دراسات وبحوث

المآثر التاريخية للإصلاحية الإسلامية في مفترق البدائل السياسية والثقافية

ميثم الجنابيتحليل ونقد الفكرة الإصلاحية الإسلامية الحديثة (17) 

إن المآثر التاريخية الكبرى لإبداعات الثقافة تجد تعبيرها لا في ما تنوي قوله وفعله فحسب. بل وبكيفية إثارتها لحقيقة الكوامن الفاعلة في الذات الثقافية. فالأخيرة تعكس في ردودها مستويات إحساسها وعقلها. وما وراء ذلك طبقات حدسها التاريخي. أما هذه الطبقات فهي المكونات المنسية والحاضرة في ما يمكنه أن يكون بديلا أو مشروعا للرؤية الحالمة والواقعية. فالحدس التاريخي لم يكن في يوم من الأيام فعلا للحاضر، بقدر ما انه النتاج المتراكم في صراع الصيرورة الفتية ومحاولاتها استعادة الماضي وتقاليده أو نفيها المعاصر في ما ترتئيه بديلا فاضلا ونظاما صالحا.

فقد كانت الصيرورة التاريخية للعالم العربي منذ بدايات (القرن العشرين) مسارا متراكما لحيثيات إدراكه الذاتي. ومن ثم الاستكمال الأكثر إدراكا لنفض غبار الخمول والتقليدية الوادعة في قرون الظلام العثماني. أما التلاقح العقلي بين إصلاحية الجهاد والاجتهاد الإسلامية وبين "عقلانية الضمير واللسان العربيين" فقد وضع أسس الانطلاقة الفكرية الجديدة للمكونات المختمرة في أجزاء العالم العربي. حيث اشترك كلاهما في بعث مكونات الكينونة الثقافية العربية واختط في الوقت نفسه ضرورة الاستقلال العربي ضمن حدوده المتجذرة في الذاكرة التاريخية. وبما أن هذه الحدود كانت على الدوام عرضة للانحلال والوحدة، فإن انعكاسها الفكري ما كان بإمكانه أن يتعدى نموذجه الأمثل في اللغة ورموزها الأدبية، في تراثها ومعالمه الروحية، أي في كل ما لا يمكن الإمساك به، وفي كل ما لا يمكن القضاء عليه. وهي الحصيلة التي أدت إليها ما كانت تنوي قوله وفعله عقلانيات "الضمير واللسان" و"الجهاد والاجتهاد". وإذا كان مصير (عقلانية الضمير واللسان) يقوم في اندماجها في ما لا يمكن مواجهته وجها لوجه في عالم العثمانية المنحلّة، فإن مآثر (عقلانية الجهاد والاجتهاد) كان لا بد لها من أن تصطدم بقوة الدولة الاستبدادية، وأن تثير فيها شهوة الانتقام الملازمة للقوة الخائرة. ويفسر هذا السبب غياب ردود الفعل الثقافية من جانب الدولة ومؤسساتها. وذلك لأنها لم تكن تمتلك من مقومات الثقافة ومعنوياتها ما يؤهلها لمواجهة أعدائها. لهذا ارتكنت إلى ما هو تقليدي في عرفها التاريخي من "قصور الدموع" و"سجون السلاطين" في موقفها من الأفغاني، وإلى تقاليد الغيلة المحترفة في موقفها من الكواكبي. وأن تحصد في نهاية الأمر الانهيار والاضمحلال الكامل.

إن المأثرة التاريخية لإبداع الإصلاحية الجهاد والاجتهاد الإسلامية تقوم في رصفها عناصر العقلانية الثقافية في روح الأصالة العملية. لهذا ركزت على ما في مكونات الروح الأخلاقي من خواء خجل، وعلى ما في هرمية الدولة من انحلال مذهل للروح السياسي العقلاني. ودعت سرا وعلانية وجهرا وتقية إلى ما ينبغي القيام به من أجل بعث الروح الفاعل في الكيان الإسلامي. فقد كانت هي الأخرى تحدس في موشور تقاليدها العقلانية ونزوعها الجهادي النتائج الوخيمة للمصير الثقافي والدولي والقومي لشعوب السلطنة العثمانية. غير أن هذا الإدراك المتعمق في وحدة جهادها واجتهادها لم يكن موحدا في تأسيسه لأولويات الفعل المباشر وغاياته النهائية. فإذا كان الأفغاني أمينا لوحدة الإسلامي والقومي في مرجعيتهما الثقافية، فلأنه كان الممثل الأكثر حداثة للأبعاد السياسية القائمة في الفكرة التي دعتها المتصوفة في يوم ما بالكلمة المحمدية. وهو التمثيل الذي كان يستلزم مع مرور الزمن الاقتراب الأكثر واقعية من مهمات تجسيده العملي. مما جعل الأفغاني يقف بالضرورة أمام الضغط المتزايد لإلحاح المتطلبات السياسية في الدولة وإصلاحها. ومن ثم تعميق النقد الذاتي صوب الأدوات الواقعية في التغيير. وإذا كان هذا الإدراك هو الصفة المميزة لظاهرة الأفغاني بحد ذاتها، فإن تأسيسه لأولويات العمل المباشر قد تعرّضت في مجرى تطوره إلى مواجهات مرهقة بسبب غليانه بين تيارين باردين: الدولة العثمانية الاستبدادية المريضة والغرب القوي الغازي. ففي الوقت الذي دعا فيه إلى ضرورة الجامعة الإسلامية، فإنه لم يجد فيها نموذجا للوحدة المثلى إلا بالقدر الذي تستجيب للمصالح الحقيقية للعالم الإسلامي. إلا أن تجزئة العالم الإسلامي وصراعاته الداخلية وتفسخ نموذجه السياسي قد اجبره على أن يدافع ويرد على كافة الجبهات كما لو انه الصيّاح الوحيد في بحر تدحرجت سفنه المتهرئة إلى قاعه. لهذا هاجم بشدة سياسة التحالف غير المبدئي للدولة العثمانية مع الروس ضد إيران معتبرا إياها خيانة للمصالح الإسلامية، تماما بالقدر الذي نراه يهاجم سياسة إيران (زمن فتح علي شاه) في تهديدها للأفغان الذين حاولوا انتزاع الهند من الإنجليز[1]. ومن هذا المنطلق أخذ على دعاة القومية العربية مهاجمتهم للدولة العثمانية انطلاقا من أن الدعوة للقومية وأن أريد بها خير الجنسية (القومية) إلا أن مهاجمة الدولة العثمانية هو حياد عن صراط السياسة القومية الحقة، لأنها تؤدي في نهاية المطاف إلى إضعافها مما يهيئ الإمكانية لابتلاع الدول من جانب الغرب الأوربي. ولم يجد في الوقت نفسه ضررا في بناء العرب لقوميتهم المستقلة من خلال التدرج[2]. غير أن هذه الواقعية الحصيفة والعقلانية السياسية البعيدة المدى قد سبق وأن أفرغ يقينها المجرد تاريخ السيطرة التركية العثمانية نفسه. وهي الحصيلة التي كان الأفغاني يدرك كافة حيثياتها، إلا أن جوهرية الفكرة المتسامية وإمكانية تجسيدها في الواقع هي التي اضطرته في حالات عديدة إلى البحث عن الاحتمالات الدقيقة القائمة بين الإمكانات الخشنة.

فالعناصر العقلانية القائمة في فكرة الدفاع عن أمة الإسلام وقوتها الضارية آنذاك في السلطنة العثمانية هي بمعنى ما تزكية الروح الاستبدادي للدولة التركية. بينما كان يعني محاربتها هو الإمداد غير المرئي للروح الأوربي الغازي. وهو تناقض مستعص على الحل في ظل الإبقاء على تأرجح موازناته النسبية. بعبارة أخرى، انه كان ينبغي قطع هذه السلسلة "المنطقية" المؤرقة للروح السياسي المتحمس من خلال التأسيس لأولويات الوسائل في البدائل. ومن الممكن العثور على صدى هذه الحصيلة في الدعوة للتحرر والاستقلال والتقدم، أي العناصر التي ما كان بإمكانها أن تمتلك معناها وفعاليتها دون جوهرية السلطة والدولة. ما اضطره في نهاية المطاف إلى مواجهة ما ينبغي مواجهته: السلطة والدولة.

فمن الناحية التاريخية والواقعية لم تكن السلطة العثمانية شيئا غير الدولة نفسها، تماما كما لم تكن الدولة بالنسبة لها سوى سلطتها. وجرى اختزال ذلك في فكر الإصلاحية الإسلامية بمقولات الاستبداد والدولة الاستبدادية. وليس مصادفة أن يشدد الأفغاني على أن سيادة الاستبداد في الشرق لفترة طويلة قد أدى إلى فقدان شعوبه للشعور بالحق. في حين أن الإنسان الحقيقي هو الذي لا يحكم عليه إلا القانون المؤسس على دعائم العدل[3]. وبالتالي فإن سبب تخلف الشرق هو الاستبداد. وقد اتخذ الاستبداد صيغا عديدة في حكوماته قديما وحديثا وفي الإطار العام تنقسم حكوماته إلى ثلاثة أقسام، الأول منها هي الحكومة القاسية في أعمالها والتي تشبه في سلوكها قطاع الطرق مثل حكومات جنكيزخان وتيمورلنك[4]. أما القسم الثاني فهي الحكومة الظالمة والتي تتطابق في مضمونها مع الدول العبودية وتشبه في سلوكها سلوك الأخسّاء. وهي الصفة الغالبة في الحكومات الشرقية في الأزمان الغابرة والأوقات الحاضرة وكذلك أكثر الغربيين في الماضي وحكومة الانجليز في الهند[5]. أما القسم الثالث والأخير فهي الحكومة التي اسماها الأفغاني عموما بالحكومة الرحيمة. وتنقسم بدورها إلى فرعين الأول هو الحكومة الجاهلة والثاني هو الحكومة العالمِة. وتنقسم هذه الأخيرة بدورها إلى ما اسماه بالحكومة الأفنية (أو الحكومة التي لم يكتمل عقلها بعد) والحكومة المتنطّسة (أو الخيرة والعالِمة). فالحكومة الرحيمة الجاهلة كالأب الرحيم الجاهل تدعو للسعادة ولا تعرف كيفية بلوغها. وهي إشارة إلى الحكومة العثمانية. أما الحكومة الأفنية فهي تضاهي الأب العالم المأفون المتهالك في تعليم أبنائه ولكنه لا يعرف كيفية مسكهم بالصيغة التي لا تذهب جهوده الأولى سدى. وهي إشارة إلى حكومة محمد على باشا. أما الحكومة المتنّطسة وأساطينها من الحكماء والعلماء فهي التي تجمع في ذاتها العلم والمعرفة والأدب والتجارة والصناعة والزراعة والأخلاق والسياسة الحكيمة والعدل والحق[6]. ووجد نموذجها آنذاك في حكومة المستبد العادل التي كانت تداعب خيال الذهنية المتلطفة في رؤيتها لقيم الفرد المتعالي أكثر من رؤيتها للواقع والتاريخ.

لكن الأفغاني لم يقف عند حدود نقد نماذج القسوة والظلم والخِّسة في الحكومات، بل وتجاوز نموذجها الأرقى في الحكومة العالمة أو "الحكومة الشوروية"، باعتبارها المثال الأعلى، انطلاقا من زوال مانع الاستبداد بسبب قدرة الأفراد على إدارة شؤونهم بأنفسهم[7]. ولم تعن هذه "الشوروية" نظام الشورى التقليدي بقدر ما كانت تتطابق في مضمونها مع النظام الديمقراطي الدستوري. مما يعني سيادة عناصر الدعوة العقلانية للنظام الأفضل. غير أنها شأن مثيلاتها لم تستند إلى رؤية فلسفية للتاريخ. ولهذا أبقت على ملامح المظهر البشري في نماذج الحكومات دون أن تتغلغل في رؤية المقدمات الفعلية لنفيها الاجتماعي الاقتصادي. وقد كان ذلك لحد ما طبيعيا لأن القيمة العقلانية للفعل لم تستند آنذاك إلا لذاتها. من هنا جوهرية العلم (المعرفة) والعقل والأخلاق والتراث. أما توليفهم الدائم في المواقف العملية النقدية فقد أدى إلى نتوء جوهرية السياسة ودورها الحاسم في رؤية الإصلاحية الإسلامية. وقد توصل الأفغاني إلى هذه النتيجة في مجرى تفكيره وعمله. ومن هذه النتيجة انطلق الكواكبي في تأسيسه لفاعليتها الضرورية في الكيان الدولي (الحكومي) المفترض. لهذا نراه يركز حزمه الأضواء العقلانية للإصلاحية الإسلامية في بؤرة الدولة القومية. غير انه لم ينجز هذه المهمة بصورة تامة. فقد وقف الكواكبي عند حدود العقلنة السياسية للتيار الإصلاحي من خلال دعوته لتجسيده العملي في الدولة القومية. من هنا لم يكن بإمكان دعوة الأفغاني ولا دعوة الكواكبي الارتقاء إلى مصاف التجرّد النظري من عناصر النفس الثقافية المترسبة في مسامات الإصلاحية الإسلامية نفسها.

لقد كان ينبغي لهذه العناصر أن تتجزأ في البداية في مجرى الجهد المرهق للجهاد والاجتهاد من أجل أن تتكامل لاحقا في منظومة فكرية لها حدودها النظرية الواضحة والدقيقة. غير أن التحولات العاصفة لبدايات القرن (العشرين) قد أغلقت على هذه العملية إمكانياتها المحتملة بما في ذلك في كيفية نشوء الدولة العربية وأشكال نظمها السياسية. فقد أدت هذه العملية إلى توسيع ما يمكن دعوته بهوية المجهول السياسي والثقافي أمام العالم العربي، وذلك بسبب صعود الفكرة العربية القومية وليس الدينية (الإسلامية).

وبما أن القدر التاريخي لبدايات القرن العشرين قد جرى بصيغة تختلف عما هو محتمل في تراكم الصراعات الاجتماعية السياسية والقومية في "الوحدة العثمانية"، فإن الفرضيات المعقولة للإصلاحية الإسلامية وتراكم تصوراتها السياسية عن الوجود الاجتماعي والدولي والثقافي للعالم الإسلامي بشكل عام والعربي بشكل خاص، قد تعرضت إلى صدمة استلزمت منها إعادة تجميع قواها النظرية من جديد. وذلك بسبب تعرّض العناصر الإسلامية الوحدوية في الفكر الإصلاحي لضغط الانحلال السياسي الدولي والقومي للسلطنة العثمانية. مما أدى بالضرورة إلى الإهمال المتعاظم لعناصر الوحدة الإسلامية بمضمونها التقليدي.

أما صعود التيار القومي فقد أخذ يمتلئ بمقومات ثقافية، بما في ذلك في مجرى نموه المتراكم بمعايير وأفكار الدعوة الجديدة "للإسلام الخالص". وقد تضمن ذلك محاولة إعادة التوليف الممكنة بين العروبة والإسلام بالصيغة التي تكفل لكل منهما نموه الطبيعي. وقد كان ذلك يعني من الناحية الفعلية ضرورة توحيد العناصر الجوهرية للدولة المستقلة وإعادة ترميم الكينونة المتكسرة في "القرون المظلمة" للسيطرة التركية. بينما أدت أحداث الحرب العالمية الأولى وانهيار السلطنة العثمانية إلى ظهور العالم العربي ودوله المتعددة، بوصفه أيضا جزء من معترك المخططات الاستعمارية أكثر مما هو نتيجة صراع قواه الداخلية. مما أادخل العالم العربي في مجهول جديد، هو مخاض الدولة والقومية.

فقد كانت الإغراءات المعلنة للغرب الاستعماري من جهة، والعجرفة المنهوكة للسلطنة العثمانية في مواقفهما من العالم العربي من جهة أخرى، متكافئة من حيث الوضوح الظاهري. غير أن وراء كل من هاتين القوتين تاريخ خاص في الوعي الاجتماعي العربي وفكره السياسي. وإذا كان التقارب التدريجي للعناصر العقلانية في الفكر السياسي الإصلاحي الإسلامي والعروبي القومي هي النتيجة الملازمة لانغلاق الإمكانات الديمقراطية والقومية التحررية في ظل السلطنة العثمانية، فإن ضغوط الغزو الأوربي في مساعيه الرامية إلى اقتسام غنائم "الرجل المريض"، قد أدت إلى إثارة الكوامن الجديدة الفاعلة في وعي الذات الثقافي العربي.

لم تخل هذه الحالة التاريخية من طابع المأساة الدفينة، وذلك بسبب مساهمتها المباشرة في صنع ما يمكن دعوته بالانقطاع الجديد في الوعي العربي العقلاني. إننا نقف هنا أمام مفترق جديد لظاهرة التبذير "التاريخي" للطاقات الكامنة في المساعي العقلانية للقومية والدولة والثقافة للعالم العربي ونموه السياسي. فقد كان سقوط السلطنة العثمانية بالقوة الخارجية وظهور العالم العربي الجديد بأثر ذلك يبدو كما لو انه هبة مجهولة المصدر. بل واتخذت في بعض ملامحها هيئة "المقايضة التجارية" أو الرشوة السياسية للخدمات التي قدمها "ملوك" العرب في مساعدة الأعداء "المتمدنين الجدد". فقد استصغرت هذه النتيجة حجم التضحيات الجسام والمعاناة الكبيرة لوعي الذات العربي في تلمس هويته الجديدة لأكثر من قرن من الزمن. ذلك يعني أنها رمت في سلة المهملات تاريخ النضال العربي ومكونات وعيه العقلاني الصاعد والمتراكم في الإصلاحية الإسلامية كما لو انه جزء من الهيئة المتهرئة للعثمانية التركية. وهو تبذير كان من الصعب تلافي آثاره بين ليلة وضحاها. لأنه فرض على الوعي العربي المندهش أمام "مؤامرات القدر" الخلاب للتحرر القومي، مهمة مواجهة التغير المفاجئ في تجاوز تفكيره التقليدي وأنماط يقينه الراسخة في نفسيته الاجتماعية ووعيه السياسي. انه فرض على القوى العربية الفاعلة مهمة مواجهة تكاملها الجديد في الصراع مع من كان في الإعلان والدعاوي العلنية حليفها الجديد. بينما كان هذا "الحليف" الجديد أكثر مكرا وقوة وخطورة. وترتب على كل ذلك الوقوع من جديد في شباك معترك معقد بالنسبة لبناء عقلانية الرؤية السياسية والثقافية.

فقد أزال السقوط "المفاجئ" للسلطنة العثمانية بدائل الرؤية العقلانية المتراكمة في مجرى صراعها من أجل العلم والمعرفة والأخلاق والتحرر من الاستبداد والدعوة للأصالة. انه ألزمها في آن واحد اعتناق فكرة التخلي السريع من طاقاتها الفكرية المتراكمة في مجرى قرن من الزمن. ومن ثم مواجهة المعضلات الجديدة المفروضة عليها، باعتبارها قضاياها الملتهبة، دون أن يعطي لها في الوقت نفسه فرصة التأمل البارد. وحصلت هذه الظاهرة على تعبيرها الحاد في عنفوان الحماسة العملية والفكرية للجماهير وانتفاضاتها العديدة في عقود الصعود الوطني والقومي.

وقد أدى ذلك من الناحية الموضوعية إلى ما كانت تسعى إليه أو اكتملت فيه عقلانية الإصلاحية الإسلامية بصدد قضية جوهرية الدولة. غير أن هذه الدولة لم تعد جزءا من إصلاحية الرؤية، بقدر ما أصبحت جزء من مغامرات السياسة. إذ لم تعد جوهرية الدولة جزءا من التأسيس العقلاني والسياسي، بقدر ما أصبحت الكلّ الفاعل لمقامرات السياسة. ذلك يعني، أن العالم العربي وقف أمام مفارقات جديدة لم يجر تأملها بمقولات العقلانية والإصلاحية، بل تحت رياح الأحداث العاصفة. وإذا كان هذا الواقع المتحرك هو المصير الذي ينبغي التعامل معه كما هو الحال بالنسبة للسياسة والساسة، فإن وجوبه المفترض بالنسبة لعقلانية الرؤية يقوم في إعادة تجميع القوى النظرية ونظمها الجديد في بنية الأولويات المعقولة عن جوهرية الدولة والوحدة. وذلك بسبب مواجهتها مستجدات الواقع وتغير أولويات الوجود القومي الدولي والوعي الاجتماعي والسياسي والثقافي. فقد انقلب المجتمع في هذا الواقع من كائن تعتمل فيه مختلف الإمكانات الثقافية والسياسية في ظل غياب الدولة (المستقلة) إلى مجتمع دولتي (ذي دولة) بمجهول ثقافي. وقد كانت هذه الحصيلة نتاجا لواقع التجزئة العربية واحتراب قواه التقليدية من جهة، ونتاجا لتحلل كينونته الثقافية والسياسية في مصالح القوى الأجنبية المتصارعة (التركية والأوربية) من جهة أخرى. وليس مصادفة أن يرافق صعود كينونته الدولتية الجديدة نسيان تاريخ المعاناة الطويلة، تماما كما جرى نسيان أحزانه العميقة في أفراح الهدايا المفاجئة. بينما كان يقابل فرحه التاريخي الجديد مكرا تاريخيا للغرب. أما استعداده للتضحية من أجل الاستقلال فقد كان يقابله استعدادا للسيطرة والانتداب. أما تفاؤله التاريخي بالوحدة فقد كان يقابله تفاؤلا لا يقل ضراوة في استضعافه وتجزئته الجديد. بينما كان يقابل عدم اكتمال رؤيته الإستراتيجية في السياسة وضوح الرؤية الإستراتيجية واستتبابها في مؤسسات الدول الأوربية وأيديولوجياتها.

لقد فرض هذا الواقع بمكوناته الخفية المتضادة، والذكورة أعلاه، منطقه المستتر على الذهنية العربية المندهشة وحماس الجماهير العارم. وألزمها الإقرار بالتجزئة والعمل ضمن حدودها. ومن ثم توجيه حوافز العمل الملتهبة صوب شعارات الساسة وأهدافهم. تماما بالقدر الذي أدى إلى سكب غضب الحرمان التاريخي للفلاحين في سهام الدعوات الوطنية لرجال الدين المحترفين، والإقطاع "المتنور"، والأمراء المصطنعين، والحاشية المتربية في تقاليد التركية العثمانية. واستجاب هذا القدر من اهتزاز الجسد والضمير المخلص لمزاج الجمهور ووعيه المسطح والسلوك النفعي للقادة الوطنيين الجدد. وإذا كان ذلك يشكل خطوة كبرى إلى الأمام في جمع القدر الممكن من الوحدة الاجتماعية المتخطية لحدود البنية التقليدية، فإن كتلها الحماسية المتناثرة في أهازيج التضحية والثأر لم يمكن بإمكانها تجاوز حدود المساهمة المباشرة في شئون الدولة القطرية.

لقد تجمعت مكونات الفرح التاريخي، والاستعداد للتضحية، والتفاؤل العارم، وضعف الرؤية الإستراتيجية، في كلّ واحد لتصنع بدورها المقدمات الجديدة للحالة الجديدة المتميزة بأولوية وفاعلية العمل المباشر. ومن ثم الانهماك غير الواعي للوعي المتجمع في غضون قرن من الزمن للكفاح العربي من أجل خروج ذهنيته القومية والثقافية من دهاليز الصعاليك والمماليك، باتجاه تأسيس المرجعيات الضرورية لبناء الوعي الاجتماعي والسياسي والدولتي القومي.

أدى هذا الواقع الجديد إلى غرس أولوية العقل السياسي المجزأ، وكذلك إلى تفتيت الوحدة المتراكمة في الرؤية السياسية وبنائها النظري التاريخي والفلسفي. ولم تعد الدولة في هذه الرؤية سوى الدولة السياسية. أما  مثالها العملي الأرقى فهو السلطة القادرة على التجّسد في دولة لها حدودها ومقوماتها المستقلة. وكان من الصعب توقع شيئا ما غير هذه النتيجة بعد انحلال السلطنة العثمانية والضغط  الأوربي الكولونيالي المباشر وغير المباشر باتجاه رسم حدود العالم العربي الجديد في دوله ودويلاته. وقد أدت هذه النتيجة بالذهنية العربية للتعثر من جديد في دروب الافتراق المتزايد. فإذا كان التطور التاريخي السابق يجري في اتجاه توحيد العناصر المعقولة في الاتجاهات الإسلامية الإصلاحية والقومية العربية والثقافية، فإنه أخذ يجري الآن باتجاه الفِرقة والافتراق. ولم تعد الفِرقة والافتراق خطوة إلى الأمام من حيث أثرها بالنسبة لتوليف العناصر الحية في تجارب العقلانية العربية. على العكس، أنها أصبحت خطوة إلى الوراء، وذلك لأنها كانت تسهم في تبذير العناصر العقلانية والواقعية المتراكمة في مجرى التأمل والتحليل الفكري واستنتاجاته التاريخية والسياسية.

إن هذا التناقض التاريخي بين صيرورة الكيان السياسي العربي صوب الدولة، وتقهقر الذهنية الثقافية صوب جوهرية السلطة هو القدر الذي فرضه منطق الأحداث الداخلية والخارجية في مسار التاريخ العربي للربع الأول من القرن العشرين. فقد كان هذا التناقض نتاجا ملازما لضغط التسييس الفعلي للواعي الاجتماعي من جهة، وتبذير حصيلة الفكر المتراكمة في عقلانية الرؤية ومشاريعها النقدية وتوسيع مدى الوعي الذاتي التاريخ والثقافي والقومي، من جهة أخرى. وبالقدر ذاته كان هذا التناقض نتاج الضغط والإجبار السياسي والحضاري للغرب الكولونيالي المتميز بمكره التاريخي ومساعيه الدءوبة للسيطرة المباشرة وغير المباشرة (الانتداب) والتحكم بالتجزئة وإعاقة كل إمكانية لإعادة بناء الوحدة القومية والدولة الموحدة للعرب.

أما حصيلة هذه الضغوط بالنسبة للذهنية العربية فقد أدت إلى كسر كاهل العقلانية العربية وإرهاقها بمهمة تجميع قواها، وترشيد طاقاتها، وإعادة النظر بالقدر المتبقي من شظاياها من أجل توليف ما يمكن توليفه لمواجهة واقعها الجديد. إذ لم تكن آنذاك قادرة على تأسيس رؤيتها النظرية المستقلة والحرة فيما يتعلق بمبادئ الوحدة وواقعيتها السياسية. لقد واجهت قدرها الجديد في التجزئة المفروضة. وترتب على ذلك إهمال تجارب قرن من الزمن. وهو قدر تاريخي. وبمعنى ما مأثرة للوعي السياسي الفاعل أكثر مما هو مأساة له وذلك بسبب كونه نتاجا لتاريخ الكينونة الثقافية والدولية (السياسية) المهشمة للعالم العربي منذ سقوط بغداد عام 656 للهجرة (الموافق عام 1258 ميلادية). فقد كانت هذه المأثرة تقوم أولا وقبل كل شيء في محاولتها ترميم كيان الدولة الجديدة من فسيفساء الأجزاء المتناثرة في الذاكرة التاريخية والوعي المخزون في الكيانات الجهوية والطائفية والقبلية والاجتماعية المجزأة للعرب.

فقد كان العالم العربي في العقدين الأول والثاني من القرن العشرين يتوزع ما بين أنصاف دول وأرباعها وعدمها. فقد كانت مصر لحالها تتمتع بما يمكنه أن يكون نصف دولة. وما عداها مجرد إمكانيات قابلة للوجود دول كالمغرب وتونس واليمن (حكم الإمامة) ومملكة آل سعود. بينما لم تكن الجزائر وليبيا والسودان وسوريا الطبيعية والعراق وسواحل الخليج وعمان واليمن الجنوبي كيانا دولتيا أو حكوميا ملموسا ومحددا. إذ لم تحتوي هذه المناطق آنذاك في ذاتها سوى على إمكانيات الذاكرة التاريخية والوعي المخزون في الكيانات الاجتماعية المجزأة، التي استفزتها في آن واحد سياسة القومية التركية لحزب الاتحاد والترقي، والمشاريع السرية الكولونيالية للغرب الأوربي. أما حصيلة تفاعل كل هذه المقدمات فقد أدت بعد الحرب الامبريالية "العالمية" الأولى إلى تنشيط المواجهة المباشرة لكل المعطيات الواقعية والمفروضة بلغة السياسة العملية. ومن ثم صعود أولوية وجوهرية الوعي السياسي الوطني والقومي الحديث.

لقد أنهت هذه النتيجة المأثرة التاريخية للإصلاحية الإسلامية والعروبية الثقافية، ووضعت حصيلة إبداعهم العقلاني في مهب الصراع السياسي المباشر عن جوهرية الدولة المفترضة. بمعنى القضاء على إمكانية الالتقاء التدريجي لحصيلة التجربة النظرية والعملية المتبلورة في تاريخ الروح الثقافي والسياسي للإصلاحية الإسلامية والعروبية الثقافية. ومن ثم حولت التجزئة الفعلية للدولة العربية الموحدة المفترضة وكينونتها الثقافية إلى واقع مقبول أخذ يفرض قيوده الجديدة على منطق التبرير والتنظير السياسي والفكري. وليس اعتباطا أن يأتي الرد المباشر من التيار القومي والإسلامي. فهما التياران الوحيدان آنذاك اللذان ظلا يحتفظان بإدراك قيمة السياسة وفاعليتها في الصيرورة العربية الجديدة ومعالم كيانها المنشود. ومن الممكن العثور عليه في ظاهرة الازدياد المتعاظم لمهمة التأسيس النظري للقومية والدولة. وإذا كان ذلك شيئا طبيعيا بالنسبة للتيار القومي باعتباره التيار الأكثر حداثة في تأسيس حداثة العالم العربي، فإن التيار الإسلامي الإصلاحي أضطر أمام انهيار "الخلافة" للوقوف أمام مهمة ترميمها ولكن باعتبارها جزءا من معترك الدولة القومية. وبينهما تراوحت وتثلمت انجازات العروبية الثقافية. وقد كانت تلك بدورها أيضا النتيجة الطبيعية الملازمة لصعود التيار السياسي للنهضة الدولتية التي اشترك فيها مختلف القوى القومية والوطنية، التقليدية والثورية، الملكية والجمهورية، الفلاحية والإقطاعية، أي الكلّ المتحمس في انتمائه السياسي الوطني والقومي للدولة العربية. وحصلت هذه العملية على انعكاسها في التأسيس النظري للقومية (الدنيوية) والإسلامية الإصلاحية. وليس مصادفة أن يأتي الرد المباشر وغير المباشر على إلغاء الخلافة عام 1924 من التيار الثاني لا الأول.

فقد تعامل التيار الوطني والقومي (العروبي) مع إلغاء الخلافة تعامله مع شيء طبيعي، لأنه كان يتوافق مع نزوعه السياسي. لاسيما وانه كان يتطابق بأبعاده السياسية مع مضمون التحرر العربي من النير التركي، وفك الارتباط التاريخي بين الخلافة في رمزيتها الثقافية والدينية وبين السلطنة العثمانية. لهذا لم يكن إلغاء الخلافة فعلا فكريا سياسيا روحيا له أبعاده الثورية سواء في تركيا أو العالم العربي. إذ لا الأول ولا الثاني كانا يشعران بمبررها ومعناها السياسي أو الثقافي. وليس مصادفة أن تتوجه أولى الانتقادات الحادة لها في أوساط الإصلاحية الإسلامية نفسها، سواء بصيغتها غير المباشرة في آراء الأفغاني أو بصيغتها المباشرة عند الكواكبي وتأسيسه الفكري لما اسماه بقيمتها الرمزية والروحية فقط.

غير أن هذه الرمزية الروحية لم تعد جزءا من تقاليد الرؤية التاريخية، بقدر ما أصبحت جزءا من مشاريع الرؤية الاستقلالية العربية. وبهذا المعنى كان إلغاء الخلافة في عهد كمال أتاتورك فعلا مستجيبا للنزوع القومي العربي. وهو السبب القائم وراء عدم إثارته اعتراضا بما في ذلك عند أشد شخصياته الدينية والمؤسساتية تقليدية آنذاك (كالأزهر). فقد أيد الأزهر من الناحية الفعلية إلغاء الخلافة، لكنه أبقى عليها بمعايير القيمة الرمزية، من خلال استعمال كلمات الوجوب المقترنة بتقليدية العادات والعبادات المميزة للرؤية الفقهية التقليدية. بعبارة أخرى، لم يجر مناقشة القضية بمعايير الاستحسان والاستصلاح ولا بمنطق السياسة المعاصرة ومصالح الأمة والقومية. أما الاعتراض الحماسي الوحيد فقد انطلق من شبه القارة الهندية وصداها غير المباشر في المناطق الإيرانية التقليدية. لكنها لم تحصل مع ذلك على تأييد "منطقي". ففي الوقت الذي أيد بعض مفكري الشيعة مثل سيد أمير على وأغا خان الإسماعيلي ضرورة بقاء الخلافة، فإن محمد إقبال سار في منطق ما اسماه "بحقائق التجربة القاسية"، أي حقائق التجربة الواقعية للاتاتوركية وحسها السياسي الدنيوي. وقد أدى هذا الإحساس في نهاية المطاف إلى رمي الهيكل المتهاوي للخلافة (العثمانية) تحت ثقل الجهود المرهقة لتركية الاتحاد والترقي القومية المتشددة ونتائج الحرب العالمية الأولى. وبغض النظر عن "التبريرات" التي حاول أتاتورك تلطيف رد الفعل الممكن تجاه انهيار الرمز الثقافي الديني للكيان السياسي الإسلامي القائم آنذاك، إلا انه كان يدرك خواءها التاريخي وغلافها المعيق للفعل السياسي المستقل. لاسيما وانه فعل كان يفترضه منطق الدولة الدنيوية المعاصرة[8]. لهذا استجاب إلغاء الخلافة في نفسية القوميين العرب ونظراتهم السياسية لما كان يعتمل في قلوبهم ويمثل مشاريع الرؤية المستقبلية للتحرر، ومن ثم رمي مختلف أشكال ومظاهر ورموز الزيف السياسي ومصطنعاته التقليدية. ومع ذلك اصطنع هذا الإلغاء ورمي الخلافة فرصة الاستعادة "الحرة" لربط الخلافة والعروبة بأحد بدائل النظام السياسي والدولة الممكنين، كما هو جلي في محاولات خديوية مصر استغلالها آنذاك[9].(يتبع...).

 

ا. د. مبثم الجنابي

...........................

[1] الأفغاني: الأعمال المجهولة، لندن، دار الساقي، 1987، ص95-97.

[2] المصدر السابق، ص90.

[3] المصدر السابق، ص63.

[4] المصدر السابق، ص64.

[5] المصدر السابق، ص65.

[6] المصدر السابق، ص65-70.

[7] المصدر السابق، ص80.

[8] كان إلغاء الخلافة نتيجة متضمنة في قرار المجلس الوطني الأعلى في تركيا والقاضي بفصل السلطنة عن الخلافة عام 1922 وتحويل السلطنة إلى جمهورية. كما جرى تضمين ذلك في دستور عام 1921 ، وبالأخص في المادة التي تقول، (أن الشعب هو مصدر السلطات وانه هو الذي يملك أموره ومقدراته بيديه. وبالتالي هو الوحيد الذي يمتلك الحق في حكم نفسه بنفسه بلا قيد أو شرط). لهذا كان خلع السلطان وحيد الدين وتعيين ابن أخيه عبد المجيد خليفة للمسلمين فعل أقرب إلى دجل السياسة. من هنا عدم قدرته على البقاء فترة طويلة في ظل واقع تركيا المحاصرة بنتائج الحرب العالمية الأولى وانتصار الثورة البلشفية في روسيا.

[9] وهو المظهر "التاريخي" الذي أعطى لأراء على عبد الرزاق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) موقعه ومضمونه المباشر في لعبة السياسة المحترفة ومحاولاتها استعادة توظيف الهزائم والعجز الذاتي بما يخدم ترميم قوة السلطة. لكن إذا كانت هذه المحاولة السياسية لاستعادة "الربط الحر" بين الرموز التاريخية للسيادة العربية وتطابقها الروحي مع "الأنا" الثقافية، جزء من المساعي المحترفة للسلطة التقليدية، فإن الصيغة العميقة أو الوجه الآخر لهذه المحاولة قد جرى في الجهاد التاريخي للإصلاحية الإسلامية واجتهادها "المتحدى" لانهيار الخلافة، كما هو جلي في ظاهرة "الانحراف" السلفي لمدرسة محمد عبده.

***

 

في المثقف اليوم