دراسات وبحوث

مذهب إقبال في معراج الذات

مجدي ابراهيمفي مقال أرسله الدكتور محمد إقبال إلى (نيكولسون Nicholson) المستشرق الانجليزي المعروف عندما سأله عن مذهبه، وهو يترجم ديوان الأسرار والرموز، جاء فيه تربية الذات وترقيتها وتكميلها من طريق المعراج، وحدَّد فيه مذهبه الفلسفي، وأشار إلى أصول فلسفة الأخلاق الإسلامية، وبيّن أن لكمال الذات ثلاث مراحل:

(1) طاعة القانون الإلهي.

(2) ضبط النفس.

(3) النيابة الإلهية.

وبادي الرأي عندي أن مذهب "إقبال" نفسه في توكيد الذات وإثباتها والإحساس بها ثم تربيتها الروحيّة وفق مراحل الطاعة وضبط النفس؛ لتقويتها وتكميلها، ولترقيتها وإخراج ما أوُدِعَ فيها من مواهب وقدرات؛ لهو هو عينه "معراج روحي" يحسن الإصغاء إليه، والوقوف عنده وقفات.

هذا الرأي فقط هو الذي يجعلني أتوقف تلك الوقفة عند إقبال خلال مقاله المشار إليه. وليس من شك أن تربية الذات ضرورة واجبة بل فريضة إسلامية مفروضة من جانب الله تعالى؛ فهو سبحانه يقول:"يَا أيُّها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضَلّ إذا اهتديتم"؛ فالمسلم الذي يقرأ هذا الآية لا تفوته عنايته بنفسه، ولا يقلد غيره في الضلالة والاختباط.

يتخذ "إقبال" من هذه الآية الكريمة مفتاح مذهبه في توكيد الذات وإثباتها وهى أساس فكرته عن تربية الذات (عليكم أنفسكم). وإشعاعات الكلمة القرآنية توحي لديه بعمارة الوجود الإنساني؛ فالإنسان لديه قوة وقدرة واقتدار غير مسلوب الإرادة ولا منهار القوى، ولكنه خليفة الله في أرضه، تقتضيه هذه الخلافة أن يشعر بذاته ويعدُّ لها عدتها ويجدُّ في العمل لبنائها، لا يغيب عنها، ولا يفنى ولا يستهلك في غيره استهلاك المجاذيب الخواه حتى ولو كان هذا الغير هو الله !

ولذلك؛ فهو يرفض الفناء الصوفي، ويرفض السُّكْر والجذب والغيبة وكل الحالات السلبية التي لا تؤكد الذات بل تمحيها وتورث إذلال النفس وإماتتها فيما يسمى بدعوى الفناء في الله. وعنده أن التصوف "العَجَميّ" الذي شاع بين المسلمين أخذ من رهبانية كل أمة وجهدَ أن يجذب إليه كل نحلة، حتى القرمطية التي قصدت إلى التحلل من الشريعة. إنّ حالة السُّكْر في اصطلاح الصوفية تنافرُ الإسلام وقوانين الحياة.

وحالة الصحو، وهى الإسلام، توافق قوانين الحياة. وإنما قصد الرسول (ص) إنشاء أمة صاحية ليست بالفانية ولا بالعاطلة. ولهذا نجد في صحابة الرسول، الصدِّيق والفاروق ولا نجد حافظاً الشيرازي. وحافظ الشيرازي هذا، هو الشاعر الفارسي المنعوت بلسان الغيب، حَمَلَ "إقبال" عليه حملته العنيفة؛ فحطَّ من شأنه وغضّ من طريقته، ثم نهى الناس عنها وحذَّرهم منها، وهو يعدُّ أعظم شعراء صوفية الفرس في عصره.

ومن المعلوم عندي بالضرورة أن مذهب "إقبال" برمته مذهب يحارب آفة الضعف والركود التي تبدر في أشعار حافظ الشيرازي وشعراء الفرس على التعميم، بمقدار ما كان يحارب كل آفة تفت في عضد المسلم وتبطل ذاته قدر ما تبطل العمل: ركيزة تربية الذات وترقيتها، فكل شعر التصوف عنده ظهر في زمان ضعف المسلمين السياسي. وكل أمة يصيبها ضعف كالذي أصاب المسلمين بعد غارات التتار، تتبدّل أنظارها وتجمُل الاستكانة في أعينها، وتركن إلى ترك الدنيا، وفي الترك تخفي ضعفها. خاطب فلاسفة الهند العقل قي إثبات وحدة الوجود، وخاطب شعراء إيران القلب، فكانوا أشدّ خطر وأكثر تأثيراً، حتى أشاعوا بدقائقهم الشعرية هذه المسألة بين العامة، فسلبوا الأمة الإسلامية الرغبة في العمل، وفهموا من التبتل والروحانيّة دعوات الاستكانة والخمول. وتمتاز أمم الغرب بميلها إلى العمل، فآراؤهم خيرُ دليل لأمم المشرق إلى فهم أسرار الحياة.

وكما وَجَّه "إقبال" ضرباته للشيرازي، خالفَ كذلك الشيخ الأكبر ابن عربي، وغلّطه، ونصَّ أنّ آراءه غير إسلامية وقال: أنا لا أنكر عظمة الشيخ ابن عربي وفضله، بل أعدَّه من كبار فلاسفة المسلمين ولا أرتاب في إسلامه، فإنه يحتج لعقائده، كقوم الأرواح ووحدة الوجود بالقرآن مخلصاً؛ فآراؤه على صوابها وغلطها، قائمة على تأويل القرآن. وأرى أن تأويله غير صحيح. فأنا أعدَّه مسلماً مخلصاً ولا اتبعه في مذاهبه".

ويقول في رسالة إلى أحد المعترضين على رأيه هذا:"الحقُ أن التماس معانٍ باطنة في قانون أمة، هو مَسْخٌ لهذا القانون، كما يُعلَم من سيرة القرامطة، ولا يختار هذه الطريقة إلا أمةٌ في فطرتها الخنوع والذلة".

تبدأ تربية الذات بثلاث مرحل أولاهما: (مرحلة الطاعة) والقصد منها طاعة الله ورسوله. وليس من فرق عنده بين طاعة الله وطاعة رسوله، فكلاهما في منزلة واحدة: "ومن يطع الرسول فقد أطاع الله". هذا شرط أوليُّ لتقوية الذات لا مناص من الأخذ به بقوة، فطاعة الله ورسوله طاعة مطلقة لا تملل فيها ولا فتور شرط المرحلة الأولى في تربية الذات وفي بنائها؛ إذْ هى فرض من جانب الله يقرره القرآن "وأطيعوا الله ورسوله لعلكم ترحمون". "وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون"؛ فمن أراد أن يرحم نفسه؛ لتكون له قوة معينة يتحرَّر بها من سطوات التخلف الديني، ويستقل عن غبن الأغيار التي تلابسَه صباح مساء، وجبت عليه الطاعة؛ فهى أولىَ خطوات بناء الذات وتربيتها.

ثم تأتي المرحلة الثانية، وهى التي تمثل خطوة تالية لا بدَّ منها، وهى مرحلة (ضبط النفس) خلال التحكم في النفس الإمارة، ومراجعتها عن نزواتها وأهوائها، وصدها عن شهواتها ورغائبها التي لا تنتهي. وبما أن النفس الأمارة تقود إلى الشرور دوماً فقد نبّه القرآن الكريم على كوارثها، "إنّ النفس لأمارة بالسوء"، فوجب جهادها والعمل الدائم على مقاومتها؛ فإن طريق ترقية الذات هو التغلب على نزعاتها وأهوائها.

وفي هذا كله تزكية لها وتطهير.

والمرحلة الثالثة: من مراحل مذهب "إقبال" في كمال الذات، والعروج بها إلى أفق الرقي الإنساني واستخلاص ما أوُدِعَ فيها من مواهب هى مرحلة (النيابة الإلهية).

والنيابة الإلهية في هذه الدنيا هى أعلى درجات الرقي الإنساني. ونائب (الله) خليفة الله في الأرض، وهو أكمل ذات تطمح إليها الإنسانية، وهو معراج الحياة الروحي.

وأول شرط لظهور نائب الحق أن ترقى الإنسانية في جانبيها الروحي والجسمي، فإن ارتقاء الإنسانية يقتضي ظهور أمة مثالية يتجلى في أفرادها في الجملة، هذا التَّوحّد الذاتي وتصلح لأن يظهر فيها نائب الحق؛ فمعنى سلطان الله في الأرض أن تقوم جماعة شورية يتوحد أفرادها، ويقوم على هذه الجماعة واحد يمكن أن يسمى نائب الحق أو الإنسان الكامل، وهذا الإنسان الكامل يبلغ ذروة الكمال التي لا يتصور فوقها ذروة. وقد رأى نيتشه (الفيلسوف الألماني المعروف) ضرورة ظهور هذه الأمة المثالية، ولكن دهريته وإعجابه بالسلطان مَسَخا فلسفته كلها. على أن إقبال كان يرى أن في حياة الرسول (ص) أسوةً حسنة للمسلم، فقد كانت حياته خيرَ مثال للسعي الدائم والكفاح الموصول.

لقد كانت حياته كلها صورة للعمل وللمثل الأعلى قال صلوات الله وسلامه عليه:" تخلقوا بأخلاق الله". فكلما شَابَه الإنسان هذه الذات الوحيدة كان هو فرداً بغير مثيل.

ويركز "إقبال" على أن يكون هدف الإنسان الديني والأخلاقي: أثبات الذات لا نفيها، وعلى قدر تحقيق انفراده ووحدته يقرب من هذا الهدف. وتنقص فرديته على قدر بعده من الخالق. والإنسان الكامل هو الأقرب إلى الله، وليس القصد من هذا القرب أن يُفني وجوده في وجود الله، كما تقول فلسفة الإشراق، بل هو، على عكس هذا تماماً، يُمثل الخالق في نفسه؛ لأنه خليفة الله في أرضه.

الحياةُ رقي مستمر (معراج)، تُسخّر كلّ الصعاب التي تعترض طريقها. وحقيقتُها أن تخلُق دائماً مطالبَ ومثلاً جديدة من أمثلة الحياة العليا.

وقد خَلَقتْ من أجل اتساعها وترقيها آلات كالحواس الخمس والقوة المدركة؛ لتقهر العقبات والمشقات. وأشدّ العقبات في سبيل الحياة، المادة أو الطبيعة. ولكن المادة ليست شراً، كما يقول حكماء الإشراق، بل هى تعين الذات على الرقي، وتدفعها إلى (العروج)؛ فإن قُوى الذات الخفيّة تتجلى في مصادمة هذه العقبات، وفي التغلب عليها من طريق الترقية والتسامي. وإذا قهرت "الذات" كل الصعاب التي في طريقها بلغت منزلة الاختيار. الذات نفسها فيها اختيار وجبر، ولكنها إذا قاربت الذاتَ المطلقة نالت الحرية الكاملة. والحياةُ جهادٌ لتحصيل الاختيار. ومقصد الذات أن تبلغ الاختيارَ بجهادها.

وفي المقال الذي أرسله "إقبال" إلى "نيكولسون" لتوضيح مذهبه في توكيد الذات وتكميل الذات وترقيتها، يُظهِر "إقبال" خلافه مع مذهب الأستاذ "بريدلي" الذي كان يقول إن كلَّ مركز للشعور محدود، أي كل ذات مُفْرَدة إنْ هى إلا خداعُ نظرٍ باطل. لكن "إقبالاً" يقول بخلاف ذلك تماماً: إن مركز الشعور المحدود الذي لا يُدْرَك الذات هو حقيقة الكائنات. فالذات حقٌ لا باطل. ولكن تجليات الحياة تؤكد هذا. الحياة كلها فردية، وليس للحياة الكلية وجود خارجي. وحيثما تجلت الحياة تجلت في شخص أو فرد أو شيء. والخالق كذلك فرد، ولكنه أوْحَد لا مثيل له. ومع "إقبال" الحق فيما يقول ردَّاً على "بريدلي"؛ لأن الشعور لا يُحَدُّ ولا يتوقف، وإلا توقفت الحياة نفسها وتعطلت فيها الحيوية.

ولا خلاف على أن هذه الفرديَّة في التّصور وفي التحقيق من حيث إنها تؤكد ذاتية المخلوق وتجعل له وجوداً مستقلاً عن سواه قد أدَّت بإقبال أن يقول: وظاهر أن هذا التصور للكائنات يخالف كل المخالفة ما ذهب إليه شُرّاح فلسفة هيجل من المثاليين من محدثي الإنجليز، ويخالف أصحاب وحدة الوجود الذين يرون أن مقصد حياة الإنسان، أن يُفْنيَ نفسه في الحياة المطلقة أو "أنا" المطلق، كما تَفْنَى القطرة في البحر. وليس من شك، أنّ مثل هذا الفناء لا يؤدي في نظر "إقبال" إلى قيام شخصية المسلم ناهضة قوية بمقدار ما لا يؤدي كذلك إلى إحياء الذاتية الحرة المستقلة التي جاء بها القرآن الكريم وأكدتها أحاديث النبيّ صلوات الله وسلامه عليه، فهدف الإنسان الديني والأخلاقي في مذهب "إقبال" إثباتُ ذاته لا نفيها، وتحرُّرها لا سحبها من معترك الحياة أو من ميادين الجهاد فيها؛ وبمقدار ما يحقق تَفَرُّدَهُ واستقلاله ووحدته، يَقرُب من تحقيق هذا الهدف.

ومن المؤكد أن مذهبه في تحرير الذات يقوم على تحرير الشخصية الإنسانية مما يفنيها ويهدمها ولا يجعل لها كياناً تعتز به وتعتد، وما دامت للفرد شخصيته الحرة المستقلة فلا مناص من أن تكون مركز حياة الإنسان؛ فمركز حياة الإنسان ذات أو شخص، وحيثما تتجلى الحياة في الإنسان تسمى ذاتاً. وشخصية الإنسان من الوجهة النفسانية، حالٌ من التوتر. ودوام الشخصية موقوف على هذه الحال؛ فإن زالت هذه الحال عقبتها حال من الاسترخاء مضرة بالذات، شأنها في ذلك شأن الإرادة؛ كالسيف يُصْدِئُهُ الترك والإهمال ويشحَذَهُ الضرب والنِّزال؛ فإن يكن في حالة التوتر هذه كمال الإنسان فأول فرض عليه أن يعمل لدوام هذه الحال والحيلولة دون حال الاسترخاء، وكل ما يُمَكّننا من إدامة حال التوتر يمكِّننا من الخلود، وهذا التصور للشخصية يقوم معياراً لِيقيّم حقائق الأشياء.

وعند هذه النقطة يصل "إقبال" إلى حلِّ مشكلة الخير والشر حلاً بسيطاً يتوقف على مدى معرفتنا لذواتنا أولاً، ثم ثانياً يتوقف على مدى تربية هذه الذوات الفردية وقدرتنا على تنميتها وترقيتها ثم تكميلها في طريق التنمية والترقية، والعروج بها صعداً في معارج الكمال. إنّ في ذواتنا معيار الحسن والقبح؛ فما يقوّى الذات خيرٌ لا خلاف عليه، وما يضعفها شر لا بد من إزالته. ويجب أن يقوم الدين والأخلاق والفنون بهذا المعيار أيضاً.

ويقول "إقبال": واعتراضي على أفلاطون، هو في أصله اعتراضٌ على كل النظم الفلسفية التي تقصد إلى الفناء لا البقاء، والتي تُغْفِل المادة، وهى أكبر العقبات في سبيل الحياة، وتدعو إلى الفرار منها لا إلى تسخيرها والتسلط عليها بعزائم الإنسان، واقتداره على العمل الدائم المتواصل، وعلى التغلب والنصرة والنضال.

وكما تعرِض مسألة المادة في مبحث حرية الذات، تفرَض مسألة الزمان في مبحث خلودها. إنّ برجسون ليقول: إن الزمان ليس خطاً ممتداً إلى غير نهاية يتحتم علينا المرور به. هذا التصور للزمان غير صحيح؛ فالزمان الخالص لا يدخل فيه تصور الطول، أي لا نستطيع قياسه بمقياس الليل والنهار. إنّ خلود الذات أمل، من أراد أن يظفر به، فليِجدَّ ويدأب لبلوغه. والظفر به موقوفٌ على أن نسلك طريقاً للفكر والعمل في هذه الحياة يعيننا على حفظ حالة التوتر. ولا يستطيع إبلاغنا هذا الأمل دين بوذا ولا التصوف العجمي. وما إلى هذين من نظم الأخلاق الأخرى. لقد أضرّت بنا هذه الطرق؛ هكذا يقول إقبال؛ فأضرعتنا وأنامتنا. إنّ هذه المذاهب هى الليالي في أيام حياتنا".

لا جَرَمَ في أن هذه الفلسفة القرآنية التي اتخذت من القرآن الكريم دعامتها الأولى لهى هى نفسها التي جعلت من "إقبال" ينادي بمذهب فلسفي قويم في تحرير الذات، ويبني عليها مذهبه وقوام آراءه كلها في الحياة وفي الوجود. فللذات الإنسانية مؤهلاتها وقواها الباطنة التي تدفعها دفعاً إلى العروج في مدارج الكمال، وإلى معارج الرُّقيّ لبلوغ أقصى الغايات التي يبلغها الكاملون. لكن هذه الذات وهى في طريقها نحو التحرر ابتغاء المطلوب، تقابلها العقبات والصعاب، وأشدُّ العقبات وأصعبها هو ما يأتي من جهة المادة؛ فالتغلب عليها ومحاولة تذليلها ضربٌ آخر من ضروب توكيد الذات وترقيتها ثم تحرُّرُها من القيود والأغلال. على أن هذا التغلب على المادة يلزمه خطوات أو مراحل حدَّدها "إقبال" وذكرناها فيما تقدم؛ فإذا تمّ للذات غلبتها فقد تمّ لها في نفس الوقت تقويتها ومضاعفة الطاقة فيها على المقاومة والغلبة والانتصار؛ فكل صدام مع المادة يعزز في الذات القدرة على تذليلها والسيطرة عليها ويشحذ فيها الإرادة وينمي مجال النضال؛ ليجيء صعودها وارتقاؤها آخر الأمر تكميلاً لها وتحريراً. إنما الذات تنمو بالعمل وتذكو بالأمل ولا تنمو مطلقاً بالتواكل والكسل ولا تذكو ألبته بالخمول والركود والدعوى العريضة تقوم فيها بغير دليل.

تلك كانت، ولا زالت، تعاليم الإسلام في بساطة رقيها، وشموخ مقاصدها، وسمو ترقيها بالذات الإنسانية، جاءت لتنصر الفرد وتقومه وتقويه لا لتتركه هملاً عرضة للأغيار تفعل فيه الأفاعيل. لقد هضمها "إقبال" في مصدريها الكبيرين: القرآن الكريم والسّنة النبوية المطهرة، وقابلها بالثقافات والمورثات الدينية في الحضارات المختلفة، وواجه بها كل دعوة تفت في عضد المسلم؛ لتَدَعه فريسة للثقافات المستوردة وللموروث الوثني. فلئن كان ينقد التصوف العجمي ويحمل عليه بشدّة، فمعه الحق كل الحق، فإنّ هذا التصوف خارجٌ عن نطاق "المضمون الديني" الذي ينتسب إليه المسلم في عقائده الصحيحة ويدين له بالولاء، ومُغَزَّىَ بمصادر خارجة عن المصدر الإسلامي مختلطة بفلسفات وثنية تضر الذات المسلمة ولا تقويها، ولا تقوِّم فيها قيم "الوجود الروحي" كما تبيّنها له عقائد الإسلام، وتسلبها خصوصيتها وامتيازها وسط ركام هائل من التصورات والمعتقدات، ولا تدع لها هُويَّة ثقافية ولا معرفية تتكئ عليها وتعتمد وتحسن الاعتماد.

ولكن من جانب آخر، في المقابل لا يُفهم من نظرة "إقبال"، أنها نظرة تدعو إلى التقوقع والانغلاق عن لقاء الثقافات البشرية المتنوعة؛ فتأكيد الذات لا يعني الانغلاق، ومحاولة تحريرها من عوامل الاستلاب والاتكال على الغير لا يعني تقوقعها، ولا يُفهم منه انغلاقها على ذاتها، بل كلما اتصلت الذات بغيرها واحتكت بثقافات الآخرين، أزادت توكيداً لوجودها بشرط ألّا تترك هُويتها وتتسوَّل ثم تستجدي ما لدى الآخرين من ثقافة وفنون وعلوم ومعارف وآداب. تلك مسألة على البداهة مفروغٌ منها لا تحتاج إلى مزيد شرح ولا إلى إطالة كلام.

*    *     *

ومع كل ما يثير الإكبار في مذهب "إقبال"، وفي تحريره للذات وترقيها وتكميلها بعد تقويتها؛ فأنا شخصياً أوافقه في أكثر ما ذهب إليه توكيداً للذات الإنسانية واستقلالها، وإثباتاً لإمكاناتها وتفردها، وأخالفه في نقطتين مما هو معروض من مذهبه:

النقطة الأولى: أنه نظر إلى الفناء الصوفي لا من جهة كونه حالة روحية تقبل التحويل سُرَعان ما تتبدل وتتغير؛ ليعود صاحبها إلى ما كان عليه من قبل، ولكن من جهة دوام هذه الحالة، وكأنها حالة "عدم" لا حالة وجود، تحيط بالذات إحاطة تامة فتُركدها وتُفْنيها وتقضي عليها. والفناء في التصوف الإسلامي خاصّة ليس كذلك: لا هو عدم ولا هو حالة دائمة.

ليس الفناء، كما جاء لدى أئمة التصوف السّني، عدماً للذات بل هو حالة تقبل التحويل سرعان ما تزول ويعقبها البقاء بالله، ثم إنّ هذا الفناء نفسه هو فناء في التوحيد؛ أعنى اكتمال المعرفة بالتوحيد ليس إلّا؛ فالأصل في الفناء هو الفناء في التوحيد، لا الفناء في أي شيء آخر غيره. والتوحيد، كما في العقيدة الإسلامية، هو الذي قال عنه "إقبال" نفسه: رأس مال أسرارنا، وكل ما يتعلق بالتوحيد هو بؤرة أفكارنا.

والأمر الآخر: أنه نظر إلى الفناء في التصوف الإسلامي كما لو كان هو نفسه الفناء في التصوف "العَجَمي"، كلا! فليس مذهب بوذا كمذهب البسطامي، ولا التوحيد كما يفهمه أفلاطون كالتوحيد كما نعرفه وندين به في العقيدة الإسلامية، ولا عقائد الهنادكة كعقائد الإسلام لا في الجملة ولا في التفصيل. وهذه النظرة ولا شك نظرة إنْ لم تكن قاصرة فهى ليست وافية ولا محيطة بالفروق الفارقة بين التصوف في الإسلام المؤسس على عقيدة كاملة، تامة، شاملة، وبين أنواع التصوف في الثقافات والحضارات الأخرى.

أضف إلى هذا؛ وهو المهم، أن الفناء في التصوف الإسلامي خاصّة هو غاية ما تبلغه طاقة عمل العامل في سبيل الله، ومن أجل الله. فلئن كان "إقبال" يركَّز دوماً على العمل الإيجابي بُغية تحرير الذات؛ فإنّ هذه الذات نفسها لن تتحرر، ولن تشعر بالتّحَرُّر، حقيقة لا صورة، إلا في حال الفناء؛ إذْ الفناء في مؤدَّاه الإسلامي، وكما هو معلوم لدى أولياء المسلمين، هو منتهى الغاية من الطاقة العاملة: من العمل المنظم الإيجابي فضلاً عن كونه مجرد حالة عارضة لا تدوم، وهو هو التعبير المباشر، اصطلاحاً وإجراءاً، عن التجربة الصوفية، يخوضها العارفون؛ فيتحققون فيها فعلاً وقصداً بمعرفة التوحيد.

إذا نحن حذفنا الفناء كونه حالاً يتوارد من عين الجود فضلاً من الله ومنّة، حذفنا تباعاً خصائص التجربة الصوفية وشروطها ولوازمها؛ إذْ تستند في البداية على بذل المجهود كسباً من العبد وسُّنَّة. وبما أن لطائف العارفين كلها: كل شذراتهم المعرفية وإشاراتهم وعلومهم ومعارفهم صادرة عن تلك التجربة الروحية، وعن مذاقات الشهود فيها؛ فمن ينكر قيام التجربة الصوفية على فاعلية العمل الشاق المضنى، وعلى بذل المجهود العالي - ومعلوم لدينا أن المجاهدات عمل واختبار لتمحيص قيمة الرياضات الدينية - فإنما يُجرّد التصوف كله من أخصِّ خصائصه: من العمل الإيجابي المنظم ثم ينقض نفسه، ويتناقض معها قبل أن ينقض بالجملة تجارب الأولياء. ومع افتراض التسليم بصحة هذه التجارب النادرة وبذل المجهود الشاق للدخول فيها؛ فإنه لا يجوز إسقاط تجربة الفناء منها؛ إذْ لا يتسق القول بالتجربة الصوفية والاعتراف بها مع القول بحذف الفناء منها لا لشيء إلا لأنهما وجهان لعملة واحدة؛ ولأننا إذا قلنا تجربة صوفية فقد قلنا في الوقت نفسه حال الفناء.

وحيث إنَّ قياس الفناء في التصوف الإسلامي على الفناء في التصوف الهندي مثلاً أو البوذي أو الفارسي أو اليوناني أو المسيحي أو ما شَابَه ذلك من مصادر خارجة في تراث الأقدمين، هو خطأ في القياس؛ فتعميم الحكم، والغفلة عن المضمون الديني الذي تتشَكّل منه التجربة الصوفية الإسلامية الحيّة في المعرفة والتحقيق، وتتكئ عليه مباشرة وتعتمد تجارب الأولياء، هو خلط شنيع غير مقبول لدينا وغير معقول.

النقطة الثانية: وهى التي نأخذها على كلام "إقبال" مع تقديرنا الشديد لكلامه في تربية الذات وإحكام الذات، فهى قوله: إنّ الذات تستحكم بالعشق. ومفهوم العشق عنده واسع جدَّاً، ومعناه إرادة التسخير والجذب. وأعلى أشكاله أن يخلُق مقاصده ويجدَّ في نيلها. وخاصّةُ العشق: إفراد العاشق والمعشوق، يعني إظهار الانفراد والاستقلال فيهما. وإذا جدَّ الطالب في طلب الأوْحَد الأسمى ظهر فيه التَّوحُّد. ويتحقق ضمناً توحُّد المطلوب؛ لأنه إنْ لم يكن واحداً مستقلاً بنفسه لم يسكُن الطالب إليه. إنما يمكن عشق شخص أو وجود مُعَيَّن، ولا يمكن لشخص عشق كائن غير مشخَّص.

وكما تستحكم الذات بالعشق تضعف بالسؤال. وكل ما ينال بغير جهد يعدُّ سؤالاً؛ فالذي يرث مال غيره سائل. والذي يتبع أفكار غيره أو يَدَّعِيها لنفسه سائل. والخلاصة ينبغي، لأجل إحكام الذات، أن نخلق في أنفسنا العشق ونَتَجَنَّب كل ضروب الاستجداء والبطالة.

فإنِّا لنوافقه تماماً في الفكرة الأخيرة، وهى كل ما ينال بغير جهد تسوِّلٌ ممقوت يضعف الذات ويمقتها ولا يقويها ولا يرقيها؛ فهذا صحيح لا ينكره أحد مع اقتراف الكثيرين له؛ فمجتمعاتنا في الأغلب الأعم قائمة على هوان التسول ومذلة السؤال، وما يقالُ عن المجتمع يقال في تلك الجزئية على الأشخاص الذين يعيشون فيه، ومن هنا كان ضعفها، ومن هنا كان نكوصها وترديها. ولكن كلامه عن استحكام الذات بالعشق غير مقبول؛ لأنه بداهةً يوحي بالربكة الجُوَّانيَّة؛ فالذات العاشقة من جهة العبد لا تعنى الانفراد والاستقلال؛ فإذا كان هنالك إفراد للعاشق عن المعشوق لم يصحُّ أن يكون عشقاً ولم يصح التَّوَحُّد المطلوب.

الذات العاشقة تعمل عملها الإيجابي تحت إرادة المعشوق وفي كنفه وحمايته، فلو جَرَّدتها عن هذا العمل، فصلتها عن أصلها وعزلتها عن روحها، ولكن إذا تمَّ عملها بشهود المعشوق ورعايته، هنالك يصحُّ التوحُّد المطلوب ويصحُّ بالتالي الفناء.

وفي لغة "إقبال" نفسه:"إذا جدَّ الطالب في طلب الأوْحَد الأسمى ظهر فيه التوحُّد"؛ فماذا عساه يكون المراد من هذا التعبير غير دقة التعبير الدقيق عن حال الفناء؟ هذه واحدة.

أمّا الثانية؛ فإنّ وصف العشق نفسه مشكوكٌ في عقباه؛ للنصوص الواردة للحذر من استخدامه أصلاً في طلب الأوْحَد الأسمى. بيد أن شاعرية "إقبال" غلبت عليه في هذا الموطن، أو قُلْ إنّ ثقافته القومية طغت عليه، فآثر أن يستخدم لفظ العشق والعاشق والمعشوق ولم يرجع فيما يستخدمه إلى آيات القرآن الكريم؛ ليتتبع دلالة هذا الألفاظ فيها. فلو أنه استخدم كلمة "الحب"؛ لكانت أدلَّ على المقصود من كلمة "العشق".

فأما الأولى فشائعة في القرآن وفي الحديث. وأما الثانية، فلا. هذا على فرض وجود العشق وانسحابه على العلاقة بين العبد والربّ، وهو مما لا ينسحب ومما لا يجوز.

وقد أجمعت مصادر التصوف السُّني خاصّة على أن الحق، سبحانه، لا يوصف بالعشق؛ فإذا كان العشق مجاوزة الحدِّ في المحبة، فالحق، سبحانه، لا يوصف بأنه يجاوز الحدّ فلا يوصف بالعشق، ولو جمع محابِّ الخلق كلهم لشخص واحد لم يبلغ ذلك استحقاق قدر الحق. فلا يُقال من أجل هذا: إنّ عبداً جاوز الحدّ في محبة الله.

وعليه؛ فلا يوصف الحق بأنه يعشق ولا العبد في صفته، سبحانه، بأنه يعشق فنُفىَ العشق، ولا سبيل له إلى وصف الحق بالعشق لا من جهة الحق للعبد، ولا من جهة العبد للحق. ولم يكن القشيري ولا أستاذه الدقاق يطلقان لفظ العشق على الحب كما كان يطلقه غيرهما من الصوفية ممن هاموا في حبّ الله لدرجة الفناء؛ لأنه كما نعلم أن المعتزلة والظاهرية كانوا ينزهون الله عن العشق؛ لأنه يقوم من الناحية النظرية على التشبيه. ومن الناحية العملية على الملامسة والحلول. وبهذا يجنب القشيري كما يجنب أستاذه الدقاق في التصوف، كل مظنة تأتي من طرف أعدائه.

تُرى .. هل كان إقبال عقلانياً، مفرطاً في العقلانيّة؟ ربما! وهل أطلع على رأي المعتزلة والظاهرية في العشق فلم يجد في نفسه ما يسيغه؟ وكيف يتفق العقل والمعقول مع رأي كهذا في مسألة العشق؟ وهل من العقل التخلي عمن احتكموا إليه وواجهوا أنفسهم بمنطقه؟ وهَبْ أنه لم يكن عقلانياً ولم يوافق المعتزلة ولا الظاهرية فيما ذهبتا إليه، فلِمَ أصرَّ على أن يواجه الحالة الروحية مواجهة عقلية بغير منهجها وبغير أذواقها وأدواتها حتى لتكاد المواجهة لديه أن تُخرج "الحالة" بعيداً عن القصد المقبول؟

لقد تتبعتُ إقبالاً رحمة الله عليه، وأنا بصدد حديث الولاية في المعراج، عن قصد في المتابعة؛ لأن الرأي بدا لي أن مذهبه في توكيد الذات والإحساس بها، وإثباتها لا نفيها، ثم تربيتها الروحيّة وفق مراحل الطاعة وضبط النفس، لتقويتها وتكميلها ولترقيتها واستخراج ما أوُدِعَ فيها من مواهب وقدرات. أقول؛ إنّ الرأي بدا لي أن مذهبه هو عينه "معراج روحي" اقتضانا الوقوف عنده وتتبع مراحله، حديثنا عن المعراج.

إنما المعراج كما قلنا فيما تقدًّم ذاتي خاص، والرجعة منه كذلك ذاتية خاصة. هذه الذاتية المتفرّدة التي تضرب بجذورها في أغوار النفس البشرية، إذا عززها الدين، يعزز فيها العمق الداخلي والجذوة الباطنية، ولا يعزز فيها ظواهر الشكليات إلا بالمقدار الذي يفهم على المستوى الإنساني، وبخاصة إذا كان هذا المقدار مَرَدّه إلى مطالب الشرع وضرورة التمسك بقيوده من الوجهة العملية.

فلا التحلل من هذه القيود يعطيها حق الظفر المطلق بذلك "التعزيز"، ولا هو ييسّر لها ذلك التعميق الداخلي الذي نقصده، وإنما تتفرَّد "الذات" وتتحرّر من القيود والعلائق، ثم يتعزّز فيها مثل هذا التّفرُّد، إذا هى استبطنت مطالب الشرع وكشفت بنفسها عن الضرورة الواجبة له في صميمها، حينذاك تتسع لها القدرة فتمتلك "الإرادة" الحيّة لأن تصبح ذاتاً حرّة من قيود العلائق الخارجية، فلا يصفو لها الصفاء كلُّه إلا إذا تحرَّرت بمثل ما يكون التّحرُّر دليلاً على الطلاقة الروحيّة معراجاً دائماً للاتصال بالذات المطلقة.

 

بقلم د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم