دراسات وبحوث

أكذوبة المُفاضلة بين النبوة والولاية

مجدي ابراهيميظهر لي أن مسألة المفاضلة بين الولاية والنبوة في التفكير الإسلامي مسألة مفتعلة لا أساس لها من الصحة ولا صحة لها عندي من أساس مقبول، تكاد تكون أكذوبة ملفقة ظهرت في أوان الضعف الفكري وصراع العقائد والاتجاهات المذهبية التي تخدمها أمّا بالتأييد أو بالرفض، ولا يكاد المتأمل فيها على البديهة أن يقف على قناعة تعطيه تبريراً للقول بتفصيل الولاية على النبوة في بحوث الأقدمين من ذوي النزعات الصوفية.

ولا يمكن أن يكون الولي أفضل ولا أكمل من النبي، ولكي نحيط القارئ علماً بمسألة الولاية وما يتفرّع عنها من كرامات الأولياء، ونحيطه بالمسائل الشائكة التي لصَقت بالتصوف لصقاً وهو منها براء؛ بشأن المفاضلة بين الأولياء والأنبياء والملائكة، يجدر بنا الوقوف عند هذه المسائل وقفة نقدية طويلة؛ لنتتبّع أسباب ظهورها ومواطن الرأي فيها في التفكير الإسلامي؛ فلم يسمْ الولي وليّاً إلا لنصرة دينه والعناية بحقه وامتثال أوامره وترك نواهيه، فإذا خرق الله له عادة تدل على استقامته فهى عضد وعمدة؛ لصحة دعوى النبيّ الذي أمره ونهاه وامتثل هو ما حدّ له ولم يتعداه.

ومن أجل هذا؛ قال القشيري في شأن الكرامات، وهو باب طويل في أبواب الرسالة :"هذه الكرامات لاحقة بمعجزات نبينا صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنَّ كل من ليس بصادق في الإسلام لا تظهر عليه الكرامة. وكل نبيّ ظهرت كرامته على يد واحد من أمته؛ فهى معدودة من جملة معجزاته؛ إذْ لو لم يكن الرسول صادقاً، لم تظهر على يد من تابعه الكرامة.

فأمّا رتبة الأولياء فلا تبلغ رتبة الأنبياء عليهم السلام؛ للإجماع المنعقد عليه. ومن المؤكد أن هذا الرأي هو إجماع صوفية أهل السنة ورجال التصوف السُّنيِّ قاطبة بغير خلاف؛ فالهجويري، كما سيأتي تفصيله، يتابع القشيري، ويكاد يردد قوله حرفاً ومعنى، حين يرى أن تأييد الأولياء الدائم للنبيّ يستقى ممّا يظهره الله على أيديهم من كرامات وما يجريه لهم من منازل السعداء، تحمل الناس على إجلالهم وتعظيمهم بمقدار ما تحملهم على إجلال وتعظيم صاحب الشرع الذي يتبعونه ويوالونه المحبة متابعةً وتعظيماً لقدره، ومصافاة.

وهذا أبو يزيد البسطامي سُئل عن هذه المسألة فقال :"مَثَلُ ما حَصَلَ للأنبياء عليهم السلام كمثل زِقِّ فيه عسل ترشح منه قطرة، فتلك القطرة مثل ما لجميع الأولياء، وما في الظرف مثل لنبينا صلوات الله عليه ".

ويستدل من إشارة أبي يزيد على ضعف الرأي الذي يقول بمفاضلة الأولياء على الأنبياء، بل وكذبه وفجاجة القول به، وهى مفاضلة ولا شك كما قلنا تُلصق لصقاً في الغالب بالصوفية؛ كونهم لا يتحرّجون من هذه المفاضلة ولا يرون فيها قدحاً في مقام النبوة. وقد ساق المرحوم الدكتور أبو العلا عفيفي في كتابه "التصوف الثورة الروحية في الإسلام"، هذه المسألة مساقاً لا نوافقه عليه؛ إذ ربما يخرجها عن قصدها المعتدل ويلقي بها في زوايا الاهمال العلمي رغم تتبعه طيّب الله ثراه للفكرة في مظانها الرئيسية ولهذا قال : وقد ظهرت المفاضلة بين الإنسان والملائكة في الفكر الإسلامي عموماً وفي الفكر الصوفي بوجه خاص، وكان مبعثها من غير شك ما وَرَدَ في القرآن من قصة آدم ومطالبة الله الملائكة بالسجود له.

والقرآن صريح في أن "الإنسان" الذي أختاره الله خليفة في أرضه وأسجد الملائكة تعظيماً له، أفضلُ من الملائكة بما أودع الله فيه من الصفات وما عليه من الأسماء :

قال تعالى :"وإذْ قالَ ربُّكَ للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة" وهو آدم، وقال :"وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إنْ كنتم صادقين. قالوا : سبحانك لا علم لنا إلَّا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم".

وليست هذه "الأسماء" إلا الصفات التي أودعها الله آدم وذريته. ولم يودعها كلها بل أودع بعضها في الملائكة. ولهذا كانت طبيعة الإنسان أكمل وأتم، ومرتبته في سُلم الوجود أعلى من طبيعة الملائكة؛ لأن فيه نزعات الخير التي يتمثل فيها الجمال الإلهي، بمقدار ما فيه كذلك نزعات الشر التي يتجلى فيها الجلال الإلهي، في حين أن الملائكة ليس فيهم من هذه الأخيرة شيء؛ فهم مجبولون على الطاعة والعبادة لا تجد المعصية إليهم سبيلاً؛ لأنهم لم تتهيأ لهم أسبابها. أمّا الإنسان فبذور الشر والمعصية أصيلة في جبلته، فإذا غالب شهوته وهواه وكبح جماح نفسه ومناه، وانتهى به الأمر إلى الطاعة، كان أفضل من الملائكة. ومن يكسب النصر في ساحات القتال خيرٌ ممن يمنح النصر منحاً. وإذا كان الإنسان من حيث هو إنسان أفضل من الملائكة، كان الأنبياء أفضل منهم من باب أولى؛ لأن الأنبياء خاصَّة البشر. كان هذا هو رأي أهل السُّنة وجميع مشايخ الصوفية.

أمّا المعتزلة؛ فالملائكة عندهم أفضل؛ لأنهم في نظرهم أعلى درجة وألطف طبيعة وأكثر طاعة. ولكن هذه الصفات ليست الصفات التي تقع بها المفاضلة، وإلا لكان إبليس وكانت له هذه الصفات جميعها أفضل خلق الله، مع أن الكل مجمع على لعنته بشهادة الله.

فمسألة المفاضلة بين الأولياء والأنبياء إذن سابقة في الفكر الإسلامي، ولم تكن حديثة عهد بظهور شخصيات صوفية بعينها، ولكنها جرت في الأوساط الفكرية إذْ ذَاَكَ لأفضلية الإنسان الذي أختاره الله خليفة في أرضه وأسجد له ملائكته تعظيماً له وتكريماً على الملائكة المجبولين للعبادة الموقوفين عليها في غير اختيار بين الخير والشر أو بين الهدى والضلال.

ويقول الدكتور أبو العلا عفيفي :" وظهرت مسألة المفاضلة بين الأنبياء والأولياء في التصوف، وكان أول من أثارها متصوفة الإمامية بالكوفة (رياح وكليب) من زهاد الزنادقة ثم ظهرت بعد ذلك من كلام متصوفة الشام كأبي سليمان الداراني المتوفى سنة 215هـ وأحمد ابن الحواري المتوفى سنة 230هـ. وكل هؤلاء يذهبون إلى تفضيل الأولياء على الأنبياء جملة. ولا شك أن هذا القول فيه غلوّ من جانب المرحوم الدكتور عفيفي؛ لأن كلاً من هاتين الشخصيتين اعتمدت من شخصيات الرسالة القشيرية، ولهما أقوال معتدلة، فكيف بتفضيل الأولياء على الأنبياء؟ ويمكن الرجوع إلى أقوال أبي سلمان الداراني، في الصفحات التالية: 368،378،458،481، 61،62,68،73,209،214،241،254،277،280،286،294،30453،343،344.

54٤. وأيضاً : لأقوال أحمد بن أبي الحواري ص 61، 62،68.

ثم يقول الدكتور عفيفي أيضاً : وكذلك يذهب هذا المذهب محمد بن على الحكيم الترمذي الذي يستشهد بالحديث القائل :" إن لله أولياء ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء".

ومع تقديرنا الشديد لجهود أستاذنا المرحوم الدكتور أبو العلا عفيفي؛ فإنّا لا نستطيع موافقته على قوله بأن أبا سليمان الداراني وأحمد ابن أبي الحواري كانا يقولان بتفضيل الأولياء على الأنبياء بوجه من الوجوه، لا لشيء إلا لأنهما كانا من رجال "الرسالة القشيرية"، وفضيلتها الاعتدال والمضيُّ قدماً على خُطىَ الشريعة؛ فلو كانا يقولان بمثل هذا التفضيل لما تركهما القشيري، وهو صوفي سنيُّ معتدل، بغير نقد أو اعتراض، ولكنه نقل عنهما أقوالهما وعزَّز رسالته في باب الولاية وغيرها من أبواب بما يقولان. أمّا الحكيم الترمذي فلم يعرف عنه مطلقاً أنه كان يرى تفضيل الولاية على النبوة ولا الأولياء على الأنبياء، ولم يكشف كتابه "ختم الأولياء" عن هذه النزعة فيه إلا أن يكون التفضيل للولاية من حيث هى مقام في النبوة، لا مطلق التفضيل كما هو الحال عند ابن عربي .

وإنّا لنأخذ على أستاذنا المرحوم عفيفي كذلك، متابعته في غير فحص ولا تحقيق لهذه الجزئية، للتوجهات السلفية فيما يتصل برياح وكليب؛ فإنَّ أول من أطلق هذا اللقب الجائر على الصوفية الأوائل : "زهاد الزنادقة" أو "الزنادقة الزهاد"، هو عبد الرحمن الملطي (ت 377هـ) في كتابه "التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع" وهو أقدم مؤرخ للعقائد، حشوي غارق في الحشوية. كان أولُّ من أطلق الزندقة على تلك التوجهات الروحية في الإسلام، وتابعه في هذا الاتجاه السلفي المناقض للصوفية ابن الجوزي البغدادي (ت 597هـ) ثم الفقيه الحنبلي المتشدّد ابن تيمية (ت 728هـ).

ولم يكن "الملطي" صاحب "التنبيه" مؤرخاً دقيقاً للحياة الفكرية والروحيّة في الإسلام، وكتابه خليط مشوَّه من الحقائق والأكاذيب والتخريجات الصحيحة والفاسدة. أمّا أبو المهاجر رياح بن عمرو القيسي (ت177هـ) فهو بصري زاهد، تلميذ الحسن البصري، متأله، كبير القدر كما وصفه الذهبي، كان يعيش في حزن دائم وهمِّ مقيم، وكان من الخائفين، ومن البكائيين. ومن لمحاته الصوفية : أنه كان دائماً ما يفتش عن "نور الحكمة"، فكان يقول :"كما لا تنظر الأبصار إلى شعاع الشمس، كذلك لا تنظر قلوب محبي الدنيا إلى نور الحكمة أبداً".

وإنما يقصد بنور الحكمة :"تنقية القلب من حبِّ الدنيا، حتى يمتلأ بذكر الله". ويفسّرها قوله :" عجبت للخليقة كيف أنست بسواك، بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك"؛ فنور الحكمة المقصود هنا : امتلاء القلب بذكر الله بحيث لا يأنس بغير الله.

ولكن "الملطي" يذكر (رياحاً وكليباً) في صنف من الروحانية أو الفكرية المنتمين إلى الزندقة. يؤمنون "بالخلة" وهى نوع من المحبة مستمدة من قصة إبراهيم "خليل الله". ويرى "الملطي" أن هذه الخلة انتهت بهم إلى نوع من الإباحية، فإذا تمت الخلة، ارتفعت التكاليف وأُحِل للخليل ما في مُلك خليله، وهو تخريج هزيل مقلوب، يدل على عقلية ضعيفة متحجرة لا تنجم عن أفق واسع ولا تأويل قريب .

ولم يقف وصف "الملطي" عند هذا الحد، على (رياح وكليب) بل طال رابعة العدوية (185هـ) فجعلها ممّن أباحت نفسها لجليسها كما كانت تقول، وفسّر الإباحة تفسيراً مادياً خبيثاً. غير أن هذه النظرة التي تبناها "الملطي" ودافع عنها هى ولا شك نظرة متطرفة شديدة الإيغال في التخريج المتعسف بل وفي الأكاذيب الشنيعة، وليس لها أساس من الصحة، ولا صحة لها عندي من أساس مقبول؛ فلم يعرف عن رياح ولا عن كليب ولا حتى عن رابعة تلك الإباحية التي ينسبها "الملطي" إلى هؤلاء الزهاد الأوُّل. ولم يكن رياح ولا كليب ممّن يدعوان إلى نبذ التكاليف، فكيف يدعوان إلى تفضيل الولاية على النبوة أو الأولياء على الأنبياء؟

وإنما كان الأول، وهو تلميذ الحسن البصري، غارقاً في الأحزان والآلام والدموع. وكان الثاني (كليب) وهو - كلاب بن جري - على نفس المنهج لا يخالفه ولا يخرج عنه : قد اختلط عنده، كما وصفه أبو نعيم صاحب "حلية الأولياء"، "شدّة الخوف وطرب الشوق". ولم يقدح حزنه وآلامه في سمو روحه وصحة تعاليمه. وكان كما يظهر في مواقفه مع أصحابه من الخائفين : يبكون خوفاً من النيران، شديد الخوف بكّاءً، يطرب شوقاً لمحبة الله ولقائه (را : أبو نعيم : حلية الأولياء : جـ 6، ص 193. وأيضاً د. على سامي النشار : نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ؛ جـ 3 ؛ ص 257 وما بعدها).

كان لابد من تلك "الوقفة النقدية" إزاء ما جاء منها متعلقاً بسهوات الدكتور أبي العلا عفيفي رحمه الله؛ فلئن كنا غيورين على تراث الصوفية ندفع عنهم الظلم الظاهر وسوء التخريج، فلا شك أننا أغير الغيورين على تراث أستاذنا الجليل المرحوم الدكتور أبي العلا عفيفي، طيَّب الله ثراه، من أن تصيبه سهوات هو أعلى منزلة منها وأرفع قدراً في تقديرنا، فما زلنا في هذا الصدد نتابع تخريجاته لمسألة المفاضلة بين الأولياء والأنبياء هذه؛ لنراه يمضي في حديثه العذب سواء في التصوف عموماً أو في موقف ابن عربي من الولاية.

وبما أن أهل السنة يجمعون على تفضيل الأنبياء على الأولياء، ويرون أن الولاية امتدادٌ للنبوة وتأييد دائم لها؛ فلأن النبوة انقطعت بموت النبيّ، والولاية لا تنقطع. فالأولياء هم خلفاء النبيّ وورثته الروحيون الذين يحملون الشعلة المقدَّسة من بعده. وفي هذا يقول الهجويري :" وقد أراد الله أن يظل برهان النبوة قائماً إلى يومنا هذا؛ فجعل الأولياء وسيلة لإظهار هذا البرهان لكي يستقر الحق به، وتظل حقيقة نبوة النبيِّ ظاهرة". أما تأييدهم الدائم للنبي، ففيما يظهره الله على أيديهم من الكرامات التي تمكن لهم في نفوس الخلق وتحمل الناس على إجلالهم وتعظيمهم، وبالتالي على إجلال وتعظيم صاحب الشرع الذي يتبعونه؛ فالناس بعد النبي ليسوا بحاجة إلى نبي جديد، ولا إلى معجزة جديدة، تظهر على يد نبيّ، ولكنهم بحاجة إلى أولياء كاملي الإيمان مؤيدين بتأييد الله يُذكّرون الناس برسالة النبيّ إذا نسوها أو قصروا في إتباعها.

وليس من شك أن رأي الهجويري هذا هو نفس رأي القشيري الذي سبق وأوردناه في صحة متابعة الشارع وتعظيمه خلال ما يجريه الله على أيدي تابعيه من كرامات لاحقة بمعجزات النبي صلوات الله وسلامه عليه.

وكذلك، أجمع جمهور الصوفية من أهل السنة على تفضيل الأنبياء على الأولياء، وعلى أن الولاية بداية النبوة، وعارضهم في ذلك مجسمة خرسان الذين ادّعوا أن الأولياء يصلون إلى حالة يفنون فيها عن أنفسهم ويبقون بالله، ويسمون هذه الحال بالولاية، وهى ليست حالاً للأنبياء. وكذلك المشبَّهة الذين زعموا أن في الولاية اتصافاً بأوصاف الألوهية عن طريق الحلول وما شاكله، وفي هؤلاء وأولئك يشير الهجويري - كما يرى أستاذنا الدكتور عفيفي - إلى تفضيل الأنبياء على الأولياء، ويقول :" وهذا هو رأي أهل السنة من الصوفية، ولكن يعارضه الحشوية من أهل خرسان الذين يتكلمون كلاماً مناقضاً في التوحيد، والذين لا يعلمون مبادئ الصوفية، ويدعون أنهم من أوليائهم. نعم! هم أولياء، ولكنهم أولياء الشيطان. يقولون إن الأولياء أفضلُ من الأنبياء، ويكفي في إبطال مذهبهم أن يقولوا : إن جاهلاً من الجاهلين أفضل من محمد المحتار. ويرى هذا الرأي أيضاً المشبَّهة الذين يدَّعُون أنهم صوفية ويقولون بالحلول ونزول الله إلى جسم العبد (را : الهجويري : كشف المحجوب ؛ ص 235؛ وأيضاً : أبو العلاء عفيفي : التصوف .. الثورة الروحية؛ ص 306، 307)

ويحاول الهجويري أن يثبت أفضلية الأنبياء على الأولياء بدليلين : أحدهما عقلي والآخر صوفي. أما العقلي فهو أن الأولياء أتباعُ للأنبياء، والأتباع أدنى منزلة من المتبوع، فلا يمكن أن يكون أفضل منه. وأما الدليل الصوفي فهو أن الأولياء على سفر إلى الله. أما الأنبياء فواصلون إلى الله منذ البداية. وصلوا إليه ثم عادوا برسالاتهم لدعوة الناس وتعليمهم. والواصل إلى نهاية الطريق أفضل من السالك الذي لا يزال يسير فيه حتى نهايته. ألا ترى أن "المشاهدة" أول درجات الأنبياء وهى آخر درجات الأولياء : فإنه إذا وصَلَ الولي إلى مقام الجمع استغرق في محبة الله واشتغل قلبه بمشاهدة فعل الله بحيث لا يرى في الوجود غيره. يقول أبو على الروذباري :"لو سقط عن الأولياء مشاهدة معبودهم لسقط عنهم وصف العبودية". ولكن هذه حال الأنبياء على الدوام سواء أكانوا في البدء أم في النهاية.

فإبراهيم عليه السلام في بداية حاله لما رأى القمر بازعاً قال هذا ربي ثم لما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي، هذا أكبر (الأنعام : 78)، لأن الحقيقة كانت غالبة على قلبه فلم ير شيئاً آخر سوى الله، أو لم ير شيئاً آخر بعين الغيرية، بل رأى ما رأى بعين الجمع. وهكذا يجعل الهجويري من الأنبياء صوفية من طراز غير طراز أولياء الصوفية. يجعل منهم صوفية واصلين إلى الله منذ بداية أمرهم، مشاهدين له في كل شيء بمحض طبيعتهم. أما أولياء الصوفية؛ فهم سالكون لا يزالون يشقون طريقهم إلى الله ويطلبون مشاهدته والوصول إليه. وليس السالك في الطريق كمن وصل إلى نهايته.

وهكذا يجعل الدكتور عفيفي من الهجويري لسان حال أهل السنة المعبر عنهم في هذا الموضوع ويتخذه شاهداً على صحة ما يقولون. ومن هنا، كان الأنبياء أفضل من الأولياء. وهذه الأفضلية أفضلية مطلقة لا يمكن أن تكون غير ذلك بوجه من الوجوه. ولا يمكن أن ينسب أحد إلى الصوفية قولهم بتفصيل الولاية على النبوة إلا أن يكون مدعياً عليهم ملفقاً لأقوالهم، وعليه من بعدُ وز الادعاء والتلفيق. أما المعتزلة فينكرون فكرة المفاضلة من أساسها، ويقولون لا مؤمن أفضل من مؤمن، والإيمان هو الأساس الجامع بين المؤمنين بل هم ينكرون الولاية نفسها ويقولون إنِّ المؤمنين أولياء الله لو كانوا مؤمنين حقاً، ولو كانت الولاية تقتضي الكرامة لأعطيت الكرامة لكل مؤمن؛ لأن الإيمان هو الأصل، والكرامة فرع عنه. والمشاركة في الأصل تقتضي المشاركة في الفرع.

 

د. مجدي ابراهيم

 

في المثقف اليوم