دراسات وبحوث

محمد عبده: التوحيد والإصلاح (2)

ميثم الجنابيإن حقيقة الإسلام من وجهة نظر محمد عبده، تقوم في توحيد الفضائل والصالحات والنظام، أي الفضيلة والفائدة والقانون. وتشكل هذه القيم الجوهرية الحياة المثلى في مستواها الفردي والاجتماعي والدولتي والثقافي على السواء. من هنا استنتاجه القائل، بأن حقيقة الإسلام ترمي إلى تأسيس حرية الفكر واستقلال العقل وصلاح السجية واستقامة الطبع وإنهاض العزائم إلى العمل. ويمكن تلخيص هذه الغاية من خلال ما يمكن دعوته بالمبادئ الكبرى الضرورية التي ينبغي رؤيتها والعمل بموجبها في الإسلام. كما يمكن حصر هذه المبادئ بخمس يدور الأول منها حول محور الرؤية أو العقيدة البديلة، والثاني حول التفاؤل الدائم، والثالث حول الاجتهاد النظري والعملي، والرابع حول الوحدة المتنوعة، والخامس حول الفكرة العملية.

وابتدأ هذه المحاور بإعادة إجلاء حقيقة الوحدانية الإسلامية المرتكزة على مبادئ التوحيد والتنزيه في الذات والأفعال. ويرمي هذا المحور إلى تذليل الفكرة الوثنية ومعالمها المتنوعة والمتجددة أيضا من خلال القضاء على ما اسماه بجذور الوثنية. إذ ليست الغاية من القضاء على جذور الوثنية سوى "طهارة العقول من الأوهام الفاسدة" و"تنزيه النفوس عن الملكات السيئة" كما يقول محمد عبده.

إن حقيقة التوحيد في فكرة محمد عبده ترمي إلى توحيد العقل والوجدان بالشكل الذي يطهرهما من الرذيلة النظرية والعملية، أو العقلية والأخلاقية. وتفترض هذه الطهارة والتنزيه الارتقاء بالعقل والضمير إلى مصاف إدراك حقيقة الوحدة في الوجود والحكم فيه. وأسس لهذه الفكرة في مجرى تحديده أيضا لفكرة الصفات الإلهية عندما استعرض آراء الكلام والمتكلمين عن حقيقة الذات (الإلهية). إذ وضع الحياة في أوائل الصفات مؤكدا على أن صفات العلم والإرادة تستتبعان صفة الحياة. وذلك لأن الحياة مما يعتبر كمالا للوجود، ومن ثم فهي بحكم ما يتبعها من صفات مصدر النظام والناموس والحكمة[1].

وانطلق محمد عبده بهذا الصدد من أن كل ما في الوجود هو حكمة من حيث إشارته إلى الوحدة والاتفاق في نظام الممكنات. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الحكمة في الحياة تفترض السير في نفس مسار الحكمة الإلهية من خلال رؤية وتحقيق الاتفاق في نظام الممكنات. بمعنى رؤية الاتفاق في البدائل التي قدمتها الرؤية الإسلامية في مجرى نفيها لمختلف ممكنات الوثنية ونظامها الخاص. وليس مصادفة أن يشير محمد عبده إلى أن الإسلام "كشف عن العقل غمة من الوهم فيما يعرض من حوادث الكون الكبير (العالم) والكون الصغير (الإنسان). فقرر أن آيات الله في صنع العالم إنما يجري أثرها على السنن الإلهية التي قدّرها الله في علمه الأزلي لا يغيرها شيء من الطوارئ الجزئية".

وفيما لو استعرضنا هذه الفكرة بمعايير الرؤية العصرية، فإنها ترمز إلى ما يمكن دعوته بالتأويل الأبدي للإسلام تجاه المستجدات والبدائل انطلاقا من أنها تسير رغم الأخطاء والنواقص ضمن مجرى إدراك نظام الممكنات بوصفه حكمة وعدلا. إذ لا تعني إزالة الأوهام من أمام العقل تجاه رؤية التغير والتبدل في عالم الوجود الطبيعي والإنساني سوى تأديته إلى كشف حقيقة "السنّة الإلهية" في الوجود.

ورفع محمد عبده هذه السنّة (القانون) إلى مصاف المبدأ الجوهري القائم في حقيقة الإسلام القائلة، بأن الروح الإلهي يبحث عبر الإنسان عن حقيقة الحكمة والعدل الضروريين للوجود. وهو روح أودعه الله جميع شرائعه، ومن ثم، فإن مهمته تقوم في تصحيح الفكر وتسديد النظر وتأديب الأهواء.

بعبارة أخرى، ليس "الروح الإلهي" هنا سوى الروح الإنساني المترقي في مدارك الإصلاح العقلي والأخلاقي، أو في مدارك تطهير العقل وتنزيه النفس. كما أطلق عليه محمد عبده أيضا عبارة "تصحيح الفكر وتسديد النظر وتأديب الأهواء". بل انه وجد في هذا الروح نعمة "لن يسلبها الله عن الأمم ما دام هذا الروح فيها". ولا يعني ذلك سوى القول بما أسميته بالتفاؤل الأبدي القائم في ضرورة الإصلاح. ومن ثم فإن حقيقة الإصلاح وديمومته على قدر وجود الروح الإنساني المتسامي، كما انه ضمانة بلوغها حقيقة "الروح الإلهي" القائم فيها. وتفسح هذه العبارة المجال أمام إمكانية الإقرار بضرورة وعي الذات بالشكل الذي يجعل من نشاط الأمم صوب تطهيرها العقلي والأخلاقي مقدمة إبداع النظام الحقيقي في وجودها، أي إبداع نظام الوحدة المتنوعة. ووجد محمد عبده في هذه الحالة مبدأ جوهريا في الإسلام، وأسلوبا لحياته في نفس الوقت. ووضع هذه الفكرة في عبارة تقول، بأن الدعوة إلى الوحدة في الدين تفترض الإقرار بالتنوع والاختلاف. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن حقيقة الإسلام تعتبر "التفرق بغي وخروج عن سبيل الحق المبين". وإن الإسلام لم يقف بهذا الصدد عند حدود الوعظ بالكلام والنصيحة بالبيان، بل وشرع شريعة الوفاق وقررها في العمل. وفي الوقت نفسه رفع الإسلام كل امتياز بين الأجناس البشرية وقرر لكل فطرة شرف النسبة إلى الله في الخلقة، وشرف اندراجها في النوع الإنساني. ذلك يعني أن رفض الاختلاف مقرون بابتعاده عن توكيد حقيقة الوحدة المقيدة بالمصالح والمنافع والنظام، أي بالحكمة التي أكثر من يحققها "شريعة" الوفاق.

لكن فكرة الوفاق لا تتضمن في آراء محمد عبده سوى التناسق الأمثل لوجود الأشياء انطلاقا من تمايزها. وعندما طبق هذه الفكرة على الوجود الإنساني ككل، فإنه حاول تذليل أوهام التمايز والتمييز القادرة على صنع مختلف نماذج الوثنية (والعنصرية)، وإحلال فكرة الوفاق المترّقية إلى مصاف الفطرة محلها. بمعنى البحث عن ضرورتها في وحدة الكلّ، أو في ما وضعه محمد عبده بعبارة الإقرار بنسبتها إلى الله والإنسانية.

وتضمنت فكرة محمد عبده المذكورة أعلاه على أبعاد إنسانية رفيعة. إذ احتوت على إقرار ضمني بفكرة التنوع والاختلاف مع ما يرافقها بالضرورة من إقرار بمبدأ الاجتهاد النظري والعملي لتحقيق هذا الوفاق بصورة أفضل وأمثل. واستمد هذه الفكرة أيضا مما في الاجتهاد من ضرورة وغاية متسامية تستجيب لحقيقة الإسلام في فهمه لمعنى الكمال. فالاجتهاد يطلب الكمال، والكمال يفترض الاجتهاد. من هنا قوله، بأن "الكمال في المعقولات مثل الوجود الواجب والأرواح اللطيفة وصفات النفوس البشرية له جمال تشعر به أنفس عارفيه وتنبهر له بصائر لاحظيه"[2]. واعتمد في آرائه هذه على اعتقاده الجازم، بأن حقيقة الإسلام هي نفي للتقليد. وانه أطلق سلطان العقل من كل ما كان يقيده. وهي مقدمة الاختيار، ومن ثم أفعال الإرادة.

فقد دعا الإسلام لتحرير النفس الإنسانية وإطلاق إرادتها من القيود التي كانت تقيدها بإرادة غيره، كما يقول محمد عبده. وحاول بناء هذا المطلب على أساس فهمه لحقيقة الصفات الإلهية، وبالأخص صفة الإرادة. وليس مصادفة أن يتوسع في شرحه لهذه الصفة مقارنة بغيرها من الصفات الأخرى التي أدرجها في رؤيته لقضايا الكلام. وانطلق في فهمه لهذه الصفة من أن "إثبات الصفات الإلهية من الحياة والعلم والقدرة يستلزم إثبات صفة الاختيار". وأعطى لهذا الإثبات بعدا وجوديا وعقليا. وانطلق في منهجه هذا مما اسماه بحكمة النظام في وجود الكون والأشياء. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن الكون ومصالحه العظمى التي تقررت له بحكم انه أثر الوجود الواجب الذي هو أكمل الموجودات وأرفعها. فالكمال في الكون "إنما هو تابع لكمال المكون. وإتقان الإبداع إنما هو مظهر لسمو رتبة المبدع. وبهذا الوجود البالغ أعلى غايات النظام تعلق العلم الشامل والإرادة المطلقة"[3]. وهي مقدمة لاهوتية معقولة بمنطق الرؤية الدينية، لكنها لم تسع لتبرير الرذيلة والفضيلة، بل كانت تهدف إلى إقرار التفاؤل المغري للأبعاد السحيقة القائمة في كمال وجود الأشياء. ومن ثم تحويلها إلى نموذج للمحاكاة في العلم والعمل.

فمحمد عبده يقر بأن حقيقة الصفات الإلهية جميعها تؤدي إلى "الكمال والنظام، وهي تجلّ للحكمة". ومن ثم فإن فعل الإنسان الذي رفعه الإسلام إلى مصاف الفرض الواجب يجب أن يتناسق مع حقيقة الأفعال الإلهية بوصفها تجلّ مطلق للكمال والنظام والحكمة. من هنا قوله، بأن الإسلام طالب بالعمل كل من هو قادر عليه، وقرر في نفس الوقت، أن لكل نفس بما كسبت وعليها ما اكتسبت. بعبارة أخرى، انه طالب الجميع بالعمل، ومقياس كل امرئ بما عمل. ولم يقصد محمد عبده بذلك ما هو معروف ومقرور في العبارات الشائعة عن معاملات الحياة العادية، بل وتعداها إلى أبعادها الأوسع. إذ لم يكن قصده بالكسب هنا مجرد فعل الحرية المقيدة بالمشيئة الإلهية الأزلية، ولا الفرض الواجب بمعايير الرؤية المتسامية فحسب، بل والقدر الذي لا بد من إدراكه لكي يكون للوعد والوعيد معناه، وللسعادة معاناتها. فعندما وقف محمد عبده أمام الإشكالية التي أرهقت الكلام الإسلامي حول ماهية وحدود الاختيار والجبر، فإنه اعتبر رأي القائلين بالجبر "هدما للشريعة ومحوا للتكليف وإبطالا لحكم العقل البديهي وهو عماد الدين"[4].

لقد اقترب محمد عبده في رؤيته عن تقرير العلاقة الممكنة بين الجبر والاختيار من أفكار الجويني القائلة، بأن الشريعة الإسلامية ترد الأمور إلى الله، وتقرر أمرين للسعادة الإنسانية، الأول وهو أن الإنسان يكسب بإرادته وقدرته ما هو وسيلة لسعادته، والثاني هو قدرة الله باعتبارها المرجع النهائي لجميع الكائنات. ولم ترتق هذه الرؤية من حيث دقتها وإشكالاتها إلى ما وضعه الغزالي في فكرته عن أن في الجبر اختيارا كما في الاختيار جبرا، لكنها استطاعت أن تبقي على هذه الإشكالية ضمن ما يمكن دعوته بعالم الجبروت المترامي بين عوالم الملك والملكوت، أو الغيب والشهادة. وأن تعطي للإنسان الأبعاد الضرورية للتفاؤل والالتزام بأنه لا عبث في الوجود، وإن السعادة مسئولية دائمة تجاه الحياة والموت، والدنيا والآخرة. لكنها معادلة أقرب ما تكون إلى فرضية محكومة بقواعد واضحة مما يفقدها إثارة اللغز وحسم اليقين. لكنها قادرة في نفس الوقت على صنع مرجعيات العمل.

فقد كتب محمد عبده في مجرى وصفه حقيقة أفعال الإنسان يقول، بأنه كيان موهوب بثلاث قوى هي الذاكرة والمتخيلة والمفكرة. وبالقدر الذي يتوقف عليهن سعادته، فإنهن أيضا ينبوع بلاءه[5]. أما أن يكون مصدر السعادة هو نفسه مصدر البلاء، فإن في ذلك إشارة إلى ما في الوجود نفسه من إشكالية وسرّ لا يحلهما سوى البحث عن الاعتدال الأمثل. وهو اعتدال أسس له الإسلام، كما يقول محمد عبده، في محور الرؤية الاجتماعية الداعية للعدل العام. فقد حثّ القرآن على التعلم وإرشاد العامة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفرض للفقراء في أموال الأغنياء حقا معلوما، وأغلق أبواب الشرّ، وسد ينابيع فساد العقل والمال بتحريم الخمر والمقامرة والربا.

وشأن كل اعتدال يرتقي إلى مصاف المرجعية الكبرى في تنظيم الحياة الدينية والدنيوية، والمادية والمعنوية للفرد والجماعة والأمة، يفترض وجود نموذج عملي ملموس. وقد وجده محمد عبده في مثال النبي محمد. بل انه جعل من شخصية النبي محمد مثالا نموذجيا لتأسيس فكرته عن مرجعية الاعتدال في الإسلام. وليس مصادفة أن يفرد لهذه القضية صفحات عديدة من "رسالة التوحيد" كمؤشر على أهميتها بالنسبة لتحقيق ما اسماه بالمحاور الأساسية في رؤية ماهية الدين (الإسلامي) وحقيقته. وانطلق في آرائه هذه من فكرة النافع والضار، والقبيح والحسن، بوصفها المعادلة المكونة لكل حيثيات الوجود البشري. بمعنى انه حاول أن يؤسس هذه المعادلة بمكوناتها المادية (الطبيعية) والمعنوية (الأخلاقية).

فنراه ينطلق من تقييمه العام القائل، بأن الأعمال منها ما هو نافع ومنها ما هو ضار. ومنها ما هو حسن ومنها ما هو قبيح. وبعدها نراه يصنع منها سبيكة عقلانية الرؤية عندما يتوصل إلى أن الحسن كل ما تدوم فائدته وإن كان مؤلما في الحال، بينما القبيح هو كل ما يجرّ إلى إفساد في النظام الخاص وإن عظمت لذته الحاضرة[6]. بعبارة أخرى، أننا نقف أمام رؤية واقعية وعقلانية للحسن والقبيح في حال وضعها ضمن سياق فكرته العامة عن الإصلاح الشامل للمجتمع والدولة والفكر. إذ ربط الحسن بالمفيد والقبيح بالمفسد للنظام. ووضعهما على محك التاريخ وليس الجسد. بمعنى أن حقيقة الحسن والمفيد تقوم في كل ما يخدم مشروع البديل التاريخي لصنع النظام بغض النظر عما فيه من آلام وتعقيد. ووجد في نموذج النبي محمد تجسيدها الفردي والروحي.

فالإصلاح من حيث كونه وحدة نموذجية للمفيد والحسن تفترض على الدوام شخصنتها الواقعية. وانطلق محمد عبده في فكرته هذه من أن الفعل الإنساني بحاجة دائمة إلى قيادة قواه الإدراكية والبدنية لما هو خير له في الحالتين. وأعتبر النبي معينا أصيلا من حيث كونه النموذج الأعلى في تحقيقه. بعبارة أخرى، انه لم يقدم النبي بهيئة صنم ينبغي عبادته، بل معينا على رؤية الصيغة المثلى لقيادة الفعل الإنساني من أجل بلوغ الأحسن والأكثر فائدة للنفس والمجتمع والدولة (النظام).

لقد نظر محمد عبده إلى النبي نظرته إلى نموذج مثالي، لكنه معقول ومقبول في الوقت نفسه في ما يتعلق برؤية الأبعاد "الإلهية" و"الإنسانية" المتوحدة في أفعاله. من هنا قوله، بأن إدراك حقيقة النبوة توصلنا إلى رؤية ما ينبغي ملاحظته "في جانب واجب الوجود من الصفات وما يحتاج إليه البشر كافة من ذلك"[7].

ذلك يعني، إن المهمة الكبرى للنبي تقوم في إيجاد النسبة المعتدلة بين المطلق والعابر، وبين الله والبشر، عبر إنزال صفات المطلق (الله أو واجب الوجود) إلى مستوى النموذج العملي لاحتياجات البشر. من هنا تصنيف محمد عبده لصفات النبي بوصفها جزء من الاعتقاد بالنبوة. وحصر هذه الصفات ضمن فكرة الإقرار بعلو فطرتهم، وصحة عقولهم، وصدقهم، وأمانتهم، وعصمتهم من كل ما يشوه السيرة البشرية، وسلامة أبدانهم، وكون أرواحهم ممدودة بالجلال الإلهي. وما عدا ذلك فهم بشر يعتريهم ما يعتري الإنسان[8].

مما سبق يتضح، بأن حقيقة النبي هي حقيقة الشخصية النموذجية في إدارة شئون النفس والآخرين. وذلك لأنها تفترض في الأساس منظومة قيم تجمع في كل واحد الجسد والروح والعقل والفعل بمعايير الرؤية الإنسانية العليا. فصحة العقل وسلامة الجسد المقرونة بأفعال أخلاقية عملية متسامية من صدق وأمانة وعصمة من الفواحش هو الأساس الذي يحدد أسلوب الاستمداد الدائم من "الجلال الإلهي". ولا يعني ذلك في آراء محمد عبده سوى الاستعداد الدائم على إيجاد النموذج المتسامي في العلم والعمل. إذ لم يجد في هذه المكونات النبوية أمرا معارضا للعقل أو مستحيلا بحد ذاته. على العكس، انه وجد فيه أمرا ضروريا من أجل الإصلاح الدائم. وذلك لأنه لم يجد فيها فعلا تاريخيا عابرا، بل حاجة دائمة يمكن البرهنة عليها بمسلكين، الأول وهو الاعتقاد ببقاء النفس الإنسانية بعد الموت. مما افترض بدوره التمسك بسلوك مقيد بقيم ومعايير تدرك حقيقة الأبدية والعمل بموجبها. والثاني هو مسلك الانطلاق مما اسماه محمد عبده بالطبيعة البشرية. وذلك من خلال بلوغ "الكمال النوعي في إطلاق المدارك من القيود، والمطالب عن النهايات"[9]. حيث تؤسس هذه الفكرة لما يمكن دعوته بضرورة وقيمة الفعل الدائم للإصلاح. إذ لا يعني الكمال النوعي للطبيعة البشرية سوى السير حتى نهاية تحريرها الفعلي التام وعدم وقوفها عند قيود نهائية محددة مهما كان حجمها. لكن هذه العملية غير المتناهية من التحرر وعدم الوقوف عند حد قد تصنع بدورها حمى المنافسة التي تقضي على بواعث الطبيعة البشرية نفسها. من هنا ضرورة فكرة الرسالة النبوية التي تضع لمساعي الكمال معالم للرؤية والعمل.

إذ تبرهن تجارب التاريخ العام على أن فكرة العدل والعقل لا تكفي بحد ذاتها على صنع مجتمع متكامل. بل نعثر فيهما إلى الآن على أحد مصادر الشقاق والخلاف الذي يتعارض مع حب الإنسان لذاته. بينما يفترض حفظ النوع البشري وجود المحبة. من هنا ضرورة وجود قوة أخرى تحفّز وتوجه سلوك الطبيعة البشرية في مجرى سعيها لنيل "كمالها النوعي". وليست هذه القوة سوى النبوة.

فالنبوة تقدم نموذج ما دعاه محمد عبده بالخضوع والاستكانة. ولم يقصد بهما خضوع العبودية واستكانتها الذليلة، بل قصد بها الصيغة المثلى القادرة على تربية النفس والعقل بالشكل الذي يجعلهما قادرين على الفعل بمعايير المحبة. فالنبوة قادرة على تقديم نموذج يستكين له ويخضع كل من المالك والمملوك، والسلطان والصعلوك، والعاقل والجاهل،والفاضل والمفضول بشكل أشبه "ما يكون بالاضطرار منه بالاختيار"[10].

ذلك يعني، إنه أراد تقديم النبوة كنموذج للقوة القادرة على جمع الشتات، والأسلوب الأمثل لتوحيد القوى بالشكل الذي يجعلها طاقة كامنة في "تكامل الطبيعة البشرية". من هنا قوله، بأن "الرسل من الأمم بمنزلة العقول من الأشخاص". وانه لا علاقة للرسل في "تفصيل طريق المعيشة والخوض في وجوه الكسب وتطاول شهوات العقل" لإدراك أسرار الوجود، أي ليس للنبوة علاقة بتنظيم شئون الحياة الخاصة والعامة ونمط الحياة ومباحث الإنسان العقلية واكتشافاته العلمية وما شابه ذلك. وذلك لأنها جزء من مهمات الحياة الطبيعية للبشر.

بل نرى محمد عبده يشدد على انه ليس من وظائف الرسل "ما هو عمل المدرسين ومعلمي الصناعات". كما نراه يقرر بعدم جواز أن يقوم الدين حاجزا بين الإنسان وطلب العلم والمعرفة بأي حال من الأحوال. بل أوجب على الدين أن يكون "باعثا على طلب العرفان، ومطالبا باحترام البرهان". بل وجعل معرفة العوالم فرضا ينبغي بذل ما يستطيع المرء من الجهد فيه.

إن مهمات ووظائف الرسل الكبرى، حسب رؤية محمد عبده، تقوم في إرشاد العقول إلى معرفة الله وما يجب أن يعرف من صفاته، وبيان ما اختلفت عليه عقول الناس وشهواتهم وتنازعت عليه مصالحهم، ووضع حدودا عامة يسهل على الجميع الرجوع إليها في أعمالهم، واحترام حقوق الناس جميعا، وأخيرا تفصيل كل ذلك بالشكل الذي يؤهل الناس نيل "السعادة الأبدية".

ذلك يعني، إن الوظائف الكبرى للرسل تقوم في صنع منظومة من المبادئ العملية العامة القادرة على بناء وحدة ذاتية للفرد والجماعة والأمة تخدم منافعها ومصالحها المادية والروحية. بمعنى تقديم نموذج مثالي عن وحدة الروح والجسد، والعقل والأخلاق، والحياة والمعاد في كل واحد بوصفها المقدمة الضرورية لبلوغ السعادة الحقيقية.

تكشف "رسالة التوحيد" عن الكمون الإصلاحي الديني العميق في فكر الشيخ محمد عبده، وبالأخص ما يتعلق منه بإمكانية ارتقاء الإصلاح إلى تأسيس ما يمكن دعوته بالليبرالية الإسلامية، أي الفكرة التي تقر بجوهرية العقل والعقلانية والمصلحة الاجتماعية والحرية ونبذ التقليد والشريعة الوضعية. وهي أفكار ليست معزولة عن اختمار الفكرة العقلانية والتنويرية والإصلاحية والليبرالية الآخذة في الانتشار النسبي والعميق بين النخب الفكرية والاجتماعية والسياسية آنذاك. بمعنى تكاملها المتراكم ضمن السياق العام لصعود الفكرة الاجتماعية السياسية والإصلاح الشامل وأهمية العلم والحرية والقانون بالنسبة لإعادة بناء النفس.

أما القيمة التاريخية والفكرية والروحية لأراء ومواقف الشيخ محمد عبده فتكمن بقدر واحد في ما يمكن دعوته بمنظومة الرؤية الفكرية وطاقتها الداخلية بوصفها منظومة ذاتية تلقائية. بعبارة أخرى، إن الفكرة الليبرالية الكامنة في الإصلاحية الإسلامية للشيخ محمد عبده تستمد أصولها وحدودها في الوقت نفسه من تراث الأمة العقلي. فإذا كانت الحدود الضيقة في جملة من المواقف مثل فكرته عن أن "العقل وحده لا يستقل بالوصول إلى ما فيه سعادة الأمم بدون مرشد الهي"، وإن الدين "أقوى العوامل في أخلاق العامة، بل والخاصة. وسلطانه على نفوسهم أعلى من سلطان العقل الذي هو خاصة نوعهم"، وما شابهها، فإنها تبقى مجرد تصورات وأحكام وليست عناصر فعالة في منظومة الفكرة الإصلاحية. بمعنى أنها تبدو في مظهرها محاصرة بقاعدة التكرار والاجترار للفكرة اللاهوتية عن انه لا دين بلا عقل ولا عقل بلا دين، ولا دين بلا أخلاق ولا أخلاق بلا دين، فإنها تبقى في نهاية المطاف مجرد صيغة تقليدية لها أسسها الذاتية في التقاليد الإسلامية العقلية والأخلاقية المتسامية، التي لم يكن بإمكان الشيخ محمد عبده التحرر منها، لكنها تنحلّ وتتلاشى في تيار الفكرة الإصلاحية العقلانية وجوهرية الاعتدال. لاسيما وأن الشيخ محمد عبده كان يدرك، بأن الدين لا يصنع بالضرورة عقول الأمم، كما انه ليس ضامنا للأخلاق. بل أن اغلب التجارب الكبرى للأمم الحية على امتداد التاريخ تدحض هذه الفرضية الخائبة. إلا أن قيمتها التاريخية في فكر الشيخ محمد عبده تقوم في محاولاتها استنهاض الطاقة العقلية والأخلاقية استنادا إلى تقاليد العرب والمسلمين الذاتية. وهي المقدمة الضرورية لتأسيس الفكرة الإصلاحية والليبرالية أيضا.

فالليبرالية هي أولا وقبل كل شيء تراكم الرؤية العقلانية والإصلاحية بمعايير التجارب الذاتية للأمم من أجل تثبيت فكرة النظام والحرية الوضعية. وهي الفكرة التي تتخلل من حيث الجوهر منظومة الفكرة الخفية الذائبة في "رسالة التوحيد"، بوصفها جزء من البحث عن بدائل نظرية وعملية محتملة كما نراها في أفكاره عن رفضه الشامل للتقليد باعتباره مصدر الباطل والمضرة (العقلية والعملية). من هنا رفعه لمهمة العقل الكبرى بالنسبة للدين والدنيا على السواء، وجوهريته بالنسبة للنظر والعمل. بحيث نراه يرفع من شأن الفلسفة بوصفها أسلوبا معرفيا ومنظومة عملية إلى مصاف الذروة الضرورية بالنسبة للإصلاح ورفض التقليد. ومن وحدتهما أراد تقرير وتأسيس فكرة الإصلاح بوصفها مبدأ جوهريا في الدين الإسلامي، وحقيقة من حقائقه الكبرى. مع ما تحتويه من إمكانية التأسيس التلقائية لاعتبار "الروح الإلهي" روحا إنسانيا مترقيا في مدارك الإصلاح العقلي والأخلاقي، أو في مدارك تطهير العقل وتنزيه النفس. بحيث نراه يضع هذه الفكرة في ما يمكن دعوته بضرورة وعي الذات بالشكل الذي يجعل من نشاط الأمم صوب تطهيرها العقلي والأخلاقي مقدمة إبداع النظام الحقيقي في وجودها، أي إبداع نظام الوحدة المتنوعة. وأنطلق في موقفه هذا من أن الاجتهاد يطلب الكمال، والكمال يفترض الاجتهاد. من هنا اعتباره رأي القائلين بالجبر "هدما للشريعة ومحوا للتكليف وإبطالا لحكم العقل البديهي وهو عماد الدين". من هنا بحثه في شخصية النبي محمد التاريخية والواقعية عن مثال قابل للاستلهام. وبالتالي نفي وتذليل التقاليد اللاهوتية الكسيحة التي جعلت من النبي محمد صنما ينبغي عبادته.

إن الحصيلة الفعلية للأفكار التي بلورها الشيخ محمد عبده في "رسالة التوحيد" ترمي إلى بناء منظومة الإصلاح العقلية والأخلاقية العملية الإسلامية. وفي هذا كانت تكمن بذور ما يمكن دعوته بالليبرالية الإسلامية. بعبارة أخرى، لقد وقفت الفكرة الإصلاحية الإسلامية عند محمد عبده أمام مهمة تحولها النوعي في ميدان العلم والعمل، ومن ثم إمكانية انتقالها صوب منظومة الفكرة الليبرالية الإسلامية. بمعنى الانتقال من "الإسلام الديني" إلى "الإسلام الثقافي"، بوصفها النتيجة الضرورية لرفع مآثر الفكرة الإصلاحية نفسها إلى مصاف المأثرة التاريخية الضرورية بالنسبة لمسار التطور الطبيعي والتلقائي للعالم العربي. وقد كانت تلك الخطوة الجريئة التي خطاها محمد عبده دون أن ينجزها حتى النهاية. لكنها كانت كامنة في الحصيلة النظرية لإبداعه الفكري وسلوكه الشخصي. وليس مصادفة أن تتحول شخصيته إلى مصدر التنوع والاختلاف الشديد عند التيارات الفكرية اللاحقة، دون أن يرتقي أيا منها إلى مصاف الاحتمال العقلاني الأكبر في ما أراد قوله وفعله، أي في ما توصلت إليه الفكرة الإصلاحية الإسلامية بشخصية الأفغاني والكواكبي. 

 

ا. د. ميثم الجنانبي

.......................

[1] محمد عبده: رسالة التوحيد، ص20.

[2]  محمد عبده: رسالة التوحيد، ص36.

[3]  محمد عبده: رسالة التوحيد، ص23.

[4]  محمد عبده: رسالة التوحيد، ص33.

[5]  محمد عبده: رسالة التوحيد، ص40-41.

[6]  محمد عبده: رسالة التوحيد، ص42.

[7]  محمد عبده: رسالة التوحيد، ص43.

[8]  محمد عبده: رسالة التوحيد، ص95

[9]  محمد عبده: رسالة التوحيد، ص53.

[10]  محمد عبده: رسالة التوحيد، ص57.

 

في المثقف اليوم