دراسات وبحوث

وعي تجربة الانتقال الشخصية إلى التصوف (2-2)

ميثم الجنابيكان التصوف بالنسبة للغزالي قبل انتقاله إلى عالم الصوفية مجرد أحد الاتجاهات الكبرى لثقافة الخلافة الممثلة لأحد أساليب بلوغ الحقيقة. وبالتالي فإن محاولاته الأولى لدخول "الطريق الصوفي" هي محاولات البحث العقلي النظري، الذي صاغه في عبارة " كان العلم ايسر عليّ من العمل"[1]. وقد درس  اغلب كتب المتصوفة ونوادرهم مثل كتابات المحاسبي (ت-243 للهجرة)  والجنيد (ت-297 للهجرة) والمكي (ت-388 للهجرة) والسلمي (ت-412 للهجرة) والقشيري (ت-465 للهجرة) وأبي نعيم الأصفهاني (ت-430 للهجرة)، وشعراء الصوفية كالشبلي (ت-334 للهجرة) والحلاج (قتل عام 309 للهجرة)  وغيرها من الأعمال.

فقد أشار في (المنقذ من الضلال) إلى انه طالع كتب أبي طالب المكي وكتب الحارث المحاسبي ومأثورات الجنيد والشبلي وأبي يزيد البسطامي (ت-234 للهجرة) وغيرهم من المشايخ[2]. وفي (إحياء علوم الدين) يشير إلى كتاب (حلية الأولياء) لأبي نعيم الاصفهاني[3]، بينما لا نعثر في مؤلفاته الأخرى، باستثناء (الرسالة اللدنية) ما يشير إلى مؤلفات السلّمي والقشيري حيث يشير إلى تفسير القشيري الكبير[4]. وتفسير السلّمي الذي اعتبره الغزالي التفسير الجامع لكلمات المحققين شبه التحقيق، والتي لا مثيل لها في سائر التفاسير الأخرى[5]. في حين لم يشر إلى سراج الدين الطوسي (ت-378 للهجرة) سوى مرة واحدة عندما تحدث عن أهمية وضرورة اللحن والشعر في الممارسة الصوفيه دون التقليل من أهمية القرآن. وأن ضرورة ذلك ترجع كما يقول الغزالي إلى "دوام البشرية في الإنسان"، التي لا تطيق القرآن على الدوام بوصفه كلام الله وصفة من صفاته[6].

ان علاقته بشيوخ المتصوفة لم تكن مجرد نتاج المطالعة "العلمية" أو التأثير الخارجي. لقد تعداه إلى محاولة بناء منظومة فكرية أخلاقية على أسس فلسفية، شكلت تقاليد الوعي والممارسة الصوفية مادتها الأساسية وأسلوب تعبيرها. وفيما لو القينا نظرة سريعة إلى ما بين (إحياء علوم الين) و(قوت القلوب) للمكي، فإننا سنلاحظ الشبه الكبير في الفصول والصياغة. فما يتناوله الغزالي، على سبيل المثال، بصدد العلم وبيان علامات علماء الآخرة وعلماء السوء، أضافة إلى أرائه حول تطور العلوم الإسلامية بعد موت النبي محمد، يبدو مشابهاً لما يورده المكي في (قوت القلوب)[7]. بل إن (إحياء علوم الدين) يشبه في الكثير من ترتيبه وتصنيفه للموضوعات مما ورد في (قوت القلوب)[8]. إلا أن ذلك لا يعني سوى التأثر الجزئي دون التطابق فيما بينهما حتى بصدد تلك القضايا المشار اليها أعلاه. ففي آرائه يظهر الترتيب المدرسي العقلاني والبحث الفلسفي والشمولية الواسعة التي لا نعثر عليها في (قوت القلوب). إن هذا التباين الكبير يعكس بدوره تبايناً في نوعية المنظومات الفكرية ومستوياتها وطرقها الخاصة في التصوف[9]. فالغزالي والمكي يلتقيان حال الحديث عن ظهور وتطور "العلوم الإسلامية"  في فكرة "اندثار علم اليقين" المرافقة لبداية التأليف (الكتابة). فالغزالي لا ينظر إلى هذه الظاهرة من "منهجية" البدعة. فهو لا يدين ظاهرة الاندثار وإلا لوضع نفسه في نفس موضع الاتهام، أي لأبطل مضمون وغاية (إحياء علوم الدين). لقد أدان في هذه الظاهرة انفصال الكلمة عن العمل وتمخّض ظاهرة التأليف المحترف، الذي دفع ثمنه الباهظ في أحدى المظاهر المدمرة للشر الاجتماعي التاريخي، ألا وهو تجزؤ أو انفصام "الشخصية المؤمنة" وظهور شخصية المحترف المأجور. فالأوائل لم يكن همهم التدريس والتصنيف والمناظرات والقضاء والولاية وتولي الاوقاف والوصايا وأكل مال الأيتام ومخالطة السلاطين ومجاملتهم في العشرة، بل كان الخوف والحزن والتفكر والمجاهدة ومراقبة النفس والظاهر والباطن هو المميز لهم[10]. فهو يحاول أن يبرز ظاهرة اندثار الأخلاق الحقيقية ومبادئها. بينما انتقد في أماكن أخرى من الإحياء آراء أبي طالب المكي نفسه. ففي معرض حديثه عن الإسلام والإيمان يشير إلى أن ما اورده المكي في هذا الصدد، هو "كلام شديد الاضطراب كثير التطويل"[11]. بينما يرفض آراء المكي القائلة، بأن "العمل بالجوارح من الإيمان ولا يتم الايمان دونه، وأدعى الاجماع فيه، وأستدل بأدلة تشعر بنقيض غرضه"[12]. وفي موقع آخر يشير إلى أن المكي ينكر على المعتزلة قولهم في التخليد في النار بسبب الكبائر بينما القائل بهذا كما يعلق الغزالي "قائل بنفس مذهب المعتزلة"[13]. أما تأثره بكتابات المحاسبي، فانه يبرز احياناً بقوة للدرجة التي يعتبر ادراجها كما هي أدق بسبب كمالها في الشكل والمضمون، خصوصاً فيما يتعلق بقضايا علم المعاملة. فالمحاسبي، حسب كلمات الغزالي، كان "حبر الأمة في هذا العلم وله السبق على جميع الباحثين عن عيوب النفس وآفات الاعمال"[14]. غير أن تأثره بكتابات المحاسبي تعدت ميدان علم المعاملة، بحيث يمكننا العثور عليها في بعض نماذج الصياغة الفنية والتعبيرية[15] والأفكار الكلامية[16].  وفيما لو تتبعنا تأثير الفكر الصوفي في فكره، فإن المثير للانتباه هو خلو (المنقذ من الضلال) وكتبه الأخرى من اشارات مباشرة أو واضحة للكلاباذي (ت-380 للهجرة) والهجويري والسلمي والقشيري. وفيما لو استثنينا الجميع ما عدا القشيري في (الرسالة القشيرية)، التي يمكن اعتبارها من حيث مادتها وصياغتها وترتيبها من بين النماذج الأكثر روعة ودقة وجمالية لهذا الصنف من الكتابات الصوفية حتى النصف الاول من القرن الخامس الهجري، فإننا نعثر ونلاحظ دخول اغلب مادة (الرسالة القشيرية) في (إحياء علوم الدين). فهو يورد في مادة السماع كل ما اورده القشيري في هذا الباب[17]. كما يورد نفس الحكايات والنوادر التي يوردها القشيري في رسالته، رغم إننا نستطيع العثور عليها ايضاً في (حلية الأولياء) للأصفهاني. فهناك الكثير من أبواب وفصول (إحياء علوم الدين) ما يتطابق من حيث ترتيب مادته بصورة شبه كلية مع ما في (الرسالة القشيرية) مثل (كتاب الرجاء) وما يورده القشيري في (باب الرجاء)[18]. وينطبق هذا ايضا على قضايا  الصبر والشكر، والفقر والزهد، وما يورده القشيري في رسالته في الأبواب المشابهة. بل أن ما يورده فيما يدعوه "بمنامات المشايخ" يطابق بحذافيره ما في (الرسالة القشيرية) في "باب رؤيا القوم في النوم"[19]. وكذلك "أقاويل المتصوفة عند الموت" في (إحياء علوم الدين) الغزالي وما وضعه القشيري في (باب أحوالهم عند الخروج من الدنيا"[20]. كل ذلك، إضافة إلى غيره من  المقارنات تعكس تأثره بكتابات القشيري.  بل يمكن القول، بأن الكثير من الآراء الصوفية التي يوردها ما هي إلا اعادة صياغة معقلنة وتنظيم أكثر دقة لما كتبه القشيري. ويمس هذا التأثير آراء الغزالي الصوفية ذاتها، التي استندت في ترتيب موضوعاتها وبعض جوانبها إلى ما أورده القشيري باختصار شديد في رسالته. ذلك يعني بأنه قد درس بعمق وإمعان الرسالة القشيرية. ومما يدل على ذلك هو إيراده لنفس التعليقات والشروح التي علقّ عليها القشيري وشرحها في رسالته[21].

إن الحصيلة العامة لهذا التأثير شأن كل عملية فكرية إبداعية، لا يمكن استيعاب حقيقتها ظاهرياً. أما فعاليتها في تطور المنظومة الفكرية للمفكر فأنها تتخذ في حوافزها ومجراها الفعلي صيغة البحث عن الحقيقة. وبهذا المعنى نستطيع القول، بأن دخوله طريق الصوفية كان محاولة جديدة حددها مجرى تطوره الفكري الأخلاقي. لكنها شكلت في بداية الأمر مرحلة تجريبية جديدة. وهو ما يبرز بوضوح في محاولته الأولى اكتشاف طريق و"حقائق" الصوفية عن طريق "دراسة علومهم" لأنها كان، كما يقول "أيسر عليه". وهي الفكرة التي ظل يدافع عنها بصيغ متباينة فيما دعاه "بضرورة العلم النظري الأول" للمتصوفة. أي ذات الفكرة التي حاول الدفاع عنها في مقدمة (إحياء علوم الدين) والقائلة بأن "من حصّل الحديث والعلم ثم تصوف أفلح، ومن تصوف قبل العلم خاطر بنفسه"[22]. انه الاستنتاج الذي وجد مثاله وتأييده الصوفي في محاورة وكلمات السري السقطي للجنيد عندما سأل الأول الثاني

إذا قمت من عندي فمن تجالس؟

المحاسبي

نعم خذ من علمه وأدبه ودع عنك تشقيقه الكلام وردوده على المتكلمين.

ولما خرج الجنيد، سمع السري السقطي يقول مخاطباً اياه "جعلك الله صاحب حديث صوفي ولا جعلك صوفياً صاحب حديث". وسوف يكشف الغزالي عن هذه الفكره بوضوح بالغ في (المنقذ من الضلال) عندما أشار إلى أنه بعد عشر سنوات من العزلة علم يقيناً من إن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة، وإن سيرتهم من أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق[23]. ومن الممكن أن نعثر على الصيغة الأكثر شمولا وتجريداً لموقفه من "مرحلته الصوفية" في موقفه من مفهوم التجربة ذاتها. فالتجربة مثلا هي "السبيل إلى خلق الأدوية، إلا أن العقل يقصر عن إدراك منافع الأدوية"[24]. بصيغة أخرى، انه يدرك واقعية وضرورية وأهمية ودقة الأحكام العقلية والتجريبية، بإعتبارها وسيلة وسبل إدراك الحقائق دون أن تقدم بدورها وعي الترابط غير المتناهي بالمطلق. فهو لم يرد أن يكشف عن محدوديته بقدر ما أنه اراد أن يعبّر عن ضرورة الاعتراف بعد تناه المعرفة الذي يتضمن في ذاته بالضرورة نفي المحدودية الواقعية، أي التجربة الشخصية للقلق الروحي الدائم بفعل غياب حكم اليقين المطلق.

فالغزالي، الذي تمكن من العلوم النظرية لعصره وأتقن أدواتها المعرفية، قد صنع وبلور في اعماقه أسس تقبل الصوفية و"ورحيتها العملية". وإقد جرى التطرق إلى هذه القضية فيما سبق من ابحاث، لهذا سوف يجري تركيز الاهتمام حول انعكاس هذه التجربة التاريخية النظرية في وعي الغزالي ومشاعره، التي حاول الكشف عنها في وقت لاحق، بوصفها مقدمة مرحلته الصوفية واعتبارها البديل الحق لما مضى.

وقدمّ مثال تجربته الشخصية كمادة للتأمل، دون ان يفرضها على الآخرين. فهو يسلك نفس سلوك المتصوفة الكبار، الذين يلازم كل منهم احترام شيخه إلى "أبد الآباد" دون أن يعرقل ذلك سيرته الخاصة واستقلالية وعيه لحقائق الشيخ والطريق. فالخلافات الفقهية والجدل، الذي شغل طويلاً حياة الغزالي ستتخذ في نصيحته للمريد وغيره فكرة عدم التمسك بردود الفقهاء القائلة بأن الناس اعداء ما جهلوا. فقد وجد في هذه العبارة مجرد تشويه فظ لحقيقتها. إذ أنها كما يقول في (إحياء علوم الدين) "على الخبير سقطت. فإقبل هذه النصيحة ممن ضيع العمر فيه زماناً، وزاد فيه على الأولين تصنيفاً وتحقيقاً وجدلاً وبياناً، فألهمه الله رشده وأطلعه على عيبه فهجره وأشتغل بنفسه"[25]. وفي موقع آخر يقدم نصيحته "المجانية" عندما يؤكد على تجربته الخاصة في التخلص من وطأة ثقل الممارسة الفقهية وبالتالي بلوغه "حقائق الطريق الصوفي" (إصلاح القلب وعلم المكاشفة) قائلاً "اقبل النصيحة مجاناً ممن قام عليه ذلك غالباً ولم يصل إليه إلا بعد جهد جهيد وجرأة تامة على مباينة الخلق العامة والخاصة في النزوع من تقليدهم بمجرد الشهوة"[26].

أما في ميدان علم الكلام، فأنه يصل إلى إدراك حقيقته باعتباره " علم الدفاع عن عقيدة العوام"، الذي لا يؤدي إلى كشف الحقائق كما هي عليه. انه طريق المعرفة المسدودة. وقد عبرّ عن هذه التجربة الشخصية بالعبارة التالية "اسمع هذا الكلام ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام، وتحقق إن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود"[27]. ولا يعني كل ذلك من الناحية التاريخية والفكرية  سوى ممارسته الشخصية لما دعاه بتجربة الطريق المسدود. ولا ينبغي فهم هذه العبارة الأخيرة على أساس تجربة أزمته البغدادية القديمة. إذ لم تكن "تجربة الطريق المسدود" تجربة فردية وشخصية بحت رغم صيغها المتناثرة في مؤلفاته (كالمنقذ من الضلال) بحيث تبدو كما لو انها معاناة ذاتيه خالصة. فمن حيث مضمونها التاريخي هي تجربة الطريق الحضاري الآيل إلى الانسداد، والذي أخذت تتضح ملامح سقوطه الاجتماعي السياسي والروحي الاخلاقي. وبهذا المعنى، فإن تجربته الفكرية هي تجربة الوعي الذاتي النقدي لقرون الخلافة الخمسة السابقة.

مرت ذهنية الغزالي في مسارها بمراحل متخطية في تطورها الصيرورة الذهنية للحضارة الإسلامية من فقه اللغة حتى التصوف. فقد ابتدأ فقيهاً وصار متكلماً وجاهد فيلسوفاً وانتهى صوفياً. إنها المراحل التي تعكس الاتجاه العام لثقافة القرون الخمسة الذهنية. إلا اننا لا نسع من وراء ذلك إلى مماثلة الوعي الفردي اياً كان مع التجربة التاريخية في تنوعها الهائل ومستوياتها المتباينة. إان الخطوط العامة في ميادين الفكر الأساسية (الفقه والكلام والفلسفة والتصوف) هي التي اظهرت شخصيته، وهي التي وضعته على الدوام أمام مفترق الطرق إلى أن وقف في نهاية المطاف أمام "بحر الصوفية". وكان ينبغي له خوض اغواره بتجربته الدائمة مازالت الأنبياء تقف على سواحله، كما تقول المتصوفة بتعبيرها المفارق. لقد وقف أمام ذلك الجمود القاهر، الذي أدان الكثير من ظواهره الاجتماعية السياسية والروحية والفكرية والحقوقية، بحيث أصبح النفاذ إليه ممكناً من وسط آخر اكثر سيولة وانسيابية وسكوناً في مظهره الخارجي. وهو ما دعته المتصوفة ببحرها الخاص، أي طريق وعي الذات الخالص. وبهذا المعنى شكّل انتقال الغزالي إلى عالم الصوفية انقلاباً "سقراطياً" في اللاهوت الإسلامي.

غير ان "للسقراطية الإسلامية" تقاليدها الخاصة. ولم يكن هناك بالنسبة للغزالي ادقّ وأكثر يقينية في ترسيخ القناعة التي لا يمكن ان يزحزحها "قانون" الحياة أيا كان شكله السياسي والظاهري من أرضية العناصر التي جمعها وعي الذات الحقيقي (الاخلاقي ــ النقدي) في تراث الخلافة حتى عصره. فقد بلور ذلك في أعماقه وفي مراحل انكساراته الكبرى ضرورة الرجوع الدائم إلى المبادئ الأولى. أو ما دعاه المتصوفة الكبار بضرورة استعادة علم الآخرة. ولكن ماذا كان يعني ذلك في آرائه ومنظومته الفكرية ان لم يكن طريق بلوغ الكمال الاخلاقي؟[28]. بعبارة أخرى، انه استمرار الرجوع إلى المبادئ الأولى التي نظر إليها باعتبارها مهمته الكبرى في بداية القرن السادس الهجري،أي  مهمة التجديد والإصلاح. وفي مفارقات التاريخ ما عمّق هذه الوحدة الضرورية بين استمرار العودة للماضي و"نداء الأزل" في وعي القناعة الذاتية المستندة إلى التقاليد الحية الواقعية والخيالية.

فقد انتقل إلى عالم الصوفية في عمر يناهز الأربعين تماماً كما بدأ النبي محمد دعوته الإسلامية. وعلى الرغم من رفض الغزالي الدائم لسحرية الأرقام والتأويلات الرقمية والحروفية المفتعلة، بما في ذلك نظرته إلى الرقم الأربعين[29]، إلا انه ظل يداعب خياله فيما يبدو، باعتباره "الغاية العليا في حب العلوم" كما قال هو في غير ما موضع. وفي ردوده على معارضيه أواخر حياته عادة ما اخذ يرد بالصيغة التي يظهر بها كما ل انه تجل معاصر للنبي محمد في أخلاقه العملية.  فقد رد في (الإملاء على مشكل الإحياء) على معارضيه تماماً كما رد النبي محمد في وقته على الوثنيين "ستكتب شهادتهم ويسألون. وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون. بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه"[30]. وليس في ذلك ما يتطابق ودعوة النبوة الجديدة التي افلح الوعي التقييمي اللاحق في وضع صياغتها "الخجولة" في عبارة "لو كان بعد النبي نبي لكان الغزالي". أما في الواقع فإن ما صاغه هو نتاج تطور الوعي والممارسة الصوفية، اللذين عادة ما يحفران قنوات "الهرطقة" الروحية،بوصفها التجلي الأكثر دقة في شموله والأكثر أخلاقا في طابعه العملي والأكثر اخلاصاً في عمق مشاعره للتوحيد. وبغض النظر عن البراهين المؤيدة والمناهضة (ضمن اطار الوعي الديني) لهذه الظاهرة فإنه افلح في أن يحتل، على الأقل لثلاثة أيام، مرتبة القطبية الصوفية[31].

وفيما لو تركنا كل احتمالات التأويل، فإن تجربة الغزالي النظرية والأخلاقية قد أدت به إلى إدراك ما دعاه في يوم ما بالبصيرة الحولاء في الفكر القائم و"الأخلاق العرجاء" في السلوك. الأمر الذي جعله يدفع إلى الأمام ضرورة اليقين والأخلاق المتسامية. وبهذا المعنى، ليس التصوف الغزالي سوى طريق بلوغ وحدة الحقيقة والأخلاق.

***

 ميثم الجنابي

 ........................

[1] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص130.

[2] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص131-132

[3] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص416.

[4] الغزالي يقصد فيما يبدو (كتاب اللطائف) للقشيري.

[5] الغزالي: الرسالة اللدنية، ص19. والمقصود هنا فيما يبدو التفسير الذي جمعه عبد الرحمن السلمي من مختلف آراء المتصوفة وبالاخص منها تأويلات سهل التستري (ت-283 للهجرة) والذي يمكن اعتباره مؤلف هذا التفسير المنسوب للسلمي.

[6] الغزالي: إحياء لوم الدين، ج2، ص300-301.

[7] انظر إحياء علوم الدين للغزالي ج1، ص58-82، وقوت القلوب للمكي ج1، 129-136، ص140-145.

[8] ومن الممكن مقارنة ما يتناوله الغزالي في الربع الأول (العبادات) بما عند المكي في الجزء الأول من (قوت القلوب) وبالأخص ما يتعلق منه بقضايا الصوم والصلاة والزكاة والحج. في حين يورد الغزالي الأدعية التي جمعها وصنفها المكي. انظر (قوت القلوب) ج1، ص7-14، و(إحياء علوم الدين) ج1، ص313-321.  

[9] لقد اورد الشيخ احمد البرنسي (ت-899 للهجرة) في كتابه (قواعد التصوف) مقارنات عديدة عميقة وشيقة بين (قوت القلوب) و(إحياء علوم الدين). وعلى الرغم من أن مقارناته وتقييمه تصب أساسا في سياق الوعي الصوفي النظري والعملي إلا انها ذات أهمية بالغة بالنسبة لرؤية ما (لقوت القلوب) و(إحياء علوم الدين) من مكانة في التصوف. وما هو مهم بالنسبة لنا هنا هو رؤية الصلة فيما بينهما والتي جرى التعبير عنها واكتشافها منذ زمن طويل في الفكر الصوفي نفسه. فقد اشار البرنسي إلى إنهما كلاهما يتضمنان الحديث عن العابد والزاهد والورع والعارف. وإنهما كلاهما انطلقا من ضرورة "نقل الفضائل جملة وتفصيلا بأي وجه ممكن ما لم يتعارض مع سنة أو تنقض قاعدة... حتى قالا بكثير من الموضوعات والأحاديث الباطل إسنادها"(قواعد التصوف، ص39). وأشار في موقع آخر إلى أن من يريد مطالعة المتسعات (الكتابات الكبيرة) في التصوف فليرجع إلى (قوت القلوب) و(إحياء علوم الدين) و"هما مسليان بتعزية النفوس ومشاكل أشكالها.... وإن لم يكن للمريد ولا للعالم طريق مفيد في التحقق والتحقيق"(قواعد التصوف، ص42). وأن "التحقق في القوت أكثر منه في الإحياء" بينما "التحقيق في الإحياء أكثر منه في القوت". واختتم هذا التقييم بالفكرة التي قال بها أبو الحسن الشاذلي (ت- 656 للهجرة) من أن "كتاب قوت القلوب يورثك النور، وكتاب إحياء علوم الدين يورثك العلم" (قواعد التصوف، ص42). وبغض النظر عن مدى دقة هذه المقارنات، إلا انها سليمة وعميقة من حيث اكتشافها للوحدة والتباين فيما بينهما.  

[10] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص79.

[11] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص116.

[12] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص118.

[13] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص118.

[14] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص 308-309، ص315-316.

[15] يتعدى هذا التأثير الصياغة والتعبير الفني إلى ما يمكن دعوته "بالفن الإبداعي" الذي يمثله (المنقذ من الضلال) وكتاب (الوصايا) للمحاسبي. فقد تأثر الغزالي بهذا الكتاب للدرجة التي يمكننا اعتبار (المنقذ من الضلال) نسخة (الوصايا) للقرن الخامس الهجري. ولهذه المقارنة صلة داخلية وبون شاسع في الوقت نفسه. ولا مجال للتوسع الآن بهذا الصدد، إلا أن هذا التشابه يعكس "قانون" تطور الفكر النظري وانتقاله إلى الفكر العملي الأخلاقي. ومن الناحية التاريخية الثقافية فإن هذا التأثير يمكنه أن يزيل افتراض تأثر الغزالي بكتاب (اعترافات) اوغسطين. 

[16] من الممكن اعتبار رأي الغزالي في العقل استمرا لما وضعه المحاسبي في كتابه عن العقل (كتاب العقل).

[17] هنا يمكن المقارنة بين ما هو موجود في (إحياء علوم الدين) ج2، ص292 و(الرسالة القشيرية) ص151-158.

[18] هنا يمكن المقارنة بين ما هو موجود في (إحياء علوم الدين)ج4، ص152-154، و(الرسالة القشيرية) ص62-65.

[19] هنا يمكن المقارنة بين ما هو موجود في (إحياء علوم الدين)4، ص507-511، و(الرسالة القشيرية)، ص175-180.

[20] هنا يمكن المقارنة بين ما هو موجود في (إحياء علوم الدين)، ج4 ص481-485، و(الرسالة القشيرية) ص137-140.

[21] انظر على سبيل المثال ما يورده في فكرته حول أقسام الشكر وفكرة الشكر الجامع أو شكر القلب بوصفه "الاعتكاف على بساط الشهود بإدامة حفظ الحرمة"(إحياء علوم الدين، ج4، ص85).، وما يورده القشيري في باب الشكر(الرسالة القشيرية، ص80-82.)

[22] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص 22.

[23] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص139.

[24] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص31.

[25] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص41.

[26] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص55.

[27]الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص97.

[28] سوف اتناول هذه القضية في الأبحاث المتعلقة بفلسفته الأخلاقية.

[29] لقد رفض الغزالي التأويل المفتعل للأرقام وطابعه الأسطوري في الفكر والممارسة على السواء. وقد كان موقفه النقدي من تقاليد الباطنية واضحا بهذا الصدد. لكنه انتقد أيضا بعض نماذجه في الفكر الصوفي، وبالأخص عند البعض منهم ممن حاول تطبيق ذلك في الموقف من تقاليد الادخار في سلوك التوكل. وينطبق هذا على موقفه من بعض الأساطير الدينية. 

[30] الغزالي: الإملاء على مشكل الإحياء، ص13.

[31] وسوف تحصل هذه الفكرة على اعتراف بها في كتابات الصوفية المتأخرة. ولم يكن ذلك مجرد اعتراف بفضل الغزالي في التصوف أو تعظيم شخصه. إنها كانت نتاج الآلية الداخلية لتطور الفكر الصوفي وبالأخص ما يتعلق منه بمفاهيم الشيخ الروحي، والسلسلة الصوفية، ونظرية القطب الصوفي.

 

 

في المثقف اليوم