دراسات وبحوث

إشكالية العقل والأخلاق في المصير الروحي للغزالي (1-4)

ميثم الجنابي"الجنون فنون" 

إن انتقاد الغزالي للاتجاهات الباطنية في صيغتها الإسماعيلية التعليمية لم يكن وليد الصدفة لا من حيث جانبه الفكري والمذهبي ولا من حيث هويته السياسية. وإذا كان من الممكن القول بأن لهذا التاريخ مقدماته الأولى في ما قبل صعود الإمام علي بن أبي طالب لسدة الخلافة وانهيار نموذجها الراشدي، فإن فاعليتها الحقيقية في استثارة الصراعات والتشنجات القوية في الحركات الشيعية وبينها وبين الفرق الإسلامية الأخرى قد تزامن وتلازم لحد ما مع موت الإمام الصادق (ت – 148 للهجرة). إلا أن ذلك لا يعني أن انتقادات الغزالي وجداله مع الباطنية التعليمية قد جريا في مجرى التقاليد السابقة. فهي بمظهرها لم تختلف كثيراً عما هو مميز للانتقادات السابقة وبالأخص ما يتعلق منها بمساعيها المذهبية السياسية وحوافزها الأيديولوجية السياسية في كشف "فضائح الروافض". غير أن هذا المجرى العام لمسار العناصر السائدة في ثقافة العصر وروحها الجدلية (العقائدية) قد أدى في حالة الغزالي دوراً خاصاً ومتميزاً في تطوره الروحي، بما في ذلك في عملية انتقاله إلى التصوف. فإذا كان كتابه (المستظهري أو فائح الباطنية) يتضمن أحد نماذج، وأحد مراحل شحذ قوته العقلية في نزالها مع خصوم المذهب والسياسة، فإنه يكشف أيضاً عن دوره الخفي في تطويع روح الغزالي لمتطلبات انتقاد الذات ورؤيتها الأخلاقية، أي أن انتقاده للباطنية يكشف عن صيرورة المساعي الحثيثة في أعماق الروح الأخلاقي وتضافرها المعنوي في تعمق أزمته الروحية الكبرى ما قبل انتقاله إلى التصوف. وسوف يشير هو نفسه إلى ذلك في (المنقذ من الضلال) أيضاً، عندما صوّر صراعه مع الباطنية على أنه ميدان أساسي للبحث عن الحقيقة، وبالتالي إحدى مراحل تطوره الفكري الرئيسية. إضافة لذلك، إن أزمته الأخيرة ما قبل التصوف قد تزامنت مع إنجاز كتابه (فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية).

فقد كتب مؤلفه هذا بطلب من الخليفة المستظهر بالله، الذي تولى الخلافة عام 487 للهجرة. ويشير في بعض فقراته إلى خليفة الباطنية (الإسماعيلية) في مصر، أي المستنصر بالله (المتوفى في 17 ذي الحجة عام 487 للهجرة) أما أن أزمته الروحية بدأت في رجب عام 488 للهجرة، فإن ذلك يعني حدوثها بعد ما يقارب الستة أشهر من وقت انتهاء تأليف هذا الكتاب، أي أن من الصعب توقع صدفتها الطارئة. فالغزالي، كما هو واضح من كتاباته الأولية، لم يتعامل مع الباطنية بصورة مباشرة. إنه أدرك جرأة وخطورة الباطنية (الإسماعيلية) السياسية بالنسبة لمصير الخلافة العباسية. ولهذا انهال في انتقاداته اللاذعة على ما يمكن دعوته بأسسها "الجماهيرية"، أي على نموذجها الكلامي السياسي لا الفلسفي العقائدي. وهذا ما يمكن العثور عليه في آرائه التي حاول أن يكشف فيها عن مفارقة الفكر الباطني ككل باعتباره نوعاً من السفسطة والجنون. فالسفسطائي، كما يكتب في (معيار العلم) ينكر المعرفة الكلية، أما الباطنية المعاصرة له، فتشترك مع السفسطائيين في انخداعهم بكثرة الاختلافات بين النظار(المنظرين). حيث بنت على هذا الأساس اعتقادها ببطلان نظر العقل واستبدلته بعصمة الإمام. وهو الاستنتاج الذي اعتبره صنواً للجنون، رغم تأكيده على أن "أحكام الباطنية تجري مجرى الجنون، ولكن لا يسمى جنوناً، والجنون فنون".[1] ولهذا السبب اعتبر مهمة دحض التقليد والعصمة من بين أكثر المهام جوهرية في تفنيد الباطنية التعليمية.

فهو ينطلق في انتقاده للباطنية من واقع تباين الناس في كافة الميادين بما في ذلك في الدين والأخلاق والأحوال (المادية والروحية)، والمواقف النفسية من حب وكره وقبول ورفض، أي إقراره بالتباين الهائل في الوجود. ولم ينظر إلى هذا التباين  كما لو أنه قيمة بحد ذاته، بقدر ما استغله وانطلق منه كخلفية واقعية للصراع ضد الباطنية، وكذلك في دفاعه عن ضرورة الخلاف الفكري أيضاً. بحيث رفعه إلى مصاف الرحمة الإلهية، باعتبارها نتيجته الحتمية. لهذا أكد على أن كل خلاف تستتبعه الرحمة[2].

ولم يقف الغزالي عند حدود رؤية الآثار الأخلاقية والسياسية لآراء الباطنية التقليدية عن الإمامة والعصمة، بل وحاول الكشف عن ضررها المعرفي. من هنا تشديده على أن التقليد ليس صفة للعوام فقط، بل ويمكنه أن يكون صفة الخواص أيضاً، أي عند أولئك الذين اعتقدوا بقدرتهم المستقلة في التحليل والحكم، أو كما قال "عند أولئك الذين سلكوا طريق النظر (العقلي) دون أن يستكملوا فيه رتبة الإستقلال، أولئك الذين يحاولون تقليد من ينسب إلى الفضل والحكمة"[3]. فكم من طوائف، كما يقول الغزالي "رأيتهم اعتقدوا محض الكفر تقليداً لأفلاطون وأرسطوطاليس وجماعة من الحكماء قد اشتهروا بالفضل، ودواعيهم إلى ذلك التقليد وحب التشبه بالحكماء"[4]. وجعل من نقده للاتجاهات الباطنية أسلوب نقده الأساسي ضد فكرة التعليم الباطنية. فهو يؤيد الباطنية في موقفها من ضرورة التعليم، انطلاقاً من أن العلوم النظرية العقلية لا توجد بالفطرة. وبالتالي لا يمكن إدراك براهينها دون التعلم. غير أن التعليم بحد ذاته، كما يقول الغزالي، لا ينبغي أن يتطابق مع تقليد المعلم فيه. فليس الأخير سوى من يقدم طريقة إدراك العلوم، وبالتالي ينبغي للعاقل أن يرجع إلى نفسه فيدركه بنظره، وعند هذا فليكن المعلم من كان[5]. بصيغة أخرى، أنه ينطلق من الإقرار بضرورة التعليم، لكنه يربطه بضرورة معرفة أي من العلم يحتاج إلى معلم ودرجة هذا الاحتياج. وذلك لأن ما هو مهم في التعليم حسب نظره هو الطريقة والأسلوب لا تقليد المعرفة كما هي.ومن هنا اعتباره خطأ الفكرة الباطنية عن ضرورة التعليم كمقدمة لبناء استنتاجاتها "المنطقية"، أي عدم تمسكها بالمنطق السليم وتشويهها المتعمد لقواعده. وذلك "بفعل إطلاقهم مقدمات مهملة غير مفصّلة، تصدق في بعض مقتضياتها دون بعض، مثال القول: إذا اعترفتم بالتعليم فقد اعترفتم بمذهبنا"[6]. إن فكرة كهذه بنظره ليست منافية للمنطق فحسب، بل وتحمل في ذاتها بذور موتها. فطريق التقليد، كما يؤكد الغزالي، مباح إلا أنه غير موثوق به. فالتقليد يمنع المرء من رؤية الحقيقة. وإن كثرة الاتباع لا يعني أحقيتها. فلو اجتمع الكفر بالحماقة والبلادة وقصور النظر في وحدة الكلمة، فإن ذلك لا يدل على أن الحق معهم[7]. إضافة لذلك، إن التقليد ينفي ذاته بذاته حالما يحاول الاستناد إلى أسس منطقية. وذلك لأن المنطق يؤدي بالضرورة إلى نتائج معاكسة لما يريد ويرغب. وحالما أخذ بتطبيق آراءه النقدية بصدد تقليدية الباطنية للإمام المعصوم وفكرة العصمة، فإننا نراه يؤكد على أن العصمة بحد ذاتها لا يمكنها أن تكون دليلاً من دون دليل. وأن المعصوم لا يمكنه مخاطبة الناس من أجل اكتساب ثقتها وتأييدها دون براهين صحيحة ومقنعة. ذلك يعني، أن مصدر القناعة هنا وأسلوبها ليس التقليد والعصمة، بل البراهين والحجج. لأن الجوهري في ذهنية المخاطب هو التعامل مع الدليل لا مع العصمة. ومن هنا فإن العصمة لا تعمل إلا على حيونة الإنسان لأنها تفقده قدرة التفكير المستقل، أو أنها تضع مهمة "تحريره" من خلال تحويله إلى بهيمة. والغزالي يدرك تعقيد النفسية التقليدية في الأوساط الشعبية (مسلمين وغير مسلمين)، أي كل "أولئك الذين لو قطّعوا إرباً لم يدركوا شيئاً في البراهين العقلية"[8]. في حين أنه يغفل التعامل مع "من فارق حيز المقلدين أو عرف أن من التقليد خطر الخطأ فصار لا يقنع به"[9]. وهو يدعو هذا الصنف إلى النظر في خلق السموات والأرض ليعرف به الله، والتفكر في المعجزات ليعرف النبوة.ولم تكن هذه الصيغة الجدلية معزولة عن تقاليد وتأثير علم الكلام وأساليبه الخطابية، باعتباره علم الدفاع عن عقيدة العوام. وسوف يؤكد لاحقاً موقفه من كتابه (فضايح الباطنية)، باعتباره من بين مؤلفات الدفاع عن عقيدة العوام. وفيما لو تركنا جانباً هذه القضية، فإن خصوصية آثارها في شخصية الغزالي تقوم في فعالية دورها الكبير في التحضير لانتقاله إلى عالم الصوفية. وبالأخص فيما لو نظرنا إليها من زاوية تحليله وانتقاده لآراء الباطنية وأسلوبها "التكتيكي" في كسب أتباعها، وفي موقفها من إبطال الرأي والدعوة للإمام المعصوم، وكذلك من زاوية تحليل مقدمات ونتائج الحوافز القائمة وراء تأليف (فضائح الباطنية) ذاته واستنتاجه السياسية.

إن ما يميز (فضائح الباطنية) عن المؤلفات السابقة المعارضة للباطنية، هو تعميقه لإحدى القضايا السياسية والفكرية الجدلية في اتجاهات الباطنية التعليمية، أي عند أولئك الذين يقرّون بضرورة الإمام كمصدر للمعرفة اليقينية. والغزالي لا يناقش في الواقع ومن حيث الجوهر سوى هاتين المسألتين. ومع ذلك، تجدر الإشارة هنا إلى أن الكيان الباطني (الإسماعيلي)، الذي يجادله الغزالي، يستلزم بعض التدقيق، والذي يمكننا الحصول عليه من تسمياته للباطنية وألقابها. فهو يشير إلى ما يدعوه بالألقاب العشر للباطنية، المعبّرة عن مدارسها أو فرقها السبع، وأولها الباطنية وهو لقولهم إن لظواهر القرآن بواطن تجري في الظاهر مجرى اللب من القشر، وإنها رموز وإشارات إلى حقائق خفية. أما الثانية فهي القرامطة، نسبة إلى حمدان بن قرمط، والثالثة الخرمية (الخرمندية) لقّبوا بها تعبيراً عن مذهبهم القائل باللذة والإباحة (إذ الخرمة هي الشيء الملذ المستطاب) وهم أهل الإباحة من المجوسية والداعين إلى ترك بساط التكليف. أما الرابعة فهي البابكية نسبة إلى بابك الخرمي وهي فرقة إباحية أيضاً. أما الإسماعيلية (أو السبعية) نسبة إلى زعيمهم محمد بن اسماعيل بن جعفر، الذي انتهت الإمامة ودورها إليه وهو السابع استناداً إلى آرائهم بأن الإمامة سبعة سبعة وأن أدوارها السبعة في الإمامة تتوافق مع حدوث القيامة وأن تعاقب الأدوار لا نهاية له، إضافة إلى قولها بتأثير الكواكب السبعة (زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر)، أي تأثير ما يدعوه بملحدة التخمين ومذاهب الثنوية في النور. أما السادسة فهي المحّمرة حيث لقّبوا بها لأنهم كانوا يصبغون ملابسهم بالحمرة. والفرقة السابعة والأخيرة هي التعليمية، لقّبوا بها لأن مبدأ مذهبهم إبطال الرأي ودعوة الناس إلى التعلم من الإمام المعصوم. ومستندهم بذلك أن الحق إما يعرف بالرأي وإما بالتعليم. وبما أن الأول خاطئ بفعل اختلاف الآراء وثمرات نظر العقلاء، فإن من الضروري الاعتراف بالإمام المعصوم، الذي ينزلونه كما يقول الغزالي، منزلة النبي.

مما سبق يبدو واضحاً أن الغزالي ردد باختصار ما سبق وأن صاغته تقاليد المعارضة الفكرية للباطنية. وهو لا ينفي ذلك، خصوصاً حال حديثه عن أسباب نشوء الحركات الباطنية. حيث يستند أساساً إلى التصورات المتبلورة في كتابات علم الملل والنحل والكلام والتاريخ، أي حصيلة التصورات التي تسم الباطنية بالغلوّ. ولا يعني ذلك افتقاد هذه التقييمات للدقة من الناحية الفكرية والسياسية أيضاً، كل ما في الأمر أنه حاول أن يجمّع الصورة العامة للباطنية في مختلف العلوم الإسلامية بالصيغة التي يمكنها أن تخدمه في "تبشيع" مظهرها "الإسلامي". وبالتالي إعطاء انتقاده شرعية الدفاع عن عقيدة العوام باسم الدفاع عن الخلافة. لهذا تكلم عما يمكن دعوته بالشخصية العامة للباطنية وأسباب ظهورها بالصيغة التي توافق ما اتفق عليه "نقلة المقالات قاطبة". ولعل محاولته النقدية في توجيه سهامها نحو كشف الأسباب الكامنة وراء نشوء الباطنية وأساليبها السياسية الدعائية هو الشكل الأكثر تعبيرا عن ذلك في إطار ما يمكن دعوته بالصراع الأيديولوجي. ففي استعراضه لأساليب الباطنية في استدراج مؤيديها، يسوق الغزالي كل الدرجات التسع وهي الزرق والتفرّس، أي ضرورة أن يكون الداعي فطناً ذكياً صحيح الحدس صادق الفراسة ومتفطناً للبواطن، وله فيها ثلاثة أمور ينبغي أن يتقنها وهي التمييز بين من يمكن استدراجه ومن يعصي عليه من أجل أن لا يذهب وقته سدى، وأن يكون مستعملاً للحديث ذكي الخاطر في تغيير الظواهر (الآيات) وردها إلى البواطن إما لغوياً أو عددياً أو لمناسبة ما أخرى، وأن يكون بحّاثاً عن مسلك المرء أو معتقده، فمن كان مائلاً إلى التقشف والزهد دعاه إليه ومن كان مائلاً إلى المجون حبّذه إليه ومن كان من أتباع أبي بكر قرر إجماع الناس على خلافته[10]. أما التأنيس فهو العمل على خلق الأنس به عن طريق معرفة القرآن ومهاجمة السلاطين[11]. أما التشكيك فبعد حصول الاستئناس به، وهو جهد الداعي لتغيير اعتقاد المستجيب وزلزلة عقيدته عن طريق التشكيك من خلال الأسئلة التي لا يمكن الإجابة عنها بمعقول مثل السبب القائم أو الحكمة القائمة وراء مقدورات الشرائع، وعدد الصلوات، ومعنى الحروف في أوائل السور، وآيات القرآن التي تقول بأبواب الجنة الثمانية وأبواب النار التسعة، ولماذا السموات سبع دون ثمان، والتشكيك في خلق آدم وغيرها[12]. أما التعليق فهو طيّ الجواب عن هذه الشكوك، فإن رآه قليل الفضول تركه، وإن رآه متعطشاً لها أخذ منه الميثاق والحلف، وهو الربط، أي الذي يربط الإنسان بإيمان مغلظة وعهد مؤكدة لا يجسر على المخالفة لها[13]. أما التدليس فهو التدرج في بث أسرار الدعوة إليه مع مراعاة قاعدة المذهب وتعميق فكرة تضارب الآراء وأن السر الحق المكنون عند الإمام المعصوم، وبالتالي تعميق فكرة قشرية الآيات (الظواهر) وعمق البواطن. مع التأكيد على أن الباطل ظاهر جلي والحق عميق ودقيق. وترغيبه في أن الكثير من العلماء والفلاسفة هم من أتباع الباطنية، إلا أنهم يكتمون ذلك، أي إقناعه بقوتهم وسعة انتشارهم[14]. أما التلبيس فهو وضع مقدمات لا تنكر في الظاهر ولا تبطل الباطن، بحيث يؤدي إلى تعميق القناعة بفكرة الظاهر الباطن. أما الخلع فهو إيصاله إلى فكرة فهم المعنى الباطن وعدم التقيد بالعمل الظاهر. أما المسخ فهو السلخ الكامل عن الدين وعن التمسك بشرائعه.

مما سبق يبدو واضحاً بأن الغزالي لا يقدم أي جديد في هذا المضمار. فهو يردد من حيث الجوهر نفس الاتهامات السائدة في الأوساط الإسلامية المعادية للباطنية. بمعنى أنها تكشف وتشير إلى بعض الحقائق دون أن تفي بحقيقة الباطنية. فهو يردد نفس الآراء المنتشرة والقائلة بأن الباطنية ما هي إلا محاولة اتباع الأديان الأخرى الأخذ بالثأر من سيطرة الإسلام والقضاء عليه، أي تصويرها على أنها نتاج المؤامرة المجوسية المزدكية من خلال إغواء الروافض، أو ما يدعوه بإيصالهم إلى الحالة التي يغلق عليهم فيها "باب الرجوع إلى الشرع"[15]. إلا أن هذه السطحية تقوم في طابعها الأيديولوجي لا في مضمونها الواقعي. إذ هي تشير إلى بعض الدلائل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية الدينية التي ولعت بها كتب الكلام حول ما دعته بمحاولات تحطيم الإسلام من الداخل. ففي إشارته إلى الجوانب السياسية والاقتصادية يؤكد على ما أسماه بمحاولة الثأر من جانب "أبناء الأكاسرة والدهاقين المجوس، الذين انقطعت سلطتهم قبل الإسلام" و"أولئك الطامحين إلى السلطة، إلا أنه ليس يساعدهم الزمان"[16]، الذين استغلوا رعاع الروافض والدعوة بعظمة أهل البيت كوسيلة لبلوغ مأربهم[17]. بينما هناك من تأثر بالباطنية وانخرط فيها لأسباب شخصية كحب الذات والرغبة في الإنفراد عن الأمة ودعوى التخصص بمعارف لا يصل إليها الآخرون. في حين أن هناك من "يسلك طريق النظر ولم يستكمل فيه رتبة الاستقلال" مما يحدو به عجزه عن البحث عن عروة اليقين في الإمام المعصوم. بينما تأثر آخرون بالباطنية بفعل التقليد والعيش بين أظهرهم. وفي حالات معينة توافقت بعض آراء الباطنية مع آراء وأفكار "ملحدة الفلاسفة والثنوية والمجبّرة في الدين"، الذين اعتقدوا "أن الشرائع نواميس مؤلفة، وأن المعجزات مخاريق مزخرفة"[18]، أي استغلال الباطنية كواجهة لنشر آرائها الخاصة. بصيغة أخرى، إننا نلاحظ في آرائه محاولة الكشف عن كل العناصر الأساسية للباطنية ومكوناتها الاجتماعية والسياسية والثقافية والشخصية وغيرها. وقد حدد ذلك تقييم الغزالي العام لها باعتبارها مذهباً ظاهره الرفض وباطنه الكفر، بسبب حصرها مدارك العلوم في الإمام المعصوم وتقليل شأن العقل في قدرته على إدراك الحق بصورة مستقلة، وطلب الحق بطريق التعليم (التقليد) على يد الإمام والمعلم المعصوم المستبصر بنور الله والمطلع على جميع أسرار الشرائع والهادي للحق والكاشف عن كافة المشكلات، وأن لكل زمان إمام معصوم لابد منه. (يتبع.....)

***

 ا. د. ميثم الجنابي

.......................

[1] الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص177.

[2] تستند فكرة الرحمة في الخلاف إلى تعمق الرؤية الواقعية تجاه تباين واختلاف الرؤية والمواقف. بينما أعطى لها الحديث (النبوي) الموضوع (الكاذب) "اختلاف أمتي رحمة" أساسا مزدوجا، بحيث فسح المجال أمام الخلاف من جهة، وأمام اعتباره قيمة كبرى من جهة أخرى. وعلى هذا الأساس كان من الممكن "للإجماع" الثقافي أن يقرّ بتنوع واختلاف مدارس وفرق الإسلام العديدة ومن ثم صراعها الذي كان يبلغ أحيانا حد التكفير والتجريم. وحالما تحول "الاجماع" إلى عنصر من عناصر الروح الفكري السائد، فانه حال دون تعميق عناصر "الرحمة". وظهر ذلك بجلاء في مختلف مظاهر وإشكاليات الفرق المتحاربة والمذاهب المتناحرة. فتطور إدراك الرحمة في الخلاف باعتباره ضرورة، حددته وحدة العناصر المتضادة في الثقافة الإسلامية كالعقل والنقل والبدعة التقليد وغيرها، وكذلك محاولة حلها بالطريقة التي تحافظ على ضرورة الحق وحرية التفكير. ولم يكن من الصعب حل هذه الازدواجية. بينما تباين مرورها، من حيث تعقيده، في دهاليز العلوم الإسلامية المختلفة. ووجدت في حالة الغزالي نموذجها المتميز في محاربة التقليد والبحث عن اليقين. ففي مهاجمته الفلاسفة دفع عناصر الشك العقلي إلى أقصاها من اجل تهشيم الذهنية العقلية التقليدية للفلاسفة ودحض آراءهم القائلة، بإمكانية العقل حل كافة المعضلات العقائدية. بينما دافع عن العقل ضد تقليدية الباطنية مبرهنا على ضرورته عوضا عن "عصمة الإمام". وفي كلتا الحالتين كان حافز البحث عن اليقين مجردا في مساعيه النقدية. إلا أن هذه المساعي استثارت بروز وتجّمع عناصر الرحمة وضرورة الخلاف ومحاربة التقليد وأهمية العقل وضرورة اليقين، أي العناصر  التي تمتلك قيمتها الحية في التذوق الفردي لتجربة الظاهر - الباطن الصوفية.    

[3] الغزالي: فضائح الباطنية، ص21.

[4] الغزالي: فضائح الباطنية، ص21.

[5] الغزالي: فضائح الباطنية، ص58.

[6] الغزالي: فضائح الباطنية، ص60.

[7] الغزالي: فضائح الباطنية، ص84.

[8] الغزالي: فضائح الباطنية، ص62.

[9] الغزالي: فضائح الباطنية، ص88.

[10] الغزالي: فضائح الباطنية، ص12-14.

[11] الغزالي: فضائح الباطنية، ص15.

[12] الغزالي: فضائح الباطنية، ص15-16.

[13] الغزالي: فضائح الباطنية، ص17-18.

[14] الغزالي: فضائح الباطنية، ص19-20

[15] الغزالي: فضائح الباطنية، ص10.

[16] الغزالي: فضائح الباطنية، ص22.

[17] الغزالي: فضائح الباطنية، ص10-11.

[18] الغزالي: فضائح الباطنية، ص21-22.

 

 

في المثقف اليوم