دراسات وبحوث

تفسيرات لنشوء الظاهرة الدينيّة

الظاهرة الدينيّة اقدم ظاهرة عرفها الانسان، لانها تعبير عن حاجة اصيلة في اعماق الانسان؛ فهناك حاجة اصيلة في اعماق الكائن الانساني بوجود اعلى، اطلق عليها الشهيد الصدر (رضوان الله عليه)، الحاجة الى الارتباط بالمطلق، وهي حاجة فطرية اصيلة كما جاء في قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) الروم: الاية: 30، وعبّر عنها العقاد بالجوع الى الاعتقاد كجوع المعدةالى الطعام، يقول العقاد: (في الطبع الانساني جوع الى الاعتقاد كجوع المعدة الى الطعام) "عباس محمود العقاد، الله، ص 14 "، وسمّاها عبدالجبار الرفاعي بالظمأ الانطولوجي .

ونشاة الظاهرة الدينية - كما قلنا - قديمة قدم الانسان، هذه الظاهرة واكبتها تساؤلات الانسان عن المبدا والمصير، وفلسفة وجود الانسان على هذا الكوكب. هذه التساؤلات شكلت بذور ماعرف اليوم بفلسفة الدين. فهذا الفرع من المعرفة الانسانيّة ليس حديثا وانما وجد مواكبا لوجود الدين محاولا ايجاد تسويغات للتدين، واثارة اسئلة حول متبنيات الدين ومقولاته، والاجابة عن الاسئلة المصيرية الكبرى التي واجهت الانسان. وفلسفة الدين ليست هي اللاهوت في المصطلح الكنسي، ولاهي علم الكلام عند متكلمي المسلمين؛ لان علم اللاهوت اوعلم الكلام، وجد ليدافع عن العقائد الدينية، وايجاد تبريرات ومسوغات للايمان بها . بينما فلسفة الدين تثير الاسئلة حول الدين وعقائدة، وتفحص كافة مقولاته .

واثارات ابراهيم حول عبادة قومه للكواكب تدخل في فلسفة الدين؛ لانها من قبيل الاسئلة حول جدوائية هذه العبادة ومبرراتها . يقول الله تعالى حاكيا عن خليله:

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) الانعام: الاية: 76، وكذلك في قول ابراهيم لعبدة الاصنام بعد تحطيمها، حطمها كبير الاصنام:

(قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) الانبياء: الايات: 62-63، هذه الاسئلة تقرر عدم جدوائية عبادة اصنام لاتدافع عن نفسها ولاتنطق، ولاتدفع عن نفسها ضرا، ولاتجلب اليها نفعا؛ فهي تدخل في فلسفة الدين .

هناك من يخلط بين الدين والتدين، فالدين واحد، ولكن التدينات مختلفة؛ لان التدينات ناشئة من فهم الناس للدين وممارستهم له، وكذلك الاسلام واحد؛ ولكن التاسلمات متعددة، وهذا مصطلح استخدمه واعني به فهم الناس للاسلام وممارستهم له، يقول الله تعالى:

(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) ال عمران: الاية: 19 .

وهذا الفهم تفطن اليه الفيلسوف الالماني كانط، حيث يقول:

(ليس ثمة سوى دين حقيقي واحد، ولكن من الممكن ان تكون هناك اشكال متعددة من العقائد الدينيّة . وتبعا لذلك فقد يكون الادنى الى الصواب ان نقول عن فرد من الناس انه ينتمي الى العقيدة اليهودية او المسيحيّة اوالاسلاميّة بدلا من ان نقول انه ينتمي الى هذا الدين او ذاك) . نقلا عن كتاب (مدخل الى فلسفة الدين، د . مصطفى النشّار، ص 19) .

نظريات تفسير الدين

هناك نظريات عديدة قدمت تفسيرات مختلفة لنشأة الظاهرة الدينيّة، فعالم الاجتماع دوركايم فسر نشوء الدين بالبعد الاجتماعي، وكارل ماركس فسّر ظهور الدين على اساس العامل الاقتصادي، وماكس فايبر عكس القضيّة واعتبر الدين اصلا في ظهور الاقتصاد؛ فهو يرى ان البروتستانتيّة كانت عاملا رئيسيا في ظهور الراسماليّة .

وول ديورانت ذكر بواعث عديدة لنشأة التدين لخّصّها في خمسة وهي: (الخوف والدهشة والاحلام والنفس والروحانيّة) قصة الحضارة، المجلد الاول، ص 99-102) .

واذا كان الدين اصيلا، ويمتلك اسسا فطرية؛ فلايمكن ان يكون مرحلة في حياة البشرية، بل هو جاجة لاتستغني عنها الانسانية في كل مراحل وجودها؛ وعلى هذا الاساس لايمكن قبول قول هيغل بان: (الروح المطلق مؤلف من ثلاث مراحل، هي: مرحلة الفن، ومرحلة الدين، ومرحلة الفلسفة) ابراهيم، زكريا، هيغل والمثاليّة المطلقة، ص 408 . وكذلك لايمكن قبول تقسيمات اوغست كونت للمراحل التي مرّت بها البشريّة، الخرافة، الدين، العلم)، وكذلك لايمكن قبول التفسير الماركسي بان الاديان كلها مثّلت مرحلة من مراحل تطور الفكر الانساني؛ فالدين حاجة اصيلة، لامرحلة يمكن ان تتجاوزها الانسانيّة وتعبرها .

افكار غير مقبولة

يرى نيتشه، ان الخوف كان عاملا مهما في نشاة الطاهرة الدينيّة فيقول: (ان الدين يولد من الخوف، ومن الحاجة، وقد انسل الى داخل الوجود من خلال سبل العقل التائه) نيتشه: انساني مفرط في انسانيته، ص 75 .

القران الكريم طرح فكرة الخوف:

(وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) . (يونس: الاية:12)

وقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) يونس: الاية: 22

وقوله تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) . العنكبوت: الاية: 65

ولكنّ الخوف الذي اشارت اليه هذه الايات الكريمات، ليس هو سببا للايمان والتدين كما يرى نيتشه، ولكن الايات تتحدث عن نزعة دينيّة موجودة في اعماق الانسان، ويأتي الخوف ليرسخها، لاليوجدها .

والفكرة الاخرى غير المقبولة التي يطرحها نيتشه، هو اعتباره التوحيد وفكرة الاله الواحد، خطرا على الانسانيّة . (نيتشه: ماوراء الخير والشر، ص 88)، ويعتبر نيتشه الشرك وتعدد الالهة، صورة لحرية التفكير، وتعدديّة افكار الانسان . (نيتشه: العالم الجذل، ص 126) . ويصف نيتشه المسيحيّة بانها: اللطخة الابديّة فوق البشريّة . (نيتشه: عدو المسيح، ص 186) .

ونيتشه يرى ان تاليه الله هو: (تأليه للعدم، وتقديس لارادة العدم) نيتشه: عدو المسيح، ص 50 . وفكرة (موت الاله) عند نيتشه، هي فكرة احلاليّة لاحلال الانسان محل الله؛ لان نيتشه بعد ان قال: (ان الاله قد مات) نيتشه: هكذا تكلم زرادشت، ص 30، قال ايضا: (الا يجدر بنا ان نصير نحن انفسنا الهة) نيتشه: العلم الجذل، ص 118 .

واذ انتقلنا الى عالم النفس فرويد، صاحب مدرسة التحليل النفسي، في تفسيره لنشوء الظاهرة الدينيّة، هو يعتبرها ظاهرة عصابيّة مرضيّة . (موسى والتوحيد، ترجمة جورج طرابيشي، ص 78-79، وتارة خرى يعتبرها نتاج عقدة ادويب جماعيّة.

وهذا التفسير المرضي العصابي للدين ليس ابتكارا فرويديا، بل هي مقولة كل الامم المشركة في مواجهة انبيائها، يقول الله تعالى:

(إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ۗ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ). هود: الاية: 54، وقد اتهم قوم نوح نوحا عليه السلام بالجنون، يقول الله تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) القمر: الاية: 9

واتهم فرعون موسى (ع) بالجنون: (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) الشعراء: الاية: 27، واتهم المشركون رسولالله (ص) بالجنون، يقول الله تعالى:(وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) الحجر: الاية: 6، وقوله تعالى: (وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ) الصافات: الاية: 36

وقوله تعالى: (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) القلم: الاية: 51، وقد ردّ الله التهمة هن نبيه بقوله تعالى: (وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ) التكوير: الاية: 22، وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ۗ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ) الاعراف: الاية: 184 .

وفي الختام، اذكر القاريء العزيز، ان ليس كل فكرة تطرح هي جديرة بالقبول، بل يجب التفتيش عن جذور الفكرة في البنيّة النفسية لصاحبها، وللاسف ان اكثر الدراسات للافكار هي دراسات بمقاربات اجتماعيّة واقتصادية وثقافية، وانا لااقلل من اهمية هذه المقاربات، ولكنني ارى ان المقاربة السيكولوجيّة تشكل البنيّة التحتيّة للافكار.

 

زعيم الخيرالله

 

 

في المثقف اليوم