دراسات وبحوث

تحليل ونقد الإصلاحية الإسلامية الحديثة (5)

ميثم الجنابيالأبعاد العملية والعقلانية في الفكرة الإصلاحية

إن تذليل إمكانية جعل الأفكار النقدية عقائد كان يتضمن النفي العقلاني الجديد لأرث "الدورة المئوية" وتقاليد الرجوع السلفي المتيقن إلى عقائد الماضي ونسخها المتجدد! فقد أنهكت هذه النزعة التقليدية عناصر الواقعية والعقلانية، وذلك لأنها أبقت عليها بوصفها عناصر وأجزاء منحلّة في قدسية العقائد. وبهذا المعنى كانت مواقف الإصلاحية الإسلامية وآراؤها تسير في اتجاه النفي الواقعي والعقلاني للتقليدية السلفية. وبالتالي تمثلها الواعي لعبرة التجربة التاريخية النظرية والعملية. فقد كان إدراكها المباشر انتقادا "مبرمجا" للتقليد. فإذا كانت النزعة التقليدية السابقة أسيرة الرجوع الدائم إلى الفكرة اللاهوتية وثباتها المؤسساتي والقييمي في مفاهيم "الجماعة" و"الفرقة الناجية" ومطابقتها مع "الأنا المجتهدة"، فإن الإصلاحية الإسلامية أخذت تكسر هذا التقليد من خلال تأسيسها لعقلانية الفكرة القائلة، بأن الأنا المجتهدة، بما في ذلك في جهادها، لا تلتزم بعقيدة ما غير عقيدة انتمائها للكلّ الإسلامي. أما هذا الأخير، فانه لم يعد كيانا ثابتا أو عقائد لا تقبل الجدل، بل الكينونة المتجددة للحقائق، والتي يجري اكتشافها في الأعمال النظرية العقلية والعملية السياسية (والأخلاقية). ومن هنا توسيعها لمدى النقد الذاتي. إذ حالما يبلغ الوعي الاجتماعي هذه الحالة، فانه يكون قد بدأ بإدرك ذاته الأولية. ومن ثم الأخذ بوضع العناصر التأسيسية للفكر النقدي في تناوله للظواهر الاجتماعية بمختلف أشكالها ومستوياتها، بما في ذلك وضع أنماط الفكر الكبرى أمام "محاكمة" عقلية وأخلاقية، باعتبارها المقدمة الضرورة لتحرير النفس من إسار التقليد.

وقد حدد ذلك الطابع الجوهري لمعارضة التقليد في الإصلاحية الإسلامية. وهي صفة تميز وتلازم على الدوام كل حركة إصلاحية كبرى. لكن خصوصية هذه الصفة هنا تقوم في كونها جرت تحت ثقل الإدراك النقدي والايجابي لأولويات الواقع التاريخي وقضاياه الاجتماعية والسياسية والأخلاقية الكبرى. وقد أدى ذلك أيضا إلى تجاهل أو هجر الطابع اللاهوتي للقضايا التقليدية وتقليدية القضايا اللاهوتية عن التوحيد وأصوله، والإسلام والإيمان، والكفر والشرك، والأمة والفرقة الناجية، عبر نفيها بمعايير الاستيعاب العقلاني والإصلاحي لمعضلات الفكر الواقعية. ونعثر على ذلك في ظاهرة ازدياد وتعمق قضايا الوجود الاجتماعي والفكري وموضوعاته مثل ماهية الدين وأهميته للمجتمع، والحوافز المدنية والحضارية في الإسلام، وأسباب الانحطاط الحضاري في العالم الإسلامي، وقضايا الإصلاح الديني وأساليب النهضة الممكنة، وموضوعات الأصالة الثقافية والتحرر السياسي، وقضايا الوحدة الإسلامية والاستقلال، وقضية الإسلام والقومية، وموضوعات وعي الذات الإسلامي والعربي، وقضايا السلطة والدولة، والحق والقانون، والدستور، والدين والدنيا، والإسلام والعلم وغيرها من القضايا.

كل ذلك يكشف عن ظاهرة اضمحلال قضايا الماضي وظهور القضايا الواقعية المعقولة. مما حدد بالضرورة بروز الروح النقدي للإصلاحية الإسلامية واشتراك شخصياتها الكبرى في معارضة التقليد في البداية والدعوة للاجتهاد الحر في النهاية. فعندما هاجم الأفغاني الدهرية (الهندية) فإنه حاول أن يكشف أولا وقبل كل شيء عن طابعها التقليدي المدمر. فهو لم يناقش من حيث الجوهر القضايا الفلسفية عن الله والعالم، والخالق والمخلوق وغيرها، بل في ما إذا كان بإمكان الدهرية الهندية أن تبدع شيئا ما نافعا. ولا يعني ذلك خلو جدله الفكري معهم عن تناوله مشكلات الفلسفة وأسئلتها الكبرى ونتائجها العملية في قضايا الأخلاق والدين. فقد كانت هذه القضايا في صلب تفكيره العملي. إلا أنها عكست مراحل تطوره الفكري الأول، أو ما اسماه بتثقيف عقله النظري في الهند. ولهذا غابت قضايا الإلهيات في كتاباته وخاطراته. بينما تعمق وجودها وانتشارها في قضايا الأخلاق وأولوية السياسة ومشاكلها. كل ذلك يكشف عن أن تجربة الجدل العقلي الأولي مع الدهرية هي تجربة الفكر العملي في بحثه عن مواطن الأصالة. فقد وجد الأفغاني في الدهريين الهنود ناسا "لا نصيب لهم من العلم، بل ولا من الإنسانية. فهم بعيدون عن مواقع الخطاب، ساقطون عن منزلة اللوم والاعتراض. نعم لو أريد إنشاء مسرح لتمثل فيه أحوال الأمم المتمدنة، مّست الحاجة إلى هؤلاء لإقامة هذه الألاعيب"[1].

حددت هذه النزعة المعارضة للتقليد مهمات تحرير النفس. وبالتالي شحذ مواقفها النقدية وإعلان ضرورة الاجتهاد، باعتباره حقا دائما. لهذا لم يناقش الأفغاني قضية الاجتهاد، وحدّه وحقيقته، بل وضعها في موضعها المناسب وبصيغتها المناسبة وفي إطارها المناسب باعتباره سؤالا يحتوى في ذاته على إجابته. من هنا قوله:ما معنى باب الاجتهاد مسدود؟ وأي نص سد باب الاجتهاد؟[2]. فقد نظر الأفغاني إلى هذه المشكلة من الناحية الفكرية باعتبارها مظهرا للعبث واللامعنى. لهذا أهملها ولكن من خلال تجذيرها في المواقف النقدية. من هنا إعارته الاهتمام للقضايا والجوانب المتعلقة بنقد "الذهنية الشرقية" من حيث كونها ظاهرة واقعية وتقليدية أيضا. إذ وجد في اندفاع الانجليز وسيطرتهم على بلدان الشرق، على سبيل المثال، نتاجا لمعرفتهم بخصوصية "الذهنية الشرقية" السائدة آنذاك، التي أعطت لكل ما هو جديد وغريب صفة المعجزة واسم الكرامة[3]. لكنه في الوقت نفسه لم يجد في هذه الذهنية شيئا ما ثابتا أو غريزيا، بقدر ما اعتبرها انعكاسا لسيطرة الأوهام والوهم. لهذا شبّه حال الشرقيين مع الانجليز كمثل شخص مار في مفازة يرى بها جثة أسد مطروحة على طريقه بينما يتوهمه سبعا ضاريا مفترسا قويا[4]. ووضع الأفغاني هذه المقارنة في مقدمة نقده الشديد لمختلف جوانب "الحياة الشرقية" ابتداء من تقاليدها ونظامها السياسي وتقاليد الاستبداد فيها وانتهاء بخلجات روحها الأخلاقي. فقد وجد في الكيان الشرقي جسدا مريضا وروحا خائرة، بحيث جعله ذلك يستصعب أحيانا إمكانية العلاج، بسبب ما اسماه بسقوط الهمم، وخور العزائم، وتفرق الكلمة، والاستسلام للخمول، وابتعاد النفوس عن مرامي العزة النفسية، وحرمانهم من لذة ما تنبسط به الروح عند نوال المنعة القومية والحرية الحقيقية[5]. الأمر الذي جعله أحيانا يعتقد بأنه لا مخرج لهم من هذا الضيق "إلا باشتداد الأزمة وقوة الضغط حتى يفقدوا بقية ما ترك لهم من شبه الراحة التي خلدوا إليها"[6]. بعبارة أخرى، انه أراد أن يصلوا إلى إدراك حقيقة الفقدان الكامل، وانه لا "راحة بعد اليوم"، من اجل عبور حاجز "الموت" إلى "الحياة". ولم تكن هذه الرؤية الوجدانية الدفينة سوى الصيغة المعذبة لفكرة البطولة التي تجد في ذروة صراعها المأساوي بريق الأمل الآتي، أو في موتها عناصر الإثارة الحية للأجيال.  

غير أن الأفغاني لم يترك هذه النزعة والرؤية النقدية سائبة في ميدان العاطفة المتحمسة، بل أدرجها في المسار الواقعي لعناصر اليقين الإصلاحي. ومن هنا هجومه على "رجال المنابر"، أو أولئك الذين لا يتقنون حتى الخطابة والكلام، أولئك الذين لا تتعدى معرفتهم ترديد العبارات المحفوظة عن ظهر قلب مثل: "أن الورد اللطيف فتح من عرقه الشريف"[7]. أما أمراء الشرق فأنهم بنظر الأفغاني ليسوا أكثر من قطط منفوخة لا تبالي بشيء غير "طنطنة الألفاظ وفخامة الألقاب"[8]. لكنه شأن مفكري الإصلاحية الإسلامية، وجه جلّ اهتمامه للبحث عن الأسباب الواقعية. ومن هنا تركيزه على الجوانب الأخلاقية والنفسية ونقد الذات باعتبارها المقدمة الضرورية لتنشيط الفعل الاجتماعي والسياسي وتنشيط الروح الفاترة. فعندما يقارن اختلاف العرب عن الأتراك، فإنه يركز على فكرة الإرث والأثر التاريخي والثقافي. فالعرب تركوا ما هو شاهد على عظم إبداعهم، بينما لم يترك الأتراك أثرا ملموسا رغم قرون السيطرة الطويلة والقوة الكبيرة. وهذا بدوره ليس إلا نتاج التباين الجوهري في رؤيتهم لقيمة وأولوية الإبداع، كما يقول الأفغاني. بمعنى صيرورة الخلافة الإسلامية العربية في ميدان الروح والثقافة، بينما تركت الخلافة التركية في ميدان الجيش والحرب. وفي الوقت نفسه يبحث في هذه الحالة والمفارقة عن عناصر إضافية لتوسيع وتشديد النقد العقلي للعرب أكثر من غيرهم، استنادا إلى أن ترك الآثار دون الحفاظ عليها نقيصة. من هنا استشهاده بمواقف الفرنسيين من هزائمهم أمام الألمان عام 1870. لقد أراد الأفغاني هنا إظهار قيمة النقد الذاتي العقلاني باعتباره مقدمة للعمل. ففي معرض تناوله قوة الانجليز وسيطرتهم الواسعة، حاول أن يكشف عن أن هذه السيطرة لا أساس لها متين غير سيطرة الوهم والخوف والجبن في أذهان وأنفس الشعوب المستعبدة. بحيث جعله ذلك يشير إلى وجود من يهاب دولة الانجليز في الدول العربية اعتبارا لما في سلطتها من الممالك الواسعة[9]. ووجد في هذا الوقع النتيجة التي لازمت وجود الانجليز في "القبة الوهمية" التي أحاطت بها الآخرين. ولا يعني ذلك من الناحية التاريخية والواقعية سوى كون السيطرة الأجنبية لا تحدث إلا حالما يحدث الانهيار الداخلي. وأن هذا الانهيار هو مفتاح دخول الغازي. فالانجليز دخلوا مصر، كما يقول الأفغاني، بمعونة المصريين أنفسهم، لأن مصر كانت مجزأة في حركة إعرابي، وقسم يحنّ إلى الماضي وقسم يخاف. بينما لا عزيمة مع الريب[10]. لهذا وضع مهمة محاربة الجبن إلى جانب تهديم أسس الوهم الاجتماعي والسياسي. فالجبن بنظره هو مرض من أمراض الروح، يذهب بالقوة الحافظة للوجود، والتي "جعلها الله ركنا من أركان الحياة الطبيعية"، كما يقول الأفغاني. إذ نراه يجد فيها ما اسماه بجرثومة كل فساد فردي واجتماعي والسياسي[11]. بمعنى وضعه الجبن في سلسلة الوجود الاجتماعي السياسي. ومن هنا بديله القائل، بضرورة "أن يكون أبناء الملة الإسلامية بمقتضي أصول دينهم أبعد الناس من صفة الجبن"[12]. ومن الصعب بلوغ ذلك دون الانتباه إلى ما في النفس من قوة، وما في الوهم من ضعف. لهذا لم يجد في الانجليز بالنسبة للأمم آنذاك سوى دودة وحيدة، على ضعفها تفسد الصحة وتدمر البنية. وحالما يزول هذا الوهم السائد عند الشرقيين عن الانجليز (أي رؤيتهم حقيقة القوة في ذاتهم وضعفها في مستعبديهم) آنذاك يمكن لحركاتهم أن تؤدي إلى استقلالهم بأمورهم وانقطاع سلسلة الانتقال من عبودية إلى أخرى[13]. بصيغة أخرى، إن الأفغاني حاول أن يربط مكونات النزعة النقدية في وحدة معقولة، أي التأسيس لعقلانية النزعة النقدية من خلال دمجها في مشروع البدائل المعقولة (المستقبلية).

فالأفغاني، شأن رجال الإصلاحية الكبار، لم يؤسس لمشروع وشرعية البدائل المعقولة في تقاليد العقلانية "الخالصة" أو تقاليد الكلام العقلية، التي حاولت أن تبني مقدمات هياكلها الفكرية والعملية على مقولات حدّ العقل وحقيقته. لقد اكتفي هنا، شأن موقفه من الاجتهاد، بالإشارة المتكررة إلى أهمية وقيمة الحجج والبينات العقلية ودمجها في أسلوب تحليله للظواهر وموقفه منها. فقد رفع قيم العقل ودافع عنه بالصيغة التي حوّله إلى عنصر جوهري في الديانة الإسلامية. من هنا توكيده على أن أول الأمور التي تنال بها السعادة هو صفاء العقول. وانه لا يمكن بلوغ الكمال حسب دين الإسلام إلا على "قاعدة الكمال العقلي والنفسي لا غير"[14]. ومن هنا ربطه نيل السعادة بسيادة العقل. ولكن إذا كانت هذه الفكرة تقترب في الكثير من جذورها المعرفية بتقاليد "تهذيب الأخلاق" الفلسفية (العقلانية) فان انكسارها في مواقف الأفغاني العملية قد أعطى لها بعدا اجتماعيا سياسيا وإصلاحيا جديدا. وذلك لان ربطه السعادة بالعقل جرى من خلال نبذ ما اسماه بالوساطة الدينية. ومن هنا دعوته لحرية العقل ودوره التنويري الفعال، كما هو جلي في تشديده على ضرورة أن "تكون عقائد الأمة مبنية على البراهين القوية والأدلة الصحيحة"[15]. وبهذا المعنى أيضا يمكن فهم الحوافز القائمة وراء "الغائية العقلية" في بعض آراءه وأحكامه كتلك التي حاول من خلالها البرهنة على أن غاية الكمال في الوجود هو الحكمة الإلهية في تجلياتها المعقولة. وعندما كتب قائلا بان من "نظر في عالم الوجود الكلي، عَلِم عِلْم اليقين، انه وأن وقع كثير من صور كمالاته تحت قوى طبيعية… إلا أن عامة أفعاله واقعة على ترتيب عقلي محكم. ونعني بالترتيب العقلي ما يكون مبنيا على مراعاة الغايات والحكمة وفوائد الكمال التي تعود على نظام الكلّ وتبقى ببقائه"[16]، فانه لم يضع هذه "الحقيقة الكلية" في جدول البيان اللاهوتي للعقائد، بل في أساس الرؤية العقلية للكلّ الفلسفي، أي كل ما يمكنه أن يخدم "برمجة" المشروع الإصلاحي العقلاني.

لقد أعطى الأفغاني للعقل في آن واحد هيئة الوسيلة المدركة والفاعلة. ففي الوقت الذي حاول أن يكشف عن قدرة العقل المعرفية، للدرجة التي يمكنه فيها كشف حقائق الأشياء، بما في ذلك "القيام بالمستحيلات". بحيث اعتبر من الممكن أن يصل الإنسان بمساعدة العقل إلى اختراعات توصله إلى القمر[17]. وسعى من وراء كل ذلك تأسيس فاعلية العقل العملية ومن ثم إدخاله في صرح الإصلاحية الفاعلة. فقد وجد في العقل القوة القائمة وراء تطور أوربا. واعتبر تخلصها من التقليد هو بسبب استنادها إلى العقل، بما في ذلك في أصول دينها.  وإن العقل هو الذي جعلها تقفز قفزاتها السريعة في المدنية والتجارة المعاصرة[18]. ونعثر على هذه الصيغة وانعكاسها المتنوع أيضا في مواقفه من الإصلاح الإسلامي. إذ وجد في السمو العقلي أساس المدنية الفاضلة. غير أنه بالخلاف عن الماضي لم يضع هذه الفكرة ضمن سياق وتقاليد الطوباوية الفلسفية، بل وضعها في أنساق الإصلاح العقلاني، أي تلك التي سعت إلى عقلنة الفعل الإرادي وتوعيته بالقيم الإصلاحية المتسامية وأولوياتها الاجتماعية السياسية. وإذا كانت بعض صياغاتها تستعيد في عباراتها ثقل التفكير القديم، ففي غاياتها تسعى إلى إعادة لحمة الكينونة الاجتماعية والثقافية بالصيغة التي تستقطب فعلها الواعي لحقيقة غاياتها. فعندما أراد التأسيس الأخلاقي للوحدة الاجتماعية والسياسية، فانه كتب قائلا: "أن الفضائل هي مناط الوحدة بين الهيئة الاجتماعية وعروة الاتحاد بين الآحاد. فتميل بكل منهما إلى الآخر، إلى من يشاكله حتى يكون الجمهور من الناس كواحد منهم يتحرك بإرادة واحدة ويطلب في حركته غاية واحدة"[19]. فمن حيث طابعها المقارن تستعيد هذه الفكرة نموذج المرحلة النبوية (صدر الإسلام)، أما من حيث واقعيتها فأنها تعكس التأسيس العقلاني للإرادة المشتركة باعتبارها وسيلة تذليل الفرقة وأسباب التخلف والتجزئة. بصيغة أخرى، لم يسع الأفغاني من وراء ذلك استعادة الهيبة التقليدية للوحدة على أساس واحدية الأمة في دينها ودنياها، بل وحدتها الحرة على أساس إرادتها وفعلها العقلي الأخلاقي.

وتوصل محمد عبده في مجرى تأملاته الفكرية ونشاطه العلمي إلى نفس هذه الآراء والمواقف. فإذا كانت عقلانية الأفغاني الإصلاحية وطابعها النقدي هي التجلي الأوسع لنقد الذات، فأنها اتخذت عند محمد عبده صيغة التجلي الأعمق. وذلك لأنها دفعت بآراء الأفغاني في هذا المجال إلى نهايتها "المنطقية" ولكن ليس في مضمار السياسة المباشرة، بل في ميدان الإصلاح التنويري. لهذا السبب خفتت النزعة النقدية في مواقف محمد عبده، أو بصورة أدق، أنها لم تنهمك في تناول القضايا التي شغلت الأفغاني.إذ لا نعثر عنده على موضوعات الشرقية والإسلامية، والقضية الوطنية والقومية، والقوة والسياسة، والجبن والرذيلة، والاستعداد للتضحية والعمل. وعوضا عنها تبرز موضوعات العقل والنظرة العقلية، والإسلام والعلم، والتربية والتنوير، والإصلاح القانوني وبعث التراث. وتنعكس في هذه القضايا أيضا خصوصية نقده الذاتي، كما هو جلي في ردوده على رسائل مجلة (الجامعة) في انتقادها للإسلام مقارنة بالنصرانية، أي كل ما جرى جمعه لاحقا في كتابه الشهير (الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية). إذ لم تكن انتقاداته اللاذعة للنصرانية شكلا من أشكال الجدل الديني اللاهوتي، بقدر ما كانت إحدى صيغ النقد العقلاني للنفس. لهذا نراه يهمل الإسراف بالشواهد التاريخية للكشف عن حقائق ما يريد قوله، باعتبارها غير ذي بال وأهمية. واكتفى بإبراز قيم العقلانية والإنسانية في الإسلام فكرا وعقائد، دون أن يهمل سلبياته التاريخية. انه أراد القول بأن ما بين إسلام واقعه وحقائق الإسلام بونا شاسعا. أما في انتقاده للنصرانية وأصولها، مثل التمسك بخوارق العادات، والسلطة الدينية، وترك الدنيا، والإيمان بغير المعقول، وادعاء احتواء كتابهم على علوم الأوائل والأواخر، وعدم التسامح، وما يقابلها ويعارضها في الإسلام وأصوله، ما هو إلا الصيغة غير المباشرة لإصلاحيته العقلانية النقدية. حيث استطاع صهر آرائه ومواقفه المباشرة وغير المباشرة في عقلانية الإصلاح وأولوية الروح المعرفي على الروح الإصلاحي السياسي. لهذا شدد في انتقاده لأسباب الجمود في العالم الإسلامي على ميادين اللغة والشريعة والعقيدة[20]. وبهذا المعنى يكون محمد عبده قد استكمل وتوسع بالطابع النقدي لإصلاحية الأفغاني في ميدان اجتهادها العقلي باعتباره جهادا معرفيا (تنويريا). ومن هنا أيضا تشديده على قيمة الاجتهاد ورفض التقليد. بحيث نراه يعتبر البدع المتجددة كلها كما هي تناج لسوء الاعتقاد الذي ينشأ "من رداءة التقليد والجمود عند حد ما قاله الأول بدون بحث في دليله ولا تحقيق في معرفة حاله، وإهمال العقل في العقائد"[21]. وهي الفكرة التي تستند إلى تقييمه للعقل باعتباره "من اجلّ القوى، بل وهو قوة القوى الإنسانية وعمادها، والكون جميعه هو صحيفته التي ينظر فيها وكتابه الذي يتلوه"[22].

لكنه شأن ممثلي الإصلاحية الإسلامية، لم يضع فكرة العقل وقيمته بعبارات الإطراء التقليدية، رغم أهميتها، بل حاول إبراز قيمته الثقافية في عالم الإسلام نفسه. وقام بذلك من خلال الكشف عن الأسس العقلية المتينة في عالم الإسلام وثقافته باعتبارها احد أعمدته الأساسية. فعندما تناول ما اسماه بحقيقة الإسلام فانه يتطرق إليها من خلال تحليل ما اسماه بالدعوتين. الأولى هي الدعوة إلى الاعتقاد بوجود الله وتوحيده، والثانية هي التصديق برسالة النبي محمد. بحيث ارجع التعويل في الدعوة الأولى إلى العقل، باعتباره الوحيد القادر على إثبات حقيقتها وقيمتها. فهو لم يسع هنا لإظهار قيمة العقل في الإيمان وأولويته فحسب، بل وصياغة وحدة الإيمان والعقل في عبارات المنطق ذاته. بحيث أشار إلى أن الدعوة الأولى يعول فيها على "تنبيه العقل البشري وتوجيهه إلى النظر في الكون، واستعمال القياس الصحيح، والرجوع إلى ما حواه الكون من النظام والترتيب وتعاقد الأسباب والمسببات ليصل بذلك إلى الاعتراف بوجود خالق للكون"[23]. ولا يعني هذا سوى إبراز جوهرية العقل وأولويته في إدراك وجود الله وتوحيده. لهذا أكد على أن "الإسلام لا يعتمد على شيء سوى الدليل العقلي في الدعوة بالإيمان بالله ووحدانيته"[24]. ليس ذلك فحسب، بل وشدد على أن القرآن لا يقيد العقل بكتاب (مقدس) في قضايا معرفة الكون، باعتباره طريقا للتوحيد. أما في تأصيله لأصول الإسلام، فانه وضع في أصوله الأول والثاني كل من النظر العقلي وتقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض[25].

وبهذا يكون محمد عبده قد سعى لتأصيل عقلانية إسلامية بروح إصلاحي من خلال تذويب الاجتهاد في العقل الدائم، أو العقل الدائم في الاجتهاد، وبالتالي تأصيل العقلانية في أصول جديدة. وقد تضمن ذلك بحد ذاته خروجا على المألوف في تقاليد علم الكلام والعقائد. فهو لم ينهمك في تقليدية الأصول الإسلامية الكبرى، بل نظر إليها من خلال الأفكار الجدلية المناهضة للإسلام. وبالتالي، فإن الأصول التي سعى لتأسيسها لا تستند على رد الفعل، كما هو في ظاهر اندراجها في كتاب (الإسلام والنصرانية)، بل في معقوليتها المدركة لذاتها بوصفها أصولا تجديدية للإسلام. لهذا نراه تكلم عن هذه الأصول، باعتبارها أركانا للدين، ترجع إليها جميع الفروع[26]، أي طابعها العام والمنظومي. حقيقة أن هذه "المنظومة" بقت في إطار مبادئها العامة والمفككة لحد ما، أي أنها لم تستند إلى نظرية متكاملة في وعي الذات النقدي التاريخي والاجتماعي السياسي، بقدر ما بقيت في حيز إبراز الأولويات الكبرى.

لقد حاول محمد عبده تقديم الأصول الجديدة للإصلاحية، بوصفها عقلانية تنويرية. وليس مصادفة أن يشدد في دفاعه عن الإسلام، على قيم العقل والفكر المستقل بحد ذاته، بما في ذلك في الحالات التي يمكن أن تكون "مثالا" للمسلمين في مساعيهم الإصلاحية[27]. لهذا وضع في سلسلة أصول الإسلام أركان النظر العقلي، وتقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، والابتعاد عن التكفير، والاعتبار بسنن الله والخلق، وقلب السلطة الدينية، والتسامح، والجمع بين مصالح الدنيا والآخرة. ووضع في "اصل النظر العقلي" كونه وسيلة الإيمان والحق، وانه حجة على الإنسان ومعيار للحكم والسلطة. في حين إذا تعارض العقل والنقل اخذ بما دل عليه العقل. وجعل "الابتعاد عن التكفير" ابتعادا عن تقاليد الماضي وأسلوبا أمام الحرية الفكرية. في حين حاول البرهنة من خلال "اصل الاعتبار بسنن الله في الخلق" على انه "لا يعوّل بعد الأنبياء في الدعوة إلى الحق على غير الدليل"[28]. وأن طبيعة الدين تتوافق مع شرائع أو نواميس أو قوانين الوجود في الأمم والأكوان. وأن قلب السلطة الدينية يعني إزالة فكرة العصمة والوساطة الدينية بين الله والإنسان. وانه ليس هناك في الإسلام من يختص بفهم لا يناله الآخرين للكتاب (القرآن) والعلم. وأن هذه المعرفة ليست مزية لأحد دون آخر. وانه لا تباين بين الناس إلا بقدر "تفاضلهم بصفاء العقول وكثرة الإصابة في الحكمة"[29].

وحاول محمد عبده من خلال هذه الآراء ووحدة أصولها إبراز إصلاحيته العقلانية، وبالأخص في نتائجها العملية المستقبلية. وليس مصادفة أن يكشف عن نماذج هذه الأصول في الماضي، لأنه أراد أن يظهر ما هو جوهري من وجهة نظر المثال، أي الربط بين التاريخي والمثالي في آفاق الرؤية الجديدة. من هنا أيضا محاولته صياغة الكيان المعتدل للعقلانية الإسلامية في روحها وجسدها، وعقلها وضميرها. ويكشف هذا الاعتدال عن عناصره في مكونات الإسلام القديم والمعاصر والمستقبلي، أي في الإسلام النموذجي والمفترض. من هنا دعوته للاعتدال في العادات والعبادات، انطلاقا من أن الإسلام نفسه لم "يبخس الحواس حقها، كما انه هيأ الروح لبلوغ كمالها. فهو الذي جمع للإنسان أجزاء حقيقته واعتبره حيوانا ناطقا لا جسمانيا صرفا ولا ملكوتيا بحتا"[30]. وإذا كانت هذه الصيغة الظاهرية لوحدة الاعتدال في الروح والجسد، هي التعبير المناسب "للاهوت العقلاني" الإسلامي، فان عقلانيتها الواقعية (العملية) تظهر بجلاء في نماذجها التاريخية والروحية. فعندما تناول قضية الزهد في الإسلام، فانه يشير إلى أن سياسة الخلفاء الراشدين من الزهد شيء يوافق الدين (الإسلامي)‎، وان سلوك معاوية في البذخ هو الآخر موافق للدين، وذلك بفعل تغير الظروف. فهو لم ير في سلوك معاوية شيئا ما معارضا لما هو مباح في الإسلام فحسب،  بل واعتبره قوة فاعلة في "ترويج فنون الإبداع في الصنعة على اختلاف ضروبها"[31].

أما في ميدان الروح فانه حاول إبراز البديل الممكن للإصلاحية الإسلامية في قوتها الكامنة، والذي سعى لتأسيس بمقولات السياسة والفعل الاجتماعي المباشر في وحدة العقل والوجدان. فعندما تكلم عن التفاؤل القائم في زمنه عن إمكانية استعادة الإسلام قوته في المدنية المعاصرة، فإنه يشير إلى ضرورة صياغة الوحدة الجديدة للعقل والوجدان. بحيث نراه يجد فيها نتيجة لتطور العلم والدين (الإصلاحي) وأسلوبا في بناء الوحدة المتناسقة للثنائيات الضرورية في الوجود التاريخي والثقافي للمسلمين، أي الوحدة المتناسقة للدنيا والآخرة، والعلم والدين، والعقل والإيمان. لهذا وجد في وحدة العلم والدين وضرورة التقائهما أسلوبا يستلزمه في آن واحد منطق الحقيقة والأخلاق. وهي الصلة التي عبر عنها في فكرة وحدة العقل والوجدان، باعتبارها نتاجا للمساهمة التي يقدمها الدين للعلم والعلم للدين، أو الوحدة العريقة فيما يمكن دعوته بثقافة الحدود الإسلامية، التي أرسى تقاليدها تاريخ متشعب في بلورة نماذج الوحدة المعقولة للمعقول والمنقول، والتفسير والتأويل، والظاهر والباطن، والحقيقة والشريعة. وقد سار محمد عبده في هذه التقاليد المتنورة، عندما أكد على أن "تطور العقل بمساهمات العلم تؤدي به إلى أن يبلغ قوته ويعرف حدود سلطته. فيتصرف فيما أتاه الله تصرف الراشدين ويكشف ما مكنه فيه من أسرار العالمين. حتى إذا غشيته سبحان الجلال وقف خاشعا وقفل راجعا، واخذ اخذ الراسخين في العلم"[32]. آنذاك يلتقي العقل مع الوجدان الصادق، أو القلب. إذ "لم يكن الوجدان ليكابر العقل في سيره داخل حدود مملكته، متى كان الوجدان سليما وكان ما استضاء به من نبراس الدين صحيحا"[33]. وهي العلاقة المعتدلة أو الوسطية المعقولة، التي أسست لها تآلفات الفكر النظري الإسلامي ابتداء من المحاسبي وانتهاء بالغزالي. من هنا توكيد محمد عبده على رفض ما يتفوه به السذج من أن هناك فرقا بين العقل والوجدان بمقتضى الفطرة والغريزة. وذلك لان الاختلاف في حالة وقوعه، ما هو في نظر محمد عبده سوى عرض عند عروض العلل والأمراض الروحية. إذ اجمع العقلاء على أن المشاهدات بالحس الباطن (الوجدان أو القلب) هو من مبادئ الرهان العقلي[34]. ثم دفع بهذه الفكرة صوب غايتها النهائية عبر توليف العقل والوجدان في عبارته القائلة، بأننا "منحنا العقل للنظر في الغايات والأسباب والمسببات والفرق بين البسائط والمركبات، ومنحنا الوجدان لأدراك ما يحدث في النفس من لذائذ وآلام، وهلع واطمئنان، وشمل وإذعان، ونحو ذلك مما يذوقه الإنسان ولا يحصيه البيان"[35]. وهي ذات النتيجة المميزة لإصلاحية الأفغاني العقلانية وطابعها النقدي، أي نفي تجارب العقلانية والصوفية في وحدة التقائهما.

 

ا. د. ميثم الجنابي

........................

[1] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج1، ص129.

[2] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج2، ص329.

[3] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج2، ص365.

[4] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج2، ص366.

[5] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج2، ص456.

[6] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج1، ص190

[7] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج2، ص335.

[8] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج2، ص493.

[9] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج2، ص366.

[10] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج2، ص369.

[11] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج2، ص372.

[12] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج2، ص373.

[13] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج2، ص369.

[14] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج1، ص175.

[15] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج1، ص176.

[16] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج1، ص257.

[17] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج1، ص265.

[18] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج1، ص176.

[19] الأفغاني: الأعمال الكاملة، ج2، ص376.

[20] محمد عبده: الإسلام والنصرانية، ص121-140.

[21] محمد عبده: الإسلام والنصرانية، ص134.

[22] محمد عبده: الإسلام والنصرانية، ص65.

[23] محمد عبده: الإسلام والنصرانية، ص67.

[24] محمد عبده: الإسلام والنصرانية، ص69

[25] محمد عبده: الإسلام والنصرانية، ص72-73.

[26] محمد عبده: الإسلام والنصرانية، ص39.

[27] مثل إشارته لمن اسماهم بأفاضل النصارى، ويقصد به مارتن لوثر، الذي أطلق على أرسطو كلمة الخنزير والدنس والكذاب، بينما كان المسلمون يسمونه بالمعلم الأول.

[28] محمد عبده: الإسلام والنصرانية، ص73-75.

[29] محمد عبده: الإسلام والنصرانية، ص79.

[30] محمد عبده: الإسلام والنصرانية، ص90.

[31] محمد عبده: الإسلام والنصرانية، ص96-97.

[32] محمد عبده: الإسلام والنصرانية، ص146.

[33] محمد عبده: الإسلام والنصرانية، ص147.

[34] محمد عبده: الإسلام والنصرانية، ص147

[35] محمد عبده: الإسلام والنصرانية، ص147.

 

في المثقف اليوم