دراسات وبحوث

استمرار الفكر وخصوصية التآلف الصوفي عند الغزالي (2-2)

ميثم الجنابيلقد كفّ التصوف عن أن يكون مجموعة عناصر متناثرة في منظومة الغزالي الفكرية. لقد اندمج اندماجا عضويا في الكلّ الفكري الجديد. وليس الانفصال المّوحد في مفهوم تناغم أو وحدة التصوف والسنّة، سوى الاستمرار الجديد للاهوت الغزالي السالف، أو النفي الصوفي لهذا الاستمرار. فالغزالي يسير بنفس تقاليد المتصوفة في آرائها حول وحدة الحقيقة والشريعة، أي من خلال نفي صيغتها التقليدية على اساس الوعي والممارسة الصوفية. فعندما يناقش على سبيل المثال مفهوم التوكل، فانه يحاول أن يربط في كلّ واحد صياغته الدينية العادية فيما يسمى بضرورة الاعتماد على الله وبين مضمونه الروحي الفكري (الصوفي الفلسفي) في رؤية العلاقات السببية المنفية في إدراك قدرة الله الشاملة والمتجسدة في شروط الوجود نفسها، التي بوجد فيها الإنسان ويفعل. فمن جهة يعتبر ملاحظة الأسباب والاعتماد عليها شرك في التوحيد،غير أن نفي هذه الأسباب كلياِ هو طعن في الشرع، بينما الاعتماد على الأسباب من دون رؤية الأسباب تغيير في العقل وانغماس في غمرة الجهل[1]. من هنا المهمة المعقدة، التي حاول حلها في ربط ما دعاه "بمقتضى التوحيد"، أي الفكرة الصوفية الفلسفية المجردة للتوحيد و"مقتضى النقل والعقل"[2]. وقد استمر الغزالي في محاولته حل نفس معضلات الفكر الإسلامي بمختلف اتجاهاته التي واجهها في مرحلة ما قبل التصوف. ولم يجد حلولها النهائية (الحقيقية) إلا فيما سيدعوه بوحدة العلم والعمل الجديدة (الصوفية) أو  وحدة علم المعاملة والمكاشفة.

فحالما يتكلم عن تصنيفه الجديد (إحياء علوم الدين)، فإنه يشير إلى أن ما يصوغه في هذا التصنيف يبرز كالضرورة[3]. وليست هذه الضرورة في الواقع سوى نتاج الهيكلية الذهنية الجديدة في تناول القضايا من حيث مادتها التاريخية وتطور الافكار ومن حيث غايتها الاخلاقية. وقد دعا كل هذه الأشياء بوحدة علم المعاملة والمكاشفة. وبما ان علم المكاشفة مما لا يجوز الافصاح عنه، فان وسيلة بلوغ حقائقه ينبغي ان يقدمها علم المعاملة. وبهذا المعنى ضمّن الغزالي تقليدية المفاهيم والتصورات مضموناً جديداً. كما اعطى هذا بدوره لربط الشريعة بالحقيقة مضموناً جديداً. لقد اعاقه ذلك جزئياً دون ان يعيق الإبداع الدائم للكلمة الحرة. فالصياغة التقليدية وسيوف الهلع اللاهوتي، كان لابد وان يعترضا ابداع و"تهور" الكلمة الحرة. إلا أن مضمون هذه الكلمة شق لنفسه الطريق دوماً بغض النظر عن الكدمات والعوائق المتعمدة التي رى وضعها أمامه. وقد كانت هذه بدورها جزء من واقعية التاريخ وحقيقة التطور. إذ ليس هناك من مرحلة تاريخية لم تبدع قيودها الخاصة التي بدونها تصبح حركة التطور وصراعها أمرا مستحيل الوجود. آنذاك سيكون من الممكن اعادة النظر في مفهوم وحدة السنّة والتصوف في آراء الغزالي من وجهة النظر هذه ايضاً. والغزالي نفسه يشير إلى ذلك بصورة غير مباشرة، مما يجعل من الضروري الحذر في التعامل مع مفرداته اللغوية وعباراته عندما اكد على أن الباعث الثاني لكتابة مؤلفه (إحياء علوم الدين) بالصيغة التي هو عليها، مستند الى مبدأ "المتزيّ بزيّ كمحبوب محبوبي". لهذا لم "يبعد ان يكون تصوير الكتاب بصورة الفقه تلطفاً في استدراج القلوب"[4]، أي انه تتبع نفس اسلوب ما اسماه بتطلف من رام استمالة قلوب الرؤساء إلى الطب فوصفه على هيئة تقويم النجوم موضوعاً في  الجداول والرقوم، ولا ينبغي فهم صياغته اللغوية كصياغة شكلية خالصة. ففي التصوير الغزالي وحدة  شكلية ضرورية تستمد مقوماتها من تقاليد الشريعة والحقيقة الصوفية، من وحدة المعاملة والمكاشفة بوصفهما درجات في الفكر والممارسة، وباعتبارهما اوجهاً لحقيقة واحدة. إلا أن ما يهمنا الآن هو الاشارة  إلى كونها تبرز كأسلوب الاقناع التاريخي. وبهذا المعنى، فهو يشكل قناعة نسبية ضرورية في وعيه نفسه، أي أنها نفس الاستمرارية القديمة للفكرة الغزالية في الوقف من علم الكلام، الذي يصوغ المواقف التدريجية الجديدة منه في (الرسالة القدسية في قواعد العقائد). إنها إمكانية إدراك الحقائق مع تطور  المعرفة والوعي، تماما كما تتعدد تصورات وجوانب  تعمق وعي الإنسان لكل الكلمات والظواهر التي سمعها وشاهدها في الطفولة. اذ لا اضافة جديدة لكلمة الحق عندما يسمعها الإنسان للمرة الأولى. إلا أنها تحمل مع تطوره عالم غير متناه. والغزالي في سعيه استدراج القلوب سار في طريق استلهام ثقافة الاستدراج التي طورتها حضارة الخلافة في صيغ وتجليات غاية في التباين. وبدورها لم تعن سوى الأساليب التي طورتها حذاقة الوعي التجريدي المتمرس في معمعان الحياة الاجتماعية وقضاياها. فالغزالي نفسه يقدم أمثلة عديدة عن تلك "الحيل" التي استعملها حتى اشد الشخصيات ورعاً من اجل تجنب اضطهاد السلطة. وإذا كان ذلك ممكناً في ميدان الحياة الاجتماعية السياسية، فإنه ممكن ايضاً في ميدان الفكر. رغم خصوصيتها والتي يجري فيها تطوير "الحيلة" بصيغة شحذ الذهن في الكشف عما تدعوه المتصوفة "بخفايا وأسرار العقيدة والشرع".

إن لهذه الظاهرة "قانونيتها" الخاصة في التصوف، والتي لا يمكن توقعها خارج اطار التيارات الفكرية الكبرى من مدارس اللاهوت والفلسفة والادب. فقد شكل التصوف النظري احد نماذج حصيلته المتطورة، الذي صاغ إلى جانب غيره من النماذج آلية قناعته "بأسراره" الخاصة. لكن الغزالي لا يغلق رتاج المعرفة "بالسر الصوفي". انه يكشف عنه باعتباره حقيقة السنّة. وهو لا يؤدي بذلك مهمة الربط الآلي فيما بين الاثنين، بقدر ما انه يكشف عن نسبية تجلي حقائق التصوف الكبرى وتصوراته الكونية عن عالم الملك والملكوت، السفلي والعلوي، الانسان والله في نسيج وحدة الحقيقة والشريعة، الظاهر والباطن، أي محاولة جعل التصوف الممثل الحقيقي للشرع. وقد انجز هذه المهمة لا من منطلق الكلام اللاهوتي ولا من منطلق التصوف الخالص، بل بوحدة تآلف اتجاهات العصر الفكرية التي عادة ما تؤدي في  آرائه إلى نتائج ومواقف اجتماعية عقلانية ذات نزعة أخلاقية شاملة. فعندما يتكلم، على سبيل المثال، عن أفضلية الجوع الصوفي، فانه ينطلق من أن المطلوب الأقصى في جميع الأمور هو الوسط. والتطرف في الأدب هو من اجل صنع الاعتدال. وبالتالي فانه ينبغي النظر إلى مدح الشرع للمضاد والمقابل لما يبدو متطرفاً كالبذل مقابل التقتير والكف مقابل الاسراف بوصفه وسيلة بلوغ الاعتدال[5].

بصيغة اخرى، ان "ربط التصوف بالسنّة" هو شكل من أشكال تجلي التآلف الجديد، الذي عكس في آن واحد استمرار الفكر القديم وخصوصية التصوف الجديد. إذ لا يعني انتقال الغزالي إلى مواقع "علماء الآخرة" وانتقاده الشامل لممارسته السابقة (الكلامية الجدلية، والفقهية والاجتماعية السياسية والأخلاقية) تخليه الكامل عن تراثه السابق. على العكس! إانهما لم يعنيا سوى اعادة نظر جوهرية فيه على اساس وأرضية ربط الفكر بالأخلاق. فما "اهمله" في تجربته السابقه هو المظهر الخارجي، أي موقعه ومواقفه في المنظومة الاجتماعية السياسية والفكرية القائمة آنذاك. إذ لا تشكل وحدة علم المعاملة والمكاشفة سوى الاستمرار النوعي الجديد لتراثه الفكري السابق. وذلك لأن غاية المعاملة المكاشفة، وغاية المكاشفة معرفة الله، أي شمول كل مظاهر وتجليات الحياة والوجود.

لقد دمج تصوراته السابقة وأذاب حصيلة فكره في بوتقة الوعي الصوفي الاخلاقي. ويبرز ذلك بوضوح في اتجاه تعميمه لنتاج الفكر الصوفي استناداً إلى الأرضية العقلانية لثقافته السابقة. وأدى ذلك إلى إثارة الكثير من المعضلات حول ما يسمى بحقيقة الغزالي الصوفية وطبيعة تجربته الصوفية، أي ما إذا كان قد مارس وعيه الصوفي على اساس تجربته الفردية الخاصة ألا. ولعل أولى الانتقادات التقييمية الكبرى في تقاليد الفكر الصوفي في هذا المجال هي تلك التي وضعها ابن عربي. فقد تطرق لها من وجهة نظر الموقف من علاقة اللاهوتي والصوفي في شخصية وتجربة الغزالي، ومن حيث استمرار فكره السابق ومستوى ذوبانه في الممارسة الصوفية. ولعل التقييم الذي قدمّه ابن عربي بهذا الصدد يكشف بعمق عن النوعية الجديدة أيضاً التي أدخلها الغزالي في صرح التصوف النظري. فالفرق بين "علماء النظر" كالفقيه والمتكلم كما يقول ابن عربي، "اذا دخلوا طريق الله (وهو يقصد بذلك الغزالي) وبين الأمي"، الذي لم يتقدم علمه اللدني علم ظاهر فكري يقوم في صعوبة إدراك "الحقائق الإلهية" بالنسبة للأول (علماء النظر). وبما انه لا فاعل إلا الله، كما يكتب ابن عربي، فإن هذا الفقيه أو المتكلم حالما يدخل "الحضرة الربوبية" فإنه يأخذ بميزانه (الفقهي أو الكلامي) ليزن على الله وما عرف إن الله ما اعطاه هذه الموازين إلا ليزن لله لا على الله. آنذاك يحرم الأدب ويعاقب بالجهل بالعلم اللدني. إلا أن من كان وافر العقل كما يقول ابن عربي، فإنه يمكن أن يعلم من اين اصيب. وفي هذه الحالة عادة ما يسلك طريق من بين طرق، وأسلوب من بين أساليب. فمنهم من دخل"طريق الله" وترك ميزانه على الباب حتى إذا خرج أخذه ليزن به لله ولكن قلبه متعلق بما تركه، وأحسن من هذا حالا من كسر ميزانه، فإن كان خشباً أحرقه، وإن كان مما يذوب أذابه وبرّده حتى يزول كونه ميزاناً وان بقي عين جوهره. فلا يبالي وهذا عزيز جداً، وما سمعنا إن احداً فعله. فإن فرضنا، وليس بمحال إن الله قوّى بعض عباده حتى فعل مثل هذا، كما ذكر ابو حامد الغزالي عن نفسه، فإن الأمر يختلف مقارنة بالاميّ[6]. والتعليق اللاحق الذي يقدمه ابن عربي، يشير إلى مثال الغزالي في دخول "طريق الله"، أي أنها حالة "من لم يكن على شريعة فأراد أن يعرف ما ثم فسأل فدل على طريق القوم، فدخل ليعرف الحق بتعريف الله"[7].

وفيما لو استعملنا تعبير ابن عربي، فان الغزالي يكون قد كسر ميزان أحكامه الفقهية والكلامية وأذاب حصيلة معرفته في طريقه الجديد. ولكنه مع ذلك، بقي عين جوهره. وبهذا المعنى بقيت حصيلة المعارف المنفية والمجردة بوصفها الحالة التي "ما سمع أحد فعلها" إلا ما ذكره الغزالي عن نفسه. ولاي مكن فهم حقيقة هذه الصياغة الرمزية في تاريخيتها إلا بالصيغة التي توحي بخصوصيته في عالم الصوفية  تقاليدها المبنية على أساس استمرار الفكر وحصيلة التآلف النظري. وليس بما اعطت للبعض باعث وحجة نفي "تجربة الغزالي الصوفية". فهو استنتاج سطحي بفعل عدم رؤيته اضمحلال وانحلال "التجربة الصوفية" في مقارناته التعميمية. فقد دخل الغزالي "طريق الله" أو عالم الصوفية بعد تجربة فكرية نظرية وعملية اخلاقية متعددة المناهل والمستويات. ومهما حاول هو في وقت لاحق تكسير اطرها الأولية، فإن صورها ظلت تعبث في مخيلته كمصدر جوهري في رؤية العالم وظواهره. وهو لم ينكر  ذلك في يوم من الأيام. على العكس. انه وجد في ذلك أحد السبل الضرورية لعالم الصوفية الاكثر تطوراً. فحالما حاول التنظير لمفهوم العلم اللدني، فإن الحصيلة المعرفية المتعددة المناهل تظل ضرورية من اجل قوة هذا العلم. وهو ما نعثر عليه في البدايات الصوفية الأولى المباشرة وغير المباشرة للغزالي، أي في سعيه للتعميم الذي عادة ما كانت ترفضه المتصوفة الأوائل، ليس لرفضها التعميم، بل من منطلق اولوية التجربة الفردية الذاتيه. أما أحكام الغزالي فقد انصّبت في اطار وحدة المضمون الصوفي والتقاليد العقلانية الكلامية والعمق الفلسفي التحليلي. فعندما يتكلم، على سبيل المثال، حول اصناف التصورات الصوفيه عن الوسواس والذكر فانه يستعرض خمس فرق ليستنتج في نهاية المطاف، بأن كل مذاهبها صحيحة ولكنها كلها في الوقت نفسه قاصرة عن الاحاطة بأصناف الوسواس، بفعل كون كل واحد منهم نظر إلى صنف واحد من الوسواس فاخبر عنه[8]. بصيغة أخرى، انه يقف إلى جانب التجربة الصوفية الفردية في دقة حكمها باعتبارها تجربة المعرفة النسبية، ولكنه يكشف في الوقت نفسه عن افتقادها للتعميم. وقد أدى ذلك به دوماً إلى ابراز فعالية العقل والعقلانية في تجربته الصوفية. وهو بدوره نتاج استمرار التقاليد الفكرية السابقة، التي اتخذت مهمة الربط الدائم بين علوم المعاملة والمكاشفة، أي الارتقاء من ممارستها الصوفية إلى تنظيرها الصوفي. ولم يكن ذلك بمعزل عن الاتجاه الاجتماعي السياسي في آرائه، ومحاولة صنع تآلف فكري عقائدي جديد، والسعي لتوحيد استنتاجات الاتجاهات الفكرية الكبرى، ولوضع حد لبلبلة الصراعات المذهبية آنذاك. فأساليب علم الكلام والفكر المنطقي الفلسفي، هي التي جعلت من الممكن، بل ودفعته لحل الآراء المتعلقة "بالتناقض" بين التصوف والشريعة (السنّة)، أي أن محاولته البحث في ميدان علم المعاملة، كان لابد وأن يضعه أمام مهمة كشف العلاقات الداخلية بين المعاملة والمكاشفة في اطار منظومة فكرية متجانسة. لهذا السبب اكد على ما دعاه بتلازم المعاملة والمكاشفة الشبيه بتلازم "النوع والأصل". فلا يستغني أحدهما عن الآخر، وإن كان أحدهما في رتبة الأصل والآخر في رتبة التابع. وعلوم المعاملة "إذا لم تكن باعثة على العمل فعدمها خير من وجودها، فإن هي لم تعمل عملها الذي تراد له قامت مؤيدة للحجة على صاحبها"[9]. ولم تكن هذه الفكرة معزولة عن أسلوب التفكير الكلامي والمنطقي الفلسفي نفسه. فهو لم يرفض كلياً انتاج العلم الكلامي وآراء الفلاسفة، ولا حتى أسلوب تأويل الباطنية واستنتاجاتها الفكرية العديدة. إان التآلف الفكري الجديد المستند من حيث عناصره الجوهرية إلى تراث مختلف التيارات الفكرية السابقة والمعاصرة له، والمبني على أساس رفض التقليد، والمتسم بروح الإصلاحية الأخلاقية ومبادئ الإسلام الأولية المهذبة بروح الأخلاق الصوفية، هو تآلف ديناميكي المضمون محافظ الشكل. وبهذا المعنى، فإنه فسح المجال أمام تثوير  التصوف والفلسفة والكلام. إنه وضع وصاغ  الآراء والحلول النظرية للقضايا والمعضلات الفكرية الكبرى في وحدة جديدة. ولهذا فإن تثويره اللاحق كان ممكناً من خلال تثوير المنظومة الغزالية ذاتها أما بطريق "التثوير اللاهوتي"، أو الصوفي أو الفلسفي. وسوف تنجز الكثير من اتجاهات اللاهوت والتصوف والفلسفة هذه المهمة إلا أنها ستقف عند الحدود، التي وقفت عندها ديناميكية العلاقات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية.

إن التآلف الغزالي شكّل درجة نوعية في تطور وتطوير ثقافة الخلافة دون أن يكتمل نهائياً من حيث الشكل والأسلوب ولحد ما المنهج. وهو ما يفسرّ استمراره الدائم بصيغة الخميرة الفعالة في التراث الفكري الروحي والاجتماعي السياسي اللاحق والمعاصر. غير انه لم يترك تآلفه هلاميّ الشكل، بل حاول تأطيره منذ (إحياء علوم الدين) كمشروع أولي كبير. حيث ظهر للمرة الأولى بخطوطه الكبرى كمنظومة متكاملة لها تجانسها الخاص، تتطرق إلى وجود الإنسان في منظومة العلاقات الاجتماعية والسياسية، في الكون، وموقفه من النفس والوجود بكافة مستوياته. بصيغة أخرى، لقد وضع وحاول حل "برنامج" وجود ومعنى الإنسان في الكون والحياة. وما تناوله وصاغه كمادة للتفكير في الجزء الاخير من (إحياء علوم الدين)[10] ومادة لسلوك "الطريق" ما هو في الواقع، سوى القضايا التي ناقشها على صفحات كل "موسوعة الوجود الاخلاقي" (إحياء علوم الدين). وبذلك يكون تآلفه قد وضعه أمام مهمة الشمولية "المبرمجة" وأهدفها الاجتماعية الأخلاقية كبديل شامل لنظام الوجود المعاصر له. ذلك يعني انه صاغ البديل الهادف. وبهذا المعنى يكون الغزالي قد زاول ومارس العملية الذهنية التي لم تطرح بصيغتها الجلية إلا في القرن التاسع عشر ـ العشرين [11]. ومع ذلك لم يكن النزوع الهادف لمنظومته الفكرية مستقلة عن تراث الثقافة الإسلامية. وليس اعتباطاً أن يربط آرائه الاجتماعية السياسية بشخصية النبي محمد، بل وإفراده فصلا خاصاً له [12]. بحيث حوله فيها إلى ممثل المبادئ الأخلاقية المطلقة ومجسدها الحياتي. بصيغة أخرى، لقد امتلك هذا الرجوع الدائم للشخصية المحمدية أساسه التاريخي الواقعي والفكري العقائدي والأخلاقي المجرد. فالغزالي سلك نفس العملية الضرورية لبلورة المنظومة الجديدة في اطار التقاليد الفكرية الإسلامية، بوصفه الممثل الحقيقي "لأهل السنّة والجماعة" بالمعنى المحمدي، أي اتباع النبي محمد كما هو. بحيث حوّله إلى كيان فاعل ومطلق في منظومته الفكرية الخاصة. ومن ثم وسيلة وغاية المثال الاجتماعي الأخلاقي. لقد جعل من الشخصية المحمدية القوة المؤنسة لبرنامج الأخلاق المطلقة، التي طور الغزالي اتجاهها العملي من خلال التصوف.

وبغض النظر عن عدم تقبل الفقهاء والاتجاهات السنية العديدة الأخرى له ولأفكاره هذه، إلا انه لم يثر مع ذلك موقفها الفزع من التصوف باعتباره ممثل القيم الأخلاقية التي تتطابق مع التجريد البعيد المدى لمثال الشخصية المحمدية. لهذا استعمل كل تراث البنيان الإسلامي بالكل الذي جعل منه وحدة اجابية فاعلة في ميدان  الصراع الاجتماعي. فالغزالي يرفض السلوك السلبي والخامل. ووقف دوما إلى جانب النشاط الاجتماعي الفعال. ففي ميدان الحقوق يبرز احياناً كممثل لضبط النظام بما في ذلك في أقسى اشكاله حالما يكون ذلك لمصلحة العامة والأغلبية. انه حاول تطبيق فكرة "ولكم في القصاص حياة". ولم تكن هذه الأحكام والآراء في منظومته عرضية الطابع أو ثانوية الأهمية. إن أهميتها التاريخية تظهر بالذات بوصفها الفكرة المؤثرة في بلورة وعي وممارسة العامة والخاصة (الجمهور والنخبة). وبربطه هذين الجانبين يكون قد اختار طريقاً لم يسلكه أحد قبله. ولا ينبغي فهم هذه الصياغة كما لو أنها  ازدواجية للحلول والآراء والمواقف، بقدر ما انها كانت تعبر عن رؤية مستويات متباينة للظاهرة. حيث كانت تتطابق في منظومته الفكرية مع قضية المطلق والعابر، والكلي والجزئي، والحق والضرورة. الأمر الذي جعل من آرائه حتى في اشد حالاتها الصوفية المجردة ذات مضامين اجتماعية سياسية واضحة. إذ أنها وضعت على الدوام مهمة التعامل الملموس مع الفكرة ورؤية المطلق في العابر.

وحدد ذلك بدوره التطبيق الصارم لمبادئ العقلانية الاخلاقية. فقد وقف الغزالي، على سبيل المثال، بقوة ضد فكرة المجاهدة الصوفية المتطرفة، مبرهناً على ضرورة الشهوة والوقاع، مستنداً بذلك الى تحليل الظاهرة البيولوجية الاجتماعية ليثبت على اساسها ويولف فكرة المثال الصوفي الباطني للأخلاق ووجود الإنسان الاجتماعي التاريخي. فالمهمة التي حاول حلها لا تقوم في اخضاع العالم الواقعي لعالم المثال الصوفي، ولا الصوفي للواقعي، بل في استلهام مثل الأخلاق الصوفية كقيم مجردة مثل دوران الحق بالحق للحق. فعندما يناقش، على سبيل المثال، أفكار الحكايات والنوادر الصوفية فأنه يتطرق اليها ليس كمثال يستلزم المحاكاة، بل  لكونها كرامات. ولا يمكن بالتالي بلوغها عن طريق التعلم، لأنها مجرد رمز (سرّ). فمن أراد أن يسخّر كلب بيته كما يقول الغزالي، فمن الاجدى به أن يسخّر كلب أعماقه (الغضب). ومن أراد تسخير الأسود يلزمه اولا تسخير أسده (السيطرة). فإذا لم "يسّخر المرء كلبه الباطن، فلا مطمع له في استسخار الكلب الظاهر"[13].

قد سعى الغزالي من وراء ذلك إلى رفع ايجابية الممارسة الاجتماعية الدينية والأخلاقية. فهي الوسيلة التي ينبغي أن تجعل من أخلاقية الصوفية المثال الإيجابي الفعال. إنه سعي إلى ربط جوهر الأخلاق الصوفية ومثالها المطلق بظاهرية الممارسة الجماهيرية. وبهذا المعنى، فانه رفض الفردية المتطرفة في الفكر الصوفي والطابع السلبي في ممارسته الاجتماعية. فعندما يتكلم عن "اسقاط الجاه" باعتباره احد أساليب الارتقاء الروحي الأخلاقي، فإنه يقدمه على مادة ومثال العلم والحرية، لا مثال الملامتية. رغم أن ممارسة الأخيرة تتضمن مبادئ وقضايا العلم والحرية باعتبارهما عناصر الارتقاء الأخلاقي الصارم. إلا أنهما يولدان شعور الارتداد عند الجمهور، الذي يوهن الموقف الديني الايجابي. انه يكلّف الأخلاق الميتافيزيقية المتسامية إرهاق لا ضرورة فيه[14]. وبالتالي، يفسح الغزالي المجال لشرب عصير التمر في قدح الخمر دون الاعلان عنه. ان هذه "الدعوة الخفية" تظل في اطار السعي نحو إدراك حقيقة السرّ الصوفي الأخلاقي من أجل أن يكون ذلك حافزا للتطور الأخلاقي والرصيد الروحي.

لقد أدرك الغزالي ما في أعماق الأخلاق الصوفية من قوة هائلة على استثارة اليقين الروحي، الذي بدونه لا يمكن للوجود الإنساني امتلاك قيمته الفعلية. فهو لم يتطرق في هذا المجال إلى وعي الضرورة التاريخية. إن آراءه تسير في خطى الصوفية عبر إهمال الزمن الساري والاستعاضة عنه بالزمن الروحي، بوصفه قيمة روحية مطلقة. وبالتالي لا أمس ولا غد بل اليوم، أي اليوم الروحي الذي لا يتجاهل الصوفي معه وفي مجراه فكرة الوجود الدائم. فآراء كهذه تتناقض مع نظرته إلى الكون وعلاقته به بما في ذلك تصوراته عن الله الإسلامي. غير أن الصوفي بفعل انهماكه في عملية النفي الدائم تجعله في اعين معاصريه مثالاً للزندقة، تماماً كما يتعامل هو في اعماقه مع جمهور "الغافلين" من العلماء والسفهاء. إلا انه لا ينظر بعين الازدراء إلا تجاه نفسه. وبهذا المعنى، فانه يظل يدور في دوامة "التسامي الأخلاقي المبرح". والغزالي لا يرفض هذا الجوهر الأخلاقي الروحي، أو هذا التسامي "الشعث". انه يدرك استحالته الطابع الوظيفي في الاطار الاجتماعي التاريخي المعاصر له. مما حدد  بدوره أسلوبه في التعامل مع فكرة الصوفيه الجوهرية في الأخلاق: النفي الشامل لبلوغ الوحدة على أساس ومبدأ الوسط الفلسفي المجرد. انه أدرك تعقيد هذه العملية سواء من حيث فاعليتها التربوية او قدرتها على التغيير، الا ان ممارستها في حدود العقلانية تفسح المجال لتطوير الروح الاجتماعي الأخلاقي وهذا بدوره يعني ضرورة التوجه نحو النظر في العلة المعالجة حسب مبدأ "إن كنت تحب المال فأبذل. وإن أصبحت محب البذل فامسك". وهذه بدورها أيضا ليست إلا ممارسة الوسط العقلاني الذي يمكن بلوغ ذروته في حالة تحول البذل والإمساك إلى فعل واحد ظاهري وعرضي كتعامل المرء مع الماء. أما في الواقع فليس الوسط الحقيقي سوى انعدام الوسط، بمعنى التطابق التام مع الفكرة المثال أولا وقبل كل شيئ وليس ضرورة إدراكها كما هي. فالوعي هو مثير المعضلات ومبدع القضايا، بينما الوسط الحقيقي لا يستلزم رد فعل ظاهري باطني. فهو قائم بذاته. وهي الصيغة التي ابدعت المتصوفة رمزيتها عبر رفعها إلى مصاف المعضلة في ردّ النبي محمد على سؤال في المنام لأحدهم عن سبب قوله "شيبتني هود" بعبارة "فاستقم كما أمرت". فهي الاستقامة التي حاول الغزالي مطابقتها مع الوسط المجرد أو الوسط المنفي في معاملات الأخلاق المطلقة. فهو المثال الذي يستلزم كحد أدنى الاجتهاد بالاقتراب منه في حالة ضعف القدرة على بلوغ حقيقة الاستقامة[15]. أما مشروع الغزالي فقد انصب في تيار الإبداع الساعي لتحويل المتصوف العارف الى قطب الوجود الحق ومثوّر الروح الأخلاقي الدائم.

 

ا. د. ميثم الجنابي

.........................

[1] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص243.

[2] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4 ص243.

[3] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص3.

[4] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص4.

[5] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج13، ص96.

[6] ابن عربي: شرح كلمات الصوفية (جمع وترتيب محمود الغراب)، ص260-261.

[7] ابن عربي: شرح كلمات الصوفية (جمع وترتيب محمود الغراب)، ص261.

[8] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص44.

[9] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص9.

[10] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص 423-448.

[11] إن لهذه القضية إشكالاتها الخاصة. ومن العبث البحث عن تطابق كلي فيما بين منظومة الغزالي بوصفها مشروعا فكريا شاملا ومثيلاته في العالم المعاصر. وقد بلور الغزالي إحدى صيغ البديل الذهني للوجود الاجتماعي التاريخي. وأبدع ذلك في آن واحد فعالية الآراء الغزالية ومشروع تنفيذها العملي، وفي الوقت نفسه فسح المجال أمام بعض عناصرها للتحول إلى قيود الوعي الطوباوي. ومع ذلك يبقى لمشروعه الفكري الروحي خصوصيته التي سأتناولها في مجرى دراسة آرائه الاجتماعية والسياسية.    

[12] الغالي: إحياء علوم الدين، ج2، ص357-387.

[13] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص280.

[14] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص288.

[15] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص64.

 

في المثقف اليوم