دراسات وبحوث

الغزالي: فلسفة الظاهر والباطن وحكمة الإصلاح (1-2)

 ميثم الجنابي"لا تلتفت إلى ما مال إليه البعض من لا يعرف

 وجوه التأويل ولا يعقل كلام أولي الحكمة"

(الغزالي) 

ان بلوغ الفكر وحدته النموذجية في الكلّ يعكس مخاض الروح التوليفي، بوصفه النفي الواعي لانجازات الأسلاف. وفيها يمكن رؤية الاستعادة التي تستضيء على الدوام بمبدأ وجودها التاريخي. فالكلّ الروحي هو الصيغة المثلى للمبدأ الأول. وإذا كان الغزالي قد توصل في مجرى تجربته النظرية والعملية إلى أن القرآن هو القطب الروحي للكل ّالإسلامي، بفعل تضمنه في ذاته نموذج المساعي الحقيقية صوب الكلّ في التوحيد، فإن توليفة الكلّ الروحي كان لابد لها من أن تؤسس لنفسها في رؤية مكوناته وحقائق صيرورته التاريخية. وهي الصيرورة التي لازمت في ثقافة الإسلام أسلوب الرؤية الظاهرية والباطنية ووحدة التاريخ والروح.

فالقرآن هو مبدأ الوجود التاريخي للروح الإسلامي، تماما بالقدر الذي كان على الدوام ممثل الروح الإسلامي في كلّه. ومن هنا لم تعن وحدة الظاهر والباطن أو تعايشهما سوى الصيغة الإسلامية المناسبة لوحدة التاريخي والروحي، أو الحرية في مساعيها نحو الوحدة الحقة. وقد استلزمت هذه العملية على الدوام شحذ الهمّة النقدية في تأمل ماضيها وحاضرها، ووضع انجازات الماضي على محك التجربة النقدية للتقليد. وهي الصيغة غير المباشرة و"المقلوبة" للاهتمام الكبير والعميق بتجربة السلف. فالأسلاف ليسوا صنم العبودية الإسلامية، بل أثر هيبتها الحرة. بمعنى انهم لا يلزموا بشيء غير تجاربهم العملية. وفيها كانت تتجلى على الدوام العناصر الحية في الذكرى التاريخية أكثر من حيثياتها الواقعية. أما تشذيبها النظري فكان من الممكن أن يحصل على تعبيره المناسب في كل الميادين التي أبدعتها الثقافة الإسلامية بما في ذلك في مواقف الظاهر والباطن المستقلة والمتعايشة، والمتنافسة والمتضادة. باختصار في "الكلّ" الذي حاول الغزالي إرجاعه إلىالقرآ، باعتباره قطب الوجود الأول لتنوع الوحدة الاسلامية. وهي النتيجة التي تفرض نفسها بالضرورة على كل تطور توليفي أصيل باعتباره استظهارا لتجاربها التاريخية الروحية.

ففي هذا الاستظهار الجديد للكلّ الإسلامي كانت تكمن محاولات إظهار باطنه، تماما بالقدر الذي يشكل استبطان مظاهره محاولة توليفه الجديد في الوعي الاجتماعي. وقد حددت هذه النتيجة أيضا أسلوب الرؤية الجديدة للقرآن. فإذا كان مفهوم الكلّ الإسلامي هو النتيجة التي وضعها الغزالي في نظرته عن مركزية القرآن الروحية، فإن ذلك يكون قد حدد أيضا أسلوب تعامله مع النص "المقدس" بالمعنى الذي بلورته تقاليد الكلام والتصوف الإسلامية. بمعنى إدراج الصفة في فلك الذات ودورانها في ما وصفه الغزالي بفكرة اللانهاية في المعنى، أي وضع أسس الحرية الدائمة في التعامل مع الكلّ الروحي في القرآن. وهي الأسس التي أذابتها المتصوفة في آدابها وطريقها لتكتشف في مقاماتها نماذج تجليها المتعالية. وبما انه لا يمكن حدّ هذه النماذج بصورة نهائية بفعل حركتها الدائمة، بوصفها التجلي الإنساني الصوفي "للخلق الدائم"، من هنا تطابقها النسبي مع تجارب السياحة في عالم الحرية الصوفية، أو التقيّد بقيود العبودية للمطلق. وهي ذات الحالة في أوجهها المتنوعة. وبما أن هذه الأوجه تتضمن، إن أمكن القول، تعابير الوحدة الخفية للظاهر والباطن، فإن شكل تجليها في المنظومات الفكرية يعكس أولا قبل كل شيء كيفية تطابق العقل النظري والعملي للشخصية الصوفية[1]. أما في حالة الغزالي فإنها أدت إلى صياغة مواقف متميزة لها جذورها العميقة في تراث الظاهر والباطن ونفيهما في تآلفه الجديد. مما اعطى لها مضمونها الاجتماعي السياسي والأخلاقي المتميز في منظومته الفكرية.

فقد تناول هذه القضية للمرة الأولى في (إحياء علوم الدين). وما قبل ذلك لا نعثر على أي اهتمام جدي بها. والإستثناء الوحيد لظهورها الجزئي نعثر عليه في جدله مع التعليمية في(المستظهري أو فضايح الباطنية) ولكن في ظهورها "السلبي".وهذا بدوره كان نتاجا لتناوله إياها في مجرى الجدل الفكري (الكلامي) ضد الصيغة الأيديولوجية السياسية لآراء الباطنية التعليمية. وبما أن صراعه مع الباطنية التعليمية قد جرى تحت ثقل وأثر العقلانية النقدية الحادة في نزوعها الكلامي، فإنه أدى إلى إبداع عناصر التوليف الخفي في مواقفه من الباطنية وقضية الباطن. فبالقدر الذي فتت في وقت لاحق نزوعه الكلامي الضيق في الانتصار للمذاهب والسلطة، وبالتالي شحذ الروح الاخلاقي بعناصر العقلانية القائمة في نقديته الحادة، فإنه كشف أيضا عن قيمة الباطن في الباطنية من خلال إفناء البنية المتعالية للأيديولوجية الباطنية في تعاملها مع النص في تجربته الصوفية. ولاحقا بالإبقاء عليها في استمرار العقلانية الباحثة عن "حد وسط" بين ظاهر الظاهرية وباطن الباطنية. وهو النفي الذي كان ينبغي له تجاوزهما كلاهما في ما هو ارفع منهما شأنا وغاية، وتأصيلا ودراية.

وتضمن ذلك على غربلة عقلانية الكلام الفلسفية نفسها. فعندما يبدأ بتصنيف أبواب كتابه (إحياء علوم الدين) فإنه ليس مصادفة أن يضع قضايا العلم والتعليم والمعلم في بدايتها، باعتبارها قضايا المدخل العام لمشروعه الفكري الجديد. وبغض النظر عن التباين الواسع بين آرائه وآراء الاسماعيلية بصدد هذه القضايا، إلا انه لا يمكن إغفال جوهريتها بالنسبة لهما كليهما. ففي تعارض آرائهما تكمن وحدتهما الخفية في حوافز إدراكها لضرورة المعلم والتعليم والعلم، أي الوحدة المتناقضة في إدراك أهمية البديل العملي في مشاريع "العلم" والعلماء.

وقد شكلت قضية العلم إحدى القضايا الجوهرية بالنسبة للوعي والثقافة الإسلامية ككل. إذ أحتلت في القرآن مرتبة الوحي الإلهي. ومن الممكن افتراض صداها غير الواعي في صيرورة جوهريتها الثقافية، باعتبارها الخطاب "الأزلي" الأول في "مشروع" تكوينها التاريخي. فقد طالب خطاب الوحي المحمدي نفسه بالتعليم والقراءة. وفي ما بينهما إدراك حقائق المجهول والمعلوم (علّم الإنسان ما لم يعلم). وهو الصدى الذي تجمّع رنينه في تناسق الاهتمام الواسع بعلوم القرآن أولا ثم علوم الأوائل والأواخر. من هنا الأهمية التي اختزنتها الثقافة الإسلامية في وعيها ولا وعيها التاريخي تجاه العلم والتعليم والعلماء. ونعثر على تجليات هذه الأهمية في المخاض العام الأول للسيطرة الإسلامية خارج موطنها "الطبيعي". حيث أصبح الحصول على العلم الحافز الأعظم لتوكيد إسلاميتها. وسوف يحصل هذا الحافز في تقاليد علم الكلام وجدله على مكانه المناسب بصدد قضايا العلم الالهي وصفة العالمِية الإلهية. وكذلك في ثنائية علم فرض العين وفرض الواجب، أي كل ما سيحصل على نماذجه الارفع في التيارات الباطنية بشكل عام والشيعية الإسماعيلية بشكل خاص. حيث تحول العلم الإلهي والنبوي إلى سلسلة الوحدة المعرفية الظاهرية والباطنية في الأئمة الظاهرين والمستورين، الجسمانيين والروحانيين. الأمر الذي أعطى لمهمة تعليمها قيمة عملية سياسية. وقد أدرك الغزالي قيمتها العملية الفعالة الكبرى. من هنا وضعه إياها في مقدمة (إحياء علوم الدين) كمدخل لمشروعه العملي الأخلاقي الإصلاحي. بمعنى نفيه حوافز الإسماعيلية في بديله التوليفي الجديد. 

لكن إذا كانت الإسماعيلية قد صاغت ذلك في مجرى تكونها التاريخي ومنظوماتها الفلسفية، فإن الغزالي حاول إبداعه من خلال التنظيم التوليفي لمكونات التاريخ الإسلامينفسه. وهو الخلاف الذي يمكن رؤية ملامحه في أكثر القضايا اشتراكا في ما بينهما حول بواطن الباطن وتأويلها. لهذا يمكننا رؤية التناغم الخفي بين آراءه ومواقفه من المعرفة والحقيقة (العقل) والهوى (والوجدان)،باعتباره الركون إلى النفس وسكونها الى ما يوافقها. وما يوازيها من آراء ومواقف الاسماعيلية عن تعليمية الإمام. وكذلك آراؤه عن الوحي والإلهام باعتبارهما سماعا مجردا للأنبياء والأولياء أو مشاهدة باطنية للأنبياء كما هو الحال بالنسبة لآراء الاسماعيلية بهذا الصدد. وكذلك فكرته عن السماع المباشر للحديث من النبي، بل وفي جملة من ارائه ومواقفه من النبوة والولاية وغيرها من القضايا التي تلتقي في كثير من جوانبها مع آراء الباطنية الإسماعيلية.

ان لهذا التشابه الجزئي بين آراء الغزالي والباطنية الإسماعيلية مقدماته التاريخية في المجرى العام للتطور الثقافي والفكري الإسلامي. فالاتجاهات الكبرى للفكر الإسلامي هي أيضا كيانات مستقلة. وإلا لاستحال الجدل إلى عراك لا معنى له، أو لأدى ذلك إلى صعوبة تصور خلافها وتوافقها. أما الغزالي فلم يكن بإمكانه تجاهل تراث الإسماعيلية الهائل. وهو أمر لم يتوقف عليه بفعل الصيرورة التاريخية للكلّ الإسلامي في  فرقه وصراعها فيما بينها. وفي الحالة المعنية بين باطنية الإسماعيلية والتصوف. غير أنهما لم يتشابها فتشاكل الأمر! فقد أبدع كل منهما بطريقته الخاصة تأويله الباطني، مستنداً بذلك الى تباين طرقهما في بلوغ حقائق الباطن والظاهر.

ومن الممكن الحديث عن كلّ باطني في الإسلام. لكنه يبقى كلاّ معنويا مرتبطا بالمكانة التي أحتلها القرآن في مركزية الوعي الاجتماعي والسياسي والأخلاقي والشرعي. وقد بلورت هذه المركزية على مثالها واحدية الثقافة الإسلامية بوصفها نموذجها التاريخي الخاص. الأمر الذي أعطى للروح الباطني إمكانية تجوله في ميدان الظاهر. فقد افترضت مركزية القرآن طابعه الأصولي في العلم والعمل. وقد جعله ذلك أكثر مرونة أمام المستجدات وتأويلاتها المحتملة. وكان من الصعب حصر هذه الإمكانات والتأويلات بسبب تباين المدارك والمعارف، والمشارب والغايات القائمة وراء أفعال وأفكار الأفراد والجماعات. وحدد هذا بدوره كثرة وتنوع ثقافة الياطن و"بواطن الثقافة" نفسها. ومن ثم إمكاناتها العديدة. وفي هذه الإمكانات كانت تختمر رؤية البدائل الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. أما التأسيس الفكري لهذه البدائل فقد ارتبط بالصيغة التي تبلورت فيها إشكاليات الباطن العقائدية والسياسية والفكرية. وهي الإشكاليات التي حددت تعارض وتناقض المشروع الغزالي مع قرينه الإسماعيلي.   

فقد صاغ كل منهما في غضون قرون عديدة (قبل الغزالي) أساليبه ورموزه وأمثلته الهائلة. لهذا لم يكن بإمكان الغزالي التخلي، على الأقل حتى تأليف (إحياء علوم الدين) عما بدا له منفرا في الفكر الباطني الإسماعيلي رغم استمراره في نقده إياه حتى آخر مؤلفاته كما نعثر عليه في (القسطاس المستقيم) و(مشكاة النبوة) و(المنقذ من الضلال). بحيث يمكننا الحديث عن تداخل ثقافي للباطنية الصوفية والإسماعيلية كما هو جلي ومستتر في امتزاج أسلوب الصوفية وأمثلة الإسماعيلية. إذ بإمكاننا القول بأن الغزالي استطاع أن يدمج في كلّ توليفي جديد أسلوب المعرفة القلبية الصوفي ونماذج التأويل الاسماعيلي. وهو أمر يمكن رؤيته في ذوبان "مادة" الإسماعيلية ونماذجها التأويلية للآيات والأحاديث في أساليب الكشف الصوفية عن معانيها. إذ ليس معنى إن "الله يحول بين المرء وقلبه" سوى منعه عن مشاهدته ومراقبته ومعرفة صفاته وكيفية تقلبه بين أصابع الرحمن[2]. وليس معنى "نسوا الله فأنساهم أنفسهم" سوى أن معرفة النفس تساوي معرفة الله. وليس معنى "وما يعلم جنود ربك إلا هو" سوى  جنود القلب الظاهرة والباطنة[3]. وليس معنى "تفضيل المجاهدين على القاعدين" سوى تفضيل الجهاد الأكبر على الجهاد الأصغر. وليس معنى "الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" سوى صقل القلب بمجاهدة النفس في الوصول إلى حقيقة الحق[4]. وليس معنى "ومن كل شيء خلقنا زوجه" سوى كون الموجودات كلها متقابلة مزدوجة إلا الله فإنه فرد[5].

غير أن تباين أسلوب الغزالي عن الباطنية الإسماعيلية لا ينحصر في ما سبق وإن جرت الإشارة إليه، بل وفي طبيعة اختياره للآيات والأحاديث التي تستعملها الإسماعيلية نفسها. غير أنه من الخطأ تقرير تعارض آرائه مع آرائها على طول الخط. فقد كان بينهما من القواسم المشتركة ما لا يمكن ربطه بإرادة أي منهما. بمعنى وحدة "الرصيد الإسلامي" باعتباره المادة "الخام" للكلّ الروحي الذي سعى الغزالي لإعادة بنائه في مشروعه الإصلاحي. فالخلاف الجوهري بينه وبين الإسماعيلية لم يكن في التأويل والباطن، بل في المنهج والغاية. وهو  خلاف حدد في الأغلب ما سبق وإن أسميته بالكيفية التي تبلورت فيها إشكاليات الباطن العقائدية والسياسية والفكرية لكليهما. فقد كان انتقاد الغزالي للباطنية هو انتقاد نموذجها المتطرف أو صيغتها الغالية وليس رفضه إمكانية استعمال الأسلوب الباطني ومادته. وذلك لأن المادة القرآنية المستبطنة في باطنية الإسماعيلية لم تكن كلية التجانس في "براهينها".  ولم يكن بإمكانها أن تكون  "هجينة" عن لغة الإسلام ونفسيته الثقافية وذلك لأنها استمدت خصائصها من خصائص الانعطافات الحادة في التاريخ الإسلامي نفسه، أي أن "تكامل" الإسماعيلية في مظاهرها لا ينفي تباين باطنياتها في باطنها بفعل الاختلافات الداخلية في ما بين اتجاهاتها وأحزابها.

فالغزالي لم يقف عن حدود انتقاده الباطنية التعليمية بصدد قضايا الظاهر والباطن. ولا يغير من ذلك شيئاً بقاؤها العميق، بما في ذلك في هواجس نقده اللاذع لها بهذا الصدد. فقد حاول اتمام نقده هنا من خلال إبراز هفوات ونواقص الاتجاهات المضادة لها. وبالتالي الكشف عما في الوسط والاعتدال من قيم كبرى بالنسبة لفهم حقائق وحدة الظاهر والباطن. فهو ينتقد من أسرف وأبخل، أي كل من أولئك الذين رفعوا الظواهر كلياً بحيث انتهوا إلى تغيير جميع الظواهر و"حملوا كل القرآن بلسان الحال" كغلاة الصوفية والباطنية التعليمية، وكذلك أولئك الذين "منعوا التأويل كلياً كأصحاب الحديث والحشوية"[6]. أما الاشعرية والمعتزلة والفلاسفة فقد ساروا في مدارج التسلسل الأقرب لحدود الاعتدال في الموقف من وحدة الظاهر والباطن. فقد فتحت الأشعرية باب التأويل في كل ما يتعلق بصفات الله وتركوا ما يتعلق بالآخرة على ظواهرها ونفوا التأويل فيها. أما المعتزلة فأّولوا من صفات الله الرؤية والسمع والبصر، وكذلك المعراج وعذاب القبر والميزان والصراط، إلا انهم اقرّوا بحشر الأجساد واللذات الجسدية في الجنة. في حين زاد الفلاسفة في التأويل على من سبق من المتكلمين بحيث تأّولوا كل ما ورد بصدد الآخرة وردوه إلى آلام ولذّات عقلية وروحانية، وأنكروا حشر الأجساد وقالوا ببقاء النفوس فقط[7].

لقد شكلت الاتجاهات الخمسة المذكرة أعلاه في مواقفها من علاقة الظاهر والباطن بنظر الغزالي، درجات متباينة في إدراكها طبيعة هذه العلاقة. ولم يضع الغزالي هذا "الترتيب" من أجل الدفاع عن "عقيدة السنّة"، بقدر ما انه أراد رفعها إلى مصاف الوسيطة المعقولة. وهو  اعتدال كان يتطابق فكريا مع مساعيه التوليفية باعتبارها نتاجا للإدراك المستجد في أتون الإصلاحية الأخلاقية العقلانية. وليس مصادفة أن تؤدي هذه العملية في مسارها المجرد إلى اقتراب أسلوبه وآرائه في ميدان الظاهر والباطن من توليف اتجاهية الباطنية والفلاسفة واختزال تقاليد الكلام الاشعري والمعتزلي في انجازاته العقلية. مما جعل من وحدة آرائه نموذجا للإسلامية المتسامية عن تحجر وضيق المذاهب وصراعات فرقها الكلامية والفقهية. من هنا دفاعه عن أخلاقية أحمد بن حنبل ومعارضة مواقفه من التأويل، أي أن دفاعه عن أحمد بن حنبل هو دفاع عما في "اقتصاده" التأويلي من دعوة إلى "رعاية صلاح الخلق"، لا تأييدا "لبخله" في التأويل. بمعنى أنه يأخذ عناصر الأخلاقية الحنبلية ويرفض جمودها الفكري. على عكس مواقفه من الاتجاهات الأخرى. بمعنى اخذه ما هو مناسب من أساليب فكرها التأويلي ورفض "مناقبها" السلبية الممكنة في الأخلاق والوجود السياسي للأمة، أي كل ما وضعه في دعوته لضرورة حدّ الاقتصاد بين أغلال أهل التأويل وجمود الحنابلة[8].

فالغزالي يدرك الفرق الدقيق القائم بين طرفي التناقض. وعبّر عنه بفكرة السرّ الذي لا يمكن كشفه دون ضياء النور الإلهي. وقد كان ذلك يعني أيضا انتقاد ولع المتكلمين والفقهاء في فرق الإسلام التقليدية من إدراك حقائقه بالسماع. ولم يقصد بالنور الإلهي هنا سوى نور اليقين، والوحي الذاتي للتجربة الصوفية في مستواها العقلي، أي الوحدة المتآلفة للأخلاقية الصوفية وعقلانية الوسط الفلسفية. من هنا حكمه القائل بأن ما "وافق مشاهدته بنور اليقين للعقل يجري إقراره وما خالف يؤول"[9]. لقد حاول صياغة النظرية العامة لعلاقة الباطن والظاهر استنادا إلى ثنائية الحس والعقل، والمُلك والملكوت. فهو ينطلق من أن للحواس حقائقها، إلا أنها تتسم مع ذلك بنقصان. فالبصر، على سبيل المثال، يبصر غيره ولا يبصر نفسه. وهو يبصر المتناهي ولا يبصر  غير المتناهي، ويبصر الظاهر ولا يبصر الباطن. على عكس العقل الذي يدرك غيره ويدرك نفسه. ويتساوى أمامه القريب والبعيد ويدرك الظاهر والباطن، بل كلّ ما في الوجود في مجاله. فهو يتصرف كما يقول الغزالي، في جميعها ويحكم عليها حكما يقينيا صادقا. فالأسرار الباطنة عنده ظاهرة والمعاني الخفية عنده جلية[10]. وهو الاستنتاج الذي يمتلك رصيده الفكري في تاريخ التصوف الأدبي والذوقي.(يتبع....). 

 

ا. د. ميثم الجنانبي

.............................

[1] ليس من مهمة هذا البحث تناول القضايا المتعلقة بدراسة وتحليل إشكاليات وخصوصية الظاهر والباطن في الفكر الصوفي. وذلك لأن لها تنوع في المستويات وخصوصية في تجليات المعرفة الصوفية. إن ما هو مهم بالنسبة لهذا البحث يقوم في الكشف عما في وحدة المعاني غير المتناهية، باعتباره النموذج الممكن للصوفي في تذليل النفس وقهرها، وتصفية القلب من وحدة الظاهر والباطن. وهو الاسلوب الذي اتبعه الغزالي في التحليل، والصيغة التي سلكها بفعل تطابقها مع مستلزمات "قواعد الطريق" نفسه. أما صياغتها النظرية، فإنها تتباين بأثر تباين مقدمات "الوعي النظري". لهذا كان لابد لها في حالة الغزالي، من أن تتبلور تحت ثقل النفي الصوفي لعقلانيته النقدية في علم الكلام والفلسفة والفقه.

[2] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص2.

[3] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص5.

[4] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص13.

[5] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص13

[6] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص203.

[7] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص104.

[8] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص 104.

[9] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص104.

[10] الغزالي: مشكاة الأنوار، ص52-53.

 

في المثقف اليوم