دراسات وبحوث

محمد عبده: التوحيد والإصلاح (1)

ميثم الجنابيإن الملاذ الأخير لحياة المصلحين يعادل ما اختزنوه في منظومة الفكر ومصيرها التاريخي. ولا تخلو هذه الحالة من مفارقة غريبة حينا ومأساوية حينا آخر. غير أن للحياة والفكرة نهايتهما بوصفها بداية جديدة أو متجددة. من هنا احتمال أفول الفكرة شأن الحياة قبل أن تكتمل في ما يمكنه أن يكون روحا قادرا على الحياة، أو إعادة نسخها أو مسخها بوصفها جزء من "المصير التعيس" لحياة الفرد والفكر على السواء. إذ لا قانون فاعل في هذه الحالة غير مفارقة الوجود والاحتمال الكامنة فيه. وعادة ما يتحسس المفكر الكبير هذه المفارقة عند غروب الحياة أو مشارفتها كما لو انه يتحسس آفاق الرغبة والرهبة القائمة في ما كان ينوي القيام به ويسعى إليه. وقد تكون هي الحالة التي واجهها محمد عبده آخر حياته عندما شدد في سيرته المقطوعة عن أن جميع مواقفه من المجتمع والدولة كانت مهمومة "بروح الدعوة"، رغم كونه لم يكن إماما متبع، ولا رئيسا مطاع. بمعنى انه كان يتحسس ويدرك ويحدس قيمة "الروح" في الدعوة، بوصفها دعوة إصلاحية، أي انه كان يسعى لدفع الفكرة الإصلاحية صوب تكاملها الفلسفي. وليس مصادفة فيما يبدو سعيه أواخر حياته لجمع وتنسيق محاضراته الكلامية في (رسالة التوحيد)، كما لو أنها الملاذ الأخير لروح الدعوة الإصلاحية.

إننا نعثر في المنحى الفكري والغاية النظرية لكتاب (رسالة التوحيد) على محاولة أخيرة لتطويع فكرة التوحيد ضمن سياق رؤيته الإصلاحية، أي تحريرها من الاختمار بمعايير الرؤية السياسية. ومن الصعب القول في ما إذا كان محمد عبده يعي ذلك أم لا، لكن منطق الإصلاحية والنسبة المتكافئة للاعتدال في تفكيره وشخصيته تجعل من هذه الفرضية أمرا محتملا. كما انه احتمال يتصف بقدر كبير من الواقعية حالما نقرأ (رسالة التوحيد) ضمن هذا السياق. فقد تضمنت الصيغة الهادئة "لرسالة التوحيد" بين جوانحها هدوء محمد عبده وسكونه المتراكم في شيخوخته التي أدركت مع مرور الزمن الحقيقة القائلة، بأن الزمن يندثر والتاريخ يبقى. ومن ثم ليس هناك من فكرة جوهرية في تاريخ الإسلام أكثر أهمية من التوحيد. بل هي الفكرة التي شغلت في الواقع كل تفكير جرئ في محاولاته البحث عن علة العلل أو ترابطها في الوجود والزمن، أو استكناه سرّ الحياة ومعناها. ذلك يعني أنها العقدة المتراكمة في كل بحث يرمي إلى بناء منظومة عن الوجود الطبيعي والماوراطبيعي. وليس مصادفة أن يشير محمد عبده في تقديمه "لرسالة التوحيد" إلى انه سلك في ما يكتبه فيها عن "العقائد مسلك السلف، ولم يعبأ في سبر آراء الخلف". وانه ابتعد عن "الخلاف بين المذاهب بُعدَ ممّليه عن أعاصير الشغب"[1].

لقد أراد محمد عبده القول، بأن ما يضعه هنا هو فكر أقرب إلى حالة الإسلام الأول في موقفه من فكرة التوحيد. لهذا لم يعبأ بما سطّره كلام المتأخرين وجدلهم الصاخب. لهذا ابتعد عما كان مميزا لمراحل ونماذج الخلاف ابتعاده هو نفسه عما اسماه بأعاصير الشغب. ولكن ما هو هذا "الشغب" الذي أراد محمد عبده الابتعاد عنه؟ هل هو شغب ما واجهه في مراحل الصراع السياسي الأولى الذي أدى إلى إبعاده عن مصر إلى لبنان؟ فرسالة التوحيد هي نتاج التأمل الهادئ الذي توفر له للمرة الأولى بعد "صخب" الحياة المثير في مصر آنذاك. إذ "أجبره" هذا الهدوء على إفراغ تأملاته في تلك المحاضرات التي ألقاها عام 1303 هجرية وجمعها لاحقا بعد أن أضاعها. فهي دون شك مرحلة ابتعاده عن "أعاصير الشغب" التي جعلته يتمتع بهدوء لبنان الطبيعي، ليكتشف من جديد القيمة الجوهرية في البحث عن مفاهيم الوحدة والاعتدال في الله والكون والوجود والإيمان، أي في كل تلك القضايا التي شكلت لبّ محاضراته المذكورة أعلاه.

فلو نظرنا إلى مستوى محاضراته في قضايا التوحيد، فإنها تبدو عادية للغاية. بمعنى أنها لا تتجاوز في أفضل مستوياتها ما سبق وأن بلورته كتب الكلام الواسعة الانتشار. إلا أن بساطتها وسهولتها استطاعت أن تقرّب تقعير (تعقيد) الكلام القديم وجمود رؤيته ومشاكله التقليدية عبر نقلها إلى أسماع جديدة بعيدة عن صخب الأعاصير السياسية واللاهوتية على السواء.

كما يمكننا أن نلحظ في "رسالة التوحيد" على انعكاس خاص ومستور لما يمكن دعوته بنفسية الانحدار صوب السلفية المتنورة، أو صوب التنوير العقلي للسلفية المجردة من اعتبارات الرؤية السياسية المباشرة. وفيها يمكن رؤية المسار المعتدل لمحمد عبده في مدارج الكلام الإسلامي، أي في مسار الرؤية الإسلامية التي تجعل من أكثر القضايا الخلافية ميدانا للاعتدال النظري والعملي.

إننا نعثر في "رسالة التوحيد" على بعد نظري عملي جديد كان يتمثل الرؤية الإصلاحية الإسلامية بمعايير قادرة على نقل "إسلام السلف" إلى عالم اليوم دون الممرور بأعاصير الشغب. وإذا كانت قيمة التوحيد قد تحولت إلى ميدان اختياره واختباره الجديد، فلأنها شكلت في الوقت نفسه معيار العلم الذي كان يبحث عن ثلاثة محاور كبرى، وهي محور وجود الله وما يجب أن يثبت له من صفاته وما يجوز أن يوصف به; ومحور الرسل والرسالة وقضاياهما المتعلقة بمضمون كل منهما وما يجب أن يكونا عليه وما يجوز أن ينسب لهما; ومحور إثبات الوحدة لله في الذات والفعل في خلق الأكوان[2].

ذلك يعني، انه حاول اختصار مضمون ما اسماه بعلم التوحيد في ثلاث قضايا كبرى وهي الله، والرسول، والوحدانية. وهو اختصار يشير من حيث الجوهر إلى محاولة تطويعها بالشكل الذي يجعلها عقيدة نظرية وعملية في آن واحد. بمعنى انتزاعها من تقاليد علم الكلام التقليدي وإدخالها في علم وعمل المعاصرين بالشكل الذي يحررها من اختلافات الخلف وأعاصير الشغب السياسية. وهي رؤية تنوي أكثر مما تحتمل، إلا أنها معقولة ضمن المسار العام لارتقاء محمد عبده في وجدانه الإصلاحي. بمعنى ارتقاء مداركه اللاهوتية صوب تفعيلها العملي من خلال البحث عن نموذج إنساني أو شخصاني يجعل من "تعالي" المفاهيم أمرا معقولا في المعاصرة.

لكن ذلك لا يعني، بأن محمد عبده استطاع أن يشعل جذوة الكلام المنطقية، ولا ردم هوة الفراغ الهائلة بين التاريخ والمعاصرة، ولا حتى توظيف ما في علم الكلام وتقاليده من مفاهيم قادرة على بلورة منظومة من الأفكار والقيم يمكنها الاندماج في الوعي الاجتماعي والسياسي والأخلاقي المعاصر. إلا انه استطاع أن يتعامل مع ما وضعه بالشكل الذي يعمّق حسية وعقلية الاعتدال الإسلامي في رؤيته الإصلاحية. لهذا نراه يتكلم عما "يجب" وعما "يجوز" في الموقف من الله والرسول والتوحيد. بعبارة أخرى، إننا لا نعثر في آرائه ومواقفه وكلماته حتى على ما هو محرّم ومكروه وقابل للتكفير وما شابه ذلك من عبارات مميزة لتقاليد الكلام بشكل عام وفرقه الحنبلية بشكل خاص.

إلا أن هذا الابتعاد الواضح عن تقاليد التزمت والجمود المميزة لمراحل الكلام المتأخرة، يعكس بالقدر ذاته إدراكا عميقا لقيمته المعنوية. فالرجوع إلى تقاليد الكلام القديمة هو رجوع إلى كلام الروح والوجدان الفاعلين بمقاييس العقل الإصلاحي. وهو مضمون ما يمكن دعوته بمحاولات محمد عبده إعادة تأسيس قيمة الكلام في الظروف التاريخية الجديدة.

فمن الناحية التاريخية لم يعد لتقاليد الكلام بعدا فكريا معاصرا. كما انه لم يتغلغل في مدارك الوعي والفعل الإسلاميين. وقد يكون الاستثناء الوحيد هنا هو بعض قناعات البيئة التقليدية لعلوم الدين الواسعة الانتشار في مخابئ التقاليد الضيقة. أما من الناحية الفكرية، فإن علم الكلام يحتوي على أعلام وأئمة كبار وفكر نير وأساليب مثيرة للعقل والوجدان. ومن ثم فهو قادر على بعث الروح المعنوي في حال إرجاعه إلى "وهجه" الأول، أي في حال جعله عنصرا من عناصر اليقظة العقلية والانتماء الوجداني لتاريخ عفا عليه الزمن. وتفترض هذه المفارقة نفي الزمن وإرجاع التاريخ إلى عجلات حركته الأولى التي كان علم الكلام أحدها. وليس مصادفة فيما يبدو أن يؤكد محمد عبده على أن علم الكلام كان موجودا قبل الإسلام. إذ ليست حقيقة علم الكلام سوى نوعا من علم تقرير العقائد وبيان ما جاء من النبوات. وقد كان هذا العلم معروفا عند كثير من الأمم، كما يقول محمد عبده[3]. ومن هذه الفكرة يتضح، بأن محمد عبده أراد أن يجد في علم الكلام مشروعا محتملا من مشاريع الرؤية العلمية المتعلقة بقضايا العقائد. ومن ثم لا يعني الاهتمام بعلم الكلام سوى الاهتمام بتقرير نوع العقيدة أو الأيديولوجية للأمة، بوصفها ضرورة لها تاريخها الخاص عند الأمم. أما في تاريخ الإسلام فإنها تراكمت في مجرى صيرورة الإسلام والكلام على السواء.

طبعا، إن محمد عبده لم يرم من وراء ذلك بناء أو تأسيس أيديولوجية كلامية جديدة، لكنه سعى إلى إعادة بناء الكلام الإسلامي بالشكل الذي يجعل من حصيلته النظرية طاقة إضافية بالنسبة لشحذ الرؤية الإصلاحية. ويمكن ملاحظة هذه المهمة على نموذج إبرازه لقيمة العلم العملية في تنسيق وتوفيق العقل والإيمان. فنراه يشير إلى ما اسماه بطرفي النقيض بين منازع العقول في العلم ومضارب الدين في الالتزام بالعقائد وتقريبها من مشاعر القلوب، الذي كان يميزها سابقا. ولا معنى لهذا التنازع والتضاد في حال وضعه ضمن البنية العامة لحقيقة الفكرة الإسلامية حسب قول محمد عبده. وتصبّ هذه الفكرة عموما ضمن الاتجاه المعروف عن إيجاد النسبة المعتدلة بين المعقول والمنقول، أو العقل والشرع، أو الرواية والدراية التي تكَفّل الإسلام رفعها إلى مصاف النموذج الأعلى، كما اعتقد محمد عبده. ويشكل نموذج الرجوع إليه مهمة نظرية وعملية ممكنة من خلال إعادة بناء علم الكلام. وانطلق محمد عبده في تأسيس فكرته هذه من المقدمة القائلة بأن القرآن اتخذ منهجا خاصا به متميزا عما سبقه من الكتب "المقدسة". لهذا لم يطلب محمد عبده التسليم به لمجرد انه جاء بحكايته، ولكنه "أقام الدعوى وبرهن، وحكى مذاهب المخالفين وكرّ عليه بالحجة، وخاطب العقل واستنهض الفكر، وعرض نظام الأكوان وما فيها من إحكام وإتقان على أنظار العقول وطالبها بالإمكان لتصل بذلك إلى اليقين"[4].

ذلك يعني، إن محمد عبده حاول الجمع في كلّ واحد الحكاية والدراية، أي المنقول والمعقول بالشكل الذي يفترض إقامة الدعوى والبرهان من أجل تأمل نظام الكون ورؤية تناسقه. ووجد في موقفه هذا الأسلوب الأمثل لبلوغ اليقين، أي الحقيقة كما هي. وفي هذا الأسلوب وجد أيضا ما اسماه "بتآخي العقل والدين أول مرة في كتاب مقدس". ويقرر هذا الاستنتاج ما توصل إليه الفكر الإسلامي بمختلف فرقه ومدارسه، والذي لم يرفض أغلب اتجاهاته الكبرى، إن لم يكن جميعا، حق العقل في البرهنة وضرورته بالنسبة لقضايا الإيمان الإسلامي ككل.

وقد سار محمد عبده ضمن الاتجاه الإسلامي الذي يقول، بأن هناك قضايا دينية لا يمكن الاعتقاد بها إلا عن طريق العقل. وأدرج ضمن هذه القضايا مسألة العلم بوجود الله، ومعنى الرسالة (النبوية)، أي القضايا التي أدخلها في "رسالة التوحيد". ذلك يعني انه ادخل إشكاليات ما وراء الطبيعة والتاريخ، بما في ذلك العقائدي منه، ضمن اهتمام العقل ودائرة إحاطته. بل وأندفع صوب إحدى الصيغ العقلانية في تاريخ الفكر الإسلامي القديم القائلة، بأن الدين إن جاء بشيء يعلو على الفهم فلا يمكن أن يأتي بما يستحيل عند العقل[5]. ولا يعني ذلك ضمن رؤية محمد عبده سوى إرجاع الدين إلى حدود الرؤية العقلية التي تعطي لأشد قضاياه الإيمانية أبعادا قابلة للإدراك. وهي رؤية كانت تؤسس للاعتدال الإسلامي العقلاني وتسير في الوقت نفسه ضمن تياره العام. من هنا رفضه لتقاليد وأساليب الغلوّ العريقة في تاريخ الإسلام نفسه. إذ وجد في هذه التقاليد خروجا على حقيقة الإسلام وضعها في عبارة تقول، بأن "الغلاة تعدوا حدود الدين باسم الدين"[6]. وقدم نماذج بهذا الصدد، ربط أغلبها بالتيارات الشيعية من سبئية وإسماعيلية وباطنية. حيث وجد فيها مصدرا من مصادر المدارس القائلة بالحلول والدهرية والإفراط في التأويل، وتحويل كل عمل ظاهر إلى باطن. وهو حكم يتسم بالتسطيح، لكنه مفهوم ضمن تقاليد التربية السلفية التي تشبع بها محمد عبده في دراسته الأزهرية الأولى. وليس مصادفة أن يجد في الأشعرية نموذجا أعلى للاعتدال. ومع انه لم يقرر ذلك بصورة مباشرة، إلا أن تأكيده على نموذجية الأشعري الذي سلك "سلوكا وسطا بين موقف السلف وتطرّف من خالفهم" يمكن اعتباره إشارة إلى ما أراد الكشف عنه والبرهنة عليه والدعوة إليه. ومن الممكن استشفاف هذه الفكرة أيضا عبر محاولته توظيف الأشعرية بطريقة "عصرية". بمعنى السير ضمن الخط الوسط بين موقف السلف وتطرّف الخلف (المعاصرين). ونعثر على هذا الوسط في استلهام الفكرة الأشعرية بمختلف مظاهرها واتجاهاتها، وكذلك في رؤيته لضرورة العقيدة وماهيتها المعاصرة وموقع العقل فيها.

فإذا كان من الصعب بالنسبة لمحمد عبده أن يحدد أشخاص "السلف"، فإنه وجد نموذجهم في ما اسماه بأصحاب التقليد. وقد دعاه ذلك للحديث عن "مرض التقليد". وكتب بهذا الصدد يقول، بأن ما يميز أصحاب التقليد هو أنهم "يعتقدون الأمر ثم يطلبون الدليل عليه. ولا يريدونه إلا موافقا لما يعتقدون. فإذا خالف ما يعتقدونه نبذوه واندفعوا في مقاومته حتى إن أدى ذلك إلى جحود العقل برمته". واختصر فكرته هذه في عبارة تقول، بأن "أكثرهم يعتقد فيستدلّ، وقلما نجد بينهم من يستدل ليعتقد"[7]. ذلك يعني، إن الفكرة والأفكار والتفكر بالنسبة لهم هي سلسلة من المعتقدات المقبولة سلفا، وفي حصيلتها وأسلوبها هي مجرد عملية مقلوبة رأسا على عقب. وأنها لا تتعدى كونها اعتقادا يبدأ وينتهي بنفس المقدمة. ووجد في هذا النمط من التفكير أسلوبا لا يؤدي إلا إلى الباطل والمضرة. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن التقليد يأتي بالباطل والضار. وبالتالي فهو "مضلة يعذر فيها الحيوان ولا تجمل بحال الإنسان"[8]. ويكشف هذا السجع عن مدى استخفاف محمد عبده بالتقليد من حيث كونه تشويها لموسيقى المعرفة واليقين الحقيقي. في حين إن مهمة المعرفة والدين والعقل بنظره تقوم في الوصول إلى يقين يعتمد على الدليل لا أن يسترسل مع التقليد. ورفع هذا النمط من بلوغ اليقين إلى مصاف المطلب الشرعي المحصن بتأمل تجارب الأمم جميعا. لذا نراه يقول، بأننا أمرنا بالنظر واستعمال العقل، ونُهينا عن التقليد بما حكي عن أحوال الأمم في الأخذ بما عليه آباؤهم[9]. وجعله ذلك يتكلم عن أهمية الفلسفة والفلاسفة من حيث كونهما ممثلين للرؤية العقلية. وأعتبر ذلك فضيلة بحد ذاتها عندما أكد على أن الفلاسفة تستمد آراءها من الفكر المحض. بمعنى أنهم لا ينطلقون في تصوراتهم وأحكامهم وقيمهم من "كتاب مقدس" أيا كان نوعه، بل أعتبر همهّم هو تحصيل العلم والوفاء بما تندفع إليه "رغبة العقل من كشف مجهول أو استكناه معقول"[10]. ووجد في ذلك أمرا يتطابق مع حقيقة الرؤية القرآنية في موقفها من العقل. إذ اعتقد بأنه لم يأخذ عليهم أيا من عقلاء المسلمين طريقهم في النظر، ولا وضع أمام سبيلهم في المعرفة عثرة أو اعتراض، ما دام القرآن نفسه قد رفع من شأن العقل بالشكل الذي جعله نهاية العقول في بلوغ السعادة. وبالتالي فإن تطرف المتأخرين منهم دفعهم إلى "ما وراء الاعتدال، مما أدى إلى سقوط منزلتهم من النفوس ونبذتهم العامة، ولم تحفل بهم الخاصة، فذهب الزمان بما كان ينتظر العالم الإسلامي من سعيهم"[11].

وبغض النظر عن مدى دقة هذا التقرير العام لدور وواقع الفلسفة الإسلامية وإبداعها النظري والعملي في تاريخ الإسلام ككل، إلا أن مضمونه ضمن رؤية محمد عبده الإصلاحية، يقوم في محاولته إبراز قيمة الاعتدال والانتظار العقلاني من الجهد الفلسفي المبذول. وهي فكرة معقولة ضمن الرؤية الإسلامية نفسها التي تجعل من القرآن والسّنة مصدرا جوهريا في رؤيتها لكل شيء. كما أنها الرؤية التي تعتقد بأن نهاية الفلسفة الإسلامية هي النتيجة الطبيعية لخروجها على تقاليد الإسلام بشكل عام. إلا أنها اتخذت عند محمد عبده بعدا واقعيا وعقلانيا ضمن تقاليد الإصلاحية الإسلامية.

لقد أراد محمد عبده أن يعيد اللحمة بالفلسفة بالشكل الذي يجعلها جزء من تقاليد العقل المقبول. ومن ثم إدخال علاقة المعقول والمنقول، أو الشرع والعقل ضمن دائرة الاهتمام التاريخي الحديث، بما يجعلها مرجعية قادرة على صنع الاعتدال المعارض للتقليد السلفي الجامد، والارتماء التام والشامل في أحضان الدنيوية (العلمانية) الأوربية. من هنا اعتباره عداوة العلم والدين نتاجا لانحطاط العالم الإسلامي والثقافة الإسلامية. ونظر إلى هذه العداوة على أنها جزء من تاريخ الفوضى العقلية بسبب انتشار الجهل وسيطرة الجهلة على مقاليد الأمور وابتعادهم عن الرؤية الإسلامية الحقيقية. بل انه وجد في الدعوة لهذه العداوة تقليدا لتقاليد أعرق مما في الإسلام وغريبة عليه في الوقت نفسه. من هنا فكرته عن ضرورة نفي هذه التقاليد من خلال ثلاث أفكار أساسية وهي:

- أن يكون دين الإسلام هو دين التوحيد في العقائد لا دين تفريق في القواعد،

- أن العقل من أشد أعوانه والنقل من أقوى أركانه،

- وما وراء ذلك فنزعات شياطين أو شهوات سلاطين.

لقد أراد محمد عبده من وراء ذلك إرجاع حقيقة الدين الإسلامي إلى مبدأين عبر إرجاع حقيقته إلى فكرة التوحيد، وعدم تفريقها في القواعد أيا كانت. بمعنى ألا تكون معتقدات الفرق أيا كانت، عاملا في الفِرقة من خلال رفعها إلى مصاف الرؤية الوحيدة أو المقدسة. وهو مبدأ ينبغي أن يستند بدوره على وحدة العقل والنقل. بمعنى الاعتماد على تقاليد الأسلاف وإنجازاتهم وذخيرة الفكرة الإسلامية المقبولة بمعايير العقل المتجدد. وما عدا ذلك فهي أهواء عابرة أو شهوات السلطة في محاولاتها فرض رؤيتها على حقيقة الدين (الإسلامي). بحيث جعلته هذه الفكرة يقرّ بإمكانية الشريعة الوضعية الخالصة بوصفها شريعة فاضلة. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن معرفة الله واجبة، وأن جميع الفضائل وما يتبعها من الأعمال مفروضة، وأن الرذائل وما يتكون عنها محظورة. وفي حال بلوغ هذه المقدمة يمكن وضع مختلف القوانين ودعوة البشر جميعا للاعتقاد بها. ذلك يعني انه يعيد إنتاج الفكرة الإسلامية حول وحدة العقل والشرع بالشكل الذي يجعلها أكثر "ليبرالية" ضمن تقاليد الفكرة الإسلامية نفسها.

لقد وضع محمد عبده فكرة الشريعة على أساس إدراك حدود الفضيلة والرذيلة. ويمكن تجسيد هذه الرؤية الأخلاقية العقلانية بصيغ مختلفة ومتنوعة. مما يعني إقراره بإمكانية صناعة شريعة فاضلة، لكنها تبقى مع ذلك عاجزة عن صنع شريعة متكاملة في حال عدم اعتمادها على الدين. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن "العقل وحده لا يستقل بالوصول إلى ما فيه سعادة الأمم بدون مرشد الهي". كما لا يستقل الحيوان في إدراك جميع المحسوسات بحاسة البصر وحدها، بل لا بد معها من السمع لإدراك المسموعات. كذلك الدين هو حاسة عامة تكشف ما يشتبه على العقل من وسائل السعادة. والعقل "هو صاحب السلطان في معرفة تلك الحاسة"[12].

من هنا يتضح، بأن محمد عبده يدور في فلك الفكرة القائلة بأنه لا دين بلا عقل ولا عقل بلا دين. ووجد في هذه الفكرة نموذج الاعتدال المطلوب، الذي جعله يقول متتبعا تقاليد الفكرة الإسلامية العقلية، عن أن كل ما يتعارض مع العقل ينبغي تأويله. ولا تتعدى هذه المهمة في الواقع أكثر من توسيع مدى تبعية العقل للإيمان. بمعنى تقييد الحرية العقلية بالشكل الذي يجعلها مقبولة مع الإيمان. وبما أن الإيمان هو "عقل محوّر" حسب معتقدات الفِرق والمدارس، من هنا استحالة تحرره الكامل. لكن الحرية من حيث المفهوم والممارسة هي نسبية في الشكل والمحتوى. فطابعها النسبي يظهر بوضوح تام ضمن معايير الرؤية الدينية. إلا أن قيمتها في مفاهيم محمد عبده تقوم في كونها عملت فعلا على تحرير العقل من قيود الإيمان التقليدي السلفي العادي والجازم. ومع ذلك يبقى الدين في نهاية المطاف الفيصل النهائي في كل شيء وعلى كل قضية. وليس مصادفة أن يعتبر محمد عبده الدين "أقوى العوامل في أخلاق العامة، بل والخاصة. وسلطانه على نفوسهم أعلى من سلطان العقل الذي هو خاصة نوعهم"[13].

إننا نعثر في رؤية محمد عبده المذكورة أعلاه على تقرير لواقع العامة أكثر مما هو تقرير عن إمكانية البدائل ونماذجها العملية المحتملة. وفي هذا تكمن حدود إصلاحيتها الواقعية والعقلانية في آن واحد. ونعثر على هذه الحدود في موقفه الجديد من الدين الذي لم يعد مجرد صيغة بيانية أو إنشائية لعقائد الإيمان، بقدر ما أصبح منظومة من المبادئ النظرية والعملية الهادفة إلى تحقيق ما يمكن دعوته بالحقيقة التاريخية والمعنوية للإسلام. حيث بلور مساعيه بهذا الصدد في فكرته العامة عن الإسلام عندما أعتبر الدين الذي "لم يدع أصلا من أصول الفضائل إلا أتى عليها، ولا أما من أمهات الصالحات إلا أحياها، ولا قاعدة من قواعد النظام إلا قررها".

لقد أراد محمد عبده أن يؤسس لفكرة إقرار الإصلاح بوصفه المبدأ الجوهري في الدين الإسلامي، وحقيقة من حقائقه الكبرى. انه أراد القول، بأن حقيقة الدين الإسلامي هي الإبقاء على كل أصل من أصول الفضائل المتراكمة في التاريخ العالمي. وانه أحيا من الناحية الفعلية والتاريخية أمهات الصالحات المندثرة والمنسية. وبالتالي لا يتعارض في رؤيته مع كل قاعدة قادرة على تثبيت النظام والقانون.

ذلك يعني، إن حقيقة الإسلام من وجهة نظر محمد عبده، تقوم في توحيد الفضائل والصالحات والنظام، أي الفضيلة والفائدة والقانون. وتشكل هذه القيم الجوهرية الحياة المثلى في مستواها الفردي والاجتماعي والدولتي والثقافي على السواء. من هنا استنتاجه القائل، بأن حقيقة الإسلام ترمي إلى تأسيس حرية الفكر واستقلال العقل وصلاح السجية واستقامة الطبع وإنهاض العزائم إلى العمل. ويمكن تلخيص هذه الغاية من خلال ما يمكن دعوته بالمبادئ الكبرى الضرورية التي ينبغي رؤيتها والعمل بموجبها في الإسلام. كما يمكن حصر هذه المبادئ بخمس يدور الأول منها حول محور الرؤية أو العقيدة البديلة، والثاني حول التفاؤل الدائم، والثالث حول الاجتهاد النظري والعملي، والرابع حول الوحدة المتنوعة، والخامس حول الفكرة العملية. (يتبع...).

***

 ا. د. ميثم الجنابي

.................

[1]  محمد عبده: رسالة التوحيد، دار الكتب العلمية، بيروت، (ب.ت)،ص4.

[2]  محمد عبده: رسالة التوحيد، ص5.

[3]  محمد عبده: رسالة التوحيد، ص5.

[4]  محمد عبده: رسالة التوحيد، ص5-6.

[5]  محمد عبده: رسالة التوحيد، ص6.

[6]  محمد عبده: رسالة التوحيد، ص10.

[7]  محمد عبده: رسالة التوحيد، ص35.

[8]  محمد عبده: رسالة التوحيد، ص14.

[9]  محمد عبده: رسالة التوحيد، ص13.

[10]  محمد عبده: رسالة التوحيد، ص13.

[11]  محمد عبده: رسالة التوحيد، ص12.

[12]  محمد عبده: رسالة التوحيد، ص68.

[13]  محمد عبده: رسالة التوحيد، ص67.

 

 

في المثقف اليوم