دراسات وبحوث

شذوذ السلفية في إثباتهم (3)

منى زيتونالجوارح والجهة والانتقال ونحوه لله (2)

ونسبوا لله تعالى وحاشاه الجهة بالعلو الحسي، وليس علو الجلال والعظمة على خلاف اتفاق المسلمين. قال الشريف الرضى في "مجازات القرآن" في تفسير الآية: ‏﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏‏﴾‏‏ [فاطر:10] "ليس المراد أن هناك على الحقيقة شيئًا يوصف بالصعود، ويرتقي من سِفال إلى علو، وإنما المراد أن القول الطيب والعمل الصالح متقبلان عند الله عز وجل، واصلان إليه سبحانه، بمعنى أنهما يبلغان رضاه، وينالان زلفاه، وأنه تعالى لا يضيعهما، ولا يهمل الجزاء عليهما، وهذا كقول القائل لغيره: قد ترّقى إلى الأمير ما فعلته، أي بلغه ذلك على وجهه وعرفه على حقيقته، وليس يريد به الارتقاء الذي هو الارتفاع وضده الانخفاض. ووجه آخر، قيل إن معنى ذلك صعود الأقوال والأعمال إلى حيث لا يملك الحكم فيه إلا الله تعالى، كما يُقال: ارتفع أمر القوم إلى القاضي، إذا انتهوا إلى أن يحكم بينهم ويفصل خصامهم. ووجه آخر، قيل إن الله سبحانه لمّا كان موصوفًا بالعلو على طريق الجلال والعظمة، لا عن طريق المدى والمسافة، فكل ما يُتقرب به من قول زكي وعمل مرضي، فالإخبار عنه يقع بلفظ الصعود والارتفاع، عن طريق المجاز والاتساع". وقال في تفسير قوله تعالى: ‏﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ‏‏﴾‏‏ [غافر:15] "المعنى أن منازل العز ومراتب الفضل التي يخص بها عباده الصالحين وأولياءه المخلصين رفيعة الأقدار، مشرفة المنار، فالدرجات المذكورة هي التي يرتفع عباده إليها لا التي يرتفع هو بها تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا"أهـ.

ورغم علوه الحسي سبحانه وتعالى عند السلفية، لم يمنع ذلك من أن يفسروا نزوله تعالى بالنزول الحسي أيضًا مخالفة لسائر الأمة في تفسير حديث النزول. في "المنهاج شرح صحيح مسلم" (ج6، ص36) قال الإمام النووي في شرح حديث النزول: "قوله صلى الله عليه وسلم (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول من يدعوني فأستجيب له)، هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيه مذهبان مشهوران للعلماء، سبق إيضاحهما في كتاب الإيمان، ومختصرهما أن أحدهما، وهو مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين، أنه يؤمن بأنها حق على ما يليق بالله تعالى، وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد، ولا يُتكلم في تأويلها، مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن صفات المخلوق وعن الانتقال والحركات وسائر سمات الخلق. والثاني، مذهب أكثر المتكلمين وجماعات من السلف، وهو محكى هنا عن مالك والأوزاعي، أنها تتأول على ما يليق بها، بحسب مواطنها، فعلى هذا تأولوا هذا الحديث تأويلين: أحدهما، تأويل مالك بن أنس وغيره، معناه تنزل رحمته وأمره وملائكته، كما يُقال فعل السلطان كذا إذا فعله أتباعه بأمره، والثاني أنه على الاستعارة، ومعناه الإقبال على الداعين بالإجابة واللطف، والله أعلم"أهـ. وقد روى ابن عبد البر أيضًا عن الإمام مالك في "التمهيد" تأويله لحديث النزول بأنه "يتنزل أمره".

ويقول ابن الجوزي في "دفع شبهة التشبيه" (ص49): "روى حديث النزول عشرون صحابيًا، وقد سبق القول أنه يستحيل على الله عز وجل الحركة والنقلة والتغير، فيبقى الناس رجلين: أحدهما، المتأول بمعنى أنه يقرب برحمته، وقد ذكر أشياء بالنزول كالحديد والأنعام. والثاني، الساكت عن الكلام في ذلك مع اعتقاد التنزيه، والواجب على الخلق اعتقاد التنزيه وامتناع تجويز النقلة، وأن النزول الذي هو انتقال من مكان إلى مكان يفتقر إلى ثلاثة أجسام: جسم عال هو مكان لساكنه، وجسم سافل، وجسم منتقل من علو إلى سفل، وهذا لا يجوز على الله عز وجل. بينما قال ابن حامد –وهو حنبلي مجسم-: "هو على العرش بذاته مماس له وينزل من مكانه الذي هو فيه وينتقل". وهذا رجل لا يعرف ما يجوز على الله تعالى. وقال القاضي أبو يعلى –المجسم الحنبلي- "النزول صفة ذاتية ولا نقول نزول انتقال". وهذا مغالط. ومنهم من قال يتحرك إذا نزل، وما يدري أن الحركة لا تجوز على الله تعالى، وقد حكوا عن الإمام أحمد ذلك وهو كذب عليه. ولو كان النزول صفة ذاتية لذاته كانت صفة كل ليلة تتجدد. وصفاته قديمة كذاته"أهـ.

بينما يرى ابن حزم أن النزول من صفات الفعل، ويستحيل أن يكون من صفات الذات. يقول في "الفِصل" (ج2/باب الكلام في الوجه واليد والعين والقدم والتنزل والعزة ‏والرحمة ‏والأمر والنفس والذات والقوة والقدرة والأصابع، ص357-358) "وصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن (الله تعالى يتنزل في كل ليلة إذا بقي ثلث الليل إلى السماء الدنيا). قال أبو محمد: وهذا إنما هو فعل يفعله الله عز وجل في سماء الدنيا من الفتح لقبول الدعاء، وأن تلك الساعة من مظان القبول والإجابة، والمغفرة للمستغفرين والتائبين، وهذا معهود في اللغة. تقول نزل فلان عن حقه بمعنى وهبه لي وتطول به علي. ومن البرهان على أنه صفة فعل لا صفة ذات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علّق التنزل المذكور بوقت محدود فصح أنه فعل محدث في ذلك الوقت، مفعول حينئذ. وقد علمنا أن ما لم ينزل فليس متعلقًا بزمان البتة. وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض ألفاظ الحديث المذكور -ما ذلك الفعل المذكور-، وهو أنه ذكر عليه السلام: أن الله عز وجل يأمر ملكًا ينادي في ذلك الوقت بذلك، وأيضًا فإن ثلث الليل مختلف في البلاد باختلاف المطالع والمغارب، يعلم ذلك ضرورة من بحث عنه، فصحّ ضرورة أنه فعل يفعله ربنا تعالى في ذلك لأهل كل أفق. وأما من جعل ذلك نُقلة فقد قدمنا بطلان قوله في إبطال القول بالجسم بعون الله وتأييده. ولو انتقل تعالي لكان محدودًا مخلوقًا مؤلفًا شاغلًا لمكان، وهذه صفة المخلوقين، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وقد حمد الله عز وجل لإبراهيم خليله ورسوله وعبده صلى الله عليه وسلم إذ بيّن لقومه بنقلة القمر أنه ليس ربًا. قال تعالى: ‏﴿‏فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ‏‏﴾‏‏ [الأنعام: 76]. وكل منتقل عن مكان فهو آفل عنه. تعالى الله عن هذا. وكذلك القول في قوله تعالى: ‏﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏‏﴾‏‏ [الفجر: 22]. وقوله تعالى: ‏﴿هَلْ يَنظُرُوْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِيْ ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةُ‏‏﴾‏‏ [البقرة: 210]. فهذا كله على ما بينا من أن المجيء والإتيان يوم القيامة فعل يفعله الله عز وجل في ذلك اليوم، يسمى ذلك الفعل مجيئًا وإتيانًا، وقد روينا عن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أنه قال: ‏﴿‏وَجَاءَ رَبّكَ‏‏﴾‏‏ إنما معناه: وجاء أمر ربك"أهـ.

وأورد الحافظ ابن كثير هذا عن الإمام أحمد بن حنبل في "البداية والنهاية" (ج14، ص386)، في ترجمة الإمام قال: "وكلامه –أي الإمام أحمد– في نفي التَّشبيه ‏وتَرْك الخوضِ في الكلام والتّمسّك بما ورد في الكتاب والسنَّة من الآثار عن النَّبي صلى الله عليه ‏وسلَّم وأصحابه. وروى البيهقي عن الحاكم عن أبي عمرو بن السمّاك عن حنبل أنَّ ‏أحمد بن حنبل تأوّلَ قول الله تعالى: ‏﴿‏وَجَاءَ رَبّكَ‏‏﴾‏‏ أنَّه جاء ثوابه. ثمَّ قال البيهقي: ‏وهذا إسنادٌ لا غبار عليه"أهـ.‏ والنص في كتاب البيهقي يوضح أن ذلك التأويل كان من الإمام أحمد عندما احتج عليه المعتزلة في المناظرة في مجلس الخليفة أثناء محنة خلق القرآن بأحاديث (تجيء سورة البقرة يوم القيامة، وتجيء سورة تبارك)، فقال الإمام: "إنما هو الثواب. قال الله تعالى: ‏﴿‏وَجَاءَ رَبّكَ‏‏﴾ إنما تأتي قدرته، وإنما القرآن أمثال ومواعظ"أهـ.

وينقل الإمام الكوثري في مقدمة كتاب "الأسماء والصفات" للبيهقي (ص10) تعقيب البيهقي كاملًا على تأويل الإمام أحمد لقوله تعالى: ‏﴿‏وَجَاءَ رَبّكَ‏‏﴾. يقول البيهقي: "وفيه دليل على أنه كان لا يعتقد في المجيء الذي ورد به الكتاب والنزول الذي وردت به السُنة انتقالًا من مكان إلى مكان، كمجيء ذوات الأجسام ونزولها، وإنما هو عبارة عن ظهور آيات قدرته، فإنهم لمّا زعموا أن القرآن لو كان كلام الله وصفة من صفات ذاته لم يجز عليه المجيء والإتيان، فأجابهم أبو عبد الله –الإمام أحمد- بأنه يجيء ثواب قراءته التي يريد إظهارها يومئذ، فعبّر عن إظهاره إياها بمجيئه. وهذا الجواب الذي أجابهم به أبو عبد الله لا يهتدي إليه إلا الحُذاق من المنزهين عن التشبيه"أهـ.

وذكر الإمام تقي الدين الحصني في "دفع شُبه من شبّه وتمرد" (ص11) "قوله تعالى: ‏﴿‏وَجَاءَ رَبّكَ‏‏﴾. قال الإمام أحمد: معناه جاء أمر ربك. قال القاضي أبو يعلى: قال الإمام أحمد: المراد به قدرته وأمره، وقد بيّنه في قوله تعالى: ﴿‏‏ْيَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ‏﴾ [النحل: 33]‏‏. يشير إلى حمل المطلق على المقيد، وهو كثير في القرآن والسنة والإجماع وفي كلام علماء الأمة لا يجوز عليه الانتقال سبحانه وتعالى. ومثله حديث النزول، وممن صرح بذلك الإمام الأوزاعي والإمام مالك لأن الانتقال والحركة من صفات الحدث، والله عز وجل قد نزّه نفسه عن ذلك"أهـ.

ويقول الإمام الفخر الرازي في "أساس التقديس" (ص107): "نقل الشيخ الغزالي عن أحمد بن حنبل، أنه أقرّ بالتأويل في ثلاثة أحاديث: أحدهما، قوله عليه السلام: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض". وثانيها، قوله عليه السلام: "إني لأجد نفس الرحمن من قِبل اليمن". وثالثها، قوله عليه السلام حكاية عن الله عزّ وجلّ: "أنا جليس من ذكرني""أهـ.

وأقول: إذن فالإمام أحمد كان ينفي التشبيه، ويؤثر التوقف وليس التفسير وفقًا لظاهر النص، ويؤول إن كان في التأويل تنزيه لله. ولعل قصة الخليل إبراهيم التي جزمت بأن الرب لا يجوز في حقه الوجود في مكان ومفارقته بالانتقال، كانت سببًا في ترك الإمام أحمد للتوقف المشهور عنه وتصريحه بالتأويل في هذه المواضع.

يقول الإمام القرطبي في تفسيره للآية (ج22، ص281-282): "قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ أي أمره وقضاؤه، قاله الحسن. وهو من باب حذف المضاف. وقيل: أي جاءهم الرب بالآيات العظيمة، وهو كقوله تعالى: ‏﴿‏إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ‏﴾‏‏ [البقرة: 210]: أي بظلل. وقيل: جُعِل مجيء الآيات مجيئًا له، تفخيمًا لشأن تلك الآيات. ومنه قوله تعالى في الحديث: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، واستسقيتك فلم تسقني، واستطعمتك فلم تطعمني. وقيل: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ أي زالت الشُبه ذلك اليوم، وصارت المعارف ضرورية، كما تزول الشُبه والشك عند مجيء الشيء الذي كان يُشك فيه. وقال أهل الإشارة: ظهرت قدرته واستولت، والله جل ثناؤه لا يوصف بالتحول من مكان إلى مكان، وأنَّى له التحول والانتقال، ولا مكان له ولا أوان، ولا يجري عليه وقت ولا زمان; لأن في جريان الوقت على الشيء فوت الأوقات، ومن فاته شيء فهو عاجز"أهـ.

ويقول الإمام الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير": "إسناد المجيء إلى الله إما مجاز عقلي، أي: جاء قضاؤه، وإما استعارة بتشبيه ابتداء حسابه بالمجيء"أهـ.

وفي اللغة أيضًا، جَاءَ الأَمْرَ: فَعَلَهُ، وقَامَ بِهِ، وحدَث، وتحقَّق، فالفعل جاء لا يعني الانتقال والتحول المكاني فقط كما حاولت الإسرائيليات أن تدس علينا في ديننا صورًا حسية مغلوطة تخالف ما نص عليه القرآن لحقيقة ما سيجري يوم القيامة، فالجنة محضرة يوم القيامة والنار محضرة يومئذ، والأقرب أن ذلك بمعنى الإبراز وليس بمعنى الانتقال، واستعمال ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾‏ [الفجر: 23] كاستعمال مجيء الملك الحق سبحانه، والمعنى: أُظهرت لهم جهنم، فعندما قال الحق سبحانه ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾‏، ‏فليس يعني هذا أن جهنم قد تحركت من مكانها، وكذا قوله تعالى ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾، وإن كان انتقال الجنة والنار غير ممتنع على حقيقته مثلما هو ممتنع تمام الامتناع في حق الله سبحانه وتعالى، ولكن المجاز قد يكون أقرب خاصة في حالة الجحيم توفيقًا مع آيتي ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ﴾. قال تعالى: ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى﴾‏ [النازعات:36]، وقال تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ﴾‏ [الشعراء: 90-91] وعدًا لمن استحق الثواب بإبراز الجنة لهم (مجاز) أو تقريبها منهم (حقيقة)، ووعيدًا للكافرين بإبراز النار لهم.

وقال الزمخشري –وهو معتزلي- في تأويل قوله تعالى: ‏﴿‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ‏﴾‏‏ [البقرة: 210]: "إتيان اللَّه إتيان أمره وبأسه، كقوله: ‏﴿َ‏‏ْيَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ‏﴾  [النحل: 33]‏‏، ‏﴿‏جاءَهُمْ بَأْسُنا‏﴾‏‏ [الأنعام: 43]. ويجوز أن يكون المأتي به محذوفًا، بمعنى أن يأتيهم اللَّه ببأسه أو بنقمته للدلالة عليه بقوله: ‏﴿‏فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ‏﴾‏‏. فإن قلت: لِمَ يأتيهم العذاب في الغمام؟ قلت: لأنّ الغمام مظنة الرحمة، فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول، لأن الشر إذا جاء من حيث لا يُحتسب كان أغمّ، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يُحتسب كان أسرّ، فكيف إذا جاء الشر من حيث يُحتسب الخير، ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع لمجيئها من حيث يتوقع الغيث".

ومن أشهر أمثلة تفويض وتوقف السلف تفسيرهم آيات الاستواء، فقد ثبت عن أغلب أئمة الصحابة والتابعين أنهم قد توقفوا في أمر الاستواء، قال ابن كثير في تفسيره لآية الاستواء عن العرش بسورة الأعراف (ج3، ص426-427): "وأما قوله تعالى: ‏﴿‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏‏﴾‏‏ [الأعراف: 54] و [يونس:3] و [الرعد: 2] و [الفرقان:59]  و [السجدة: 4] و [الحديد: 4]، فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدًا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما يُسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحق بن راهويه وغيرهم، من أئمة المسلمين قديمًا وحديثًا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل. والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، و ‏﴿‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏‏﴾‏‏ [الشورى:11]".

وأورد الألوسي في تفسيره (روح المعاني) (ج6، ص193-194) "أن العرش مما لا يعلمه البشر (على الحقيقة) إلا بالاسم، وليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملاً له تعالى عن ذلك لا محمولاً، وليس كما قال قوم: إنه الفلك الأعلى، والكرسي فلك الكواكب" وفيه نظر، والناس في الكلام على هذه الآية ونحوها مختلفون، فمنهم من فسر العرش بالمعنى المشهور، وفسر الاستواء بالاستقرار، ورُوي ذلك عن الكلبي ومقاتل، ورواه البيهقي في كتابه "الأسماء والصفات" بروايات كثيرة عن جماعة من السلف وضعّفها كلها. وما رُوي عن مالك رضي الله تعالى عنه "أنه سُئل كيف استوى؟ فأطرق رأسه مليًا حتى علته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ثم قال للسائل: وما أظنك إلا ضالًا، ثم أمر به فأخرج" ليس نصًا في هذا المذهب لاحتمال أن يكون المراد من قوله: غير مجهول أنه ثابت معلوم الثبوت، لا أن معناه وهو الاستقرار غير مجهول".

وأورد الحصني في "دفع شبه من شبّه وتمرد" (ص29-30) قول الأئمة الأربعة في الاستواء، قال: "سُئل الإمام أحمد قدس الله روحه عن الاستواء فقال: "هو كما أخبر لا كما يخطر بالبشر"، يقول الحصني: "فانظر وفقك الله وأرشدك إلى الحق إلى هذه العبارة ما أرشقها، وعلى أتباعه ما أشقها". ثم يتبع الحصني (ص31-32) فيقول: "وسُئل الإمام الشافعي قدس الله روحه عن الاستواء فقال: "آمنت بلا تشبيه، وصدّقت بلا تمثيل، واتهمت نفسي في الإدراك، وأمسكت عن الخوض فيه كل الإمساك". يقول الحصني: "وهذا شأن الأئمة، يمسكون أعنة الخوض في هذا الشأن مع أنهم أعلم الناس به، ولا يخوض فيه إلا أجهل الناس به". ويعني الحصني أنهم أقدر الناس على استخلاص المعاني، ولكنهم يتوقفون، بينما يصرّ الجهلة ويبادرون لإثبات معنى غير مراد ويستحيل في حق الله، ثم يتبع الحصني، "وسُئل الإمام أبو حنيفة قدس الله روحه عن ذلك، فقال: "من قال لا أعرف الله أفي السماء أم في الأرض فقد كفر، لأن هذا القول يؤذن أن لله سبحانه وتعالى مكانًا، ومن توهم أن لله مكانًا فهو مشبه", ثم أردف، وسُئل الإمام مالك عن الاستواء فقال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، فنفى العلم بالكيف، فمن استدل بكلامه على أنه سبحانه وتعالى فوق عرشه فهو لجهله وسوء فهمه، و(الاستواء معلوم) يعني عند أهل اللغة، و(الكيف مجهول) أي بالنسبة إلى الله عز وجل، لأن الكيف من صفات الحدث، وكل ما كان من صفات الحدث فالله عز وجل منزه عنه، فإثباته له سبحانه كفر محقق عند جميع أهل السنة والجماعة، وقوله (والإيمان به واجب) أي على الوجه اللائق بعظمته وكبريائه، وقوله (والسؤال عنه بدعة) لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا عالمين به وبمعناه اللائق بحسب اللغة فلم يحتاجوا إلى السؤال عنه، فلما ذهب العالمون به وحدث ما لم يعلم أوضاع لغتهم، ولا له نور كنورهم، شرع يسأل الجهلة بما يجوز على الله عز وجل، وفرح بذلك أهل الزيغ فشرعوا يدخلون الشبه على الناس، ولذلك تعين على أهل العلم أن يبينوا للناس وأن لا يهملوا البيان، لقوله تعالى: ‏﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ‏‏﴾‏‏ [آل عمران: 187]‏‏. فهذه الأئمة التي مدار الأمة عليهم في دينهم متفقون في العقيدة، فمن زعم أن بينهم اختلافًا في ذلك فقد افترى على أئمة الإسلام والمسلمين، والله حسبه، وسيجزي الله المفترين".

ذكر البيجوري في "حاشيته على جوهرة التوحيد" (ص157-158) "وسأل الزمخشري الغزالي –أي عن الاستواء-، فأجابه بقوله: إذا استحال أن تعرف نفسك بكيفية أو أينية، فكيف يليق بعبوديتك أن تصفه تعالى بأين أو كيف؟ وهو مقدس عن ذلك، ثم جعل يقول:

قل لمن يفهم عني ما أقول **** قصِّر القول فذا شرح يطول

ثم سر غامض من دونه **** قصرت والله أعناق الفحول

أنت لا تعرف إياك ولا **** تدر من أنت ولا كيف الوصول

لا ولا تدري صفات رُكِّبت **** فيك حارت في خفاياها العقول

أين منك الروح في جوهرها **** هل تراها فترى كيف تجول

وكذا الأنفاس هل تحصرها **** لا ولا تدري متى عنك تزول

أين منك العقل والفهم إذا **** غلب النوم فقل لي يا جهول

أنت أكل الخبز لا تعرفه **** كيف يجري منك أم كيف تبول

فإذا كانت طواياك التي **** بين جنبيك كذا فيها ضلول

كيف تدري من على العرش استوى **** لا تقل كيف استوى كيف النزول

كيف يحكي الرب أم كيف يُرى **** فلعمري ليس ذا إلا فضول

فهو لا أين ولا كيف له **** وهو رب الكيف والكيف يحول

وهو فوق الفوق لا فوق له **** وهو في كل النواحي لا يزول

جلّ ذاتًا وصفاتًا وسما **** وتعالى قدره عما تقول

قال ابن الجوزي في "دفع شبهة التشبيه" (ص20): "روى إسماعيل بن أبي خالد الطائي: "جميع السلف على إيراد هذه الآية كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل". وقد حمل قوم من المتأخرين –يقصد بهم الحنابلة- هذه الصفة على مقتضى الحس؛ فقالوا استوى على العرش بذاته. وهذه زيادة لم ينقلوها إنما فهموها من إحساسهم، وهو أن المستوي على الشيء إنما يستوي عليه ذاته. قال ابن حامد –الحنبلي المجسم- الاستواء مماسة وصفة لذاته والمراد به القعود"أهـ.

كما أورد الحصني في "دفع شبه من شبّه وتمرد" (ص28) بعض مما تفرّد به هؤلاء من مجسمة الحنابلة في الاستواء عن سائر سلف الأمة. قال: "هذا القاضي –يعني أبا يعلى- روى عن الشعبي أنه قال أن الله قد ملأ العرش حتى أن له أطيطًا كأطيط الرحل، وهو كذب على الشعبي، وقال بعضهم ‏﴿‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏‏﴾‏‏ قعد عليه. وقال ابن الزاغوني: خرج عن الاستواء بأربع أصابع. ولهم ولأتباعهم مثل ذلك خبائث كلها صريحة في التشبيه والتجسيم لا سيما في مسألة الاستواء، وهو سبحانه وتعالى متنزه عما لا يليق به من صفات الحدث، ثم إن هؤلاء الجمادات وأعالي الجهلة يلزمهم أن يقولوا في الحديث الذي رواه مسلم وغيره ما لم يمكن القول به من أجهل الناس: "ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها" الخ، وبالضرورة لا يكون سبحانه جارحة لعبده، ومع هذا يلزم التعدد بحسب المتقربين والتجزئة والتفرقة وغير ذلك مما لا يقوله حمار، بل ولا جماد. تعالى الله وتقدس عن ذلك"أهـ.

بينما حاول بعض علماء الأمة من المتقدمين تأويل الاستواء تنزيهًا لله تعالى. يقول شيخ مفسري القرآن الإمام الطبري في تفسيره: " قال أبو جعفر: اختلفوا في تأويل قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ‏‏﴾ [البقرة: 29] فقال بعضهم: معنى استوى إلى السماء, أقبل عليها, وقال بعضهم: لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوُّل, ولكنه بمعنى فعله, كما تقول: كان الخليفة في أهل العراق يواليهم، ثم تحوَّل إلى الشام. إنما يريد: تحوّل فِعله. وقال بعضهم: قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ‏‏﴾ يعني به: استوت، وقال بعضهم: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ‏‏﴾ عمدَ لها. وقال: بل كلُّ تارك عملًا كان فيه إلى آخر، فهو مستو لما عمد له، ومستوٍ إليه. وقال بعضهم: الاستواء هو العلو, والعلوّ هو الارتفاع. وممن قال ذلك الربيع بن أنس. ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع، .... قال أبو جعفر: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه: منها انتهاءُ شباب الرجل وقوّته, فيقال، إذا صار كذلك: قد استوى الرّجُل. ومنها استقامة ما كان فيه أوَدٌ من الأمور والأسباب, يقال منه: استوى لفلان أمرُه. إذا استقام بعد أوَدٍ، ومنها: الإقبال على الشيء يقال استوى فلانٌ على فلان بما يكرهه ويسوءه بَعد الإحسان إليه. ومنها. الاحتياز والاستيلاء، كقولهم: استوى فلان على المملكة. بمعنى احتوى عليها وحازَها. ومنها: العلوّ والارتفاع, كقول القائل، استوى فلان على سريره. يعني به علوَّه عليه"أهـ.

ويقول الشريف الرضى في "مجازات القرآن" في تفسير قوله تعالى: ‏﴿‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏‏﴾‏‏ [يونس:3] "هذه استعارة، لأن حقيقة الاستواء إنما تُوصف بها الأجسام التي تعلو وتهبط وتميل وتعتدل، والمراد بالاستواء ههنا الاستيلاء بالقدرة والسلطان، لا بحلول القرار والمكان، كما يُقال: استوى فلان على سرير ملكه، بمعنى استولى على تدبير الملك، وملك معقد الأمر والنهي، ويحسن صفته بذلك، وإن لم يكن له في الحقيقة سرير يقعد عليه، ولا مكان عال يشار إليه، وإنما المراد نفاذ أمره في مملكته واستيلاء سلطانه على رعيته. فإن قيل: فالله سبحانه مسئول على كل شيء بقهره وغلبته ونفاذ أمره وقدرته، فما معنى اختصاص العرش بالذكر ههنا؟، قيل: كما ثبت أنه تعالى رب لكل شيء، وقد قال في صفة نفسه: ‏﴿‏رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏‏﴾ [التوبة: 129] و [ النمل: 26]، وقال: ‏﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ‏‏﴾ [المؤمنون: 116]. فإن قيل: فما معنى قولنا: عرش الله إن لم يُرد بذلك كونه عليه؟، قيل: كما يُقال: بيت الله، وإن لم يُرد كونه فيه، والعرش في السماء تطوف به الملائكة تعبدًا، كما أن البيت في الأرض تطوف به الخلائق تعبدًا"أهـ.

ومن تأويلات المتأخرين، يقول الألوسي في تفسيره (ج11، ص64-65): "‏‏﴿‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏‏﴾‏‏ على المعنى الذي أراده سبحانه وكف الكيف مشلولة، وقيل: الاستواء على العرش مجاز عن الملك والسلطان، متفرع عن الكناية فيمن يجوز عليه القعود على السرير. يُقال: استوى فلان على سرير الملك، ويُراد منه ملك، وإن لم يقعد على السرير أصلاً؛ وقيل: إن الاستواء بمعنى الاستيلاء، وأرجعوه إلى صفة القدرة. وأنت تعلم أن هذا وأمثاله من المتشابه وللناس فيه مذاهب، وما أشرنا إليه هو الذي عليه أكثر سلفة الأمة رضي الله تعالى عنهم، وقد صرح بعض أن الاستواء صفة غير الثمانية لا يعلم ما هي إلا من هي له، والعجز عن درك الإدراك إدارك، واختار كثير من الخلف أن المراد بذلك المُلك والسلطان، وذكره لبيان جلالة ملكه وسلطانه سبحانه، بعد بيان عظمة شأنه وسعة قدرته، بما مر من خلق هاتيك الأجرام العظيمة. وذهب المعتزلة وجماعة من المتكلمين إلى أن العرش على معناه، واستوى بمعنى استولى واحتجوا عليه بقوله: قد استوى بشرى على العراق *** من غير سيف ودم مهراق، وخص العرش بالإخبار عنه بالاستيلاء عليه لأنه أعظم المخلوقات، ورد هذا المذهب بأن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى، وإنما يقال استولى فلان على كذا إذا لم يكن في ملكه ثم ملكه واستولى عليه، والله تعالى لم يزل مالكًا للأشياء كلها ومستوليًا عليها ونُسب ذلك للأشعرية"أهـ.

وأقول: لولا أن السلفية مجسمة، يقيسون الله على عباده ويجسموه، ما فسروا الاستواء بالقعود، لأن الاستواء بالنسبة للخلق قد يعني التمام على أحسن ما يُراد للمخلوقات، ولأنه لا شيء في الآية يشي بأن الاستواء هو القعود إلا إن توهموه سبحانه جسمًا. يقول الشريف الرضى في "مجازات القرآن" في تفسير قوله تعالى ‏﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ‏‏﴾ [البقرة: 29]: "أي قصد إلى خلقها كذلك لأن حقيقة الاستواء الذي هو تمام بعد نقصان، أو استقامة بعد اعوجاج، من صفات الأجسام، وعلامات المحدثات"أهـ.

حتى الإمام ابن حزم الظاهري كان من المؤولين للاستواء لامتناع أن يكون المعنى على ظاهره في حق الله سبحانه وتعالى. يقول ابن حزم في "الفِصل" (ج2/باب الكلام في المكان والاستواء، ص290-292) ‏"والقول الرابع في معنى الاستواء هو أن معنى قوله تعالى ‏﴿‏عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى‏‏﴾ [طه: 5]‏‏: أنه فعل فعله في العرش وهو انتهاء خلقه إليه، فليس بعد العرش شيء، ويبين ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الجنات، وقال: فاسألوا الله الفردوس الأعلى فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة، وفوق ذلك عرش الرحمن، فصح أنه ليس وراء العرش خلق، وأنه نهاية جرم المخلوقات الذي ليس خلفه خلاء ولا ملاء، ومن أنكر أن يكون للعالم نهاية من المساحة والزمان والمكان أو من جرمه فقد لحق بقول الدهرية وفارق الإسلام. والاستواء في اللغة يقع على الانتهاء قال الله تعالى: ‏﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا‏‏﴾‏‏ [القصص: 14] أي: فلما انتهى إلى القوة والخير. وقال تعالى: ‏﴿‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ‏‏﴾‏‏ [فصلت: 11]. أي أن خلقه وفعله انتهى إلى السماء بعد أن رتب الأرض على ما هي عليه، وبالله تعالى التوفيق. وهذا هو الحق وبه نقول لصحة البرهان به وبطلان ما عداه. فأما القول الثالث في المكان فهو أن الله تعالى لا في مكان ولا في زمان أصلًا، وهو قول الجمهور من أهل السنة، وبه نقول، وهو الذي لا يجوز غيره لبطلان ما عداه، ولقوله تعالى: ‏﴿أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ‏‏﴾‏‏ [فصلت: 54]‏‏. فهذا يوجب ضرورة أنه تعالى لا في مكان إذ لو كان في المكان لكان المكان محيطًا به من جهة ما أو من جهات، وهذا منتفٍ عن الباري تعالى بنص الآية المذكورة، والمكان شيء بلا شك، فلا يجوز أن يكون شيء في مكان ويكون هو محيطًا بمكانه، وهذا محال في العقل يعلم امتناعه ضرورة. وبالله التوفيق. وأيضًا فإنه لا يكون في مكان إلا ما كان جسمًا أو عرضًا في جسم، هذا الذي لا يجوز سواه، ولا يتشكل في العقل والوهم غيره البتة، فإذا انتفى أن يكون الله عز وجل جسمًا أو عرضًا فقد انتفى أن يكون في مكان أصلًا، وبالله تعالى نتأيد. وأما قوله تعالى: ‏﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ‏‏﴾‏‏ [الحاقة: 17]، فقوله الحق نؤمن به يقينًا، والله أعلم بمراده في هذا القول، ولعله عز وجل عنى السموات –السبع- والكرسي، فهذه ثمانية أجرام، هي يومئذ والآن بيننا وبين العرش، ولعلهم أيضا ثمانية ملائكة، والله أعلم. نقول ما قال ربنا تعالى ونقطع أنه حق يقين على ظاهره، وهو أعلم بمعناه ومراده. وأما الخرافات فلسنا منها في شيء، ولا يصح هذا في خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنا نقول: هذه غيوب لا دليل لنا على المراد بها، لكنا نقول ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: 7]‏، وكل ما قاله الله تعالى حق ليس منه شيء منافيًا للمعقول، بل هو كله قبل أن يخبرنا الله به في حد الإمكان عندنا، ثم إذا أخبر به عز وجل صار واجبًا حقًا يقينًا، وقد قال تعالى: ‏﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ‏‏﴾‏‏ [غافر: 7]‏‏، فصحّ يقينًا أن للعرش حملة، وهم الملائكة المنقادون لأمره تعالى، كما نقول أنا أحمل هذا الأمر أي أقوم به وأتولاه، وقد قال تعالى: ‏﴿‏وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏‏﴾ [النحل:50] و [التحريم: 6]‏‏. وأنهم يتنزلون بالأمر، وأما الحامل للكل والممسك للكل فهو الله عز وجل، قال الله تعالى: ‏﴿‏إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [فاطر: 41]‏‏"أهـ.

وابن حزم هنا يوافق ما نُسِب إلى الفضيل بن عياض والأشعري وغيرهم، من أن الاستواء صفة فعل، محله العرش، كما أن ابن حزم يقول نفس الشيء في النزول، فهو فعل فعله الله في السماء سمّاه نزولًا، لأن ذات الله تعالى ليست محلًا للحوادث. ولا يسمى الاستواء والنزول صفتي معاني لأنه ليست لهما حقيقة وجودية تقوم بذات الله. فخلاصة قول أهل السُنة في الاستواء إما التفويض مع نفي الظاهر، أو التأويل، أو اعتباره صفة فعل، ولم يدَّع أحد أنه صفة ذات غير مجسمة السلفية. حتى كبار علمائهم نفروا من ذلك الادعاء. في ترجمة الذهبي في ‏"سير أعلام النبلاء" (ج 19، ص606-607)‏ لأبي الحسن ابن الزاغوني الحنبلي المجسِّم، ذكر أمر قصيدته التي شرح فيها عقيدته، وفيها بيت من الشعر قال فيه:‏

عالٍ على العرش الرفيع بذاته***سبحانه عن قول غاوٍ وملحد

قال الذهبي –وهو من كبار منتحلي عقيدة الحنابلة-: "وقد ذكرنا أن لفظة "بذاته" لا حاجة إليها، وهي تشغب النفوس، ‏وتركها أولى".

وغير ذلك من نسبتهم الجوارح والأفعال إلى الله الكثير مما لا تليق به سبحانه؛ فأصرت الفرقة المسماة بالسلفية على مخالفة سائر الأمة قديمها وحديثها، والقطع وفقًا لظاهر النص بأن الاستواء يعني الجلوس والاستقرار على العرش، وأن ملائكة عظام يحملون العرش والله تعالى -وحاشاه- جالس عليه، وينسبون لله القدمين ويقولون والكرسي موضع قدميه والعياذ بالله، مع ما في ذلك من تجسيم وتقليل من شأن الله بجعله محمولًا على شيء من خلقه. والأهم أن من بين من خالفوا من يدعون أنه إمامهم.

ويرتبط باعتقادهم الشاذ في الاستواء عقيدة أخرى هي عقيدة الإقعاد؛ حيث يدّعون أن المقام المحمود الذي وعد الله به نبيه صلى الله عليه وسلم ليس إعطائه الشفاعة يوم القيامة، بل إقعاده بجانبه على العرش! وعقيدة الإقعاد هي فكرة إسرائيلية وتوجد أيضًا في عقائد النصارى. ورد في قاموس الكتاب المقدس- دائرة المعارف الكتابية المسيحية (ص 795) "وقد وصُف يسوع بأنه رئيس كهنة المؤمنين العظيم، الذي نضح قدس الأقداس بدمه، والذي جلس عن يمين الآب هناك، حيث هو الآن يشفع فيهم (عب 4: 14 و7: 25 و9: 12 الخ...)". وقد سبق أن قلنا إن أساس الحشوية هي اتصالهم باليهود والنصارى.

وبالنظر في الروايات التي أثبت بها السلفية -مدّعو التمسك بالنصوص- عقيدة الإقعاد، سنجد أن أيًا منها لا ينتهي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هي مما رواه شخص اسمه سيف السدوسي عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه الحبر اليهودي الذي أسلم على زمن الرسول، وسيف السدوسي هذا من المجاهيل عند أهل الحديث، فلا يُعبأ بروايته خاصة إن كانت في أمر العقائد، أما النصف الثاني من الروايات فهي تفسير لآية المقام المحمود تفرّد به مجاهد بن جبر، ونقله عنه الليث بن سعد، وخالف به جموع المفسرين، بل وخالف متون الروايات التي صحّت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، التي أثبتت أنه سُئل عن المقام المحمود فأجاب بأنه الشفاعة.

وقد عمد أبو بكر الخلال الحنبلي إلى جمع كل تلك الروايات الساقطة في كتابه "السُنة" (ج1)، وأفرد لها فصلًا كاملًا تحت عنوان (ذكر المقام المحمود)، ومن تلك الروايات‏: (307) "حدثنا أبو بكر، قال: ثنا عباس العنبري، قال: ثنا يحيى بن كثير، قال: ثنا سلم بن جعفر، وكان، ثقة عن الجريري، عن سيف السدوسي، عن عبد الله بن سلام: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة على كرسي الرب". قيل للجريري: إذا كان على كرسي الرب فهو معه، قال: نعم، وزادني إبراهيم الأصبهاني في هذا الحديث، عن عباس بإسناده، قال: قال الجريري: "ويحكم، ما في الدنيا حديث أقر لعيني من هذا الحديث". ويمكن الرجوع لكتاب الخلال للاستزادة من تلك الروايات وكلها بنفس الألفاظ تقريبًا.

أما عن الروايات التي تعود كلها إلى مجاهد بن جبر، وتثبت تفسيره للمقام المحمود بالإقعاد، فقد زاد الحنابلة عن مجاهد بأن اتهموا رافضي هذا التفسير بالتبديع. ومنها: (303) "قال أبو بكر: سألت أبا قلابة عن حديث ابن فضيل هذا، فقال: حدثنا عمرو بن علي بن بحر بن كنيز، قال: ثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: ‏﴿‏عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا‏‏﴾‏‏ [الإسراء:79]، قال: "يقعده على العرش"، قال أبو قلابة: لا يرد هذا إلا أهل البدع والجهمية".

وفي رواية ثانية (314) ، "حدثنا أبو بكر، قال: "سألت الحسن بن الفضل عن حديث مجاهد: "يقعده على العرش"، فقال: حدثنا هارون بن معروف، وعثمان، عن ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد: ‏﴿‏عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا‏‏﴾‏‏ [الإسراء:79]، قال: "يقعده على العرش"، قال: وقال: من رد هذه الأحاديث فهو مبتدع ضال. قال: ما أدركنا أحدًا يرده إلا من في قلبه بلية، يُهجر ولا يُكلم".

وفي رواية ثالثة (310)، حدثنا أبو بكر، قال: ثنا محمد بن عمر المصيصي، قال: "ثنا محمد بن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، في قول الله عز وجل: ‏﴿‏عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا‏‏﴾‏‏ [الإسراء:79]، قال: "يقعده معه على العرش"، قال: فمن رد حديث عبد الله بن سلام وحديث مجاهد في المقام المحمود، فقد أزرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد فضله، وكان عندنا مبتدعًا".

وفي رواية رابعة (311)، حدثنا أبو بكر، قال: ثنا أبو الفضل عباس بن محمد الدوري، قال: "سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام، يقول: هذه الأحاديث حق لا يُشك فيها، نقلها الثقات بعضهم عن بعض حتى صارت إلينا، نُصدق بها، ونُؤمن بها على ما جاءت. قال أبو الفضل: ونحن نقول في هذه الأحاديث ما قال أحمد بن حنبل متبعين له ولآثاره في ذلك".

وأقول: فما بال الإمام أحمد لم يرو تلك الأحاديث في مسنده، بينما روى الحديث الذي يُثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فسر المقام المحمود بالشفاعة؟! والله لقد كذبتم على أحمد بن حنبل.

والأعظم كان فتوى بعضهم بقتل راديّ هذا التفسير، حيث ورد أيضًا في كتاب الخلَّال: (304) حدثنا أبو بكر، قال: جاءني كتاب علي بن سهل بخطه، وفيه حدثنا هارون بن معروف، وخلاد بن أسلم، قالا: ثنا محمد بن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: ‏﴿‏عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا‏‏﴾‏‏ [الإسراء:79]، قال: "يجلسه على العرش". وهذه فضيلة للنبي صلى الله عليه وسلم فمن ردّ فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر، ولقد قال سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى: قلت لأبي: لو رأيت رجلًا يسب أبا بكر ما كنت صانعًا به؟ قال: أقتله، قلت: فعمر؟، قال: أقتله، فهي لأبي بكر وعمر، فكيف بمن رد فضائل النبي؟".

فهل من فضائل النبي ما يقتضي الإيمان بتجسيم الله كما يعتقد الحشوية؟! جاء في كتاب الخلّال أيضًا، (320) حدثنا أبو بكر، قال: ثنا أبو بكر بن خلاد الباهلي، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن عبيد بن عمير: ‏﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى‏‏﴾‏‏ [ص: 25]، قال: "ذكر الدنو حتى يمس بعضه"! وفي رواية أخرى، (323) حدثنا أبو بكر، قال: حدثني محمد بن بشر، قال: ثنا عبد الرحمن بن شريك، قال: ثنا أبي قال: حدثني أبو يحيى القتات، وإسماعيل بن عبد الله السدي، قال أبو يحيى: عن مجاهد، وقال السدي: عن أبي مالك، عن ابن عباس، في قوله: ‏﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى‏‏﴾‏‏ [ص: 25]، قال: "يدنو منه حتى يقال له: خذ بقدمي"! وأقول: ثم يتعجبون أن يُقال لهم مجسمة! وعلى ذكر الدنو والقرب من الذات، أورد الحصني في "دفع شُبه من شبّه وتمرد" (ص27) قول القاضي أبي يعلى الحنبلي المجسم في حديث (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش أن رحمتي غلبت غضبي) أن ظاهر قوله (عنده) القرب من الذات. قال الحصني: "وما قاله يستدعي القرب والمساحة، وذلك من صفات الأجسام، وقد عمي عن قوله تعالى: ‏﴿‏مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ‏‏﴾ [هود: 83]. ومن المعلوم أنك تقول عندي فوق الغرفة كتاب كذا، وهو في موضع شاسع نازل عن الغرفة بمسافة بعيدة"أهـ.

والغريب أن الإمام الطبري في تفسيره (ج15، ص114-115) قد أورد اسم ابن عباس -الذي يفترون عليه في رواية ‏﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى‏‏﴾‏‏ [ص: 25]‏‏- من بين الصحابة والتابعين الذين ورد عنهم أن المقام المحمود هو الشفاعة، بل وأورد الطبري اسم مجاهد بن جبر فيهم!

وكما رأينا فقد تباروا في سرد الروايات لإثبات نسبة ذلك التفسير إلى مجاهد بن جبر كما لو كان حديثًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكال الخلّال الاتهامات لكل من رد هذا التفسير واعتبره جهميًا لذلك. ولم يورد الخلال في المقابل أي رواية من صحاح الروايات التي أثبتت الشفاعة كتفسير للمقام المحمود، وليس هذا بغريب عليهم، والسؤال: ما قيمة ذلك التفسير الشاذ العجيب الذي تفرّد به مجاهد ليلزموا به أنفسهم خروجًا عن إجماع المفسرين، بل ويكفروا من لا يوافقهم فيه حتى ثارت الفتن مرات بسببه، وأشهرها فتنة حدثت سنة 317هـ وأُريقت فيها دماء المسلمين؟، خاصة مع وجود متون روايات أخرى لأحاديث المقام المحمود تثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه فسره بالشفاعة، مع كونه قول باقي المفسرين من الصحابة والتابعين وكبار الأئمة.

ومن تلك الروايات الصحيحة، روى البخاري في صحيحه كتاب التفسير باب قوله ‏﴿‏عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا‏‏﴾‏‏ [الإسراء:79]، حديث (4718): (حدثني إسماعيل بن أبان حدثنا أبو الأحوص عن آدم بن علي قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إن الناس يصيرون يوم القيامة جثًا، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود. وروى في باب (من سأل الناس تكثرًا)، حديث (1475): (حدثنا يحيى بن بُكير: حدثنا الليث، عن عبيد الله بن أبي جعفر قال: سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر قال: ‏سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ‏الشمس تدنو يوم القيامة، حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم ‏بمحمد صلى الله عليه وسلم".‏ وزاد عبد الله بن صالح: حدثني الليث: حدثني ابن أبي جعفر: "فيشفع ليُقضى بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة ‏الباب، فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا، يحمده أهل الجمع كلهم".‏ وقال مُعلى: حدثنا وهيب، عن النعمان بن راشد، عن عبد الله بن مسلم، أخي الزهري، عن حمزة: سمع ‏ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسألة.‏ كما روى الإمام البخاري في صحيحه الحديث (7440) وهو حديث مطول يذكر سؤال الناس للأنبياء أن يشفعوا لهم حتى ينتهي الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم فيشفع لهم، ويثبت في نهاية الحديث "وهذا المقام المحمود الذي وُعده نبيكم صلى الله عليه وسلم".

كما أخرج الإمام أحمد في مسنده 3/456 (15821)- حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا يزيد بن عبد ربه، قال: حدثني محمد بن حرب، قال: حدثني الزبيدي، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن كعب بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُبعث الناس يوم القيامة، فأكون أنا وأمتي على تل، ويكسوني ربي تبارك وتعالى حلة خضراء، ثم يُؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول فذاك المقام المحمود". وبمسنده حديث آخر مطول 1/398 (3787) وحديث 2/441 (9682) وحديث 2/444 (9733) كلها في ذات الباب.

‏وروى الترمذي حديث (3137) (5/303)‏، عن أبي هريرة قال: ‏قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله ‏﴿‏عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا‏‏﴾‏‏ سُئل عنها ‏قال: "هي الشفاعة".

وقال الفخر الرازي في تفسيره (ج21، ص32): "في تفسير المقام المحمود أقوال: الأول، أنه الشفاعة. قال الواحدي: أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية «هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي»، وأقول: اللفظ مشعر به، وذلك لأن الإنسان إنما يصير محمودًا إذا حمده حامد، والحمد إنما يكون على الإنعام؛ فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقامًا أنعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه على قوم، فحمدوه على ذلك الإنعام، وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون هو تبليغ الدين وتعليم الشرع لأن ذلك كان حاصلًا في الحال، وقوله ‏﴿‏عَسَى‏‏﴾‏‏ تطميع"....، ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى –الشفاعة-. ثم عرض الرأي الثاني فذكر فيه حديث حُذيفة بأنه دعاء يقوله الرسول يوم الموقف، وضعفّه، ثم الرأي الثالث وهو تفسير مبهم بأنه مقام تُحمد عاقبته، وضعفّه أيضًا، ثم قال الواحدي: روى عن ابن مسعود أنه قال: يقعد الله محمدًا على العرش، وعن مجاهد أنه قال: يجلسه معه على العرش، ثم قال الواحدي: وهذا قول رذل موحش فظيع، ونص الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير ويدل عليه وجوه".

‏وقد توسع الإمام الطبري في تفسيره "جامع البيان في تفسير آي القرآن" (ج17، ص526: 532) الذي انتهى من تأليفه سنة 270 –وكان عبد الله بن أحمد بن حنبل حيًا- في ‏تفسير قوله تعالى ‏﴿‏عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا‏‏﴾‏‏ [الإسراء:79] فسرد فيه صفحات، قال: "ثم اختلف أهل التأويل في معنى ذلك المقام المحمود، فقال أكثر أهل العلم: ذلك هو ‏المقام الذي هو يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه ‏من شدّة ذلك اليوم". ثم ذكر روايات كثيرة –يمكن الرجوع إليها في تفسيره- عن صحابة وتابعين قالوا بذلك منهم حُذيفة وابن عباس والحسن وسلمان وقتادة، والأدهى أنه ذكر من بينها روايتين عن مجاهد بن جبر تثبت تفسيره المقام المحمود بالشفاعة، ثم أتبع الإمام الطبري: "وقال آخرون: بل ذلك المقام المحمود الذي وعد الله نبيّه أن يبعثه إياه، هو أن يقاعده ‏معه على عرشه". ‏وذكر رواية واحدة تثبت هذا الرأي عن ليث عن مجاهد، وختم الطبري بأن حكم: "وأولى القولين في ذلك بالصواب ما صحّ به الخبر عن رسول الله". ثم استفاض في سرد روايات صحيحة إلى رسول الله عن ابن مسعود وعليّ بن الحسين وابن عمر وكعب بن مالك تثبت قوله صلى الله عليه وسلم أن المقام المحمود هو الشفاعة –ويمكن أيضًا الرجوع إليها في تفسيره-، ومنها رواية ذُكر فيها الليث. ثم يعلق الطبري: "وهذا وإن كان هو الصحيح من القول في تأويل قوله ‏﴿‏عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا‏‏﴾‏‏ ‏لما ذكرنا من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، فإن ما قاله مجاهد من أن الله ‏يُقعد محمدًا صلى الله عليه وسلم على عرشه، قول غير مدفوع صحته، لا من جهة خبر ولا نظر، وذلك لأنه لا خبر عن ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن التابعين بإحالة ذلك". كما كرر الطبري تفسيره للمقام المحمود بالشفاعة عند تفسيره لآية أصحاب الأعراف وفي تفسيره ‏لقوله تعالى: ‏﴿‏وَإِذَا الأرْضُ مُدَّتْ‏‏﴾ [الانشقاق:3]‏‏. وقد حدثت للإمام الطبري محنة مع حنابلة بغداد بسبب تفسيره للمقام المحمود بالشفاعة سنعرض تفاصيلها عند ذكر نماذج من الفتن التي أثاروها.

كما فسّر ابن كثير في تفسيره للقرآن المقام المحمود بالشفاعة، ونقل جملة أحاديث كثيرة صححّها كبار المحدثين إلى رسول الله تثبت ذلك. فأمر تفسير المقام المحمود بالشفاعة أمر متواتر والأدلة عليه كثيرة مترادفة، ولكنهم كعادتهم يشذّون ويكفّرون المسلمين. ولكن للأمانة العلمية فهذا ليس حالهم كلهم، فقد أنكر عطية الزهراني، محقق كتاب "السُنة" لأبي بكر الخلال إصراره على تفسير المقام بالمحمود بالإقعاد على العرش، وذكر تضعيف الإمام الذهبي لهذا التفسير، كما نقل المحقق عن الذهبي إنكار الإمام أحمد هذا التفسير، على العكس من الروايات -بل والمنامات- التي ضمنّها الخلال كتابه، والتي احتج بها الخلال على كفر منكر تلك العقيدة الشاذة.

أصرت غالبية الفرقة المسماة بالسلفية، ومن سار على درب مقاتل بن سليمان، على ‏مخالفة سائر الأمة قديمها وحديثها، والقطع وفقًا لظاهر النصوص أن لله تعالى –وحاشاه- صورة وجوارحًا، فجسّموه وصيّروه صنمًا أو كالمارد يجلس على العرش تعالى الله عما قالوا علوًا كبيرًا. وقد حمل أبو الفرج ابن الجوزي –وهو حنبلي- في كتابه "دفع شبهة التشبيه" على المشبِّهة، خاصة ابن خزيمة وابن حامد وأبي يعلى، ممن نسبوا إلى الله تعالى إضافة إلى ما سبق: اللهات والأضراس، والتنفس، والفرح والحياء والغيرة، والمشي والهرولة وسائر أشكال الحركة والانتقال والمماسة والقرب المكاني، وجعلوا له مكانًا في السماء وعلى العرش، وقالوا على من أنكره أنه منكر لعلوه سبحانه. وقد قال الإمام الغزالي: "فوقية الله لا تجعله قريبًا من السماء، كما لا تجعله بعيدًا عن الثرى"، ولكنهم مصرون على العلو الحسي. وجعلوا له دارًا هي جنة عدن، وقد توسع ابن الجوزي في الرد على كل ما يستدلون به من الآيات والأحاديث على صحة تجسيمهم وزيّفها. كما خصّص الفخر الرازي بابًا كاملًا من كتابه "أساس التقديس" لعرض الأدلة العقلية والنقلية التي يستدل بها المشبهة من الحنابلة والكرامية على وجود الجوارح وإثبات الجسمية والتحيز ونحوه في حق الله تعالى عما يقولون علوًا كبيرًا، وتوسع في الرد عليها بالأدلة العقلية والنقلية المقابلة، وبيَّن زيف أدلتهم.

بالنسبة للإمام أبي بكر بن خزيمة، وهو شافعي المذهب، لكنه من كبار المتحنبلين عقيدة، وقد بالغ في إثبات الصفات إلى حد التجسيم والتشبيه. يظهر هذا جليًا في كتابه "التوحيد"، يدعي الأشاعرة المحدثون أن ابن خزيمة قد عاد من التجسيم إلى توحيد السلف الخالص القائم على التفويض. ولكن ما يستدلون به مما رواه الإمام البيهقي في "الأسماء والصفات" في ختام باب الفرق بين المتلو والتلاوة، أضعف من أن يُستدل به على ادعائهم. وهناك قصة مطولة رواها الذهبي في ترجمته في "السير" لوقيعة حدثت بينه وبين أصحابه، بسبب الاعتقاد في كلام الله تعالى، تظهر أسباب الخلاف بينه وبين أصحابه مفصّلة، وليس فيها ما يشي بتغير طرأ على عقيدته يتفق مع اعتقاد الأشاعرة. والسُبكي أيضًا يبريء ابن خزيمة في "طبقات الشافعية" (ج3، ص119) من التشبيه، ويستدل بتأويله حديث الصورة، ولا أراه كافيًا، فكتابه محشو بإثبات كل ما عدا ذلك، وقد كان يكره المتكلمين فعلًا، لكنه كان مشبهًا لا مفوضًا. والغريب أنه قد ثبت عن ابن خُزيمة أنه قرأ تفسير الطبري، وكان عصريّه، وقال أنه لا يعلم أحدًا على ظهر الأرض أعلم منه، مع أن تفسير الطبري مليء بالنقول التي تثبت التأويل وليس التجسيم!

وترجع كراهية الحنابلة للتأويل إلى أن المعتزلة أوّلوا الآيات التي فهموا منها أن القرآن مخلوق، وذلك كما يظهر من نصوص المناظرات التي أوردها الإمام الطبري في تاريخه لمحنة الإمام أحمد بن حنبل، وربما لهذا السبب لم يقبل البربهاري ما عرضه عليه الإمام الأشعري عندما دخل بغداد رغم إعلانه تبرئه من عقائد المعتزلة وأهمها اعتقادهم في خلق القرآن، وقد كان سبب المحنة.

وزادت الفرقة المسماة بالسلفية، ومن سار على درب مقاتل بن سليمان، بأن كذبوا على الأشاعرة في تزييف كتاب "الإبانة" للإمام الأشعري ينسبون فيه إليه ما يلزم اعتقاده بالجسمية، وهو ما ليس من عقيدة الأشاعرة بتاتًا؛ فليس من اعتقاد الأشعري، ولا أورده عنه أي من علماء طبقات الأشاعرة بدءًا بالطبقة الأقرب إليه مثل أبي بكر الباقلاني وأبي إسحق الإسفراييني وأبي بكر بن فورك، ولا من تلاهم كالبيهقي أو الجويني أو الغزالي، أو ابن عساكر! وهذا ليس بجديد على السلفية؛ فهم أساطين التحريف والكذب على الأئمة.

ذكر السُبكي في "طبقات الشافعية" (ج2، ص16) " وفى المبتدعة، لا سيما المُجسِّمة، زيادة لا توجد فى غيرهم، وهو أنهم يرون الكذب لنصرة مذهبهم، والشهادة على من يخالفهم فى العقيدة بما يسوءه فى نفسه وماله بالكذب؛ تأييدًا لاعتقادهم، ويزداد حنقهم وتقربهم إلى الله بالكذب عليه بمقدار زيادته فى النيل منهم. فهؤلاء لا يحل لمسلم أن يعتبر كلامهم"أهـ.

ومن أمثلة ما افتُضِح من كذبهم لنصرة مذهبهم، ذكر السبكي في "طبقات الشافعية" (ج3، ص399) "وقد أورد الحافظ –يعني ابن عساكر- بعض هذه الرسالة –رسالة القشيري في شكاية أهل السُنة، ورسائل العلماء التي تبعتها- فى كتابه –تبيين كذب المفتري- ونحن نرى أن نوردها كلها، فإنه يُخشى على مثلها الضياع إذا تمادى الزمان؛ فإن هذا شأن المصنفات اللطاف لا سيما ما يغيظ أهل الباطل، فإنهم يبادرون إلى إعمال الحيلة فى إعدامه. لقد كان عند الشيخ الإمام –يعني والده السُبكي الكبير- نسخة من كتاب (تبيين كذب المفتري)، لا يُحسن الرائي أن يقرأ منها حرفًا لما هو مكتوب فى حواشيها وبين أسطرها من أمور لا تتعلق بالكتاب، بخط بعض فضلاء الحنابلة الذين يلمزون ببعض الأشاعرة، فسألت الشيخ الإمام، فقال: هذه النسخة شريتها من تركة الحافظ سعد الدين الحارثي، وكأنهم كانوا يريدون إعدامها"أهـ. وأقول: ربما كان الأصح أنهم كانوا يريدون إعدامها بعد أن يزيفوها بنقل ذلك المكتوب في حواشيها بدلًا من بعض ما كان في النسخة الأصلية، ولكن السبكيين كانا حسنيّ النية، فلم يفطنا لمعنى كل تلك الكتابة في الحواشي وبين الأسطر.

وذكر السُبكي في "الطبقات" أيضًا (ج2، ص19) " وقد وصل حال بعض المُجسِّمة فى زماننا –يعني القرن الثامن الهجري- إلى أن كتب شرح صحيح مسلم للشيخ محيى الدين ‏النووى، وحذف من كلام النووى ما تكلم به على أحاديث الصفات؛ فإن النووى أشعرى العقيدة، فلم ‏تحمل قوى هذا الكاتب أن يكتب الكتاب على الوضع الذى صنَّفه مُصنِّفه، وهذا عندى من كبائر الذنوب فإنه تحريف للشريعة وفتح باب لا يؤمن معه بكتب الناس وما فى ‏أيديهم من المصنفات، فقبّح الله فاعله وأخزاه، وقد كان فى غنية عن كتابة هذا الشرح، وكان الشرح ‏فى غنية عنه"أهـ.

فقد كذب الحنابلة من قديم على كثير من أئمة المسلمين، وحاولوا تحريف كتبهم، ودس عقائدهم فيها، وما ذكرناه لا يعدو كونه أمثلة، فادّعوا أئمة كالجويني والغزالي، وهما من كبار الأصوليين الأشاعرة، أنهما تراجعا عن عقيدتهما الأشعرية أواخر أيامهما، ومالا إلى عقيدة المجسمة التي يصفونها بعقيدة السلف! وادّعوا الإمام البخاري والحافظ أبي نُعيم الأصبهاني، الذين لقيا الأذى من حنابلة زمانهم، أنهما على عقيدتهم! ووصل الأمر إلى أن بعض السلفية المحدثين صاروا يدّعون الإمام الفخر الرازي، مجدد القرن السادس، الذي شنّع عليه ابن تيمية أشد التشنيع، وكتب كتابًا يناقض كتابه "أساس التقديس"، ووصفه فيه بأنه قرن الشيطان الذي تنبأ النبي بخروجه من المشرق، ووصل الأمر بابن تيمية، خاصة في كتابه "بيان تلبيس الجهمية"، إلى حد اتهام الإمام الرازي زورًا بالشرك وعبادة الأوثان والرِدّة عن دين الإسلام! ونقل عنه ابن عبد الوهاب تكفير الرازي في "مسائله"! وكل هذا لأجل أن يثبتوا زورًا أن أئمة المسلمين عبر العصور على عقيدتهم.

وهناك من عقائد الحنابلة الكثير الذي يمكن الحديث عنه، واجتهدوا للتلبيس على العامة أنه اعتقاد السلف، كاعتقادهم بحرمة التوسل، وحرمة شد الرحال لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، كما كان يزعم ابن تيمية، حتى حرّفوا كتب أئمة السلف التي حقّقوها وطبعوها، بإزالة كل ما يثبت قيامهم بذلك، كقصة العتبي والأعرابي عند قبر الرسول، والقصيدة الشهيرة (يا خير من دُفنت في القاع أعظُمه)؛ وذلك حتى يظهر للعوام أنهم متابعون للسلف على عكس مخالفيهم، والعكس صحيح. وسأتوقف عند هذا الحد في نقدي لعقيدتهم. إنما أردت إعطاء صورة عما يُزوِّرون وتطول ألسنتهم بأنه عقيدة السلف، وستضح الصورة أكثر عن هذه الفرقة عند عرض نماذج من الفتن التي افتعلوها.

 

د. منى زيتون

 

في المثقف اليوم