دراسات وبحوث

الإسراء والمعراج.. مقاربات رُوحيّة

مجدي ابراهيملا ينفصل الحديث عن المعراج بمعناه الصوفي، عن الحديث عن الإسراء بمعناه الديني، كلاهما (الإسراء والمعراج) يصدر عن مشكاة من النور واحدة، وكلاهما يحيل الغيب من طريق الذوق إلى شهود، وكلاهما يرتفع فوق مرتبة الحسّ المشاهد والعقل المحدود؛ ليخاطب في الإنسان ملكات أعلى من العقل وأدنى إلى البصيرة وأقرب إلى الإيمان، وكلاهما تعبير مباشر عن الصدق والتصديق. فأمّا الصدق ففي آيات الإعجاز. وأمّا التصديق؛ ففي سلامة الإيمان من الدَّغَل والتعطيل.

وإنّا لنلفتُ النظر هنا إلى أننا نقارب حديث الإسراء والمعراج مُقَاربات روحيّة من حيث علاقتها المباشرة بمسألة الإعجاز بالمفهوم الديني، ومسألة الإعجاز في القيمة الروحيّة، واستخلاص الدلالة الباقية من تلك المقاربات في كل حديث على حدة، سواء كان في الإسراء أو كان في المعراج.

توكدت رحلة المصطفي  صلوات الله وسلامه عليه، توكيداً يقينياً من لدُن تنزيل حكيم. كما أكد القرآن الكريم كثيراً من المواقف التي حدثت لرسول الله توكيداً يرفعها فوق رتبة الشك والحيرة وإثارة الريبة في نفوس الناس. في سورة الإسراء يقول الحق تبارك وتعالى :" سُبْحَانَ الَّذي أَسْرَىَ بعَبْدِه لَيْلَاً مِن المسجدِ الحَرَامِ إلىَ المَسْجِدِ الأَقْصَىَ الَّذي بَارْكَنَا حَوْلَهُ لنُرِيَهُ من آيَاتِنَا، إنّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ" (الإسراء(1)).

فلا عجب أن تتصَدَّر سورة الإسراء بهذا الاستفتاح الإلهي العظيم الذي يقدّم مفعول القدرة الإلهيّة على كل ما يحدث من عجائب الكون الهائل الفسيح؛ ليعمل عمله الفاعل كرامة للإنسان وتشريفاً له أيّما تشريف، وكفى بشرف العبودية شرفاً ما بعده شرف؛ فإذا تقدّم الوجود الإلهي، ولا بد أن يتقدّم، وَجَبَ هنالك الخضوع والإذعان والتصديق : علامات العبودية لله. وإذا وجدت هذه الثلاث صفات في قلب عبد كريم النفس جواد بمعدن الإيمان، كان أمره أن يرى ما لا يراه غيره من الناس، ولو كانت هذه الرؤية من قبيل الخوارق التي تصدم العقل من أول وهلة.

ولأجل هذا؛ انتقل خبر الإسراء إلى أبي بكر الصديق. وهو - من بعدُ - لم يلتق بمحمد ،صلوات ربي وسلامه عليه، فقال قولته المشهورة إذْ ذَاكَ :" إنْ كانَ قالَ فقد صَدَق ". وقد صدق كريم النفس الذي يجود بكل ما عنده من معدن الإيمان. ولم يكن تصديقه إذْ ذَاَكَ إلَّا الصدق الذي يلزم لكمال الإنسانية من طريق الإيمان، وإلّا الصداقة التي تشتق من الصدق؛ لتجيء زخراً للصادقين؛ فإن صحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الندامة. وخيرُ الأصحاب عند الله تعالى كما قال عليه السلام خيرهم لصاحبه". وقال :"لا تصاحب إلّا مؤمناً" .. "ولا خَيَر في صحبة من لا يرى لك الخير كنفسِه".

وليس من عجب أن تكون الصداقة طريقاً للكمال ونموذجاً يحتذى للحياة الإنسانية، يلزم لها كما يلزم للإنسانية أن يجيء من أصدق صفاتها ترقية الأخلاق وتهذيب الحواشي والطباع والنفاذ إلى البواطن قبل الظواهر. لا ريب كان الصدق في الإنسان أهم مزيّة تثلج الصدر وتورث التوازن بين مطالب النفس وحاجات الضمير.

الإنسان الصادق إنسانُ كاملٌ ما في ذلك شك؛ لأنه نموذج أعلى صالح للإنسان كما ينبغي أن تكون عليه خصال الإنسان. ألَا ما أروع الصدق في ذاته، وما أروع ورع الصادقين. وقد قال صلوات الله وسلامه عليه  :"ما يزال الرجل يصدق ويتحَرَىَ الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً". " عليكم بالصدق؛ فإنّ الصدق يهدي إلى البر، والبرُّ يهدى إلى الجنة".

علام لا يكون الصدق فضيلة الفضائل، وعلام لا تكون الأخلاق التي يكشف عنها هى في أعمق أعماقها دلالة أكيدة على فضيلة الصدق إذا توخّاه أهله وأربابه وعارفوه؟

إنَّ الصدق طمأنينة والكذب ريبة كما قال سيد الخلق، صلوات الله وسلامه عليه، وهو المنجاة. أمَّا الكذب فتلف ومهواة. علامَ لا يكون الصدق فضيلة، وقد وصف الله نفسه بمحبة الصادقين؟ وهل بعد وصف الله في كتابه العزيز وصفاً تناط به قيمة الصدق بعيداً عن تحليلات المُحَللين وتعليلات المعللين إلّا أن يكون هو الوصف الذي يجئ لنا على السماحة والمودة والصفاء؟

حقاً .. إنْ كانَ قالَ فقد صَدَق. كلمة رائعة من رجل رائع، نفذَ الصدق إلى أعمق أعماق طواياه؛ ليؤكد هذه الحقيقة الساطعة : أن الله يحب الصادقين فيجرى على قلوبهم وألسنتهم كلماته الخالدة. يحبُّ الله الصادقين ما في ذلك شك، ولا عليه خلاف، لكن هذا الحبّ لا يتأتى مطلقاً إلّا بتطهير الأفئدة من الأخلاق المذمومة؛ فإنّ فضيلة الصدق وتوابعه من الصداقة والمودة والمحبّة والإخاء وحسن الأحدوثة إنما هو نظافة، لتجيء الصداقة : نظافة الباطن من لوثة المهلكات.

ومن أجل هذا؛ كانت كل توابع الصدق في ذاته وصفاته طريقاً في سبيل الكمال، وأن الكُمَّل وحدهم لهم الصادقين على الحقيقة. فإذا لم يكن ها هنا تطهيرٌ ما كانت هنالك صداقة، ولا كان هنالك صدق. ومتى كان الإنسان في نفسه صادقاً، كان قائماً على أخلاق الصادقين على الدوام بلا انقطاع، أولئك الذين زرعوا الصدق والرصانة وحصدوا الثقة والأمانة. ولزم - من ثمَّ - أن يفرض هذا الصدق فرضاً ممتعاً مبهراً على واقع الناس من حوله وعلى الآخرين .. كيف هذا؟

لأنك لا تكون أبداً على فضيلة الإخلاص الصادق في التعامل والمعايشة، ولا تخاطب فيك هذه الفضيلة عنصر الفضل في الإنسانية كلها؛ إذا هى تعلقت بقيم الوجود الروحي والأخلاقي لكل إنسان يَرْقىَ مع هذا النزوع ويسمو مع تلك المطالب ويجوز عليه كل ما هو جائز على إنسان صعدت فيه هذه الفضيلة السامقة الرفيعة ولم تهبط هبوط الحيوانية البغيضة إلى الدرك الأسفل من التخلف والانحطاط. وبما أن الصدق عمود الدين، وركن الأدب، وأصل المرُوُءة، فقد صارت من ها هنا مسألة "القدوة"، وهى خيرُ نموذج صالح، ضرورية لاقتران الفكرة بالمسالك العملية وبالممارسة النافعة في حياة الناس.

القدوة التي رآها أبو بكر في رسول الله صلوات الله عليه، فَصَدّقه في خبر السماء (إنْ كانَ قَالَ فقد صدَق).

لا جَرَمَ كان هذا المضمون الطيَّب أصلاً أصيلاً تتفرَّع عنه الصداقة؛ لتكون طريقاً إلى الكمال، وينطبق عليها ما ينطبق عل فضائل العلاقة الطيبة بين أفاضل الناس. يضيع المجتمع في سفاهة الخُلق الوضيع إذا لم تكن الصداقة بين أفراده مؤسسة على طيبة هذا المضمون، وطيدة تقوم على التلطف والإحسان والثقة المتبادلة، وعلى مراعاة حق الله فيما أمرَ وفيما نَهى، وفيما ألقى على الإنسان تبعة التكليف، يعيش معها مسئولاً  بالتبعية على أخلص ما في ضميره من مزايا وخصال ومن معاملة وتقرير.

ويحسبُ الذين ينظرون إلى مثل هذه الأمور نظرة سطحية أن علاقة الصديق أبي بكر رضوان الله عليه بسيد الخلق صلوات الله عليه تحتّم عليه أن يصدّق قول رسول  الله فيما حَدَّثَ به من أمر الإسراء والمعراج لا لشيء إلا لأنه سيده وقائده ومعلمه ورسوله الذي لا ينطلق عن هوى وكفى. وكفى بهذا تصديقاً في صدق الصديق الذي أطلقت اللفظة اسماً عليه ورسماً؛ لتصديقه خبر الإسراء في حين كذّبه كثيرون. وإذْ لم نُرِدْ نحن أن نقف عند هذه النظرة التاريخية بما فيها من سطحية الإعجاز، يُلزِمنا ذلك أن نريد عمق النظرة في هذا كله، فننظر إلى الإعجاز العميق في جذوره الإيمانية. فلو لم يكن أبو بكر الصديق قد قال ما قاله يوم أسْرىَ برسول الله صلوات الله عليه  فماذا عَسَاهَا إذْ ذَاكَ كانت تكون الرسالة؟ وماذا عساه يكون أمر النبي يومئذٍ، وجليس المرء مثله؟

لكن شَاءَ الله، سبحانه، أن يقيّض لهذا الدين رجاله وأن يدفع بهم الكذب والريبة وعدم التصديق بسيف صارم بتَّار من قوة البصيرة وقوة الإيمان؛ تمثل للوهلة الأولى في أبي بكر الصديق حين نقلت إليه الأخبار أن محمداً أسرى به في ليلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عُرجَ به إلى السموات العُلا عند سدرة المنتهى، ورجع إلى منزلة في نفس الليلة ليحَدِّث الناس بما رأى وبما سمع.

خَارقةٌ أذهلت العقول وأعجزت القلوب ونالت يومها من هشاشة الإيمان عند كثيرين؛ لكأنما هى شكاية تتلون بألوان التكذيب. فما كان منه، رضوان الله عليه، إلّا أن دَفَعَ في وجه كل افتراء تصديقاً لخبر الرسول  :" إنْ كانَ قالَ فقد صدق ".

فهذه مقولة لا يقولها على البديهة إلا مؤمن يتقدَّم عنده الإيمان بالله على سواه، ويصاحبه في نفس هذا التقدُّم الإيمان بصاحب الرسالة.

فلئن كانت النظرة التاريخية تقصر الإعجاز في تلك المقولة على علاقة النبي عليه السلام بأبي بكر الصديق، فإن عمق الإعجاز فيها كلمة أطلقها أبو بكر الصديق، لا يقتصر على العلاقة الحميمة بينه وبين النبي، ولكن أيضاً بالإضافة إلى ذلك، يُشْرِقُ من معدن الإيمان وهو بلا شك معدن أصيل في الطبائع النقية والسلائق المؤمنة، حَدّده وأورد ذكره ذلك الاستفتاح الإلهي العظيم في قوله تعالى " سبحان الذي ... ".

فعلى هذه الكلمة المباركة التي تقدِّم القدرة الإلهية على كل شيء، وترسل الخضوع والإذعان والتصديق أشعة نورانية وضّاءة إلى قلوب المؤمنين بالله، وبما عند الله، إيماناً صادقاً ومخلصاً. أقول؛ على هذه الكلمة الإلهية في التسبيح الوارد ذكره، كان إيمان أبو بكر رضوان الله عليه، حتى ليرى من أمر النبي ما لا يمكن أن يراه سواه ممّن لم يتمكن الإيمان من قلوبهم تمكنه بهذه الصلة القويمة المحكمة.

نعم! ذلك الإيمان الذي يتركّز في هذه اللفظة (لفظة التسبيح) تركيزاً شديداً قد لا يتيسر لنا فتح معناه الذي انكمش في باطن الكلمة " سبحان الذي ... "، ومن هنا؛ فلا نستغرب مطلع الآية القرآنية بحكمة الاستفتاح بالتسبيح؛ لتجيء اللفظة ليست مجرد لفظة عارضة بل قدرة إلهية محمَّلة بالإعجاز الذي تحار فيه العقول المحدودة بمقدار ما تحار في تعليل أسبابه وخوافيه. ولم يكن هذا الإيمان عند خليفة رسول الله ببعيد عن صاحب الرسالة؛ فهو صلوات الله عليه الذي علمه كيف يكون الإيمان. ولو سُئل سيد الخلق : مَنْ من أصحابك أسرع إلى تصديقك في أمر هذا الإعجاز؟ لكانت الإجابة بلا شك أنه أبو بكر.

وسبب هذا؛ أنه يعلم تماماً إيمانه الصادق الصدوق الذي لا يمكن أن يكذب فيه خبراً جرى به لسان النبي عن ربه؛ فهو من معدن الإيمان ينطلق وإلى معدن الإيمان يعود. وأي قياس في طبيعة الإيمان تقاسُ به معجزة الإسراء والمعراج بالنسبة إلى خبر السماء أقنع وأفعل وأصدق من هذا القياس؟

فإذا كان أبو بكر يصدِّق رسول الله  في خبر السماء، فكيف لا يصدقه في خبر الإسراء من مكة إلى القدس، والمعراج من القدس إلى السموات العُلا؟ أليست الدعوة المحمدية كلها، في قضّها وقضيضها، خبراً عن السماء من وحي معصوم عن الكذب والافتئات، ممدود الرعاية الإلهية فيما تقصد إليه الرعاية من تصديق بكل ما جاء فيها، وبشتى ما يجري على مقتضاها من نصرة صاحب الرسالة في أول وآخر مطاف؟

ولنا أن نلاحظ : إلى أي مدى تنتقص القدرة الإلهية في طبيعة إيمان المؤمن بهذه القدرة، فيُواجه بالتكذيب والتشكيك مثل هاته الأمور التي تبدو من الغرائب الأعاجيب بالنسبة للمحجوبين عن أقدار الله وعن موالاة رسوله؟

وليس في مستطاع الخيال أن يتخيّل : إنْ خطرت إذْ ذَاَكَ في قلب الصديق خاطرة شك أو داهمت عقله هاجسة ريب في أمر العلاقة ذات الصلة الوثقى بين ربِّ العزة ورسوله محمد ،ماذا سيكون عليه الحال؟

لم يعد إذْ ذَاَكَ من المتقدّمين ولا من المتأخرين في صدق الإيمان. ولكنه، رضوان الله عليه، صَدَّق؛ لأن الصدق شيمته وثمرة مروءته وزكاة خلقته وربيع قلبه وشعاع ضميره، وهو أقرب الموارد لحرية الاعتقاد تماماً كما هو أقرب الموارد إلى طبيعة الإيمان الصادق منه إلى التشكيك والتكذيب؛ فمن حيث كونه أقرب الموارد لحرية الاعتقاد؛ فلأن أمر العقيدة كلها موكول عليه، وهو غيب في غيب.

ومادام الإنسان أختار بكامل حريته الاعتقاد في الله ورسوله؛ فقد أختار تباعاً كل ما يَلْزَم عن العقيدة من عمل وما يتعلق منها بسلوك. وأولُ هذه المتعلقات اللازمة هو تلك العملية الفكرية التي تنقل الاعتقاد الباطن إلى حيث ميادين السلوك والعمل. وإني لأعنى بالعلمية الفكرية هو ذلك الضرب النادر من الصدق والتسليم : الصدق فيما يواجهك به الاعتقاد من فروض بيد أنها في ذاتها حقائق من شأنها أن تغزو نفسك فتثير فيها الشكوك؛ فتظل تبني على هذه الفروض إرهاصات من خطرات الفكر ووساوس النفس قد تخرجك، إذا لم تكن قوى الإيمان، عن حظيرة الاعتقاد. وإذا كان الصدقُ ربيعَ القلبِ وزكاةَ الخِلْقَةِ وثمرةَ المروءةِ وشعاعَ الضمير، فإن مرَدُّهُ إلى الفعل النافع والعمل القويم المشروط بشرائط الاعتقاد، والصادق مَن يصدُق في أفعاله صدقه في أقواله.

وإني لأجد علاقة ظاهرة رابطة بين الصدق والحرية لا يخطئها نظر الفاحص المتعمق في أغوار الإيمان؛ فالمؤمن الذي يصدّق هو من الحرية بمكان بحيث يجيء الصدق ديدنه المعهود كما تكون الحرية غايته الشريفة الأبيّة. والصادق حرٌّ كريم لا يرضى الضيم ولا الهوان، لا على مستوى العقيدة التي يدين لها بالولاء ولا مستوى العمل بها أو التطبيق.

أمّا من حيث كون الصدق هو أقرب الموارد إلى الإيمان منه إلى التشكيك والتكذيب؛ فمَرَدَّهُ إلى التسليم بأمر العقيدة من حيث كونه اختباراً لقوة إيمان المؤمن بالاعتقاد؛ وتمحيصاً لمساربه في قلبه وضميره، فإذا لم تكن قوى الاعتقاد فلن تكون بحال قوى التسليم.

وقرانة الصدق والتسليم بالاعتقاد هى قرانة ضرورية بحكم البديهة الإيمانية، تدور معه حضوراً وغياباً حتى إذا ما حضر الاعتقاد في القلب حضر معه الصدق، وحضر معه كذلك التسليم، وإذا غاب الاعتقاد وارتفع عن القلب؛ فغياب الصدق وارتفاع التسليم شيءٌ ضروري أيضاً يتحتم معه حلول الشكوك والأكاذيب. فالعلاقة المنطقية بين هذه المعاني ظاهرة لا تخفى على أحد، ولا يمكن لأحد أن يتغافل عنها؛ لكونها أظهر من أن تتعدى حدود المنطق أو تتخطى فواصل المعقول.

وهكذا؛ فقد صدَق الصديق رضوان الله عليه؛ لأن اعتقاده حرٌ كريم، أملى عليه في التوِّ واللحظة أن يكون صادقاً ولم يدعه عرضة لنوازع الفكر غير المضبوط بضوابط الإيمان تأخذه بعيداً عن محراب التصديق. وما كان يمكن أن يكون كذلك لولا أن حضور القلب الذي يُغَذيّه الإيمان بالله على الدوام كان بمثابة الرؤية الهادية إلى التصديق، وهى رؤية كاشفة تتوزع فيها الأنصبة العادلة في كل جوانب الشخصية التصديقية؛ فجانب منها من نصيب الفكرة الإلهية، وجانب فيها من نصيب الذوق والشعور بوافر المعيّة، وجانب ثالث من نصيب تقدير مشكاة النبوّة الذي يترفع ويسمو متى ارتفعت في الإنسان قواه الباطنة. ومن وراء ذلك كله، تكمن الرؤية الكاشفة يتحرَّك من خلالها ذلك الوجود الروحي الحيوي الفعّال. وهو كما قلنا أقرب الموارد إلى طبيعة الإيمان الصادق منه إلى التشكيك والتكذيب بل لا مجال هنالك لأمور التشكيك والتكذيب في مثل هذا الوجود.

على أن الحضور القلبي الذي أسلفنا ذكره لهو هو حضور تجميع لما تفرَّق من أحوال القدرة الإلهية الخافية عن قلوب الغافلين المحجوبين. ففرقٌ؛ وفرقٌ كبير بين حضور الإيمان وحضور الغفلة والتعطيل : الأخير الذي هو حضور الغفلة والتعطيل حجابٌ يصحبه ترديد أجوف منبوذ لشرائط الاعتقاد بالنظر تارة وبالكلام والتشدِّق تارة أخرى، هو مجرد أعجاب باللفظ؛ لكأنما هو قشرة برَّانيَّة هَشَّة فرضت نفسها فاستحضرت أناس لم يبلغ الحضور منهم درجة واحدة تتقوَّم بها عندهم مقومات الإيمان؛ فلئن كان حضوراً محجوباً يصحبه ترديد لفظي لشرائط الإيمان؛ فلأنه حضور لا يفارقه التردد القلبي وتقارنه الشكوك كما تداخله الأوهام. وأمثال هؤلاء هم الذين سمعوا حديث الإسراء والمعراج، فهبوا فزعين لينالوا من صدق النبي عليه السلام، وهم الذين كانوا من قبل يرونَ فيه مثلاً عالياً من الصدق والأمانة؛ فما بالهم اليوم يرتدُّون فيكذبون؟

هل خالط الإيمان قلوبهم أم كان مجرد قشرة خارجية هَشَّة حضورها على الغفلة واعتقادها خذلان؟!

غير أن فَزْعتهم هذه، قد أوجبت عليهم النكاية من جانب أبي بكر الصديق وهو الأمين الصادق الذي أطلق على أسماعهم، بعد أن هبوا إليه فزعين يشكونه هذا المورد الغريب أورده عليهم محمد رسول الله.

يومها أطلق عليهم طلقة صارخة مدويّة بما لم يعتادوا أن يسمعوه أو يفعلوه، وهو "الصدق" الذي جرَّدُوه من الفاعلية، بحضور الغفلة والحجاب، عن الاعتقاد. ولئن كان حضورهم حضور غفلة وتعطيل؛ فحضور الصديق، رضوان الله عليه، حضور إيمان مقرون بحيوية الاعتقاد.

كان حضوراً يَلفَّهُ الصدق الصادق الصدوق، ويطويه الإيمان المنزَّه عن لوثة الشرك والشكوك؛ إذْ كان صدقاً مقروناً بالاعتقاد عند أبي بكر في مقولته الشهيرة :"إنْ كانَ قَالَ فقد صَدَق"؛ فذلك هو حضور الإيمان الذي يخالط قلوب الصادقين.

فإذا كنتَ رأيتَ في الجماعة التي كذَّبَت حديث الإسراء والمعراج حضوراً غافلاً ذليلاً، فها هنا في تصديق الصديق ترى حضور الإيمان والعز واليقين علامة واضحة دفعت أبو بكر أن يقول ما قاله في شأن الرحلة المباركة الكريمة، وليس من عجب؛ فالصدق عز والباطل ذُل.

لقد صَدَّقَ رسول الله صلوات الله وسلامه عليه  في أبعد من هذا، صَدَّقه في خبر السماء وائتمنه على حقائق الغيب المحجوب : أيكون بعد هذا كله، من الذين يكذبونه كما كذّبه من قومه كل معارض له شائن لدعوته؟ هذا والله مما لا يكون أبداً، ومما لا يصح في حق حضور الإيمان وكرامته وعزته في قلوب المؤمنين الكرماء الأعزاء.

*    *     *

ولا جَرَمَ أن حضور الإيمان، كما قلنا، مقرونٌ في جلالته بالآية الكريمة :" سُبْحَانَ الَّذي أَسْرَىَ بعَبْدِه لَيْلَاً مِن المسجدِ الحَرَامِ إلىَ المَسْجِدِ الأَقْصَىَ الَّذي بَارْكَنَا حَوْلَهُ لنُرِيَهُ من آيَاتِنَا، إنّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ". إنّه سميع بدعوة سيد الخلق محمد  حينما شكا إلى ربه ما هو فيه، بعد أن بلغ به الأسى مبلغه، مع أن طريقة الشكاية لم تكن من طبعه، وأن تحمّله ما لاقاه من أذى كان مثالاً نادراً للصبر الجميل، وللأمل الذي يملأ قلبه في نصر الله، دون أن يكون هنالك ما يفت في عضده، فيصيب منه اليأس من رحمه الله. واليوم اختلفت الأحوال؛ فإلى الجناب الإلهي يبث المصطفى شكواه، لكأنما اهتز لها عرش الرحمن :" اللهمَّ أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين : أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربِّي. إلى من تَكِلُني، إلى بعيدٍ يتجهَّمَني أم إلى عدو ملكته أمري. إنْ لم يكن بكَ غضب عليَّ فلا أبالي. ولكن عافيتك أوْسَعَ لي. أعوذُ بنور وجهك الذي أشْرَقَتْ له الظلمات وصَلَحَ عليه أمر الدنيا والآخرة مِنْ أنْ تَنْزِلَ بي غضبك، أو تَحِلَّ عليَّ سَخَطَكَ. لك العُتْبَى حتىَ تَرضَىَ. ولا حَوْلَ ولا قوة إلا بك ".

بهذه الدعوات التي ذَرَفَها الوجد النبويّ فرَقّتْ لها قلوب الجلاميد، فانسكبت في الشعور لتعطي خيرَ ما لدى العبد الطيب الصالح في طلب المعونة من الله واللجوء إليه في السّراء والضراء. هذه الدعوة التي نطقت بها الشفاه الشريفة وتوجَّه بها إمام المستضعفين، وهو الأعز الأمجد، أمام ربّ العالمين، وهو سبحانه العليُّ السميع الأكرم، تتضمن شكواه كما يلاحظ ثلاثة عناصر : ضعف القوة، وقلة الحيلة، والهوان على الناس :

صفات لو تأملها المرء لوجدتها صفات الطيبين من الناس في هذه البشرية، الكثرة الكاثرة ممَّن أقفرت ديناهم من دعائم الوجاهة : من قوة المال والجاه والمنصب والسلطان والنفوذ، وعاشوا في أوطانهم ضعفاء القوة، قليلي الحيلة، هينين على الناس.

يَتَوَجَّهُ بها إمامهم الأعظم، خير خلق الله، دعوة خالصة إلى خالق الناس ربّ البشر ربّ العالمين؛ لا لينال منزلة أو ليحصِّل جاهاً أو ليغنم سلطاناً ونفوذاً .. كلا بل لا يبالي ، إنْ لم يكن لله عليه غضب أو يحلّ به سخط، لا يبالي خوفاً من الدنيا إذا كان رضوان الله فيها هو خير الزاد. ولله العتبى منه حتى يرضى عنه، وأي عتبى وأي رضى؟ إنّه الحبيب الأعظم إمام الطيبين، وقدوة المستضعفين، وسيد الذاكرين لله ممَّن لا يرون في الوجود سواه، ثم ليقول للضعفاء من بعده : أنا إمامكم، أتوجّه إلى ربِّ المستضعفين وربي، فكوني مثلي متوجهين كيما لا يضيركم في هذا الوجود شيء.

قد سمع الله دعوته،  وهو السميع البصير : سميع بضراعته، بصير بعبده حين ذَرَفَتْ منه ذَرَفات الوَجْد النبوي دعوات عالية، فلا يدعه نهبة لعوارض الزيف وأسباب الباطل في هذه الدنيا، ولكن طبيعة الرسول البشرية جعلته يتوجَّه إلى خالقه بتلك الدعوة التي ترق لها، كما ذكرنا، قلوب الجلاميد؛ فما بالك وهو يتوجَّه بها إلى الله تعالى خالق الأشياء كلها بما فيهم العباد والعبيد.

وجاءت بشرى هاته الضراعة إلى محمد تكريماً له، وللذين آمنوا معه، وإذا برسول الله  الذي يتوجّس خُفْيَة من غضب الله أن ينزل عليه أو سَخَطه يحلّ عليه، يمتطي البراق فيسرى به ليلاً ثم يعرج إلى العرش عند سدرة المنتهى؛ ليرفعه ربه إلى السماء؛ وليُرِيَهُ من آياته الكبرى كل مكنونات العبر العجاب وأدلة القدرة المعجزة، ومنه قوله صلوات الله وسلامه عليه  :" ... ثم عُرجَ بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صَرِيفَ الأقلام ".

وهنالك بعد أن أستوى جبريل على صورته الحقيقية بأجنحته التي تملأ الأفق لم يتقدّم خشية الاحتراق في حين تقدَّم النبي عليه السلام وهو ممدود العون بالاختراق، ثم قرب فهبط من علوِّ إلى أسفل، حيث "دنا فتدلى" (آية 8 من النجم) : أي أن الدنو كان على جهة التَّدَلي من علوِّ إلى سُفل، فكان قاب قوسين، أي بمقدار مسافة قوسين أو ذراعين من النبي أو أدنى :"فأوحى إلى عبده ما أوحى، وما كذبَ الفؤاد ما رَأىَ، أفتمارونه على ما يرى؟ ولقد رءاهُ نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جَنَّةِ المأوى، إذْ يغشى السِّدْرة ما يغشى، ما زَاَغَ البصرُ وما طغى، ولقد رأى من آيات ربِّه الكبرى".

يقول رسول الله صلوات الله عليه :" ولم أزل أنزل من سماء إلى سماء، فما مررتُ على شيء في السموات إلّا وهو يقول :" لا إله إلا الله محمد رسول الله ".

فلمّا انتهينا إلى السماء الدنيا، إذا الليل على حاله، لم يتقدّم ولم يتأخر، وأتيتُ مكة، ونزلت عن البراق، فودعني جبريل، وقال : يا محمد إذا أصبحت فحدِّث قومك بما رأيت من العجائب في هذه الليلة، وبشرهم برحمة الله تعالى، فقلتُ : يا أخي جبريل : إني أخاف أن يكذبوني؛ فقال جبريل : إنْ كذبوك صَدَقك أبو بكر؛ فلا تبال بمن كذبوك بعده".

صدقت يا حبيبي يا رسول الله، وصدقت يا سيدي الصديق حين قلتَ : إنْ كانَ قَالَ فقَد صَدَق. وصدق قول الحق سبحانه :" وَقُلْ ربِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنيِ مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاْجْعَل لّيِ مِن لَدُنكَ سُلْطَانَاً نَصِيراً " (الإسراء : آية 80).

أعودُ على ما بدأته فأقول : إنّ هنالك قيمةً باقيةً، وستظل باقية، ما بقيت في الإنسان قواه الروحية يعرج بها صعداً في طراز رفيع من المطالب العلوية كلما تذكر هذه الرحلة الشريفة المباركة؛ فمعجزة الإسراء والمعراج تطلعنا على أن العروج الإنساني متاحٌ للإنسان في هذه الدنيا وميسورٌ له إذا أراده وعمل له وتوخَّاه. وأهم ما يمثله هو "فريضة الصلاة"؛ ففي الصلاة يعرف ويدرك ويتذوق كل مسلم له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أنها معراج روحي تتحد فيه العلاقة المفصومة بين الأرض والسماء. وليست هى مجرد حركات لا تدلُّ على عمل القلب وينفرد بها القالب وحده، كلا بل هى شعور بتحقيق الوحدة مع الحق تعالى في أيسر وسيلة للقرب وللصلة، وأعظمها فريضة على الإطلاق.

ولما كانت الصلاة أمراً من الحق تعالى في قوله :"وأقيموا الصلاة"؛ فهى مخصوصة هنا بإقامة المعراج على الحقيقة، إنْ لم تكن هى لب لباب المعراج الروحي يتخذه الصوفية بل يتخذه المسلمون جميعاً دعامة روحية للاتصال بالله ومحبته ولقائه على السّعة والحضور.

وإذا كانت الصلاة لغة تأتي بمعنى الذكر والانقياد صارت في الوقت نفسه تجرى في عبارة الفقهاء عبارة مخصوصة تطلق على الأحكام المعتادة، إذْ كانت أمراً من الحق أن أقيموا الصلاة خمس مرات. وهذا هو الهجويري أبو عثمان الجلَّابي، يصف شروطها تباعاً كما تجري على التوالي :

أولها : الطهارة من النجاسة في الظاهر، ومن الشهوة في الباطن. وثانيها : طهارة الثوب من نجاسة الظاهر وأن يكون من وجهة الجلال في الباطن. وثالثها : طهارة الروح من الحوادث والآفات في الظاهر، وفي الباطن من الفساد والمعصية. ورابعها : استقبال القبلة؛ فقبلة الظاهر الكعبة، وقبلة الباطن العرش، وقبلة السّر المشاهدة (لاحظ هذا العروج في ترتيب التدرج هنا). وخامسها : قيام الظاهر في حال القدرة، وقيام الباطن في روضة القُربة بشروط دخول وقتها في ظاهر الشريعة. وسادسها : خلوص النية في استقبال الحضرة. وسابعها : التكبير في مقام الهيبة والقيام في محل الوصلة، والقراءة بترتيل وعظمة، والرجوع بخشوع، والسجود بتذلل، والتشهد باجتماع، والسلام بفناء الصفة.

وما دامت أجواف المسلم : مشاعره وطواياه ومواجيده وأطوائه الباطنة الخفية، نابضة بالحياة صالحة للبقاء على هذه الأرض موصولة بالسماء؛ فله الحق كل الحق في أن يجعل قلبه معلقاً بالسماء موصولاً وصلة قربة بخالقه حين يتم له الحضور الإيماني في الصلاة بين يديه. وتلك هى القيمة الباقية : الحكمة من وراء المعراج : إقامة الصلة بين الأرض والسماء. وإني لأذكر تحليلاً ذوقياً راقياً للمرحوم الدكتور "محمد إقبال"، وهو بصدد تعرضه لمعجزة الإسراء والمعراج مفاده أن : محمداً الإنسان يستطيع أن يذهب في مراقي التسامي والنقاء والقدرة الروحيّة إلى أعلى الغايات، وبهذا يمثل الناس جميعاً ويقول لهم : إني لست سوى المثل الأعلى الذي يُحتذى والأسوة التي تُحاكى، وليس حتماً أن تصلوا إلى مثل ما وصلتُ إليه، ولكن باب الصعود مفتوح والسماء ليست ببعيدة عن الأرض، ولكنها تبدو كذلك للمحجوبين وللضعفاء الذين تعوزهم الثقة بالعقيدة يقيمون حيواتهم عليها ...

كان هذا حديث الإسراء بالمعنى الديني المباشر، وهو لا ينفصل كما قلنا في مطلع الدراسة عن المعراج بالمعنى الصوفي؛ لأنهما يصدران عن مشكاة من النور واحدة. أمّا الإسراء فقد عرفناه. وأمّا المعراج فهو الذي ربما تنكره العقول البليدة والقلوب الخربة والتوجهات الفاسدة والأيديولوجيات الموظفة لخدمة مآرب ساقطة. وإذا كان المعراج عرضة للإنكار، وبخاصة معراج الأولياء، يدور حوله اللغط من أناس لا يرتفعون قيد أنملة عن أوْهَاق التصورات الموبوءة، كما هو عرضة كذلك لإثارة التساؤلات والفتن والطامات الدالة على إقفار الذات من الترقي المعرفي، فمن المؤكد أننا لسنا ندري : لِمَ تتوقف العقول الخربة أمام المعراج، ولا تتوقف أمام الإسراء، وكلاهما تثبتهما براهين النصوص النقلية؟

وبعيداً عن اللغط المنفّر ودخولاً في موضوعنا مباشرة، نرى المعراج في الوعي الصوفي يستند بالمباشرة على معراج النبيِّ، صلوات الله وسلامه عليه، ولا يستند مطلقاً على مصادر غير هذا المصدر المباشر يقوم عليه. ولئن كان معراج الصوفي يتخذ من معراج النبوة قدوة له ومنهاجاً إلا أنه في نفس الوقت يختلف عنه مقدار اختلاف الوعي النبوي عن الوعي الصوفي، وهو بتقرير البداهة  اختلاف درجة لا اختلاف نوع.

ولقد عَبَّرَ صوفي هندي مسلم هو "عبد القدوس الجنجوهي" عن إرادة الاتصال الدائم من مقام الشهود حيث لا رجعة ولا عودة، حين قال :"صَعدَ محمد النبي العربي إلى السموات العُلى ثم رجع إلى الأرض. قسماً بربي! لو أني بلغت هذه المقام لما عدتُ أبداً "؛ فهذه هى غاية الصوفي من وراء المعراج : الوصول الدائم والاتصال الذي ما بعد عودة، ولكن هيهات ثم هيهات!

فليس كل معراج لولي يجب أن يكون هو عينه معراج النبي؛ بخلاف الأنبياء؛ فإن معاريجهم الروحية تقتضيها حاجة الناس للتربية الروحيّة وللتعليم والتبليغ؛ لأن النبي مبعوث إلى الخلق فبالناس حاجة إلى معرفة صدقه، ولا يعرف إلا بالمعجزة.

بعكس حال الولي؛ لأنه ليس بواجب على الخلق، ولا على الولي أيضاً العلم بأنه وليّ. فرجعته من معراجه ليست كرجعة النبي تقتضيها رسالة التبليغ.

وبما أن الأولياء في اتصالهم بالله يتخذون من معراج الرسول عليه السلام نموذجاً كاملاً لمعاريجهم الروحيّة، فيهتدون بهديه ويتلمسون طريقته، ويعتبرون اتباع النبي والاسترشاد به أول شرط من شروط السلوك إلى الله، وينحون باللائمة على نظار المتكلمين والفلاسفة الذين يعتدُّون بعقولهم ويعتقدون أن فيها الكفاية والضمان للوصول إلى الحقيقة المطلقة؛ فإنّ في هذا كله ما من شأنه أن ينفي تماماً القول بأن فكرة أفلاطون عن النفس كانت أساساً اتخذه الصوفية لوصف معراجهم الروحي، وهو قول يتغافل عن معراج النبيّ وأثره الواضح في تشكيل معاريج الأولياء والعارفين.

 

بقلم د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم