دراسات وبحوث

العقل الثقافي وتلقائية الإصلاح الذاتي عند محمد عبده

ميثم الجنابيتحليل ونقد الفكرة الإصلاحية الإسلامية الحديثة (19) 

لقد كان التوجه العميق والتلقائي في تأسيس العقل الثقافي الذاتي النتيجة الملازمة لصعود الرؤية النقدية. فالإصلاحية نقدية بالضرورة. والإصلاحية الإسلامية ليست نقدية فحسب، بل وتلقائية من حيث اختمار أفكارها وقيمها ولحد ما منهجية رؤيتها الوثيقة الارتباط بتجارب الأسلاف وقيم الثقافة الغابرة. لكنها ليست تقليدية. وليس مصادفة أن يتحول نقد التقليد إلى إحدى أهم المقدمات المنهجية والنظرية في الفكرة الإصلاحية. غير أن ما يميز الفكرة الإصلاحية الإسلامية لمحمد عبده هو استنادها الدائم على رؤية ثقافية إسلامية عقلانية وواقعية وإنسانية، أي أنها كانت تعتمد أولا وقبل كل شيء على أولية وجوهرية الموقف الثقافي.

فقد رفع محمد عبده فكرة النقد إلى مصاف الفكرة المتسامية. بحيث نراه يقول "الانتقاد نفثة من الروح الإلهي في صدور البشر"[1]. بل واعتبرها مصدر التطور وشحذ المعرفة وتدقيقها. كما أكد على انه بدون النقد لا تتوسع المعارف ولا تتجلى الحقائق ولا يعرف الحق من الباطل[2]. وإن عدم الاستماع إلى النقد أو رفضه ومحاربته هو دليل على موت الروح والعقل. وليس مصادفة ألا يترك أية ظاهرة تخل بإمكانية الإصلاح أو عرقلته أو إعاقته دون أن يتطرق إليها بالنقد العميق واللاذع. إلا أن موقفه المنهجي ظل متماسكا حتى النهاية فيما يتعلق بوضعه التقليد والجمود الفكري والعقلي في أساس التخلف والانحطاط.

انطلق محمد عبده بنقده أولا للجمود الديني واستكمله بنقد مختلف مظاهر الجمود بوصفه الوجه الآخر للتقليد. إذ أن كل منهما يحدد ويمد الآخر بقوته المخربة للعقل والضمير. من هنا اعتباره الجمود جناية. فنراه يتكلم عما اسماه بجناية الجمود على النظام والاجتماع، وجناية الجمود على الشريعة وأهلها، وجناية الجمود على العقيدة وغير ذلك. ووضع في الجناية الأولى "جناية التفريق وتمزيق نظام الأمة وإيقاعها فيما وقع فيه من سبقها من الاختلاف وتفرق المذاهب والشيع في الدين"[3]. أما في جناية الجمود على الشريعة وأهلها فوجدها في انقلاب المضمون والوظيفة العملية للشريعة. انطلاقا من أنها كانت في الأصل يسيرة وأصبحت الآن عسيرة. بينما أرجع مضمون جناية الجمود على العقيدة في نسيان أو تجاهل ثلاثة مبادئ مترابطة ومركبة وهي أن الإيمان يعتمد اليقين ولا يجوز الأخذ فيه بالظن، وأن العقل ينبوع اليقين في الإيمان، والإيمان فيما بعد ذلك من علم الغيب. بعبارة أخرى، إن الجمود الديني أدى إلى نفي حقيقة الدين بالمعنى الإصلاحي. فقد اعتبر محمد عبده العقل هو الحلقة الرابطة والقوة الجوهرية بالنسبة للإيمان الحق وليس قواعد العقائد الميتة. فالإيمان بالنسبة له يقين، والعقل هو مصدر هذا اليقين. وما يقع خارج ذلك فهو من علم الغيب، أي من عوالم لا يحق الحكم بها بصورة جازمة وتحويلها إلى مصدر للأحكام العملية. وعدم الأخذ بذلك يعني المراوحة في مستنقع التخلف والانحطاط المادي والمعنوي وخروجا على حقيقة الإسلام. من هنا فكرته عن أن الدين هو الذي كان "يطلق العقل في سعة. فلما وقف الدين وقعد طلاب اليقين وقف العلم وسكنت ريحه. ولم يكن ذلك دفعة واحدة ولكنه سار سير التدرج".

ووضع هذه الفكرة العامة في أساس نقده "للبدع" والحالة الدينية السائدة والأحكام العلمية والتصوف وغيرها مما يرتبط بهذا القدر أو ذاك بظاهرة الجمود والانحطاط الديني. فهو لم يقصد بالبدع سوى جملة الممارسات والمفاهيم المشوهة التي تتنافى مع تقاليد الإسلام العقلية والعقلانية والنزعة الإنسانية. من هنا نقده لممارسات الشعوذة "الصوفية" بوصفها "كرامات" بينما هي في حقيقتها شعوذة وامتهان للجسد والروح الإنساني[4]. وفي الوقت نفسه نراه يدافع عن روح التصوف، ويبعده عما هو سائد ومنتشر من تخلف وانحطاط الطرق والشعوذة. وفي كلتا الحالتين نقف أمام تبجيل خفي للتصوف يكمن من حيث الجوهر في أعمق أعماق الروح الإصلاحي لمحمده عبده. فقد وقف محمد عبده بالضد من الفكرة الواسعة الانتشار آنذاك والقائلة، بأن التصوف هو أحد الأسباب الكبرى القائمة وراء انحطاط الإسلام والمسلمين. ورد على ذلك بفكرة يمكن إرجاع مضمونها إلى ابتلاء التصوف في أول الأمر بالفقهاء الجامدين على ظواهر الأحكام، ولاحقا بالجهل به سواء ممن يتبع "ترهاته" ومن يجعل منها حقيقة التصوف. وذلك لأن "الصوفية الحقيقيون في طرف، والفقهاء في طرف آخر" كمال يقول محمد عبده. لكن فساد كل منهما أدى أيضا إلى تشابكهما في تصنيع التخلف.

لقد وجد محمد عبده في مختلف مظاهر الانحطاط الديني تعبيرا عن الجمود والتقليد للمذاهب والانغلاق. وليس مصادفة أن يدعو إلى فكرة الرجوع إلى القرآن والسنّة الصحيحة، أي المصادر الكبرى ولكن من خلال فهمها العقلي والعقلاني والواقعي بمعايير المعاصرة أيضا. فعندما يتناول قضية العقائد وأهميتها بالنسبة للأحكام العملية، فإننا نراه يشدد على ما اسماه بفكرة الحكم لله وحده بحيث لا يؤخذ الدين عن غيره. غير أن هذه "الحاكمية الإلهية" لا تعني عنده سوى الاجتهاد العلمي والعملي من أجل "تقوية الإيمان وإصلاح النفس". وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الإيمان بالنسبة لمحمد عبده وثيق الارتباط بالاجتهاد العقلي، وأن إصلاح النفس هي منظومة السلوك الأخلاقي والإرادة العملية الخيرة، من هنا يمكن فهم حقيقة المضمون الفعلي للأحكام العملية. بمعنى أنها تخرج من إطار التقاليد الميتة لأحكام القواعد العقائدية والذهبية والفقهية المتعلقة بمتطلبات الجسد والعبادات الباهتة. من هنا نراه يقول، بأننا حالما نقر ونعتقد بأن لا فعل لغير الله، فإن ذلك يعني ألا نطلب شيئا إلا منه. وفي الوقت نفسه أن نفهم بأن "طلبنا منه يكون بالأخذ بالأسباب التي وضعها وهدانا إليها"، و"في حالة جهلنا أو عجزنا، عندها نلجأ إلى قدرته ونستمد عنايته وحده". مما سبق يتضح بأن مقصود الفكرة هنا يعود إلى الرؤية العقلية الصارمة المتعلقة بضرورة الأخذ بالأسباب الطبيعية والسير بها حتى النهاية بوصفها "سنّة الله في الوجود". أما العجز عن بلوغ الأسباب أحيانا، فإنه مجرد وقفة في مواقف العلم النظري والعملي التي تكشف عن لانهائية المعرفة. وبقدر ما ينطبق ذلك على العلم ينطبق أيضا على العمل. من هنا استنتاجه القائل، بأن الأحكام العملية إنما تشرّع لتقوية الإيمان وإصلاح النفس.

وطبق محمد عبده هذا الأسلوب النقدي تجاه مختلف المظاهر المخربة للعقل الثقافي الذاتي. بحيث نراه يتتبع أيضا مختلف الإصدارات والأنماط الكتابية. وليس مصادفة أن نراه ينتقد ظاهرة انتشار كتب النوادر والخيال والحب "الفاسد" والروايات الشعبية التي يتلذذ بها العوام بينما يديرون آذانهم عن الاستماع وقراءة كتب الأخلاق وعدم الاهتمام به[5]. وهو موقف ينبع من فكرته الإصلاحية القائمة على ضرورة بناء منظومة القيم والمفاهيم والمبادئ الأخلاقية الضرورية لتكامل المجتمع والدولة وتقدمهما وتمدنهما السليم. لهذا نراه ينتقد ظاهرة ما يسمى بالأدب الوهمي من تعظيم مزيف وما شابه ذلك[6]. بل نراه ينتقد بشدة مجلة (أبو نظارة) الواسعة الانتشار آنذاك في مصر بسبب دورها السلبي حسب اعتقاده بالنسبة لتأسيس العقل الاجتماعي والأخلاقي، وذلك لاهتمامها المفرط أو بنائها على منهج إثارة النكات والنوادر السخيفة والولع بالسبّ والشتيمة[7]. وطبق هذا المنهج في نقده للنقد السائد في الجرائد المصرية. وليس مصادفة أن نراه أحيانا يصور بعضهم بعبارات قاسية مثل قوله "يصورون أنفسهم بأنهم دعاة الحق بينما على حقيقتهم هو رسل الفوضى وجرذان النظام"[8].

وبقدر ما ينطبق ذلك على مواقفه من مختلف مظاهر الحياة الروحية والأدبية والفكرية، ينطبق أيضا على موقفه من التحليل السياسي والتاريخ السياسي لمصر نفسه. لهذا نراه أحيانا ينتقد التسطيح الفكري في النظر إلى سلوك الدول وسياستها تجاه مصر وبالأخص ما يتعلق منه بالموقف من فرنسا وانكلترا حيث أعتقد بأن البحث في سياستهما تجاه مصر عن الدسيسة والوقيعة فقط هو جهل بحقيقة هاتين الدولتين![9]. لكنه في الوقت نفسه نراه يجد فيهما أحد الأسباب الكبرى في إعاقة التمدن الحقيقي. والشيء نفسه يمكن قوله عن مواقفه من شخصية ودور محمد علي باشا بالنسبة لتاريخ التمدن الحقيقي في مصر الحديثة. إذ نعثر في موقفه هذا على رؤية نقدية تستند إلى تاريخ مصر ما قبل الغزو الفرنسي، الذي جعل من صعود محمد علي جزء من حالة القدر. أما محمد علي باشا بالنسبة لمصر فهو "لم يستطع أن يحيي، ولكن استطاع أن يميت". إذ استعمل أسلوب الاستعانة بقوة على أخرى من أجل تصفية كل معارضة. وقضى على الشجاعة والفردية. بحيث لم يبق في البلاد رأسا يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه[10]. يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد (على عقدة ما فيه). قتل كل نفس قوية. وقضى على الأمراء وجعل من عائلته أميرة واحدة. بل وجعل البلاد المصرية إقطاعا واحدة له ولأهله. ثم أدخل النموذج الغربي وسيادة الغربي ودونية المصري. أما الإصلاحات التي قام بها فمن أجل إحكام السيطرة. فهو لم يصلح اللغة ولا التربية ولا القانون ولا أعار اهتماما لأهل البلد ودورهم في الحياة. حاشيته من الارنائوط والشراكسة والأرمن. همهم خدمة السلطة. بلا ضمير ولا شريعة. كما انه لم يهتم بالمدرسة. من هنا انعدام أثرها. كما انه لا قيمة للترجمات التي قام بها. إضافة لذلك انه لم ينشأ صناعة لأنه لا أثر لها. وكذلك الحال بالنسبة للعلوم. والاقتصاد كان مجرد سخرة. قوة الجيش، لم تكن مصرية. من هنا اندثارها. فعندما دخل الفرنسيون كانت هناك مواجهة وقتال، وعندما دخل الانجليز فإنها كانت نهبا سريعا. أما "الدفاع عن الدين" فقد كان صراعا ضد الوهابية. بمعنى انه كان هجوما على الدين لا للدين. وذلك لأنها كانت مهمة سياسية لخدمة السلطان التركي العثماني. بحيث جعله كل ذلك يختتم فكرته عن آثار ودور وشخصية محمد علي باشا بالنسبة لتاريخ مصر الحديث بعبارة تقول "كان محمد علي لمصر قاهرا ولحياتها معدما"[11]. ولم تخل هذه النظرة من حماسة محمد عبده السياسية في مجرى معارضته آنذاك للخديوي عباس حلمي. غير أنها كانت تحتوي ضمن سياق رؤيته النقدية على ملامح قوية فيما يتعلق بتأسيس العقل الثقافي الذاتي. فمن الناحية السياسية المجردة قد تختلف اختلافا كبيرا عما في تقييم أستاذه الأفغاني الذي وجد في شخصية محمد علي باشا حالة نادرة بالنسبة للتاريخ الإسلامي الحديث، إلا أن التقييم الثقافي لها في مواقف محمد عبده ينطوي على أبعاد رزينة وعميقة، أو على الأقل أنها تحتوي على رؤية نقدية عقلية وعقلانية يمكن ملاحظة آثارها في حياة وتاريخ مصر بعد مرور أكثر من قرنين من الزمن.

غير أن الصيغة المثلى والمستوى الأرقى لتأسيس العقل الثقافي الذاتي في إصلاحية محمد عبده تبرز في جدله الفكري والنقدي في الدفاع عن تاريخ الثقافة الإسلامية والإسلام، كما نراها على سبيل المثال في سلسلة المقالات التي كتبها في الرد على هانونو وفرح انطون. فقد ترك محمد عبده جانبا الهذيان السياسي لهانونو القائل بضرورة "تلقيح" المسلمين بحب السلطة الفرنسية والخضوع والولاء التام لها، وفي حالة الجمع بين الاثنين طاب الجوار، وإلا فإن فرنسا لها الحق في القضاء عليهم وإزالتهم من وجه البسيطة! واعتبر ما يقوله هانونو بهذا الصدد جزء من رؤية سياسية تاريخية لو لم يتعرض للإسلام وعقائده. إذ وجد في حصيلة آراء ومواقف هانونو تعبيرا نموذجيا عن الرؤية التقليدية الفجة للاستعمار الفرنسي آنذاك، مهمتها إثارة العداء بين البشر. إضافة إلى ما فيها من أحكام وآراء تتنافى مع الادعاء بالمدنية والتسامح.

فقد كانت الفكرة الجوهرية للرؤية الثقافية عند هانونو تقوم على معارضة الآرية بالسامية، وأن الآرية هي مصدر التقدم على عكس السامية. وأن المسيحية تتمثل تقاليد الآرية عبر إنزالها الإله إلى التجسيد ومن ثم إلى الله الأب وعبره إلى الابن عبر روح القدس. مع ما في ذلك من تقريب للإله من الإنسان والسمو به. أما السامية فإنها تفصل بين الله والإنسان. وكذلك إذا كانت الجبرية من صفات الديانة السامية، فإن من صفات الآرية على العكس، أي إقرارها بالنزعة القدرية.

وعندما وضع محمد عبده هذه الآراء على محك المواقف النقدية، فإنه حاول أن يكشف عما فيها من فجاجة وتسطيح تصطدم بحقائق التاريخ. منها إن كانت الهند هي مصدر الآرية فإن تراثها وتقاليدها تتعارض مع العقل والنزعة الإنسانية. ولعل شيوع وهيمنة نظام الطبقات هو أحد الأدلة على ذلك. أما بالنسبة للتاريخ الواقعي، فإن أوربا كانت إلى فترة قريبة موطن الهمجية والتخلف. إضافة لذلك أن ربط المدنية الأوربية بالنصرانية والآرية يتعارض مع ما في الإنجيل. والقضية هنا ليست فقط في أن الأناجيل نفسها صناعة "سامية" بل ولأن ما في الإنجيل ودعوته إلى الزهد في الدنيا ومحبة الأعداء قبل الأصدقاء وما شابه ذلك يتعارض مع المدنية الأوربية الحديثة. إذ لا علاقة للمدنية الأوربية الحديثة بالإنجيل والآرية. وذلك لأن ما فيها هو تجسيد لسطوة المال، وسلطان القوة، ومدنية الذهب والفضة، والفخفخة والبهرجة، والاختيال والنفاق. أما من الناحية الفعلية المتعلقة بتطور المدنية والحضارة، فإن الإسلام هو الذي زحف على أوربا من خلال تنظيف وتنقية وتطوير علوم القدماء. ذلك يعني أن الإسلام هو الذي كان يحمل رسالة المدنية الإنسانية عبر تمثل وتوسيع ونشر الحصيلة الثقافة للقدماء (ما صنعته فارس ومصر واليونان والرومان). والشيء نفسه يمكن قوله عن قضية الجبر والاختيار.

لقد وجد محمد عبده في آراء هانونو تسطيحا وجهلا بالفكر الفلسفي والديني. إضافة إلى تعارضها مع الوقائع والحقائق. فالجبر والقدر جزء من صراع الأفكار. وأنها كانت وما تزال بين النصرانيين كما بين فرق الأديان وغير الأديان جميعا. ثم هل رأيت يهوديا متكئا على قفاه لا يعمل؟ بل سمعنا ونعرف سلوك النصارى في الأديرة والرهبنة. والفكر اليوناني أيضا مليء بالإشارة إلى أثر القدر والبخت والاتفاق، أي مملوء بفكرة الجبرية. في حين يوجد في القرآن نحو أربع وستين آية تحث على الكسب. وفيه محاربة للجبر بكل أشكاله. إضافة إلى أن الإسلام يفرق بين اختيار الإنسان في أفعاله وأثر القدرة (الإلهية). وأن سلوك محمد وحياته كلها نضال وكفاح وتحد وتعبير عن الإرادة العارمة. وتوّج محمد عبده هذه الرؤية النقدية باستنتاج فكري سياسي وثقافي يقول، بأن مبادئ الصناعة والعمل عند جميع الأقوام المرتقية في سلّم الإنسانية واحدة. أنها تختلف بأسباب المعيشة وظروف الحياة والطبيعة والمناخ والتاريخ، وجميعها يأخذ من الآخر ولا فرق هنا بين سامي وآري. ويعكس هذا الاستنتاج رؤيته النقدية العقلانية والإنسانية الفاعلة باتجاه بلورة وتدقيق ما أسميته بالعقل الثقافي الذاتي، كما هو جلي على سبيل المثال، في مجرى نقده الفلسفي للآراء التي وضعها فرح انطون في مقارناته بين الإسلام والنصرانية، أي كل ما حصل على صيغته النهائية في كتابه (الاضطهاد في النصرانية والإسلام) أو (العلم بين النصرانية والإسلام)[12].

إن بلوغ الفكرة النقدية ذروتها في تأسيس العقل الثقافي الذاتي كانت بدورها المقدمة التي أرسى عليها محمد عبده مهمة تأسيس الروح الثقافي الذاتي. فالروح الثقافي الذاتي هو ربط عضوي متجانس للعقل الثقافي الذاتي بالتاريخ القومي مع البقاء ضمن فلسفة الرؤية الثقافية الإنسانية. وليس مصادفة أن تتلازم في مجرى تطور الرؤية الإصلاحية عند محمد عبده الفكرة المصرية والعربية الإسلامية، بما في ذلك في مواقفه المتطورة من العثمانية والتركية بوصفها قوى سياسية غريبة ومغتربة عن حقائق التاريخ المصري والعربي الإسلامي. بمعنى إن أشد الأشكال نقدية وشدة في مظهرها القومي ليست إلا الصيغة الوجدانية العارمة للروح الثقافي الذاتي، أي أنها تخلو من حيث بواعثها وغايتها عن الأبعاد القومية العنصرية.

إن النزعة "القومية" الجلية أحيانا في عبارات محمد عبده في نقده للتركية والعثمانية ومختلف الأقليات "الغريبة" على مصر، لم تكن إلا الصيغة السياسية الحادة عن فكرته الإصلاحية. وبالتالي لا علاقة لها بصراع القوميات الضيق والأديان والمذاهب. على العكس أنها كانت تحتوي في أعماقها على محاولة إعادة بناء العلاقة العربية التركية، والعربية الإسلامية، والمذاهب الإسلامية، والإسلامية النصرانية بمعايير الفكرة الإصلاحية، أي رفعها من حضيض القومية والعرقية والعنصرية والدينية والطائفية والذهبية إلى مصاف الفكرة الإصلاحية (الإسلامية) الكونية وإقرارها الفعلي بالتنوع القومي والديني والمذهبي. لهذا نراه على سبيل المثال يشكو في إحدى رسائله للأفغاني في معرض حديثه عما اسماه بمعرفته بمسيحي الشوام قائل: "وجميعهم مع بعض المصريين من اصطبل واحد"[13]. وأدرج ضمنهم أديب اسحق وسليم النقاش وسعيد البستاني. وفي معرض حديثه عن موقف "الأقليات" الدينية والمذهبية والقومية بالمصالح الكبرى للعرب والدولة العثمانية (الإسلامية) نراه يصور النصارى عموما على أن ولائهم للغرب الأوربي (الفرنسي والبريطاني). بل ويضيف إليهم أيضا السنّة، بوصفهم أقرب إلى هذا السلوك فيما يتعلق بإرسال أبنائهم إلى المدارس الأوربية والأمريكية النصرانية (التبشيرية). وكذلك حال الدروز رغم بعض الاختلاف. لكنه يفرز الشيعة عموما والنصيرية (العلوية) خصوصا من بينهم ممن يرفض إرسال أبنائهم لغير المكاتب الإسلامية[14].

غير أن هذا النقد وأمثاله هو مجرد مظاهر خارجية للفكرة الجوهرية في فلسفة الإصلاح، أي فكرة تأسيس العقل الثقافي الذاتي (العربي الإسلامي). وليس مصادفة أن يكون نقده الفعلي موجها ضد سلوك الدولة في تعميم الجهل ولكن من خلال نقد سلوك المذاهب والأديان أيضا. وضمن هذا السياق يمكن فهم موقفه مما اسماه بفضائل أهل السنّة بالنسبة للدولة، انطلاقا من فكرة "الأكثرية" الفاعلة آنذاك بمعايير التاريخ الفعلي والثقافة القائمة. وإذا كانت تحتوي في بعض جوانبها على ضيق مذهبي فإنه يتبخر تحت حرارة الفكرة الإصلاحية الداعية إلى ضرورة تأسيس ما أسميته بالعقل الثقافي الذاتي، أي الدرجة الأرقى لتأسيس العقل الثقافي. من هنا نرى أيضا تخوفه مما اسماه بعاقبة انحراف أهل السنّة في ظل استمرار ابتعاد الدولة عن الاعتناء بهم[15]. وينطبق هذا على نقده للأقليات القومية. بمعنى نقده إياها بمعايير التاريخ السياسي وليس القومي. من هنا يمكن فهم مواقفه من سلوك صلاح الدين الأيوبي في جلبه للمماليك، وما آلت إليه البلاد لاحقا. بحيث يعتبر الشراكسة (المماليك) في آخر مراحلهم أتعس من كل ما سواهم. بحيث نرى أحدهم يجرّب حدة السيف في أماكن بيع السلاح من خلال رؤية آثاره على المارة بقطع رؤوسهم أو أجسادهم[16]! وضمن هذا السياق ينبغي أيضا فهم موقفه من الأتراك، كما هو جلي في عباراته القائلة "إن جميع المصريين السياسيين منهم والعاديين يكرهون الأتراك. ولا يشعر المصري بشيء تجاههم غير القرف والكراهية والاستعداد للقتال"[17]. وأن "الأتراك ظلمة. وتركوا في البلاد من أثار السوء ما يضرب القلب ضربان الجرح. فلسنا نريد رجعتهم ولسنا نريد معرفتهم"[18]. بل نراه يجزم مرة قائلا:"ما أحب أن يكون الحاكم في بلادي تركيا أو شركسيا، لأن استعداد أهل بلادي للحكم أقوى من استعداد هذين الجبليين. مظالمهم كبيرة كثيرة، موجودون حراس على أبواب السجون"[19]. وبالمقابل جرى مرة تصوير محمد عبده بعبارة "هذا المصري الأصيل من أهل الفول وليس المصريين المزيفين من أتراك وشراكسة وأرمن وشوام ويهود، كل منهم يدعي انه ابن النيل لا نيل فيه ولا نبل"[20].

إننا نقف هنا أمام رؤية متراكمة لتأسيس الروح الثقافي الذاتي بأبعادها الإصلاحية السياسية. من هنا تداخل وتراكم وانتظام الأبعاد الوطنية (المصرية) والقومية (العربية) والثقافية (الإسلامية) فيها. فعندما يتكلم عن الأبعاد الوطنية، فإن مضمونها يبقى على الدوام راسخا ووثيق الارتباط بفكرة العمل من أجل الخير العام والقانون[21]. لهذا نراه يعتبر تسوية الأمور المالية من دون الإخلال بمصلحة البلاد من بين أهم وأنبل عمل الحكومة والدولة[22]. وليس مصادفة أن نرى مختلف مظاهر هذه الرؤية بما في ذلك في لباسه ومأكله وتوجهه الحياتي وأسفاره وغيرها. فقد غيّر وجهته في السفر عبر صقلية عندما قالوا له بأنك سوف ترى آثار العرب هناك باقية. بل ونراه يقارن بين اهتمام الأوربيين بجمع آثار الماضي من التماثيل والرسوم ومعاناتهم في ذلك بما كان العرب المسلمين الأوائل يعانون من اجله بالنسبة لجمع الشعر وحفظه. ووجد في كلتا الحالتين أشكال مختلفة للاحتفاظ "بديوان" يسجل الماضي وأحداثه[23]. لكنه من جهة أخرى ينتقد العرب انتقادا شديدا على انعدام أثرهم في العصر الحديث. ويتساءل "أين هم"؟ وضمن هذا السياق نراه يؤيد ويدعم ما قام به لويس الصابونجي في نشره لتاريخ العرب والدفاع عن فضيلتهم التاريخية والثقافية. ويطالبه في الوقت نفسه بالاعتماد على مصادر التاريخ العربي الأصلية من أجل التوسع بهذا الصدد[24]. كما نراه يمدح حافظ إبراهيم في ترجمته لكتاب فيكتور هيجو (البؤساء). بل ويجد في ما قام به إبراهيم حافظ "تناسخا" لروح ابن المقفع، وإخراجا للعربية من العجمة[25]. ويقول نفس الشيء في رسالته لسليم البستاني بعد ترجمته لكتاب (الإلياذة).

إن تحول اللغة إلى ميدان وأسلوب وغاية الإصلاح العقلي والروحي والثقافي للأمة يعكس تلقائية التطور الطبيعي والمنطقي للفكرة الإصلاحية عند محمد عبده. بمعنى مسارها الطبيعي والمنطقي صوب تكاملها الخاص بمعايير الرؤية الثقافية الإسلامية، أي الرؤية الثقافية التاريخية الخالصة. مع ما فيها من طاقة كبرى كامنة في تحرير العقل والوجدان من الاغتراب الثقافي والتقليد الفج. وليس مصادفة أن يجد "أول جناية" للجمود التاريخي والثقافي للعرب في ما أسماه بجمود أساليب وآداب اللغة العربية وضياع أمهات الكتب، أي المصادر الضرورية بالنسبة لكل نهضة وإحياء ثقافي حر وأصيل. لهذا نراه يتكلم في معرض انتقاده لحالة اللغة العربية في وقته عن "الناطقين بالعربية من العراق إلى مراكش" بأن "مثلهم مثل قوم من الأعاجم مخالطين للعرب". بحيث وجد في كلامهم بسبب المخالطة مفردات كثيرة من العربية! وهو ضياع تاريخي وثقافي هائل جعل محمد عبده يقر بأن الاشتغال بلغة الأمة وآدابها فضيلة في نفسه ومادة من مواد حياتها. ولا حياة لأمة ماتت لغتها. وبأثر ذلك يصل إلى الفكرة القائلة، بإن إصلاح الأمة يفترض إصلاح اللغة العربية. من هنا نقده لتقاليد إتّباع الغرب في اللغة بحيث نراه يعتبر أسلوب المعلم بطرس البستاني في جرائد (الجنة) و(الجنان) وعلى أثرها (الأهرام) مجرد تقليد فج لا قيمة له بحد ذاته. بل نراه يعتبر اندثار هذا النوع من الكتابة فضيلة. وهو نقد جارح ومتطرف لحد ما، لكنه يعكس غلو الفكرة الإصلاحية في موجهة حالة الانحطاط العميقة ومستوى الاغتراب المحتمل في تقليد لغة الغرب عوضا عن الرجوع إلى أصول اللغة ومنطق تراثها القومي والثقافي. من هنا ربطه بين فكرة إصلاح اللغة العربية وفكرة التمدن. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه عندما كان العرب في أوج كمالهم وتطورهم، بل وأرقى الأمم بمعايير ذلك الزمان، فإن ذلك وجد انعكاسه أيضا في اللغة التي استطاعت أن تعبر عن انجازاتها ومعاركها الفكرية والروحية في مصطلحها وكلماتها وعباراتها وبيانها[26].

 

ا. د. ميثم الجنابي

.......................

[1] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج2، ص162.

[2] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج2، ص165.

[3] لا ينتقد محمد عبده الظاهرة من حيث مقدماتها التاريخية السياسية والثقافية والذهنية القائمة في الدين نفسه. وخطورته تكمن أولا في مستوى التطور ونظام الحرية وما يميز الفكرة الدينية نفسها من انغلاق نسبي ومطلق، تجعل من التكفير والتحريم والتجريم فعلا "مقدسا".

[4]  محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج2، ص50-52.

[5] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج2، ص60.

[6] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج2، ص64.

[7] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج1، ص297.

[8] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج1، ص627.

[9] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج1، ص359.

[10] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج1، ص854.

[11] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج1، ص851-858.

[12] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج3، ص257-368

[13] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج1، ص627.

[14] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج3، ص101.

[15] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج3، ص103.

[16] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج1، ص858.

[17] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج1، ص428.

[18] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج1، ص428.

[19] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج1، ص645.

[20] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج1، ص.721.

[21] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج1ص318-319.

[22] محمد عبده: الأعمال الكاملة ج1، ص300.

[23] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج2، ص198.

[24] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج1، ص437.

[25] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج2، ص372-373.

[26] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج3، ص23-24

 

في المثقف اليوم