دراسات وبحوث

تحليل ونقد الفكرة الإصلاحية الإسلامية الحديثة (6)

ميثم الجنابيفكرة التأسيس التلقائي للإصلاح العملي عند الكواكبي

إذا كانت إصلاحية محمد عبده العقلانية النقدية هي التجلي الأعمق في نقد الذات، فأنها اتخذت عند الكواكبي صيغة التجلي الأدق، بفعل مسارها المتعمق في دهاليز وطرق وعي الذات السياسي. وقد حدد ذلك طابع المهمات النقدية لآرائه ومواقفه وأحكامه من القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية. لقد سار  الكواكبي في اتجاه وعي الذات السياسي نتيجة لإدراكه قيمة الدولة والوجود القومي المستقل. غير أنه لم ينظر إلى هذه القضية بمعايير القومية ومتطلباتها المعاصرة كما تكونت في التاريخ الأوربي الحديث، بل عبر استنباطها من نقده العقلاني والفكرة الإصلاحية لواقع العالم الإسلامي في ماضيه وحاضره بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص. وكذلك نظر إليها في ضوء الأصول المفترضة للوجود الذاتي المستقل، باعتباره كيانا خاصا له حدوده الذاتية. لهذا لم تعد معارضة التقليد عنده جزءا من الاحتكام للعقل النظري المجرد في تصوراته وأحكامه وتصديقاته وظنونه، بقدر ما أصبحت جزءا من منهج النقد الذاتي الفكري والاجتماعي والسياسي والثقافي. ففي مقدمة كتابه (أم القرى) يخاطب القارئ بأن يكون من "أمة الهداية" لا من "أمة التقليد". كما نراه يحذر من يقرأ كتابه قائلا، بأنه إذا كان من "أمة التقليد وأُسراء الأوهام" ولا يحب أن يدري من هو، وفي أي طريق يسير، ويشعر بعار الانحطاط وثقل الواجبات، ولا يطيق تتبع المطالعة وتحكيم العقل والنقل، فمن الأفضل له أن يترك الأمور على ما هي عليه[1]. إننا نقف هنا أمام تحذير لا علاقة له بتقاليد الوعظ الأخلاقية والنفسية المتعارف عليها، بل بمعايير الوعي الذاتي الفاعل. بعبارة أخرى، لم يعد التقليد في آرائه مجرد فعل فردي أو شكل من أشكال الوعي أو نمط من أنماط الفكر، بل الكينونة الاجتماعية للأوهام والانحطاط وعدم المبالاة وانعدام تحكيم العقل والجهل بالنفس. فالسؤال الأول هنا يتعلق بمعرفة النفس وماهيتها وحقيقتها وأسلوبها في العلم والعمل وغايتها. وهذا بدوره ليس إلا السؤال الجوهري المتعلق بوعي الذات، بوصفها المقدمة المندرجة فيما اسماه الكواكبي "بأمة الهداية" النافية "لأمة التقليد".

من هنا صعود مهمات ما يمكن دعوته بالهداية الذاتية. إذ لم تعد الأخيرة جزءا من أفعال "السرّ المجهول" و"الإرادة الأزلية"، بل النتاج المباشر لمهمات وعي الذات. وليس مصادفة أن يضع الكواكبي في أولى المهمات النقدية الكشف عما اسماه بالأسباب الظاهرة لخلل المسلمين "غير سرّ القدر الخافي على البشر"[2]، أي الأسباب الواقعية. بحيث نراه يجعل منها ميدان ومحك نقد الذات. ففي حالة عدم توفر شروط العلم والعمل، فمن الأفضل ترك الأمور على ما هي عليه، كما يقول الكواكبي. مما ألزم بدوره توسيع وتعميق نقد الذات، الذي وجد انعكاسه أيضا بما في ذلك في تجاوز تقليدية العبارة، أي انتظام النقد في منهج واضح المعالم دقيق العبارة. مما يعكس أولوية الرؤية المنطقية في مقدمات تحليله واستنتاجاته. واستند في كل ذلك ليس فقط على قواعد المنطق المجردة، بل وعلى الواقع وتدقيق ظواهره استنادا إلى وحدة العلة والمعلول. فعندما أراد تحديد طبيعة التخلف الإسلامي فإنه أشار إلى عدم دقة الوصف الذي يطلقه الكثير من الباحثين عندما يشبهون حالته بالمرض. إذ نراه يجد في هذا التشبيه صيغة تقليدية صورية. وعوضا عن ذلك اقترح عبارة "الفتور العام"[3].

إن هذا الاقتراح الذي تضّمن في ذاته الصيغة الجديدة لإدراك الواقع، باعتباره صيرورة لا وجودا، وكينونة لا كائنا، يعكس في غاياته منطق الفكر النقدي في تعامله مع الواقع. بمعنى تقييد الفكر بالتعامل المنطقي حتى مع العبارة، باعتباره الحاجز الضروري الأول لكل إدراك متعمق في القضايا. آنذاك سيجري تذليل الخلل الفعلي عبر تصوير الواقع كما هو وليس من خلال تحويله إلى موضوع التأمل العقلي المجرد. واحتوى هذا الأسلوب على مقدمات الاقتراب الدائم من منطق التطابق مع إدراك الواقع في أسبابه ومسبباته. وأدى ذلك إلى انتقاد الفكر والفكرة وتجاربهما، بوصفها عملية معرفية دقيقة في تعبيرها عن الواقع كما هو. فعندما حدد الأطر العامة أو ما اسماه بالأصول والفروع في الأسباب السياسية والأخلاقية والدينية لفتور العالم الإسلامي، فإنه أشار إلى أن المعايشة الطويلة لهذا الفتور أدت في نهاية المطاف إلى قلب الحقائق في أفكار الناس، بحيث جعل عندهم المخازي مفاخرا، والتصاغر أدبا، والتذلل لطفا، والتملق فصاحة، وترك الحقوق سماحة، وقبول الإهانة تواضعا، والرضا بالظلم طاعة[4]. أما هذه "الانقلابات" الواقعية في المفاهيم والقيم، و"انقلابات" القيم والمفاهيم في الواقع، فما هي إلا الأوجه المختلفة لانعدام وعي الذات الحقيقي والغاية المرتجاة منه. لهذا طالب بوضع حد لاستمرار التقليد الفكري في تناول المشكلات والقضايا من خلال تناول واقع التخلف الإسلامي وأسباب انحطاطه كما هو، أي البحث عن الأسباب الواقعية وليس اللاهوتية الغائرة في المخيال التقليدي من قضاء وقدر وتوكل ورضا وما شابه ذلك.

وحدد ذلك اتجاه نقده العقلاني صوب المقدمات الواقعية للتخلف. بمعنى مطابقة نقد الذات مع نقد الوجود الاجتماعي والتاريخي والثقافي. من هنا انتقاده اللاذع لأولئك الذين حاولوا تبرير التخلف والإبقاء عليه استنادا إلى تقاليد "الأخلاق الإسلامية" الموضوعة في أحاديث "المسلم مصاب"، و"أن الله إذا أحب عبدا ابتلاه"، و"أن أكثر أهل الجنة البله"، و"أن غيرنا مستدرجون" وما شابه ذلك[5]. ولهذا السبب أيضا شدد على الأسباب الروحية (الدينية) والإرادية (السياسية) والعملية (الأخلاقية)في الإبقاء على هذا النمط من الرؤية والواقع. لقد أراد الكواكبي الكشف عما في الإرادة المستلبة وافتقادها للتاريخ السياسي وخوائها الأخلاقي من أسباب جوهرية وراء الفتور العام. الأمر الذي جعله يردد في أماكن عديدة الحكمة القائلة: "كما تكونوا يوّل عليكم"، وأن يستنتج من انه "لو لم نكن نحن مرضى لما كان أمراؤنا مدنفين"[6]. وتغلغلت هذه الصيغة في اغلب آراؤه ومواقفه وأحكامه. مما يعكس بدوره إدراكه الدقيق لقيمة العمل السياسي وأهمية شرعية السلطة والدولة. وحاول التأسيس لهذا الإدراك من خلال تعميق نقد الذات بالاتجاه الذي سعى لكسر الحلقة المفرغة أو "الدورة الخالدة" للتقليد والعبودية. وقدم بهذا الصدد وصفا نقديا لاذعا ودقيقا لذرات الاستبداد في الكينونة الاجتماعية للفرد والدولة على مثال ما اسماه بالكيفية التي ينشأ بها "الأسير في البيت الفقير". إذ عادة ما يجري تكوينه الأول في حالة المناكدة والمشاكسة. وحالما يتحرك جنينا في بطن أمه، فإنه يبدأ بتحريك شراسة أمه في شتمه وضربه. وحالما يبدأ بالنمو فأنها تضيق عليه أما لألفتها الانحناء خمولا أو التقلص لضيق الفراش. وحالما تلده تضعه في قيود القماط اقتصادا أو جهلا. فإذا بكى سدت فمه بثدييها أو قطعت عليه أنفاسه بدوار السرير. وحالما يبدأ بالترعرع تمنعه من رياضة اللعب لضيق الملعب. وإذا استفسر أو سأل ليتعلم ضرب على فمه أو زجر. وإذا قويت رجلاه جرى رميه إلى الشارع. وفيما بعد يجري ربطه بالعمل قصد منعه عن السراح والمراح، ثم تزويجه في أول فرصة لكي لا يبرح يقاسمهم شقاء الحياة ويجني على غيره كما جنى عليه أبواه[7].

إن إعادة إنتاج الكيان الاستبدادي في الأفراد التي يصورها الكواكبي تكشف عن عمق الرؤية النقدية الاجتماعية والتاريخية لظاهرة الاستبداد السلطوي وانعدام الهوية السياسية والحقوقية للدولة. وجعل من هذه الظاهرة عينة وميدان نزعته النقدية العميقة من خلال الكشف عما اسماه بالأسباب الدينية والسياسية والأخلاقية للفتور العام. لكنه في الوقت نفسه يفرّق بين أصول وفروع هذه الأسباب.

فمن بين الأصول في الأسباب الدينية يشير إلى سيطرة عقيدة الجبر وتفشي الجدل في العقائد الدينية، وانتشار روح الفرقة، وغياب التسامح، ونفسية التشدد في الدين، وسيطرة العلماء المدلسين، وغلبة الفكرة القائلة بتعارض العقل والدين، والغفلة عن حكمة الجماعة، بينما وضع في فروعها ما اسماه بتأثير المزهدات وعدم تطابق القول والعمل، والغلو الصوفي، والمزايدة في الدين، وسيطرة الشعوذة، وتهاون العلماء في التوحيد، والاستسلام للتقليد، والتعصب للمذاهب، ونبذ الحرية الدينية، وتكليف المسلم ما لا يكلفه به الدين.

في حين وضع في أصول الأسباب السياسية كل من الحكم المطلق للسلطة، وانقلاب المضمون الاجتماعي والاقتصادي للسياسة، وحصر اهتمام السلطة بالجيش وجباية الأموال، وإبعاد الأحرار وتقريب المتملقين. أما فروعها فمثل تفرق الأمة إلى عصبيات وأحزاب، وغياب حرية القول، وفقدان العدالة والمساواة، وتهديم السلطة للدين، وغياب الرأي العام الموحد، والإصرار على الاستبداد، والانغماس في الترف والشهوات.

أما أصول الأسباب الأخلاقية فهي الاستغراق في الجهل، وفقدان النصيحة، وانحلال الرابطة الدينية، وفقدان الاهتمام بالتربية، وغياب القوة الموحدة للجمعيات، وعدم الاهتمام بالشؤون العامة من جانب المجتمع، ومعاداة العلوم، في حين وضع في فروعها كل من استيلاء روح اليأس، والإخلاد إلى الخمول، وفساد التعليم، وترك الأعمال، وغلبة التخلق بالتملق، وتفضيل الارتزاق بالجندية على الصنائع، وتوهم أن علم الدين في العمائم والكتب.

إن مجرد الاستعراض العام لأصول وفروع الأسباب التي وضعها الكواكبي تحت مجهر اهتمامه التحليلي يكشف عن عمق رؤيته النقدية والعقلانية ودقتها. أنها تكشف عن تحليله النقدي لبنية الفتور العام، أو التخلف والانحطاط في مكوناته الأساسية، مع ما يترب عليه من إدراك لأولوية النهضة والانبعاث ومفاصلها في الأصول والفروع. وبالتالي فان نزعته العقلانية والنقدية لم تنحصر ضمن إطار إظهار قيمة العقل النقدي، بل وترتيبه المنظم للأسباب والمسببات في كل واحد، مع إدراك دقيق لمهمات البدائل ومشاريعها العملية. وبهذا يكون قد دفع العقلانية النقدية للفكرة الإصلاحية إلى مداها الأبعد من خلال ربطه النقد العقلاني للواقع بواقعية نقده للذهنية الإسلامية في مكوناتها السياسية والأخلاقية والدينية، أي في كلّها الثقافي.

فهو لا ينتقد السياسة بشكل عام ولا مفاهيمها النظرية، بقدر ما ينتقد شكلها الواقعي وآثارها العملية في الدولة العثمانية وبدائلها الممكنة في موضوعات الفكر السياسي وحلوله. وإذا كانت مواقفه "التاريخية" في جوهرها تتمحور حول رفض شامل "لمناقب" الدولة العثمانية باسم المصير المستقل للعالم العربي، فإن تحليله السياسي "المباشر" للواقع الزمه رؤية الخلل الجوهري في مصاعبها التي أنتجتها بشكل خاص الستين السنة الأخيرة التي ابتدأت من نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر حتى بدايات القرن العشرين. فهي المرحلة التي تميزت بمحاولات إعادة تنظيم الإمبراطورية. إلا أنها باءت بالفشل، وذلك لأنها "عطلت أصولها القديمة، ولم تحسن التقليد ولا الإبداع"[8]. ولم يقصد هو بذلك استحسان ما مضى ولا استحسان أصولها القديمة، بقدر ما انه أراد الكشف عن تناقضاتها الداخلية. فقد أشار هو إلى أن بعض هذه الأسباب التي يتكلم عنها هي "أمراض قديمة ملازمة لإدارة الحكومة العثمانية منذ نشأتها"[9]. وقد أدرج في هذه الأسباب أصولا منها توحيد الإدارة العثمانية للقوانين دون الأخذ بنظر الاعتبار اختلاف طبائع وأطراف المملكة واختلاف أهاليها في الأجناس والعادات. وفي الوقت نفسه تشوش القضاء وتنوع الإجراءات الحقوقية، إضافة إلى تفويض الإمارات المختصة بعوائل معينة. أما في فروعها فقد أشار إلى أسباب عديدة منها التمسك بأصول الإدارة المركزية، وتولية بعض المناصب المختصة ببعض الأصناف كالمشيخة الإسلامية والعسكرية والجند، من اجل ألا يتفقوا فيما بينهم ضد السلطة المركزية. وكذلك عدم تحمل الرؤساء مسؤوليتهم أمام الرعية. وكذلك التمييز الفاحش بين أجناس الرعية، والغفلة عن مقتضيات الزمان ومباراة الجيران، والضغط على الأفكار المتنبهة بقصد منع نموها، وإدارة بيت المال إدارة إطلاق بدون مراقبة وغيرها من الأسباب. في حين أدرج في الأسباب الأخلاقية القائمة وراء انحطاط الدولة عدم تطابق الأخلاق بين الرعية والرعاة، والغفلة عن ترتيب شؤون العامة، وعدم التمسك بالنظام في توزيع الأعمال، وإهمال التخصص، وسقوط الهمة، وترك الاعتناء بتعليم النساء وغيرها من الأسباب[10]. وبهذا يكون الكواكبي قد جعل من الدولة والاستقلال السياسي والنظام الاجتماعي العادل ميدان نقده الذاتي. أما انتقاده للإدارة العثمانية فقد كان يتضمن في ذاته إدراكا نوعيا جديدا يتطابق مع فكرة وعي الذات القومي السياسي. ولم يكن ذلك معزولا عما اعتبره فقدانا جوهريا بالنسبة للوجود العربي آنذاك. مما حدد بدوره مضمون هذا الانتقاد، وبالتالي معنى ومهمات الإصلاحية الإسلامية التي تطابقت عنده مع فكرة سيادة الروح العقلاني بطابعه العملي السياسي والتنوير الثقافي.

وبهذا المعنى كانت الرؤية الإصلاحية عند الكواكبي أكثر قربا من إصلاحية الأفغاني. إلا أنها تميزت بأبعاد سياسية واجتماعية وقومية دقيقة مرتبطة بإدراكه أهمية وجوهرية الدولة والتاريخ السياسي المستقل للعالم العربي. فهو ينطلق شأن كل الإصلاحيين الكبار، من البؤرة المميزة للإصلاحية الإسلامية وعقيدة التوحيد، باعتبارها المقدمة الضرورية لكل فعل حق. ولم يقصد بذلك وضع الحدود لتفريق الخطأ عن الصواب، بقدر ما كان يسير باتجاه تحديد ماهية الحرية. من هنا تركيزه على فكرة التحرر من رقّ العبودية لأي صنم، باستثناء "عبودية الحق".

فقد اعتبر الكواكبي شأن الكثير من المصلحين الكبار أن ثمرة التوحيد الحق هو عتق العقول من الأسر. وذلك لأن ثمرة إتباع الشريعة الإسلامية (شريعة الرسول) يحول دون الوقوع في الشرك[11]. وفيما بين التوحيد والشرك تترامي ميادين الإصلاحية في تحضيرها للعمل. وذلك لأن هذه الأطراف لم تعد موضوعات في حدّ وحدود الكلام التقليدي وعقائده الإيمانية، بل في كونها أجزاء من منظومة الإسلام الإصلاحي المعاصر. من هنا ربط الكواكبي ثمرة التوحيد بثمرة الإيمان بوصفه نفيا للشرك. غير انه وضع هذه الفكرة عبر تأسيسه الجديد للمفاهيم والمقولات الإسلامية المتعلقة بقضايا الذات الإلهية وصفاتها وأفعالها. فإذا كانت هذه المفاهيم هي أيضا القضايا الأساسية لعلم الكلام التقليدي، فإن تناولها في آرائه الجديدة قد افقد طابعها التقليدي اللاهوتي، وذلك لأنه ذوّبها في تأصيله النقدي العقلاني تجاه مختلف المظاهر السلبية الفكرية والاجتماعية والسياسية وآثارها في اعتقادات المسلمين. فالإشراك في الذات بنظره، هو الاعتقاد بالحلول. أما الإشراك فهو اعتقاد البعض تصرّف غير الله في شيء من شؤون الكون، بينما الإشراك في الصفات فهو الاعتقاد في مخلوق انه متصف بصفات الكمال من المرتبة العليا، التي لا ينبغي إلا لواجب الوجود (الله)[12].

مما سبق يتضح، بأن الكواكبي لم يعيد استهلاك تقاليد اللاهوت التقليدي المعقد وتفريعاته العديدة، بل أعطاها مضمون النفي العملي البسيط للاعتقادات السائدة في عصره من اجل الساهمة أولا في "النهضة الإسلامية العلمية والأخلاقية"، والتحضير للأفعال السياسية الكبرى ثانيا. فهي المساهمة التي تستعيد في ذاتها التاريخ الذاتي باعتباره تاريخا للحق، أو تاريخا للإصلاح. لهذا اعتقد بأن الحكماء السياسيون الأقدمون اتبعوا الأنبياء في سلوك هذا الترتيب، أي الابتداء من نقطة دينية توصلا لتحرير الضمائر ثم إتباع طريق التربية والتهذيب بدون فتور ولا انقطاع[13]. وبهذا تتحول روحية الديانة إلى سياسة الروح الفاعلة في إدراكها العملي للمهمات والغايات. لهذا اعتبر أن كل التشويه الذي لحق بالأديان، بما في ذلك الإسلام، كان له غرض واحد وهو الاستبداد[14]. وبالتالي ليس الاستبداد في جوهره سو النقيض المباشر للدين الحق، تماما بالقدر الذي يشكل الدين نقيضا للاستبداد.

ووضع كل هذه الحصيلة في موقفه المعارض للأفكار التي حاولت أن تربط بين الدين والاستبداد خصوصا في موقفها من الإسلام. وفي الوقت نفسه لم ينف إمكانية استغلال ما في بعض ما لازم الإسلام في تاريخه. لكنه يعتبر كل ما ساهم في بلورة تقاليد الاستبداد في الإسلام هو نتاج تأثير ما اسماه "بأساطير الأولين" و"القسم التاريخي" من التوراة والرسائل المضافة إلى الإنجيل، باعتبارها أجزاء ساهمت في صياغة أسس الاستبداد وتقاليده[15]. بعبارة أخرى، إن تقاليد الاستبداد في الإسلام هي نتاج الخروج على حقيقة الفكرة الوحدانية فيه. من هنا يمكن فهم نقده للتوراة والإنجيل، بوصفه نقدا سياسيا. فالتوراة استعاضت عن أسماء الآلهة بالملائكة، أما رسائل (العهد الجديد) فقد وضعت رجال الكهنوت بالشكل الذي جعلهم ناطقون وفاعلون بالنيابة عن الله. في حين وضع الإسلام "قواعد الحرية السياسية المتوسطة بين الديمقراطية والارستقراطية، فأسس التوحيد واظهر للوجود حكومة كحكومة الخلفاء الراشدين"[16]. وإذا كان تخليصه النص القرآني عما يمكنه أن يكون مصدرا للاستبداد، فلأنه يعني في إطار الفكرة الإصلاحية عنده يتطابق مع مبادئ التوحيد المعقولة والأخلاقية. الأمر الذي أفرغ القرآن من إمكانية "توكيله" المطلق لصلاحية "الاستبداد" أيا كان نوعه، كما يقول الكوكبي. وقد كانت هذه الفكرة تخدم في منظومته الفكرية مهمات الإصلاح الديني باعتباره جزءا من مهمات السياسة أو مطابقة لها. فالأنبياء هم المصلحون، والساسة الحكماء يتبعونهم في "الترتيب". من هنا محاولته تحديد قواعدها من خلال الإقرار، بأن الله يرسل الأنبياء حجة على البشر. وإن بعض هؤلاء الأنبياء رسل (أصحاب رسالة). أما قواعدها في الإسلام فهي كون النبي محمد "بلغ رسالته ولم يكتم منها شيئا. وانه أتم وظيفته بما جاء به من كتاب الله، وبما قاله أو فعله أو اقره على سبيل التشريع كمالا لدين الله"[17]. ومن قواعد هذا الدين "انه محظور علينا أن نزيد على ما بلغنا إياه رسول الله أو ننقص منه أو نتصرف فيه بعقولنا، بل محتم علينا أن نتبع ما جاء به التصريح المحكم من القرآن والواضح الثابت من السنة"[18]. أما القاعدة الأخيرة فهي أن "نكون مختارين في باقي شئوننا الحياتية، نتصرف فيها كما نشاء مع رعاية القواعد العمومية، التي شرعها أو ندب إليها الرسول وتقتضيها الحكمة أو الفضيلة"[19].

لقد كان "ترتيب" القواعد المذكورة أعلاه تعبيرا عن الإدراك الواعي لمنظومة الإصلاح في مبادئها العامة. إذ لا يعني إتباع القرآن كما هو بدون زيادة أو نقصان في "ترتيب" الكواكبي سوى حصره إياه ضمن إطار الوحدانية النافية للغلو المتكلس في فرق الإسلام المختلفة. لهذا أكد على أن احد المبادئ الأساسية للجمعية هو كونها لا تنتسب إلى مذهب أو شيعة مخصوصة من مذاهب وشيع الإسلام مطلقا. وأن مسلكها الديني على مشرب السلف المعتدل[20]. أما المقصود بإتباع ما جاء في القرآن والسنة الصحيحة من دون تصرف فيها بعقولنا فهو عقول تلك المدارس والفرق. فالقرآن والسنّة هما المصادر المعقولة والمعتدلة، مما يضفي عليهما صفة الاستمرارية الضرورية في تقاليد الحق. لهذا اعتبر الكواكبي كل ما هو غيرهما مرتبط بخيارنا وبما تدعو إليه الحكمة والفضيلة. ولا يعني ذلك سوى الربط المتناسق بين الفعل الحر (الاختيار) والعقل (الحكمة) والأخلاق (الفضيلة)، أو وحدة العقل والسياسة والأخلاق في علاقتها بالديني، أو الدنيوي بالديني، ولكن ليس بالصيغة المتعارف عليها في تقليد العقائد والإيمان، بل في صيغتها الإصلاحية العقلانية. إذ لم يعن الديني هنا الإيماني العقائدي، بل التراثي الثقافي. مما حدد بدوره الارتباط الواعي بالأنا الحضارية وتقاليدها الروحية من جهة، واستيعابها الجديد لوحدة هذه العلاقة في الظروف الملموسة من جهة أخرى. بمعنى الطابع الملموس للبدائل السياسية والأخلاقية والدينية، بوصفها العناصر الأساسية التي بحث فيها الكواكبي عن أسباب الفتور العام. لهذا نراه يتكلم في بداية (أم القرى) عن ضرورة ما اسماه "ببيان الحالة الحاضرة وأسباب الخلل وإنذار الأمة وتوجيه اللوم للأمراء والعلماء"، وكذلك ضرورة "التشخيص السياسي المدقق" للواقع  الإسلامي من خلال البحث عن "مراكز المرض ليتعين بعد ذلك الدواء الشافي"، ثم كيفية "إدخاله في جسم الأمة بحكمة تصرع عناد الوهم"[21]. فعندما يشير إلى أن "السياسة والدين يمشيان متكاتفين، وان إصلاح الدين أسهل منالا وأقوى وأقرب طريقا للإصلاح السياسي"[22]، فإنه لم يقصد بذلك موازاة الديني والسياسي، ولا أولوية الديني على السياسي، بقدر ما انه وضع "الترتيب" العملي للإصلاح انطلاقا من ظروفه المعاصرة. فهي الصيغة التي تعكس أساسا أولوية السياسي على الديني ولكن لا في إطار معارضتهما، بل في "ترتيب" الأولويات الجوهرية. لاسيما وانه حاول التأسيس لهذه الأولوية بمعايير ومقاييس العقلانية الإسلامية ومضامينها الاجتماعية السياسية والديمقراطية، باعتبارها أيضا مقدمات تحتوي في ذاتها على أصالتها الثقافية في عالم الإسلام نفسه.

وقد حدد ذلك وعكس في فكرته الإصلاحية قيمة التنوير بشكل عام والثقافة بشكل خاص. فهو لم يقف عند حدود التنوير الداعي للقضاء على الجهل باعتبارها مقدمة النهوض العلمي والأخلاقي، بل وانهماكه في تدقيق كيفيته وأساليبه من اجل توجيهه العملي.ووجد في كل ذلك عملية ضرورية ينبغي أن تساهم في إشراك الجميع ببناء الوحدة الاجتماعية المثلى. من هنا وضعه في (وظائف الجمعية) مهمات تعميم القراءة والكتابة والترغيب في العلوم والتخصص في المدارس وإصلاح أصول تعليم اللغة العربية والعلوم الدينية والتربوية والسعي إلى استغلال كل ما يمكنه أن يكون نافعا وايجابيا في الوجود الواقعي للأمة. ومن هنا اقتراحاته بحمل أهل الطرائق (الصوفية) على الرجوع إلى الأصول الملائمة للشرع والحكمة في الإرشاد والتربية المريدين وتكليف كل فرقة منها بمهمة من المهمات مثل تحميل الطريقة القادرية مهمة إشاعة تعليم الأيتام، وأخرى بمواساة المساكين وثالثة بالتمريض وأخرى بالتنفير من المنكرات (كالمسكرات وما شابه ذلك)[23]. أما التجلي الأعمق والأوسع والأدق لهذه النزعة التنويرية الثقافية، فإنه يبرز في وحدة وكمون الفكرة الثقافية في الفكرة السياسية، والفكرة السياسية في الفكرة الثقافية كما هو واضح في تناوله لعلاقة الاستبداد بالجهل، والحرية بالمعرفة. فهو لم ينطلق من انه لا استعباد ولا اعتساف ما لم تكن الرعية حمقاء تتخبط في ظلام الجهل وتيه العماء. وإن المستبد نفسه لا يخشى علوم اللغة ولا يخاف من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد، بل أن المستبد ترتعد فرائصه من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم والسياسة المدنية والتاريخ المفصل والخطابة الأدبية. فالمستبد يخاف من العلوم التي "توسع العقول وتعرّف الإنسان ما هو الإنسان وما هي حقوقه"[24].

إن الوحدة الحية لكمون الفكرة الثقافية في الفكرة السياسية والفكرة السياسية في الفكرة الثقافية تكشف عن تذليل عقلانية الإصلاحية الإسلامية للذهنية السلفية المعاندة والاستبداد السلطوي، من خلال تأصيلها لمفاهيم العقل العملية، باعتبارها أجزاء ضرورية في منظومة الإصلاح. وبلغ ذلك ذروته في فكرة نقد الذات الاجتماعية والتنوير الثقافي الشامل. مما حدد بدوره حدود النزعة النقدية للإصلاحية الإسلامية وارتباطها بقضاياها التاريخية والوجودية والروحية الخاصة. وبهذا تكون قد أسست لعناصر المنظومة الفكرية الأصيلة، مما الزمها بضرورة التأصيل للأصالة. 

***

ا. د. ميثم الجنابي – باحث ومفكر

.......................

[1] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص126.

[2] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص128.

[3] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص145.

[4] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص268.

[5] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص262

[6] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص153.

[7] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج2، ص405.

[8] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص253.

[9] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص253.

[10] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص253-257.

[11] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص190.

[12] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص193.

[13] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج2، ص394.

[14] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج2، ص352.

[15] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج2، ص342.

[16] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج2، ص346.

[17] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص188.

[18] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص188.

[19] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص188.

[20] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج2، ص282.

[21] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص137-138.

[22] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج2، ص345.

[23] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص286-289.

[24] الكواكبي: الأعمال الكاملة، ج1، ص289.

 

 

في المثقف اليوم