يأتوا بمثله، ولكن هذه الخاصية لا يجوز أن نجعلها الحجة التي ننزع فيها عن النبي أو الرسول طبيعته البشرية، قال تعالى: [وما كان لرسول أن يأتي بآية إلاَّ بإذن الله] – الرعد 38 و غافر 78، وأما دعوى البعض في أن النبي أو الرسول له صلاحية التشريع في الأمر والنهي، فهذه الدعوى مردودة بدليل التكليف المنوط به جميع المكلفين وهو واحد منهم في هذا، قال تعالى: [يا أيها الرسل كلوا من الطيبات وأعملوا صالحاً إنني بما تعملون عليم] – المؤمنون 51 .

يبين الكتاب المجيد للطابع الإجتماعي لموضوعة التشريع، معتبراً مايقره المجتمع و يعتبره المجتمع ملائماً وطبيعياً له، هو تشريع ملزم ما دام لا يخل بوحدة النظام والمجتمع، لذلك أقر الكتاب هذا المبدأ وأمضاه، من خلال النص التالي قال: [خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين] - الأعراف 199، ومفهوم العرف مفهوماً نسبياً ومن محدداته الثقافة واللغة والعادات والأعراف، وهذه المحددات متغيرة في الزمان والمكان تبعاً لتغير الظروف والأحوال، وهذه أحدى مزايا التشريع من حيث كونه خاضعاً لطبيعة الظروف والأحوال، بإستثناء مسألتي - الحلال والحرام - التي حددهما الكتاب بدقة، ولم يسمح ولم يجز لأحد إطلاق لفظيهما ومعناهما على أي شيء لم يذكرانه، وهذا يعني إن الرسالة هي مفهوم إجتماعي ينبثق من وعي وحاجة الناس ومن ضرورتهم للعيش .

 لكن النبوة ليست كذلك، فهي لا تخضع لهذا القيد ولا تُلزم نفسها به، لأن مدآها أوسع ومعانيها لا تتحدد بالأعراف المكانية والزمانية، والإيمان بها حتمي أو هو قريب من ذلك، لكن الإيمان بالرسالة: هو إيمان محدد، بالرسول الذي يؤمنون به أو بكونهم يعيشون في ظلال حكمه وتشريعه، ولهذه الطبيعة جعل الله الرسول واحداً من وسط المجتمع الذي يعيش به ويتحدث بلسانه، قال تعالى: [وما أرسلنا من رسول إلاَّ بلسان قومه ..] - إبراهيم 4، وهذا القيد ليس شرطاً في النبوة، لأن ما يقصده النبي وما يطلبه ليس تعاليم وأحكام تشريعية من وأوامر ونوآه، بل الذي يطلبه ويريده هو تحريك وتحفيز العقل لتحليل الكون والطبيعة، هو إذن يُركز على المبادئ والأفكار، وهذا هو لسان حاله، ولهذا لم يشر الله إلى ذلك كونه من باب تحصيل الحاصل .

يتبين مما تقدم: إن النبوة هي تلك المعرفة أو ذلك الدليل على المعرفة بالقوانين الكلية للطبيعة والكون، ولهذا تقلصت أو إنعدمت أخبار النبوة في تراث المسلمين، وأما الغالب العام فهو أخبار الرسالة ولهذا اٍسباب لا مجال لسردها هنا، ولهذا فقد توهم عامة رجال الدين، في إعتبار صحة إسلام المرء بشهادة أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، وهذا منهم وهم كبير لأن الإسلام هو: إيمان بالله الواحد الأحد، والإيمان بالغيب، والعمل الصالح -، وهذه الثلاثية لآزمة في إيمان الرسول كما هي لازمة في إيمان عامة الناس، قال تعالى: [إن الذين آمنوا، والذين هادوا، والنصارى، والصابئين، - من آمن بالله، واليوم الآخر، وعمل صالحاً -، فلهم أجرهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون] – البقرة 62، وهذا هو المعيار، وهذا هو الميزان في إسلام المرء أي مرء دون النظر إلى لونه ولغته وقوميته ودينه، وفي هذا لا يشترط: شهادة أن محمداً رسول الله -، لأنها زائدة في المقام ...

 

آية الله الشيخ إياد الركابي

3 ربيع الآخر 1440

 

 

 

في المثقف اليوم