دراسات وبحوث

الكمون الحي لمفارقات الحقيقة العقلية-الاخلاقية عند الغزالي (1-2)

ميثم الجنابيأيا حجر الشحر إلى متى

تسنّ الحديد ولم تُقطَعِ؟

لم يكن بإمكان الغزالي آنذاك بعد أن يقول ما سيقوله الجيلاني عن منازلته لأقدار الحق بالحق للحق، لأنه لم يجتز بعد "طريق الانكسار" حتى نهايته. وإذا كانت تقاليد الصوفية اللاحقة قد أفلحت في إبداع مقارنات عديدة لمنازلات شيوخها، فلأنها وجدت فيها الصدى الروحي لما هو موجود وممكن (الفعل والواجب). بمعنى أنها استطاعت أن توّحد في كلّ واحد تجاربها الفردية العديدة في حقيقة المنازلة. لهذا كان بإمكان الجيلاني أن يقول ما لم يقله الغزالي، وأن تنعكس مع ذلك تجربة الثاني في فكرة الأول. غير أن لهذه المقارنة صداها المعنوي في ثقافة الروح الصوفي، لا واقعية المسار الفعلي للغزالي.

فقد كانت مواجهته للتعليمية الباطنية هي التجسيد الحي لمنازلته الواقعية والممكنة. إذ أدرك في مجراها بأنه ليس الحقيقة هي التي تحدد نظام السياسة، بل السياسة هي التي تدجّن الحقيقة. ومن الممكن أن نعثر على صدى هذا الإدراك الخفي في بعض استنتاجاته في (فضائح الباطنية)، القائلة بأن التعين للإمامة وموافقة الخلق هو لطف من الله في اختيار المرء لخلافته. إذ أن اختيار الخلق في الظاهر هو اختيار الله في الباطن. ولا ينبغي فهم هذه العبارة على أنها تبرير للسلطة في ممارساتها، أو شكل من أشكال إضفاء قدسية التيوقراطية الشاملة عليها. على العكس! إنه عبّر بصورة خفية، أو بصورة غير مباشرة، بما في ذلك في مواقفه وأحكامه الأيديولوجية المناهضة للتعليمية الباطنية عن سعي عقلاني إجماعي إسلامي. وقد حفظته هذه العقلانية من التهشّم وأنقذته من السقوط في مرارة اليأس، بما في ذلك في أشد مراحل انحلاله الروحي وأزمته النفسية الأخلاقية.

لقد كان ارتباط شخصية الغزالي وتطورها الفكري بعالم السياسة جلياً، شأن أغلب رجال الفكر العظام. وترك ذلك بصماته أيضاً في عباراته عن "شكر النعمة" و«إقامة رسم الخدمة للخلفاء والأمراء وغيرها. وبهذا المعنى، فإنه لم يشكل استثناء. وإذا كان بالإمكان الحديث هنا عن استثناء خاص به فهو ذاك الذي استثار الخلافة (السلطة) في طلبها منه تأليف كتاب في الرد على الباطنية حيث وجد في اختياره من بين العالمين لمهمة الذبّ عن الخلافة المستظهرية، استثناء مثيراً للإعجاب والتقدير. فهو يشير في (فضائح الباطنية)، باعتباره الوجه الدفاعي عن (فضائل المستظهرية) إلى هذا الاختيار والتقدير باعتباره وحدة واحدة. وإذا كان الغزالي عادة ما سيذكر (فضايح الباطنية) (بالمستظهري) فليس لكونه أراد التنصّل كلياً مما اقترفه عقله ولسانه ضد معارضيه، بقدر ما أنه وضع الأمور، كما يقال، في نصابها، أي وحّد ما هو موّحد في عباراته: الذب عن المستظهرية من خلال التشهير بفضائح الباطنية التعليمية. فهو يشير في مقدمة كتابه إلى أنه شخصياً كان يرغب في تأليف كتاب في (علوم الدين)  يرد به "شكر النعمة" للخليفة. وإذا كان طلب الخليفة قد استجاب لما في خلجات نفسه، فإن هذا التناغم قد التأم في نسيج التقاليد الكلامية الفِرَقية. بمعنى أنه تضمن في ذاته كل فضائل ورذائل الثقافة الإسلامية الجدلية. فالاستعداد النفسي لتأليف كتاب في "علم الدين" من أجل حظوة الملوك ضد معارضيها، كان في الواقع النتيجة الحتمية لاحتراق الكلمة الجدلية وضمور الروح الأخلاقي، أي كل ما سيهاجمه لاحقاً بقوة نادراً ما نعثر على مثيل لها في الفكر الإسلامي، وبالأخص ما يتعلق منه بالكشف عما أسماه، متتبعاً أثر أبو طالب المكي، بعبارة "علماء السوء". وقد قصد الغزالي بممارسة هؤلاء العلماء أيضاً تجربته الشخصية، أو على الأقل، أنها تتلألأ بين عباراته وانتقاداته اللاذعة في (إحياء علوم الدين) كرنين حاد لأصواته المقموعة في (المستظهري) وغيره من المؤلفات. ومن الممكن العثور على ذلك بجلاء في تلك العبارات العديدة التي ينتقد بها أولئك الذين يسمون سعيهم للجاه والمال في خدمة السلطان، على أنه دفاع عن الدين. حقيقة إنه لم يبتذل ممارسته هذه إلى الدرجة التي يسقط بها إلى حضيض الاحتراف الأيديولوجي الرخيص. لقد كانت خدمته للسلطان هي بمعنى ما أيضاً نتاجاً لعدم حسمه الفكري والشخصي لعلاقة السياسة بالأخلاق، والأخلاق بالحقيقة (العقلية).

فهو يظهر في (المستظهري) كمدّاح للسلطة. حيث ينظر إلى "الأوامر الشريفة النبوية المستظهرية" الموجهة إليه نظرته إلى خادمها. وبهذا يكون تسطيره في الدفاع عن الخلافة هو استجابة لطلب مدفوع الأجر مادياً ومعنوياً. وذلك لأن الطلب الموجّه إليه يحدد له أيضاً مهماته الفكرية ويحجّم بالتالي حدود انتقاداته للتعليمية الباطنية ضمن ما أسماه الطلب بالكشف "عن بدعهم وضلالهم ومكرهم، وإبراز فضايحهم بما ينص إلى هتك أستارهم وكشف أعوارهم"1 ، أي مهمة تنفيذ متطلبات الأيديولوجية السلطوية في أكثر صيغها تحزّباً ودعائية. إلا أن "الفضائح" الباطنية التي ركز الغزالي اهتمامه عليها لم تطمس عقلانيته النقدية. على العكس! إنها، إن أمكن القول، ساهمت في تعميق منظومة التفكير العقلاني. وفي هذا كمن أحد الأسباب الرئيسية في إثارة اصطدام روحه المعرفي والأخلاقي. وليس من المستغرب هنا افتراض فاعلية هذا الاصطدام الداخلي في أعماقه، إذا أخذنا بنظر الاعتبار واقع ابتداء أزمته الروحية، التي أدت به إلى التصوف بعد أشهر قليلة من تأليف هذا الكتاب.

لقد تضمن (فضائح الباطنية) في أعماقه بذور الوعي العقلاني الأيديولوجي والأخلاقي السياسي المتصادم والمعترك، بفعل عدم خضوعه الكلي للحقيقة، وبفعل خضوعه الجزئي للسلطة. فقد شكل هذا التناقض أحد مصادر قلقه الروحي. بل يمكن القول بأن انتقاده للتعليمية الباطنية قد أسدى له خدمة سموه الروحي. وضمن هذا السياق يمكن القول، بأن  مصير الافراد هو بمعنى ما الحصيلة الواقعية لانكسارات حياتهم الفعلية. غير أن ما هو جوهري في حياة ومصير أهل العلم الكبار هو أن هذه التلقائية الوجودية لا تفرضها عشوائية الاجتماع و"فوضى" قوانينه بما في ذلك في أكثر أشكالها وأنماطها تطورا. وتصبح هذه الحقيقة أكثر اقناعا للصوفي بسبب ربطه فكرة المصير بالأزل. فالأزل بالنسبة له ليس نقطة البداية وذلك لأن الأول بالنسبة له هو الآخر. والعكس هو الصحيح. فالأزل بالنسبة له ليس زمنا ساريا بحد ذاته بل هو مسار الحال (الصوفي). فالحال هو الكينونة الوحيدة التي تكشف في ثناياها تذوق حقائق الوجود. آنذاك يفقد الصراع طابعه المفترس. الأمر الذي حدد موقف الصوفية من السلطة والقوة، باعتبارهما أوهاما وأشباحا عابرة لا معنى ولا قيمة لها بمعايير السمو الأخلاقي والروحي. إن هذا الإدراك العميق المبني على رؤية العالم ووحدته ضمن منظومة أخلاقية متكاملة، لم يكن معزولا عن تجارب المتصوفة، وبالأخص تجارب أولئك الذين تحسسوا ذلك بكامل وجودهم، كما كان الحال بالنسبة للغزالي. فقد أوحت هذه التجربة في تذوقها الصوفي للفكرة التي لم يعلنها الغزالي والتي يمكن رؤيتها في مجمل مبادئ منظومته الأخلاقية عن أن الحقيقة ينبغي أن تزيح جانبا تخويل نفسها مسئولية تطبيقها العملي، دون أن يعني ذك في الوقت نفسه رفع شعار الخمول العملي في عالم المتناقضات.

فقد جذبته "فضائح" الباطنية كضالة كان ينشدها، وبغية كان يقصدها، وكيف لا يتسارع إليها، كما يقول هو عن نفسه في مقدمة كتابه، وهو يرى الامتثال والطاعة موجبة مازال الأمر من زعيم الأمة وخليفة الله؟ وقد أقنع نفسه آنذاك بأن ما يقوم به هو ذبّ عن الدين والحق المبين. وإذا كان الغزالي هو المختار بين العالمين، فالإذعان في حقه، كما يقول عن فعله، هو من فروض الأعيان. لقد حشر نفسه في مزالق الوهم الأيديولوجي، ولكن دون أن يفقده ذلك عقلانيته النقدية.

فالتوجه الأيديولوجي لم يقض على عقلانيته، بينما الأخيرة فسحت على الدوام مجالاً لتلألؤ الأنوار الخفية للأخلاق. إذ يمكن القول بأن الغزالي ظل عقلانياً حتى في تلك اللحظات التي كان يتنازل فيها جزئياً، بفعل متطلبات الصراع الايديولوجي (المذهبي الكلامي)، عن وحدة العناصر العقلانية المتجانسة. وهذا ما يبرز بوضوح في تنوع الاحتمالات التي تتضمنها عباراته ومقولاته المؤدلجة، بما في ذلك من حيث إمكانية استعمالها ضده. فعندما يرد على آراء وتأويلات الباطنية التعليمية وبالأخص ما يتعلق منه بصيغة الحروفية والعددية، فإنه يؤكد على إمكانية استعمال الأرقام الأولية من الواحد إلى العشرة بالطريقة المخالفة لاستنتاجات التعليمية الباطنية. بمعنى أننا إذا رأينا شيئاً واحداً، فإننا نستطيع أن نستدل به على عمر بن الخطاب واثنين على محمد وأبي بكر، وثلاثة على محمد وأبي بكر وعمر. وإذا وجدنا سبعة نستدل بها على سبعة خلفاء من بني أمية مبالغة في إرغامهم، كما يقول الغزالي، وإجلالاً لبني العباس عن المعارضة بهم. ويمكننا القول بأن عدد السموات السبع والنجوم السيارة وأيام الأسبوع تدل على معاوية ويزيد ومروان وعبد الملك والوليد وعمر بن عبد العزيز وهشام ثم السفياني المنتظر2 . وينطبق هذا بالقدر ذاته على كافة آراءه ومواقفه وانتقاداته ذات المنحى الأيديولوجي.

فمن المعروف الدور الذي لعبه تأويل الحروف والأعداد في تاريخ الفلسفة بشكل عام والباطنيات بشكل خاص. فقد ربطت التيارات الباطنية في تأويلاتها الحروف والأعداد. وأرست على هذا التأويل الكثير من مفاهيمها وأحكامها وتصوراتها بل وفلسفتها النظرية والعملية. ولم تخل مساعيها هنا من افتعال كبير احيانا. اذ تمتلك الأرقام أربعة وسبعة، على سبيل المثال، أهمية عقائدية بفعل تطابق الرقم أربعة مع فكرتها عن (السابق والتالي والناطق والأساس) حيث وجدت فيه التعليمة الباطنية التعبير العاكس لشموله المطلق الذي يلف الكون ومظاهر الطبيعة. فالطبائع أربعة (الماء والهواء والتراب والنار) ويقابله في الإنسان (البلغم والدم والصفراء والسوداء) والأمزجة الأربعة (الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة). كما يتوافق مع الجهات الأربع للعالم (شمال وجنوب وشرق وغرب) وفصوله (ربيع وصيف وخريف وشتاء). أما في مجال تأويل الحروف والعدد فقدموا مثال ذلك على تأويل (لا إله إلا الله) على أنها أربع كلمات تدل على في العالم الروحاني على (السابق والتالي= النفس والطبيعة) و(الناطق والأساس= النبي والإمام) ويقابلها في العالم الجسماني الطبائع الأربع وهي ذاتها أيضا سبع (لا إ له إ لا ا لله) الذي يتوافق مع دورات الائمة السبعة والأفلاك السبعة. ومن الممكن الاستفاضة هنا بأمثلة عديدة تجري كلها ضمن نفس السياق. بمعنى ان ما يتغير فيها هو مجال التطبيق والاستعمال. غير إن ذلك لا ينبغي أو يلزم النظر إلى أن مضمون وحقيقة الفلسفة الإسماعيلية ترجع إلى هذا المستوى والنمط في التفكير والتأسيس. أنها مجرد مظاهر للتمثيل وليس حقيقة ومضمون الفلسفة الباطنية والإسماعيلية بشكل خاص. وقد قدم الغزالي هذه الامثلة واستفاض في نقدها من أجل الكشف عما اسماه بفقدان العقل والغلو المذهبي. (يتبع....) 

 

ميثم الجنابي

......................

1- الغزالي: فضائح الباطنية، ص2.

2- الغزالي: فضائح الباطنية، ص26.

 

في المثقف اليوم