دراسات وبحوث

الحدود العقلية لفقه الجسد والحدود العملية لفقه النفس عند الغزالي

ميثم الجنابي"ظنوا أن حكمهم العبد بينه وبين الله

 يتبع حكمه في مجلس الفقهاء"

 (الغزالي)

للثقافة الواحدية إشكالاتها المنطقية، لأنها لا تستطيع إدراك حقيقة وجودها خارج أحكامها، أي أنها لا تتلذذ بتأمل ذاتها دون حصر النفس في قيود ما تعتقده مقبولاً ومرفوضاً. لهذا تبدع حدودها العقلية والعملية باعتبارها ضفافاً لسيلان روحها العارم. وإذا كانت هذه الصورة التي يبدعها خيال المقارنة الفنية توحي أيضاً بهدوء فوران المنابع في المصبات، فلأن الثقافة هي الأخرى تشق لنفسها مجراها في صحارى التجربة الإنسانية لتروي ظمأها العقلي والأخلاقي بجهدها الخاص من منابعها الأولى. وعلى قوة هذا الارتباط الوجداني بالمنابع الأولى تتوقف نوعية جهودها الذاتية في إبداعها العلمي والعملي، أي أن هذه العلاقة تفسح المجال أمام نوعيات مختلفة لتمثيلها في العلم والعمل. فيمكنها أن تولّد صيغة الإدراك القائل بأن جهودها الذاتية هي مجرد فعل في واحدية الثقافة، أو أنها مجرد أخذ وعطاء، أو أنها إبداعها الخاص، أو أنها استمرار لا غير، أو أنها حصيلة لكل هذه التجليات والمظاهر.

إن هذا الارتباط لا يصنع صيغة موحدة رغم وجود مظهرها. وإذا كانت هذه الظاهرة أكثر تعقيداً في الحضارات الواحدية الكبرى، فإن نتوءها في شخصياتها الكبرى لا يقل تعقيداً، بفعل تمثلهم لمكوناتها الثقافية بذواتهم. إلا أن هذا التمثل يجري عبر تقاليد العلم والعمل، أو حدودهما وغاياتهما. فعلوم الثقافة الواحدية تفعل فعلها على الدوام ضمن حدودها العقلية والعملية. وإذا كان الفقه هو الميدان الأوسع لتجربة الغزالي العملية، فلأنه الميدان المباشر لانكسار إبداعات الثقافة الإسلامية في نواحيها المختلفة. فهو الميدان الذي جمع بصورة نموذجية ثنائية العقل والنقل. وإن اكتفاءه بحدود هذه الثنائية المباشرة أو بقاءه في مغامرات الجسد الثقافي، قد استثار على خلفية يقين العقل وشكوكه حوافز البحث عن الاطمئنان الروحي.

فقد تضمن الفقه في أعماقه تجربة العلم والعمل في مستواها المادي الروحي، أي أنه احتوى في ذاته على وجود الثقافة وعدمها. وليس مصادفة أن يشعّ بأنواره الدافئة على روح الثقافة الإسلامية وأن يكبلها في الوقت نفسه بفروضه وحلاله وحرامه ومباحه. غير أن لهذه القيود أثرها غير المباشر في الروح. بمعنى أنها لا تتعامل مع الجسد إلا في إطار عقلانية المواقف والمصالح، بينما تتخلل جزئياً عالم الروح باعتباره ميداناً لتجلي النسبة الخفية في ما بين العبودية والربوبية. وفي هذه العلاقة المجردة اكتشفت تيارات الثقافة كل لنفسها درجات ارتقائها في سلّم الملك والملكوت (الطبيعي وما وراء الطبيعي) أو نزولها من الحضرة الإلهية إلى عرش الوجود. أما في تجلياته الشخصية، فإن هذا الاكتشاف ما كان بإمكانه أن يمتلك معناه الحق وقيمته المؤثرة في إبداع المفكرين والعلماء، إلا من خلال تجربة المعاناة الفردية وانكسارها العملي. لهذا احتل الفقه في فكر الغزالي هذا الموقع الحساس. والقضية هنا لم ترتبط فقط في أنه لعب دوراً كبيراً في صنع وكسر حدوده العقلية والعملية، بل وفي فاعلية خيوطه الخفية في حياكة مصيره الشخصي أيضاً.

فقد كان دخوله طريق الفقهاء هو الأسلوب الأكثر واقعية لصيرورة "العلم" و"العلماء" بالله، أي أنه تضمن في وهم الثقافة ومثالها المجرد قيم العقل والعمل (الأخلاق)،والقيم  المادية والروحية، أما في واقعيته فقد كان الوسيلة المناسبة أيضاً لبناء صرح "علم الدين وعلمائه". ولهذا سيتفوه الغزالي، كما ينسب له، في معرض إعادة تقييم تجربته العلمية ككل والفقهية بشكل خاص، إلى أنه أراد العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون لله! ولم يكن بإمكان هذا التحول أن يحدث إلا من خلال خوض غماره. وبالتالي، فإن "الانحراف" صوب الله ما هو في الواقع سوى "الاستعدال" في عقلنة العمل وتخليقه،أي جعله اخلاقيا.

فهو لم يشر بصورة مباشرة في مؤلفاته الصوفية إلى تجربته الفقهية، بينما أهملها وتجاهلها في (المنقذ من الضلال). بحيث لم يضعها أو ينظر إليها كدرجة في تطوره الفكري، كما هو الحال بالنسبة لموقفه مما أسماه بأصناف طالبي الحقيقة (المتكلمون والفلاسفة والباطنية والصوفية)[1]. بمعنى أنه لم ينظر إلى الفقه نظرته إلى صنف العلوم الموصلة إلى الحقيقة.

وليس المقصود بإهمال التجربة الفقهية إهمال الفقه كما هو. كما لا يعني ذلك تجاهل قيمته في تكوينه العلمي. فقد ظل الغزالي على مدى حياته فقيها حتى مخ العظام ومن أكابر الفقهاء المسلمين. وظل حتى آخر أيامه فقيها كبيرا يدرك ما للفقه من أهمية جوهرية في تنظيم حياة الأفراد والمجتمع والدولة. لهذا نراه يشير إلى كامل مؤلفاته الفقهية ولم يصنفها أو يدخلها ضمن تصنيف العلمي وغير العلمي، بل أبقى عليها كما هي. بينما نراه يكتب في سنوات حياته الأخيرة أحد أعظم مؤلفاته الفقهية (المستصفى من علم الأصول). ويعكس هذا الواقع موقفه العملي الأخلاقي من الفقه[2]

لقد كان هذا الموقف تجاوزاً عميق المحتوى لادعاءات الفقهاء الصامدة في قرون الخلافة عن حدّه وحقيقته. إلا أنه تجاوز مبني على أساس رؤية الحدود الفعلية للفقه. فالأخير يحذو في مساعيه متطلبات الوجود الاجتماعي والاقتصادي والسياسي حذو النعل بالنعل. ولا يمكن التخلص من ثقل متطلبات الساعة حتى في أشد ادعاءاته التصاقاً بعالم "الغيب والملكوت". ولم يشكل ذلك انتقاصاً له. على العكس! ذلك يعني أن إهمال الغزالي للفقه بوصفه علماً لا يطلب الحقيقة، هو حصره في إطار وظيفته الخاصة، باعتباره فقه المصالح وشئون الحياة الاجتماعية. ومن ثم عمله وبقاءه ضمن ظنونه الدائمة لاكتشاف الترتيب والنظام الممكن والأفضل لما ينبغي أن تتمسك به الأمة في فروضها وواجبها وحلالها وحرامها. وبهذا المعنى، فإنه لا يبحث عن حقائق الأشياء. إنه لا يصنع منظومة من قيم المعرفة العلمية والعملية. إنه يصنع أسلوب ومنظومة العمل في قيم الفرض والواجب والمباح وغيرها. وفي هذا الإطار تنحصر قيمته العملية. لهذا السبب كان بإمكانه أن يشكل مصدراً لانكسار القيم العملية للغزالي. وهو ما يفسر بدوره إعادة تقييمه له من خلال انتقاده مواقف "علماء السوء" وإبقائه على الفقه في الوقت نفسه ضمن منظومة التصوف الأخلاقية.

فالمادة الفقهية هي مادة المصالح المقننة. ولا يغير من مضمونه الواقعي هذا ارتباطه ببعض خيوط "الميتافيزيقيا الإلهية" وعباداتها. فالأخيرة تبقى، إن أمكن القول، النيزك العابر في فلك العادات ودوراته الحياتية اليومية. مما حدد بالضرورة طابعه الظني وتغير أحكامه. وقد ظل أميناً لموقف هذا من الفقه، أي إدراكه لقيمته الاجتماعية السياسية الرفيعة، باعتبارها حرية وسجن الوجود الاجتماعي ومحدودية الحقيقة فيه باعتبارها ظناً. وقبل أن يصل إلى هذه النتيجة ومن ثم إعادة النظر فيه وشحن هيكله المنطقي بروح المبادئ الأخلاقية المطلقة، كان ينبغي عليه، كما سيكرر لاحقاً، أن يمر بدهاليز الفقه، أو بالممر الضروري لعالم الثقافة الإسلامية.  وقد أدرك في قطعه إياه محدوديته المنطوية في ذاته رغم تقييمه الرفيع لأهميته العملية. وذلك لأن الفقه، كما يؤكد في (معيار العلم)، هو نظر المجتهدين في إصلاح الخلق[3]. وبهذا المعنى فإنه عرضة للتغير والتبدل.

غير أن الغزالي لم يسع من وراء ذلك للتقليل من قيمة الفقه، بقدر ما أنه أراد قلب مادته وأسلوبه، وذلك بفعل إدراكه تباين العقليات والفقهيات في الأسلوب والوظيفة والمادة. لهذا أكد على أن الاستقصاء في العقليات ينبغي أن يترك في الفقهيات وذلك بسبب طبيعة الحقائق في كل منهما. فالعقل والعقليات يسعيان لطلب اليقين، بينما  اليقين هو أعزّ الأشياء وجوداً وأكثرها صعوبة ودقة. وأنه لا نهاية للسير في البحث عنه. أما طلب الفقه فهو الظن. وبهذا المعنى فهو أيسرها وأسهلها. فالفقيه يحتكم إلى الظن حتى في حالة استناده إلى المنطق. وإذا كان الغزالي سيسعى لاحقاً لمنطقة الفقه، أو وضع الأساس المنطقي لأحكامه الظنية، فإنه كان يدرك في الوقت نفسه صعوبة تطبيقه أحياناً بصدد القضايا الحياتية المتغيرة.

بصيغة أخرى، إنه حاول أن يكشف عن أن الأحكام الفقهية لا تمتلك صفة الضرورة، وأن ارتباطها بالحقائق كما هي هو مجرد ارتباط ظني تماماً بالقدر الذي لا ترتبط بحقيقته الأخلاق بوصفها قيما، أي أن أحكام الفقه هي أحكام التأرجح بين الإقدام والإحجام. لهذا ضرب مثاله المقارن بالتاجر. حيث حاول أن يكشف على مثاله من أن فكرة الأصلح والأردأ سواء كانا نتاجاً للمخيلة أو الدليل، لا يمتلكان في كلتا الحالتين إلا الميل والظن. وإذا كان الأمر كذلك، أي إذا كانت الأحكام الفقهية تستمد مقوماتها وأسسها من ملاحظة التجارب الحياتية من أجل حسم بعض مشاكلها العابرة، فإنه لا معنى للاستقصاء والتبحر فيها.  فالفقيه الشديد التقصي للمتناقضات شبيه بالتاجر الذي يتأمل حظه المتأرجح بين الربح والخسران، أي أنه لا معنى لطلبه اليقين هنا، لأنه لا يقين هنا. فهو اليقين الذي ينفي أساس وجوده. وذلك لأن الحكم "المنطقي" الوحيد الذي يمكن قوله هنا هو "إنه تاجر جبان لا يربح!". وعلى هذا الأساس يبني استنتاجه الدقيق القائل بأن "الاستقصاء في الفقهيات هو هوس محض، كما أن ترك الاستقصاء في العقليات جهل محض"[4].

وبهذا، يكون قد أشار إلى محدودية الفقه العلمية والمعرفية انطلاقاً من مادته ووظيفته، أي أنه قيده بما هو مطابق لمضمونه. واكتشف وعبّر في الوقت نفسه بصورة أولية عما سيشدد عليه لاحقاً باستمرار. وهو جزئية الحقيقة القائمة فيه، باعتبارها مساعي للإصلاح وتنظيم الحياة الاجتماعية بما يمّكنه أن ييسر حل مشاكلها لا ربطها أو تطابقها بالضرورة مع قيم الأخلاق المطلقة. وليس مصادفة أن يشدد على استمرار ربط العقل بالأخلاق، والمنطق بالقيم في (ميزان العمل)، وبالأخص عندما أكد على أن معرفة الفقهاء الممزوجة بسوء الأخلاق لا يمكنها أن تؤدي إلى بلوغ السعادة. من هنا كان إدراجه الأولي لآراء المتصوفة في مواقفه من الفقه والفقهاء استمرار متعمق لعناصر منظومته الاجتماعية السياسية والأخلاقية.

فقد وضعت المتصوفة الفقهاء في "الرتبة الخسيسة"، انطلاقاً من واقع تعامل الفقه مع البدن، بينما الأخير في "طريق السائرين إلى الله" يجري مجرى الناقة في طريق الحج[5]. أما الفقهاء فهم مثل عمّار الرباطات والمصالح في طريق مكة إلى الحج. إن هذه الأحكام التي تبدو قاسية المظهر لها أساسها الحياتي أيضاً في استيعابه الفردي لتجربته الشخصية وإعادة تقييمها، والتي أدت به لاحقاً إلى أن ينظر إليها نظرته إلى مضيعة للوقت. وإذا كان لهذا التقييم معناه المتأسي بمعايير التعبير النفسي، فإن قيمته العلمية تتعدى ذلك إلى ما هو أكثر واقعية وجوهرية. بمعنى أنه لا يمكن رؤية "المضيعة" في العمر والفكر دون المرور بهما. أما في الواقع فلا مضيعة، وذلك لأنها ذاتها أسلوب صيرورة الأحكام الشخصية ودقة اقترابها من الحقيقة أو بعدها عنها. فعندما يؤكد في (جواهر القرآن) على أنه "ضيع شطراً صالحاً من العمر في تصنيف الخلاف في الفقه"[6]. فإنه لم يقصد بذلك سوى الجهد الذي أفسد في عقله قوة انتمائه لعالم الروح الأخلاقي. أما في واقعيته، فإن هذا الإفساد ما كان بإمكانه أن يؤدي إلى ما أدى إليه في تجربته الفردية ككل والفقهية (العملية الأخلاقية) بشكل خاص، دون المرور بدهاليز الفقه. إنها عملية إدراك النفي التي تولد نقيضها. وهذا ما يفسر بدوره الصيغة الظاهرية في ازدواجية الحكم الشخصي عن الفقه، أو التردد الظاهري بين نفيه الكامل وتأييده الكامل. غير أن لهذه الاحكام الظاهرية جانبين ومستويين، الأول شخصي حياتي، والثاني موضوعي معرفي متعلقين بظهور الفقه وتطوره.

فالتجربة الشخصية للغزالي في عالم الفقه والفقهاء، التي ساهمت في نقله إلى عالم الصوفية، عمّقت عنده وعي عناصر ضرورة الارتفاع فوق معطيات الظن العابرة وعالم الخلافات السيئ الصيت، الذي بلور عقله ونفسه وأسهم في الوقت نفسه بتعميق أزمته الروحية الفكرية وعلاجها. لهذا استنتج بأن من يريد أن يصير "فقيه النفس فلا طريق له إلا أن يتعاطى أفعال الفقهاء"[7]، أي التكرار الدائم للفقه حتى ينعطف منه على قلبه صفة الفقه فيصير فقيه النفس. ولا يمكن فهم حقيقة هذا الاستنتاج بمعزل عن وعي الذات النظري الأخلاقي، الذي عكس بدوره الكثير من العناصر العملية والعلمية في انتقاده قوة الفقه المشاكسة وتجربة الفقهاء التاريخية. فقد واجه ثروتها وتراثها عند تخوم القرن السادس الهجري عندما شدد على ما اعتبره أزمة الفقه الروحية العميقة. وبهذا يكون قد كشف أيضاً عن عمق الأزمة الاجتماعية السياسية والأخلاقية وانحدار الثقافة في هاوية ما يدعوه "بالصدق القبيح"، أي ثناء النفس المبني على المكر والقوة واندثار اليقين. ولم يقف متحيراً أمام هذه الظاهرة المتناقضة. وهو ما سينقذه من الانسياق الأعمى وراء الدفاع عن الفقه أو معارضته العدمية.

فالفقه بنظره يمتلك مقدماته التاريخية في نشوء وتطور الخلافة. فهو لم يكن في بادئ الأمر كياناً ما مستقلاً. على العكس! إن اندماجه في ممارسة الخلفاء الأوائل يبرهن في الوقت نفسه على استقلاليتهم. ولم يكن ذلك بفعل ضعف وتطور الدولة والعلوم، بقدر ما أنه ارتبط بالإدراك العميق لحيوية الفقه وأهميته في عمل الخليفة ووظيفته الأساسية باعتباره "حامي الرعية".

يفتقر هذا الحكم في مظهره إلى الدقة العلمية والتاريخية. فالغزالي يدرك ويعرف تطور العلوم والمعارف. فقد بلورت الثقافة الإسلامية في علومها وجدلها نظرات عميقة للغاية عن فكرة التطور والتبدل والتغير. وصاغت آراءها ومواقفها بمعايير العقل والنقل أي في وحدة رؤيتها الذاتية الأصيلة. وقد تمثل الغزالي هذا الرحيق العذب بكل ما فيه من واقعية وسذاجة على انه كلّ لا يمكن ولا ينبغي فصم عراه. وليس في هذا الموقف تجنيا عل دق الحكم النظري إلا من وجهة نظر التاريخ والعلم الظاهري. أما من حيث "منظومة" الانتماء الروحي فإنه يبرز بوصفه معلما جديدا في توجيه الفكرة الجوهرية صوب اليقين. لاسيما وأن لليقين تاريخه المجرد أو دقته "الموضوعية" باعتباره ارتباطا حيا بين الأنا الفردية والجماعة، أي الأنا الثقافية وحقائقها ومبادئها الكبرى. وبالتالي، فإن تأكيد الغزالي على نفي استقلال الفقه بهيئة كيان قائم بحد ذاته عن الخلفاء الأوائل يعني من حيث مضمونه المعرفي والأخلاقي بلورة وصياغة عناصر البديل التي وضعها في وحدة العلم والعمل وإمكانية تحقيقها في العلم والعمل.      

وهذا بدوره لم يكن معزولا عما هو مميز لوظيفة الفقه في ممارسة الخلفاء. فقد كانت أعمالهم، كما يقول الغزالي، لوجه الله. بمعنى افتقادها للمصلحة الأنانية المباشرة. غير أن ظهور السلطة المستقلة فيما بعد وتركزها في أيدي أناس "بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام هو الذي أدى بهم إلى الاستعاضة بالفقهاء"[8]. فهو يكشف هنا عن الارتباط العضوي بين مصالح السلطة وجهازها الحقوقي الشرعي، أي كل ما حوّل الفقه والفقهاء إلى خادم وضيع للسلطة. وأدى ذلك بدوره إلى أن تحول "الفقهاء" إلى طالبين للسلطة بعد أن كانوا مطلوبين، وتحولوا إلى أذلة للسلطان بعد أن كانوا أعزة[9]. ومذّاك لم يعد الفقه سوى أداة "بيد السلطان ووسيلة منافقة للعيش"[10].

فالغزالي لا يقف عند حدود الإشارة الظاهرية والإدانة الأخلاقية، بل يسعى للكشف عن مفارقة الظاهرة نفسها المتعلقة بوحدة الديني والدنيوي في الممارسة الفقهية التي تتطابق في آرائه بين الأخلاقي والحياتي. فالحياة بالنسبة له هي طريق الآخرة. والإنسان يخلق ويموت. ولا يمكن لحياته أن تختزل إلى لحظة الوجود العابر كعدم محض. والفقيه يقف أمام هذه الظاهرة محاولاً التعامل مع جانبها الدنيوي والأخروي، والمادي والروحي، والوجودي والميتافيزيقي. إلا أن بؤرة نشاطه هو عالم المصالح. إذ لو تناول الناس الحياة بالعدل لانقطعت الخصومات وتعطل الفقهاء[11]. إذ ليس الفقيه في نهاية المطاف سوى "العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق. إنه متعلق بالدين ولكن لا بنفسه بل بواسطة الدنيا"[12].

لقد اكتشف الغزالي واقع التجزئة والطابع الوظيفي المبتذل في عالم الفقه والفقهاء، دون أن يرمي بمحتوياته على أنها أثقال لا معنى لها ولا قيمة. على العكس. فقد ظل الفقه يمتلك في وعيه ووجوده قيمة ضرورية كبرى، بفعل إدراكه خصوصية الفقه ومكانته المتناقضة في صيرورة الدولة وتطورها. فالفقه هو "وسيلة منافقة للعيش" ولكنه في الوقت نفسه قانون تنظيم الحياة الاجتماعية. وأن توافه الفقهاء لا تعني تفاهة الفقه بحد ذاته. فهناك خصلتان، كما يقول الحديث النبوي، لا تكونان في منافق وهما حسن سمت وفقه في الدين.  ولا ينتقص من صحة هذا الحديث، كما يقول الغزالي، واقع "نفاق بعض فقهاء الزمان". إذ ليس المقصود بالفقه في  هذاالحديث فقه الفقهاء المعاصرين له[13]. وليس مصادفة أن يورد مقارناته الدائمة بين الفقه والطب، مشدداً على أفضلية الفقه بفعل شرعيته وعموميته (للمرضى والأصحاء) ودوامه الكامل في التعامل الدائم مع الإنسان، بما في ذلك ما بعد الموت[14]. إلا أن ما بين صيغة المثال الفقهي وصيغه الواقعية تباين شاسع بفعل ارتباطه بالسلطة وخضوعه لها. مما أدى بحصيلته إلى إنهاك قواه الروحية[15].

فعندما يتكلم في (إحياء علوم الدين) عما أسماه ببيان ما بدّل من ألفاظ العلوم، فإنه يضع الفقه في المرتبة الأولى. ويشير في الوقت نفسه إلى أن الفقه المعاصر له لم يعد أكثر من معرفة الفروع الغريبة في الفتاوى والوقوف على دقائق عللها واستكثار الكلام فيها وحفظ المقالات المتعلقة بها. بمعنى ارتباطه ببحراشف "الحقائق لا بحكمها وإلزاماتها الأخلاقية المحررة للكلمة نفسها". ذلك يعني أن الفقه حوّل نفسه إلى جزء من آلية إنتاج وإعادة إنتاج قيود الكلمة الفارغة، بحيث أصبحت حريته في المعرفة أسيرة الكلمة المكتوبة فيما قيل وقال. لهذا ربط موقفه من حقيقة الفقه أو الفقه النموذجي بذاك الذي ميّز عصر الإسلام الأول، والذي لم يعنِ الفقه فيه سوى ما هو مطلوق على "علم طريق الآخرة ومعرفة دقائق النفوس وآفاتها ومفسدات الأعمال"[16]. لقد سعى الغزالي هنا للتأكيد على أهمية الفقه الحقيقي باعتباره وسيلة تربية الوحدة الأخلاقية العملية في ميادين الوجود الاجتماعي للأمة ككل. من هنا تشديده على أن الفقه في بداية الأمر كان يعني "علم طريق الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس" أو ما يدعوه أيضاً بفقه النفس لا تفريعاته العديدة التي لا يمكنها أن تصنع قلباً إنسانياً. إنها لا تفعل إلا على زيادة "قسوة القلب ونزع الخشية منه، كما نشاهد الآن من المتجردين له"[17].  لقد أراد الغزالي التأكيد على وحدة الأخلاق والحقوق في الفقه للدرجة التي يمكن فيها إخضاع المصلحة المادية لمتطلبات الروح الأخلاقي، أو جعل معالم الروح الأخلاقي محركات الحقوق وفاعل غاياتها. لهذا استعرض تجربة أئمة الفقه الإسلامي بالصيغة التي يمكنها أن تكون مثالاً ملموساً لآرائه. فهو يبرّز الشافعي ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وسفيان الثوري بالصورة التي يبدو الفقهاء المعاصرون له على خلفيتها نسخاً مزيفة. فالشافعي يظهر كمثال للزهد والورع والإخلاص، الذي طالما ردد أحمد بن حنبل عنه قائلاً "كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس". أما مالك بن أنس فهو الوجه الآخر للشافعي، أي أنه مثال العلم والزهد والورع والدفاع عن الحق وحرية الاجتهاد. لهذا رفض تحويل (الموطأ) إلى قاعدة أحكام الخلافة كما طالبه هارون الرشيد (ت- 193 للهجرة) مستنداً إلى حديث "خلاف أمتي رحمة". وهذا هو حال أبو حنيفة. فهو مثال الزهد والورع وخدمة الحق والحقيقة لا القوة والسلطان. لقد فضّل التعرض للضرب مقابل رفضه قبول بيت المال وتولي القضاء. وينطبق هذا بالقدر ذاته على أحمد بن حنبل وسفيان الثوري[18].

لقد أراد الغزالي من وراء ذلك الكشف عن هوية المثال الفقهي، دون أن يجعل منه في الوقت نفسه نهاية الكمال الحق. وذلك لأنه لا نهاية للحق. ذلك يعني، أنه أراد تذليل التقليد المذهبي الضيق المميز لفقه الفقهاء المنغمسين في عالم المصالح والسلطة، واستبداله بوحدة العلم والعمل أو وحدة الأخلاق والحقيقة في الممارسة الشخصية.

ووضع هذه المقدمة في أساس انتقاداته اللاذعة للفقه والفقهاء. فالفقه حسب نظره، يتعامل مع الوقائع لا مع الحقائق. واحتوت هذه الفكرة في مضمونها على عناصر إزالة ثقل الفقه وتخييمه على "عالم الآخرة". وبهذا تكون قد تضمنت إمكانية تحييد قوة الفقه والفقهاء السياسية والروحية. فالغزالي يدرك قيمة الفقه وضرورته الاجتماعية. إلا أن تركيزه على الجانب الروحي كان يعني فيما يعنيه أيضاً محاولة تخليصه من السيطرة الحقوقية للفقهاء وتذليل سطوتهم التي عادة ما كانت تدفع بمصير الفكر والمفكرين الكبار نحو السجن والقتل والموت ومختلف اشكال المآسي. فقد رأى بأم عينيه المصير المحزن لبعض مفكري العصر وهم يسقطون صرعى السطوة الفقهية، مما جعله يردد في إحدى عباراته اللاذعة قائلاً:"إن فساد الزمان لا سبب له إلا كثرة أولئك الفقهاء الذين يأكلون ما يجدون ولا يميزون بين الحلال والحرام"[19]، أي كل ما يجعله هدفاً لتجريحهم في حياته ومماته، وما كان بإمكانه أن يؤدي به آخر حياته إلى انتزاعه عنوة من خلوته الصوفية وحشره في مؤامرات ومغامرات الحاشية المتحذلقة "لفقهاء الزمان". فهو يشير في (الإملاء على مشكل الإحياء) إلى الاستهزاء الذي واجه به "فقهاء الزمان" أعظم كتاباته (الإحياء) بحيث جعلوه "المثل المذكور في المجالس تحية الداخل وحديث الجالس"[20].

وفي الإطار العام يمكن القول بأن الغزالي لم يسع من وراء ذلك إلى تهديم الفقه أو إزالته باعتباره عقبة أمام "حرية الفكر".  ولا أن يجد فيه مكونات إلزامية لمحاربة الحقيقة. إن عجائب هذه الظاهرة، كما يقول الغزالي،  تقوم في تحول "الحق" إلى قيود الحقيقة،  أو بصورة أدق تحول "الحق" إلى معاداة الحق. مما جعل من هذه الظاهرة مفارقة مذهلة وأعطى لها بعداً يتجاوز في ذاته أبعاد الثقافة والتاريخ الفعلي. فهي الظاهرة التي تكشف عن أن إعلاء مبدأ ما أو عِلم ما أياً كان سيتحول مع مرور الزمن بالضرورة إلى قوة قاهرة. وأن خطورته الاجتماعية والسياسية في عالم الإسلام كانت تقوم في تكليسه مقومات الثقافة الواحدية، أي اختزال تنوع الثقافة الواحدية في مبادئ الفقه عن الحق، بحيث تحول ذاته إلى كيان تدمير الحق. وأن مأثرة انتقاد الغزالي لهذا النوع من الفقه تقوم في محاولته وسعيه في آن واحد انتزاع سيطرة الواحدية الضيقة وإفشال حصار الهيمنة الفقهية الشاملة عبر إنزال حقوق الفقه إلى عالم الجسد وإيقاف هجومه أمام قلاع الروح وعوالمه غير المتناهية.

وقد اضطره ذلك إلى مواجهة مهمة البرهنة على ضعف الفقه في أحكامه الجازمة، وبالتالي كشف هويته العابرة والظنية بما في ذلك تجاه احتياجات الجسد في تنظيمه الاجتماعي. حقيقة إن الغزالي لم يتناول هذه المهمة بمعايير المواقف الأيديولوجية كما لو أنها جزء من مهمات ما سيدعوه بالدفاع عن عقيدة العوام، بقدر ما نظر اليها باعتبارها نتاجا ضروريا لموقع الفقه باعتباره "عدلاً". وبما أن مكانه هو عالم الجسد واحتياجاته المباشرة، فإنه لا يمتلك بالتالي حق التحكم بما هو أكثر من افتراضاته الظنية، أي أن مهمة الفقه وأحكامه لا تلزم الروح إلا فيما يخص علاقاته المباشرة باحتياجات الوجود المادي للإنسان والمجتمع.

وقد كان يرمي من وراء ذلك إلى إنزال الفقه إلى أدنى وأوطأ وسائل الإخضاع والسيطرة، بمعنى قهر قوة القهر فيه وإبعاد تدخله وتدخل المتجردين له من محترفي الفقه في شئون الإنسان الروحية. وهو ما أعلنه ودافع عنه في فكرته الكبرى عن "عدم دخول القلب ولاية الفقيه"[21]، أي أن العالم الروحي للإنسان (والقلب بنظره ومنظومته هو الروح والعقل والنفس والمعرفة) لا يمكن ولا ينبغي أن يخضع لسيطرة الفقيه. غير أن الغزالي لم يبن هذا الاستنتاج على أساس الملاحظة المجردة لسلوك الفقهاء، بل وعلى أساس المادة الموضوعية لفقه العادات والعبادات لا فقه النفس. فالفقيه، حتى حال تكلمه عن الإسلام، فإنه لا يلتفت فيه إلا إلى اللسان. وهو يحكم بصحة إسلام المرء تحت ظلال السيف مع أنه يعلم أن السيف لا يكشف له عن نية المسلم. والفقيه يفتي بصحة الصلاة في حالة الالتزام الظاهري بشروطها، أي بغض النظر عما إذا كان المصلي ساهياً غافلاً في جميع صلاته من أولها إلى آخرها مشغولاً بالتفكير في حساب معاملاته في السوق أو غيرها من الأمور. بل إن الفقيه يمكن أن يستغل علمه بطريقة مذمومة كما كان يحكى عن أبي يوسف القاضي، حيث كان يهب ماله لزوجته آخر الحول (السنة) ويستوهب مالها إسقاطاً للزكاة. إضافة لذلك أن الفقيه لا يتكلم في حزازات القلوب وكيفية العمل بها. وإذا تكلم في شيء من صفات القلب فعلى سبيل التطفل، كما قد يدخل في كلامه شيء من الطب والحساب وعلم الكلام[22].

إن الأحكام الفقهية، أو بصورة أدق فقه المتفيقهين أو فقه علماء السوء، كما كان الغزالي يحبذ تسميتهم، تهمل الجوهري في العلاقات الإنسانية، أي أنها تهمل الأبعاد الروحية الأخلاقية مقابل المصلحة المباشرة. ولم تكن هذه النتيجة رداً صوفياً في أعماقه الثائرة ضد مهاترات الفقهاء وهذيانهم، بل والنتيجة الموضوعية الملازمة لتطور الفقه والأحكام الفقهية. فقد سار التصوف والفقه في دروبهما المستقلة، رغم عمومية الفقه وخصوصية التصوف، والتقيا في مفترق مساعيهما الظاهرية للتوفيق والوحدة بين الشريعة والحق. ولكن إذا كان الفقه هو الممثل الظاهري للشريعة، فإن ادعاءاته عن الحق لم تعن في نظر المتصوفة سوى صيغته القانونية الظنية، بينما أدركت المتصوفة ولمست وتذوقت علاقتها بالحق (القانوني) على أنه درجة في آدابها وأسلوبا لبلوغ علاقتها بالحق (الله). وقد انطلق الغزالي في إعادة تقييمه للفقه من استيعابه وتمسكه المتعمق والجديد لهذا الإرث التاريخي الكبير، الذي أنأى بعالم الروح الأخلاقي بعيداً عن متناول الأحكام الظاهرية الجازمة للفقهاء.

فالفقيه، كما يقول الغزالي، ليس باستطاعته الإجابة  على معاني الإخلاص والتوكل وعن وجه الاحتراز في الرياء وغيرها، رغم دخولها جميعاً في "فرض العين"، أي في علمه الضروري. بينما في إهماله إياها هلاكه الأخروي المحقق (الروحي الأخلاقي). وفيما لو سئلنا الفقيه عن قضايا اللعان والسب والشتم وما شابه ذلك، فإنه "سيرد عليك بمجلدات من التفريعات الدقيقة التي تنقضي الدهور ولا يحتاج إلى شيء منها. وإن احتيج لم تخل البلد ممن يقوم بها ويكفيه مؤنة التعب فيها"[23]. فهو يكشف هنا عن فوضى الفقهاء وعبثية تفريعاتهم وانعدام جدواها. بينما أصبح العلم الفقهي نتيجة لذلك أسير معضلاته الخيالية واستنباطاته المتخيلة، التي صنعت وحركت في خلايا دماغه المرهق معارك الهوس والاختبال. فهم يتبعون "غرائب التفريعات في الحكومات والاقضية، ويتعبون في وضع صور تنقضي الدهور ولا تقع أبداً. وإن وقعت فإنما تقع لغيرهم لا لهم. وإذا وقعت كان في القائمين بها كثرة"[24]، أي أنه يربط خواء الممارسة الفقهية المعاصرة له بواقع احتوائها ثقل الخيال الأهوج في كابوسه "العقلي" وخفة الاستعلاء غير المسئول ووحدتهما في سيادة النمطية الفاقعة في أعداد الفقهاء الغفيرة.

وقد جعله ذلك يشدد على افتقاد الفقهاء لمعنى البحث عن الحقيقة. مما حوّل الفقه عندهم إلى كيان مستهلك كصندوق للعجائب لا يحتوي في الواقع إلا على خيال المتعجبين به. ولم يكن ذلك معزولاً عن واقع تحول الفقه إلى وسيلة العيش المبتذلة. ولهذا استغرب كثرة المناطق الخالية من الأطباء المسلمين، بينما يتهاوون على "علم الفقه ولاسيما الخلافيات والجدليات والبلد مشحون من الفقهاء"[25]. ومن هنا فكرته المتضمنة في أعماقها إمكانية الحكم القائل بافتقاد علم الفقهاء الشرعي لشرعيته. فعندما يتكلم الغزالي عن قلة الأطباء المسلمين وكثرة الفقهاء المسلمين، فإنه لا يريد في الواقع سوى الكشف عن أن إسلامية الشرع وشرعية الإسلام الذي يدّعي متفقهة عصره تمثالهما وتمثيلهما يستلزم أولاً وقبل كل شيء رؤية المصلحة الضرورية للأمة. وبما أن المصلحة الأنانية المباشرة تقوم في الاقتراب من جسد السلطة لا أجساد رعاياها، لهذا نرى هذا التكالب المثير من قبل الفقهاء على مراكز السلطة وحاشيتها. وقد أشار إلى ذلك بوضوح عندما كتب يقول بأن "الطب ليس يتيسر الوصول به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة مال الأيتام وتقلد القضاء والحكومة والتقدم به على الأقران والتسلط به على الأعداء"[26]. مما حدد بدوره وظيفة الفقيه وشخصيته. فانهماكه في الجدل والخلافيات مرتبط بمساعيه الأنانية لطلب الصيت والجاه. أما ممارسته المزدوجة والمتناقضة في مضمونها (حسنة الظاهر سيئة المضمون) فهي من بين أشد المظاهر  شراً ورذيلة. فتجمّل الفقيه بعمل الطاعات في المظاهر لا تجعله مطيعاً ما لم يراع  الوقت والترتيب، أي السلسلة التي تربط في كل واحد الظاهر بالباطن على خلاف ما هو سائد في الأوساط الفقهية. ففي غياب هذه الوحدة الضرورية للعلم والعمل يكمن سبب فقدان الفقه والفقهاء وظائفهم الاجتماعية والأخلاقية تجاه الأمة والدولة. فالفقيه يفضل الأسهل فالأسهل بما يستجيب لمصالحه ومصالح أقرانه وأسياده. وهو يستعمل لذلك مفهوم "فرض الكفاية"، أي أنه كمن يعمل منهمكاً في صنع الكئوس والناس عطشى، أو يهتم بالفقه رغم حاجة الناس إلى طبيب. وكان لابد من أن تؤدي هذه الممارسة إلى نتائج معارضة لمصالح الاجتماع المادية والمعنوية. مما جعل الفقيه في حالات عديدة يكف عن "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويناظر في مسألة لا يتفق وقوعها"[27]. مما أدى بدوره إلى بلورة صفات مميزة لهؤلاء الفقهاء يحصرها أساساً في كل من تقليديتهم العمياء، وتعصبهم الأجوف للمذاهب، وافتقادهم للاجتهاد الحر بحيث جعله يحكم على أن غياب الاجتهاد هو "حكم كل أهل العصر"[28]. إضافة إلى "تلذذهم بآفات الجدل" مثل عدم فسحهم المجال للخصم في الانتقال إلى مواقع الحقيقة. فهم يثبطون عزيمة المقابل. أما جدلهم بأكمله فمبني على مبادئ المصارعة لا على شرف الحقيقة[29]. ووراء كل ذلك يكمن جبنهم الكامل ما في ذلك في غرورهم الجدلي. فهم يبحثون عمن هو أضعف منهم وأقل مقدرة ويتخوفون من القوي الكفء.

وقد استفاض في رسم الصورة الواقعية المقززة لفقهاء عصره إلى درجة يمكن اعتبارها من بين أشد الصور النقدية قوة وشدة. غير أن ذلك لا يعني وقوفه موقف المعارض المطلق للجدل، بقدر ما أنه أراد كشف خصوصيته عند الفقهاء (والمتكلمين أيضاً) أو بصورة أدق كشف منحاه العام وآفاقه المستنفدة لعوالم الروح المعرفي والأخلاقي. ولم يكن ذلك معزولاً عن تجربته الجدلية. فقد كان الغزالي جدلياً كبيراً. وإن مؤلفاته ما قبل (إحياء علوم الدين) هي نماذج رفيعة المستوى لكيفية خوض الجدل. ولم يفتقد هذه القدرة البارعة بما في ذلك في (إحياء علوم الدين) وأعماله اللاحقة، رغم معاهدته الشخصية لنفسه على تجنب خوضه. لكنه حتى في هذه الحالة، لم يكف الجدل عن أن يتخلل أسلوبه الاستعراضي والتحليلي والنقدي. إلا أنه لم يعد أسلوباً في الوصول إلى الحقائق، بل عنصراً منفياً في مساعيه المعرفية. وقد وضع هذا الأسلوب في أساس انتقاده لجدل الفقهاء والمتكلمين، الذين انتهكوا وحدة الغاية والوسيلة فيه.

فالجدل الفقهي يعاني، حسب نظر الغزالي، من ثقل وتشويه وضع الغاية بالضد من الوسيلة أو اتخاذ كل الوسائل التي يمكنها مساعدته في البرهنة على صحة "براهينه". مما يفقد هذه "البراهين" و"حقائقها" مضمونهما الأخلاقي. لقد أراد من وراء ذلك تغيير الأبعاد الأخلاقية للمعرفة والجدل. إلا أن مروره بتجارب الفقه والكلام العقلية وإدراكه طبيعة الصلة القائمة بين "مصارعة" الجدل و"شرف الحقيقة" دفعته في نهاية المطاف إلى أن يواجه خبايا الجدل بشكل عام والفقهي بشكل خاص. فالأخير لا يبنى على أساس البحث عن الحقيقة، بقدر ما أنه يوظف جهوده لخدمة مصالح السلطة ومؤسساتها، مما حوّله بالتالي إلى بؤرة من بؤر الآفات الاجتماعية الأخلاقية والفكرية. لهذا أيد الفكرة المنسوبة إلى ابن عباس، القائل "خذوا العلم حيث وجدتموه ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض، فإنهم يتغايرون كما تتغاير التيوس في الزريبة"[30]. فالمناظرات الفقهية تؤدي إلى الحقد الشخصي ثم النفاق والغيبة ثم الكذب والبهتان ثم الغرور والثناء على النفس. فقد دفع الجدل الفقهي الفقهاء أحياناً إلى قبائح التجسس، أي دراسة شخصية الخصم وحياته منذ الطفولة من خلال تتبع أخباره وعيوبه ونواقصه (بما في ذلك الجسدية) من أجل استغلالها في الجدل بالتعرض له لخلخلة توازنه النفسي[31]. إنه الجدل الذي تنعدم فيه قوة وقيمة الامتاع والمؤانسة، لأته يرى في خصمه "شيطاناً مارداً أو سبعاً ضارياً"[32]. وهي ذات الممارسة التي قطعت رحم الوصل في علم الفقه بين الفقهاء محوّلة إياه إلى عداوة قاطعة، مما أدى بدوره إلى أن يكره الفقيه أشد الكره ظهور الحق على لسان خصمه[33]. فالأنفة والغضب والبغضاء والطمع وحب المال وطلب الجاه للتمكن من الغلبة والمباهاة وتعظيم الأغنياء والسلاطين واستحقار الناس وكثرة الكلام واستيلاء الغفلة حتى لا يدري المصلي منهم في صلاته ما  صلى وما الذي يقرأه ومن الذي يناجيه أصبحت الصفات الملازمة للفقهاء وأقرانهم من المذكرين والوعاظ والمشتغلين بعلم المذهب والفتاوى[34]، أي كل أولئك الذين بنوا بوجودهم جدار الأيديولوجية "الحقوقية" وقنواته الخبيئة في "تقسيم العمل" المادي والمعنوي!

أدت هذه النظرة النقدية بالغزالي إلى صياغة مهمة الرجوع إلى حقيقه الفقه، التي طابقها مع مهمة الرجوع إلى إسلام الحق وإحيائه، أي إلى ضرورة استشراف "روح" التجربة الحية للسلف الصالح والداعية إلى استقلال الفقه وتلافي خدمة السلطان والسلطة. ولم يكن ذلك معزولاً عما هو مميز لسلوك فقهاء عصره. قد سار الغزالي نفسه في خطى ومسالك أولئك المترقّين في سلّم الخدمة السلطانية منذ بواكير شبابه حتى انكساره أمام "هوة" التصوف. فقد تدحرج ككرة ملساء بين أنامل نظام الملك حتى المستظهر بالله. ولكن إذا كان ذلك بمعنى  ما هو اعتراف بقدراته العلمية، فإن تعويضها المادي قد أفرغ دون شك خزينة روحه الأخلاقي.

لقد تضافرت الحقائق في قدراته على حفظه من السقوط في هاوية الاحتراف المبتذل لخدمة السلطان والقوة، وأبقت له سكينة التأمل الحر لرؤية الباعث الجوهري القائم وراء مناظرات فقهاء عصره من حب الجاه والغلبة والتعصب المذهبي لا الحقيقة ومصلحة الخلق[35]. مما حدد أيضاً مناهضته لهذا الواقع من خلال صياغة مبادئ الدفاع عن الحق والأمر بالمعروف ورفض التقليد والدعوة للاجتهاد وعدم المناظرة إلا في مسألة واقعة أو قريبة الوقوع، ورفض استلام أموال السلاطين والاستقلال في الحكم ووضع مصلحة الخلق والحق فوق كل اعتبار[36]. وقد استجمع هنا وأورد، كما هو الحال في "براهين الأمثلة"، ما هو مشهور في ثقافة الإسلام الشفوية والخطية[37]. مثل رد امرأة على عمر بن الخطاب، فأجابها "أصابت امرأة وأخطأ عمر". بمعنى اعتلاء الحق على السلطان، والحقيقة على الرجال. وهو ما تصوره أيضاً كلمات علي بن أبي طالب بعد أن استفسر منه رجل فرد عليه بكلمات لم ترضه فاعترض عليه مما دفع بعلي للقول: "أصبت (أنت) وأخطأت(أنا). وفوق كل ذي علم عليم"[38]،  أي أنه بحث في التجربة الحية للإسلام عما يمكنه أن يكون نفياً محقاً لما هو مناف للحق، وبديلاً أخلاقياً لفساد القيم، ومعلماً روحياً للتجربة الحرة. لقد حاول صهر مكوناتها في بوتقة التذوق الحر للمعرفة بعيداً عن مغامرات المصلحة ورِّق التقليد. بمعنى تضّمنها بدائل وحدة الحق والحقيقة وقيم الأخلاق المطلقة.

وليس مصادفة أن يورد تلك الأمثلة التي تصور فكرته هذه في ما هو مشهور بين المتصوفة عن جلوس الشافعي بين يدي شيبان الراعي (الصوفي الأمي) وقول الشافعي عنه "إن هذا وفّق لما أغفلناه". وعن جلوس أحمد بن حنبل بين يدي معروف الكرخي. ذلك يعني بأن الغزالي حاول أن يبرهن ويمرر في الوقت نفسه فكرة ضرورة خضوع الفقهاء لقانون الأخلاق المطلقة. وبما أن الصوفية هي تجليها الأمثل، فمن الضروري بالتالي خضوعهم لروح الأخلاق الصوفية. إذ لا ينافي الفقيه كونه صوفياً[39]. فالجهل "ليس بشرط في التصوف عند من يعرف التصوف. ولا يلتفت هنا إلى خرافات بعض الحمقى بقولهم إن العلم حجاب. فإن الجهل هو الحجاب"[40]. والفقيه الحق هو من أخضع علمه الفقهي لقوانين الأخلاق المطلقة، أو ما أسماه الغزالي من "فَقَه عن الله أمره ونهيه وعلم من صفاته ما أحبه وما كرهه"[41]. حقيقة إن هذا الاستنتاج يرتبط في منظومته بآرائه عن الحقيقة والشريعة، والظاهر والباطن، والعقل والشرع، والإلهام والوحي، والتفسير والتأويل، إلا أنه يكشف في الإطار العام عن الاتجاه الأساسي السائد في منظومته القائلة بضرورة الأخلاق المطلقة باعتبارها الحاكم الذي يجرد معطيات الفقه الواقعية عن أنانيتها الضيقة.

فالفقه المعاصر له يفتقد، حسب نظره، لأخلاقيته الباطنية كقيم متسامية. وهو غير قادر حتى على حل معضلاته الخاصة، دع عنك إنقاذ الأمة الاجتماعي الأخلاقي. فدوران الفقه والفقهاء في عجلات الدولة المغتربة عن مبادئها الأولى قد أدى إلى تحويلهم إلى أجزاء من ماكنة السلطة وأدواتها أو إلى "قطع غيار" معلبة! ودفعه ذلك إلى إثارة معضلة جوهرية في الممارسة الفقهية في الثقافة الإسلامية ككل ألا وهي ضرورة استقلال الحكم الفقهي عن مصلحة السلطان والسلطة، والدفاع عن عقلانيته الأخلاقية. فالفقه المعاصر له تجرد كلياً عما دعاه "بمعرفة آفات الأعمال. حيث هجر الفقهاء هذه المعارف واشتغلوا بالتوسط بين الخلق في الخصومات الثائرة في اتباع الشهوات وقالوا هذا هو الفقه"، أي أنهم تجردوا لفقه الدنيا والجسد. ولم تعن هذه الصياغة في آرائه سوى فقدانه للشعلة الداخلية وحرارة نورها الأخلاقي الروحي، أي بقاء الفقه والفقهاء في حيز البهيمية المقننة. فعندما يتأمل الفقيه ويتعامل مع المعاصي فإنه يقسمها، كما يقول الغزالي، إلى ما هو مكروه وغير مكروه. وليس ذلك إلا لكونه مسكيناً يتعامل مع العوام. وذلك لأن جميع المعاصي في حقيقتها "ظلمات بعضها فوق بعض. فينمحق بعضها في جنب بعض. فالسيد الذي قد يعاقب عبده إذا استعمل سكينه بغير إذنه، ولكن لو قتل بتلك السكين أعز أولاده لم يبق لاستعمال السكين بغير إذنه حكم ونكاية في نفسه". فما راعاه الأنبياء والأولياء (الصوفية) من الآداب والتسامح والتساهل فيه مع العوام فهو بسبب هذه الضرورة. وبالتالي فإن الأخلاقية الحقة بعيدة عن أن تعطي للمعصية أياً كان حجمها ونوعها مرتبة أو موقع في "مسلّة الحقوق".

لقد فتح الغزالي باب الأخلاق المطلقة أمام الفقه دون أن يفرضه على الجميع. وهو لم يتركه سائباً بقدر ما جعل منها الكوة الضرورية لإنعاش الوعي الحقوقي الأخلاقي ليأخذ كل منه على قدر طاقته.

***

 ا. د. ميثم الجنابي

 ......................

[1] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص89. لقد نشأ الغزالي في بداية أمره فقيها. وبالتالي، فلإن للفقه دورا كبير بل وتأسيسيا في بلورة شخصيته الذاتية بمختلف مستوياتها. بمعنى إن الفقه لعب دورا كبيرا في بلورة شخصيته الفردية والاجتماعية والأخلاقية والعلمية والحقوقية. وضمن هذا السياق يمكن فهم موقفه من الفقه. إذ للفقه عند مستويات ومن ثم آثار مختلفة في شخصيته العلمية والعملية ومواقفه منه أيضا. فقد نظر الغزالي إلى الفقه من وجهة نظر الفقه نفسه، ومن وجهة نظر علم الكلام والفلسفة، وفي ضوء إعادة النظر فيه وتقييمه بمعايير الفكرة الأخلاقية وقيمها. وما هو مهم بالنسبة لهذا المبحث هو الجوانب الأولى فقط. أما الجوانب الأخرى المتعلقة بنظرته النقدية للفقه من وجهة نظر تجربته الصوفية فسوف أتناولها ضمن دراسة وتحليل فلسفته الأخلاقية.

[2] وسوف أتناول هذه الجوانب حالما اتطرق إلى قضايا الفقه عنده وبالأخص ما له علاقة بفقه النفس والفقه الاجتماعي والسياسي وفلسفة الحق.   

[3] الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص129.

[4] الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص130.

[5] الغزالي: ميزان العمل، ص119.

[6] الغزالي: جواهر القرآن، ص22.

[7] الغزال: إحياء علوم الدين، ج3، ص60.

[8] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص41.

[9] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص42.

[10] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص5.

[11] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص17.

[12] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص17.

[13] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص5.

[14] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص19.

[15] وسوف يشكل هذا الاستنتاج مقدمة متينة لآرائه ومواقفه الاجتماعية والسياسية في دفاعها عن ضرورة استقلال الفقه عن السلطة، أي كل ما كان بإمكانه المساهمة في إضفاء الطابع الأخلاقي على الفقه في سلوك السلطة وإرساء أسس صرحها الشرعي. مع أن لهذه الشرعية في الإسلام خصوصيتها التي سأتطرق لها في مكان آخر. 

[16] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص32.

[17] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص32.

[18] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص24-28.

[19] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2، ص238.

[20] الغزالي: الإملاء على مشكل الإحياء، ص14.

[21] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص18.

[22] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص19.

[23] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص21.

[24] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص77.

[25] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص21.

[26] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص21.

[27] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص43.

[28] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص43.

[29] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص44-45.

[30] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص45.

[31] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص46.

[32] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص46.

[33] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص47.

[34] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص47.

[35] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص42.

[36] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص43.

[37] ما يميز كتابات الغزالي يشكل عام و(إحياء علوم الدين) بشكل خاص هو قدرتها على الاقناع من حيث بساطة وسهولة تعبيرها وطابعها الملموس، دون أن ينفي أو يقلل من طابعها "النخبوي" في المعرفة والتأسيس. فقد لعبت ثقافته العقلية والفقهية بشكل خاص إضافة إلى الأدب والتاريخ دورا كيرا في بلورة أسلوبه في الكتابة وأمثلته الواقعية والأدبية في التعبير والكشف عن مضمون الأفكار المعقدة والعميقة. ويمتلئ (إحياء علوم الدين) بشواهد كثيرة على كيفية تقريب الفكرة للقارئ. وبهذا تكون كتاباته أيضا نموذجا للمزاوجة بين رفعة الفكر وسموه من جهة وتقريبه وقربه للأذهان جميعا بما في ذلك "تدنيه في كيفية اقناع العوام من جهة أخرى.   

[38] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص44.

[39] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2، ص154.

[40] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2، ص154.

[41] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج12 ص389.

 

في المثقف اليوم