دراسات وبحوث

زكي الارسوزي.. فيلسوف الفكرة القومية العربية (2-4)

ميثم الجنابيفلسفة اللغة القومية ونقد الكينونة العربية الحديثة

إن المهمة التي وضعها الارسوزي بدراسة قواعد اللسان العربي القادرة على كشف تكون العقل البشري أيضا، تهدف اساسا إلى إرساء أسس الرؤية النقدية تجاه النفس وتذليل انحرافها عن الأصول. من هنا قوله، بأن الانبعاث القومي يفترض إلى جانب الصناعة والعلم، الاهتمام "بتراث الأجداد". الأمر الذي جعله يدعو إلى البحث عن مصدر الوعي القومي المعاصر في مرحلة الجاهلية. ووضع ذلك في عبارة تقول: "بالعودة إلى جاهليتنا نلتقي مع أصول الثقافة الحديثة، الأصول التي تقوم على الاعتقاد بأن النفس تنطوي على مقوماتها. ثم انه يجنبنا مما أورثه التاريخ من حزازات بين المذاهب والأديان"[1]. بينا نراه في بحثه الموسوم (اللسان العربي) يقول، بأن المهمة المطروحة أمامنا تقوم في استجلاء آية الأمة العربية بوصفها حقيقة تاريخية، ومن ثم "إنشاء فلسفة عربية يتحول بها ما نسجته الحياة عفوا إلى مستوى من الشعور بحيث نشترك مع العناية في تعيين مصيرنا، ونشترك ونحن أحرار"[2].

ووضع هذا المقدمة الضرورية للإبداع الحر في اساس النقد الذاتي للكينونة العربية المعاصرة. وقد ادخل في فلك نقده الحاضر والماضي والرؤية والتراث وكل ما يطفو على سطح الوجود من مظاهر الانحطاط والتخلف. ووجد في كل ذلك نتاجا ملازما للابتعاد عن الأصول الكبرى القائمة في أساس العربية وتراثها الذاتي. ففي معرض تناوله اسباب تخلف العالم العربي نراه يشير الى ان سر تخلف العالم العربي والثقافة العربية بعد نهوضها التاريخي الكبير الأول يقوم فيما اسماه بدخول "الدخلاء" (العجم)!! فنراه يتكلم عن "استغفالنا الاغيار إبان نهضتنا" وكيف "أمات الدخلاء بنيان أمتنا بسموم أفرزتها قرائحهم المتردية"، بحيث "تحول تراثنا إلى ظلف يعوق الآمال عن الانطلاق" مع ما رافقه من "تردي مجتمعنا إلى مستنقع تعبث فيه الأنانية". والمقصود بالأنانية هنا هي تقلب الظروف على الفرد، وتقلص في الرحمة، وعمه في البصيرة. أما نتيجة كل ذلك فإنها أدت ألى أن "زاغت المؤسسات العامة عن حقائقها، واختل نظام القيم في مجتمعنا". مع ما ترتب عليه بالضرورة من تدن شامل. وذلك لأن الإنسان يتدنى، كما يقول الارسوزي "إذا تحول محور الحياة من البنية إلى البيئة، بحيث تتراخى صلة الرحم وتتلاشى الاحساب والأنساب ويصبح الناس عندئذ رعاعا يلبسون لكل حال لبوسها"[3]. أما مظاهر هذا الانحطاط العربي فقد أدى إلى سيادة وهيمنة "الدروشة في العمل والسفسطة في المعرفة".

من هنا نقده لكافة هذه المظاهر الخربة. ففي معرض نقده للزهد المزيف والمصطنع، نراه يشدد على أن محاربتهم للجسد هو خروج على الطبيعة والأصول. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن الجسد ليس من قيمهم مع انه قاعدة النفس في الوجود وصورتها. بينما يصبح "التبرم من الحياة دليلا على صورة نفس هزيلة أدركت من خلال بنيانها المتداعي الوجود مشتتا هامدا". وقد أدى ذلك إلى أن فرض الواجبات على الناس، بحيث تحول الإبداع إلى بدعة، وأمست الديانة ترويضا على الذل والاستكانة. في حين يجعل هذا الاستسلام والخضوع الإنسان ماديا وأنانيا ورديئا"[4]. وتكثفت هذه النتيجة فيما اسماه الارسوزي بالشخصية العربية الفردية الخربة. من هنا توجهه النقدي الحاد تجاهها، عندما شدد على الظاهرة المتناقضة بين الشعور القومية على مستوى الجماعة ومستوى تجسيده الفردي. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن الشعور القومي العربي قوي وعارم لكن تجسيده الفردي ضعيف ورخو. ولهذا أسباب عديدة حصرها بكل من الابتعاد عن الأصول، والسيطرة الأجنبية، وسيادة الجمهور في ظل السيطرة الأجنبية، وعدم وجود نخبة أصيلة، والسرعة في التباين بين الأجيال. بعبارة اخرى، لقد فسر موقفه استنادا الى رؤية منظومية لها اولوياتها وتشابكها الداخلي. فعلى الرغم من إدراكه المباشر للدور السياسي المباشر للكولونيالية (الفرنسية) إلا انه ابقى عليها بوصفها عاملا اضافيا شأن البقية الباقية مثل هيمنة العوام وضعف أو انعدام النخبة الأصيلة والسرعة في التباين بين الأجيال. لهذا نراه يشدد على أن "الأمة التي تخضع لمشيئة غيرها تتلقى منه قواعد فكرها وعملها فيمسخ أبناؤها". مع ما يترتب عليه بالضرورة مما اسماه بفقدان قوام الانسانية (للامة) في حال خضوعها للاجنبي[5]. اما نتيجتها النهائية فتؤدي إلى هيمنة الشعور بالانبهار، أي اختلال الاوزان الداخلية وضعف المناعة وفقدان الهوية الذاتية. بحيث تتحول الأمة إلى كمية رعاع أو كومة صغار جهلة. وليس هذا بدوره سوى النتيجة الملازمة لما اسماه بالابتعاد عن خصوصية العربية (اللغة). فالأمة تبقى "بنجوة من عوارض المكان والزمان إذا كانت جذورها في الملأ الأعلى، وان تخسر النفس أو تجف الحياة فذلك لان المظاهر لم تنسجم مع أصولها" كما يقول الارسوزي[6].

ولا يعني النجاة من عوارض الزمان والمكان سوى التحرر من ثقل عوارضهما العابرة. فحالة الانحطاط السائدة انذاك في العالم العربي هي عوارض سواء بمعايير الزمان أو المكان أو بهما كليهما. وذلك لأن العلة الفعلية تكمن في "عدم الانسجام مع الأصول". والاخيرة بالنسبة للارسوزي كيان وكينونة وجوهر لا علاقة له بالزمان العابر والمكان الطائش. انها من "الملأ الاعلى"، أي من عالم ما فوق زمني وما فوق طبيعي. وليس إلا خلل انسجام الطبيعة (الزمان والمكان التاريخي والثقافي والقومي) مع أصولها القائمة ما وراء الطبيعة هو الذي يؤدي الى حصول المأساة. وإذا كان الارسوزي قد وجد نموذج هذا "الملأ الاعلى" في العربية فلأنها بالنسبة له مصدر وجود الكينونة العربية وكيانها. وما عدا ذلك صيرورة قابلة للتغير والتبدل لا تغير ولا تبدل حقيقتها الاولية بوصفها عروة ابدية خالدة. الامر الذي يجعل عن الابتعاد عنها مجرد عوارض زمانية ومكانية لا غير. وفي هذه الرؤية يمكننا العثور على ما يمكن دعوته بفلسفة البأس المتفاءل المبنية على فلسفة اللغة القومية.

إن جعل اللغة أساس الفكرة القومية كان يحتوي في اعماقه على محاولة تجاوز المبادئ الجزئية والقيميية العابرة والأهواء، أي مختلف عوارض الزمان والمكان. ومن ثم البحث عن أساس ثابت ودائم وأبدي وخالد. ووجد في اللغة الاساس الجامع والعميق الذي يربط عقل المرء ووجدانه بالماضي والحاضر والمستقبل. إضافة لذلك أنها الكيان الذي يربي ويهذب ويشذب الذهنية الثقافية ويمدها بعناصر فعلها الوجودي والرمزي. من هنا أهميتها بالنسبة للكينونة العربية بمختلف مظاهرها ومستوياتها. وذلك لانها مصدر الاصالة بوصفها جوهرا فعالا وليس كيانا جامدا. من هنا اهميتها بالنسبة لتجاوز خلل الزمان والمكان على مستوى الفرد والأمة والتاريخ. بمعنى انها تجنبه الوقوع في هوة اليأس ومأساة الواقع الفعلي. ونعثر على ذلك في استنتاجه الذي قال فيه بان "الأصالة توفر على صاحبها الجهد وتقيه من المأساة. هذه المأساة الحاصلة في نفس الفرد، من اختلال العلاقة فيها بين السماء والأرض، الملأ الأعلى والطبيعة"[7]. وهي فكرة عميقة لها مصدرها فيما اسماه الارسوزي باستكمال شروط الأصالة في اللغة العربية، بوصفها "لسان آدم" (أو الإنسان الأولي المفترض، أو إنسان الإنسانية المجردة)، أي لسان المعنى المتجلي في الوجود، الأمر الذي جعله مستكملا "لكافة شروط الأصالة"[8]. فعندما قارن بين االغة العربية واللغة الغربية(!) في بحثه الموسوم (رسالة اللغة) فإننا نراه يرسم ملامح صورة متوازية ومتضادة من حيث مكوناتها وأسلوبها وغايتها كما هو جلي في الصورة البيانية التالية:  

اللغة العربية: بنيان عضوي تستكمل به الكلمة شروط كيانها بالتعبير عن إنسانية متسامية.

اللغة غير العربية (الغربية): بنيان ميكانيكي تتحول به الكلمة من صورة إلى رمز يلتحق به المعنى عرضا واتفاقا.

اللغة العربية تحولت الذهنية العربية السامية إلى ثقافة ذات طابع رحماني.

اللغة غير العربية (الغربية): تحولت الذهنية اليونانية الأوربية إلى ثقافة ذات طابع نسبي

اللغة العربية : التلازم بين الصورة والمعنى أدى إلى تجاوب المدلولات الحسية والعقلية صوب الحقائق المنطوية في النفس الإنسانية.

اللغة غير العربية (الغربية): مهدت لفقه حدس اللانهاية – الرياضيات والخضوع للإرادة.

اللغة العربية: تخطي نسبية المظاهر مرتقيا نحو الوحدانية المطلقة.

اللغة غير العربية (الغربية): استعداد الذهن لإدراك النظام قانونا في الكون، وعدلا في المجتمع، وعقلا في النفس. 

اننا نقف هنا أمام صيغة واضحة ومتكاملة لتأسيس رؤية منطقية ثقافية أو تأويلية ثقافية للذهنية العربية بوصفها مشروعا قوميا، بمعنى اعادة بناء الذهنية القومية بما يستقيم مع اصولها اللغوية. ومن ثم الخروج على قواعد الأديان والفلسفات والأيديولوجيات غير العربية أيا كان شكلها ومحتواها ومصدرها. فالأديان الكونية هي جزء من منطق الذهنية العربية ولغتها، وما عداها مجرد فلسفات وأيديولوجيات لا يعني الانبهار بها سوى التعبير عن خلل هذه الذهنية وخروجها على انساقها الذاتية الأصيلة. وإذا كانت اللغة مصدرها ومعيارها ونموذجها، فلأنها في الوقت نفسه القوة الحيوية والفعالة والمستقيمة بذاتها. بمعنى انها تمتلك اوزانها الداخلية الأبدية كما لو انها معيار الوجود الخالد، أي الحقيقة والمعنى، أو الطبيعة والماوراطبيعة. وهي الصفة التي لازمت نشوء وتطور العربية، ومن ثم طبعت بميسمها حقيقة الكينونة العربية. وبالتالي لا يعني الرجوع الدائم اليها سوى الرجوع إلى النفس الصادقة. فاللغة خارج اطار المتناقضات والزمان والمكان، وذلك لأنها تحتوي على منطق الحقيقة الذاتية بوصفها توحيدا للطبيعة والماواطبيعة. 

عبقرية اللغة- الأبعاد الوجودية والميتافيزيقية للعربية

وبهذا يكون الارسوزي قد سعى لبلورة منظومة فكرية تستمد مقوماتها مما بلوره اللسان العربي نفسه. وحصر مبادئ هذه المنظومة في أربعة وهي: بنيان عضوي متكامل للنزعة الانسانية، وثقافة ذات طابع رحماني، وحس وعقل يخدمان حقائق النفس الإنسانية، ووحدانية مطلقة، أي كل ما وضعه اعلاه في مجرى مقارنته للغة العربية بغيرها. ووضع ذلك في اساس تفسيره كل شيء، كما هو جلي في فكرته عن ان "الفلسفة العربية مدخلها رحماني، نهجها فني، غايتها الذات. أنها نظرة مستوحاة من الحياة"[9]. وعندما تطرق، على سبيل المثال إلى قضية العلاقة الاشتقاقية في الكلمة العربية، فانه يتوصل إلى أن لهذه العلاقة نتائج هامة في "مصير الثقافة منها الكشف عن نمو الذهن بتجاوب وجهيه المحسوس والمعقول"[10]. مثل قولنا حرارة – أحرار. ففيها تتجلى علاقة الإنساني والطبيعي.

ووضع هذه الرؤية المنهجية في اساس فلسفته القومية. وانطلق بذلك مما اسماه بعبقرية اللغة، التي وجد مثالها في العلاقة بين الصوت الطبيعي والخيال المرئي. بحيث نراه يجد في تطبيقه على اللغة العربية مبدأ شاملا. وتوصل في نهاية المطاف إلى انه إذا "كانت العقيدة توحي بمبدعها الفنان، فلماذا لا يوحي الانسجام بين ظواهر اللغة بعبقرية أمة مبدعة وموجهة؟"[11]. من هنا منطلقه عما اسماه بدراسة العلاقة بين الأمة العربية ولغتها. بحيث يجري دراستها على نموذج الباليونتولوجي! وهي دراسة لها طابعها المفارق، بمعنى انها تضع مهمة دراسة اللغة بالضد من منطق الثقافة، إلا أنها تتمتع بمنطقها الذاتي عند الارسوزي. فالعربي حالما يقوم بدراسة لسانه دراسة توليدية (عضوية)، وحالما ينجز ذلك ببعثه الموجات التاريخية التي تحققت فيها هذه التجليات عبر سيطرة الأمة على القدر (الطبيعة)، حينذاك تنكشف له ماهية أمته. وعندها "يرتقي بهذا الكشف من الناسوت إلى اللاهوت"[12].

ليس لهذا السمو "الميتافيزيقي" علاقة بالدين والأديان، لكنه لا يقل إيمانا عنهما بمعايير الغلو السابح في غيوم الوهج القومي المعذب بالبحث عن عروة الخلود. ومن ثم الخروج من حالة الموت الفعلية التي كان الارسوزي يتحسسها في ما حوله من أحوال الأمة في روحها وجسدها، أو في ناسوتها ولاهوتها. وليس مصادفة ان يبحث الارسوزي في اللغة، وذلك لأنها النموذج المعقول لعالم "الملأ الاعلى"، أي الأكثر تناسقا وتجانسا وسموا وعلوا. ولا ينعزل ذلك عن أصول الأمم ومصيرها. إذ لكل أمة أصيلة وجهتها، كما يقول الارسوزي. و"وجهة الأمة العربية الحياة نفسها. فمن الحياة استوحت نظرتها، وبالحياة اقتدت في صبوتها، حتى أن نظرتها الرحمانية هذه تظهر على مؤسساتها ومفاهيمها العليا"[13]. ووضع هذه الفكرة في اساس موقفه من فكرة الخلود، بوصفها النفي النظري للواقع بمعايير الواجب والمعنى. اذ ليست فكرة الخلود عند الارسوزي هنا سوى فكرة الاستمرار الثقافي المبني على أساس إبداع اللغة وإعادة إنتاج صورها ومعانيها وخيالها.

فقد انطلق الارسوزي هنا من أن طابع الخلود، بوصفه انبثاق المظاهر عن مبدأ الحياة، يبدو على العقلية العربية بكافة مظاهرها ومستوياتها، ومن ثم كل ما ينشأ فيها وعنها. وذلك لأن اللسان العربي من الأمة بمثابة الأنسجة من الكائن الحي، فيبعث في نفس العربي بصيص تنتهي به الحياة بتحقيق غايتها في البطولة، على خلاف غيرها التي تكون الكلمة المشتقة فيها دلالية واصطلاحية، ومن ثم "يلتصق بها المعنى عرضا مثلما تلجأ الروح المتشردة إلى الجنة فتستوحش فيها"[14]. وليست هذه الفكرة المجردة التي وضعها الارسوزي في أساس الموقف من الأمة، سوى فكرة الوجوب والمستقبل المتسامي. وهذه بدورها ليست إلا طوباوبة المعنى المتسامي. من هنا إمكانية أن تصبح الفكرة المنطقية في اللغة فكرة ضد منطقية لأنها تتبع خيال مسحور، كما هو جلي حالما ينزل الارسوزي الفكرة المجردة من سماء التأمل المتسامي إلى ميدان الواقع عبر رؤية ما اسماه ببنية اللغة وأثرها في تحقيق غايتها في الوجود. وكتب بهذا الصدد يقول، إن "الأمة العربية التي اختارت بنيتها وفقا لغايتها من الوجود، قد اصطفت هذه الصورة الصوتية – المرئية مستندة على تعادل مدادها، ولتحقق بها هذه البنية، فحدّت بذلك من شطط الخيال الشخصي، كما جهزت بدن الفرد بالغرائز فعينت له تعادل حاجاته، وأنشأت كذلك كافة مؤسساتها (الأخلاق واللغة والفن) على ضوء هذه البنية تحقيقا لها بالانسجام مع تلك الغرائز"[15]. فعندما تناول، على سبيل المثال كلمة أو فكرة "آدم" فإنه انطلق من أن هذه الأسطورة، أي خلقه من تراب وجعله على صورته ونفخ فيه من روحه، هي صورة عبرت بها الأمة العربية عن نظرتها في الوجود. كما أنها تشير إلى رسالة هذه الأمة في التاريخ[16]. فآدم من أديم الأرض، أي من ديمومته، كما يقول الارسوزي. انه يقتبس من الأرض عناصر بدنه، ومنها يستمد نسغ حياته، وليس البدن إلا بُدُور النفس في الكون وجودا. ومن هذه المقدمة استنتج قائلا "ولئن اقتبست الحياة من القدر (الطبيعة) عناصر بيئتها، فقد دلت بهذا الاقتباس على نفوذها فيه، وبدء سيطرتها عليه. وبهذا تكون قد حققت بالإنسان صبوتها. فخلقت من بدنه قدرا طوع إرادتها، به تحرِّر معناها. وبهذا التحرر أصبحت على صورة الإله مبدعها"[17]. وفيما لو رمينا هذا الغلاف اللاهوتي والتفلسف الذي لا يخلو من افتعال الحذلقة اللغوية أو سطوتها التي وجدت صبوتها، فيما لو استعملنا عبارة الارسوزي نفسه، في ولعه المفرط بهذه المقارنات المغرية والخالية من أديم الأرض الواقعية، ومن ثم ارجعناه إلى معناه "الطبيعي" والواقعي، فإنه لا يعني سوى البحث عن صيغة مثلى للموقف من النفس (الفردية والاجتماعية) والذات (القومية) بوصفها نتاجا ذاتيا خاصا. الأمر الذي يعطي لها صفة الخلود بغض النظر عن واقعها الحالي البائس. وعبّر عن هذه الفكرة بأشكال ومستويات مختلفة تقف وراء كثافة اللغة الولهانة بمفرداتها. ففي موقفه من النفس الفردية يقول:"ولئن أدركت هذه الصورة نموها بالارتقاء إلى مصدر انبثاقها، فقد تحرر معناها من القدر (الطبيعة) فتمتعت حينئذ هذه النفس وبهذا التحرر، بالخلود"[18]. ودفع هذه الفكرة صوب اشواطها القومية من خلال تقريرها بعبارة تقول "كما أنها عوضت على الإنسان بخلود الأمة. لاستقلال الثقافة فيها عن المدنية، تعويضا عن تلازم المكان والزمان في وحدانية نمو مظاهر البدن ذات الصلة بالقدر"[19]. بعبارة اخرى، إن للقومية العربية من حيث أصولها قدرها الخاص في اقدار أو نسبة العلاقة بين الطبيعة والماوراطبيعة التي وجدت انعكاسها وتعبيرها النموذجي والأمثل في اللغة. فقد انتشل ذلك الفرد والجماعة من وهم الاندثار المحتمل، وذلك ببقاء الأمة بوصفها كيانا خالدا معبرا عن تجاوز أو تذليل الخلل المحتمل بين المدنية والثقافة. فإذا كانت المدنية تعبير عن تلازم الزمان والمكان في الوجود والعدم، شأن البدن الفردي وارتباطه بالطبيعة، فإن ذلك يعني إمكانية تعرضها للتغير والتبدل. على خلاف الثقافة، فإنها باقية أبدا بفضل ارتباطها العضوي باللغة (العربية) وتصنيعها للمرجعيات الكبرى في كل مظاهر الوجود الواجب للقومية. الأمر الذي اعطى لها صفة الخلود، شأن كل ما في اللغة العربية من استعداد لتجسيد هذه الحقيقة. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن هذه الثقافة هي التي أوجدت اللسان أيضا تحقيقا لغايتها هذه، فانتصرت على الزمان (الكناية، العنعنات)، وعلى المكان (التجاوب الرحماني، وتأثير الكلمات السحري بالبيان)، وعدلت به مؤسساتها، ولخصت تجارب أجيالها"[20].

اننا نقف هنا أمام نموذج خاص لما يمكن دعوته بفلسفة ارجاع الوعي التاريخي بكافة مستوياته إلى جذر العربية، ومن ثم تحويلها إلى مصدر ومعين للرؤية المستقبلية. وبالتالي النظر إلى كل ما جرى انتاجه من متناقضات على مستوى الوعي والإنتاج بوصفها ابداعها الخاص. وينطبق هذا أيضا على ما يتعارض مع حقيقتها بوصفه خروجا على منطقها الذاتي. الأمر الذي كان يحتوي في ذاته على بلورة شعار (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة)[21].

 

ا. د. ميثم الجنانبي

 ......................

[1] زكي الارسوزي: المؤلفات الكاملة، ج2، ص297.

[2] زكي الارسوزي: المؤلفات الكاملة، ج1، ص266.

[3] زكي الارسوزي: المؤلفات الكاملة، ج1، ص279.

[4] زكي الارسوزي: المؤلفات الكاملة، ج1، ص279-281.

[5] زكي الارسوزي: المؤلفات الكاملة، ج1، ص283.

[6] زكي الارسوزي: المؤلفات الكاملة، ج1، ص284-285.

[7] زكي الارسوزي: المؤلفات الكاملة، ج1، ص123.

[8] زكي الارسوزي: المؤلفات الكاملة، ج1، ص219.

[9] زكي الارسوزي: المؤلفات الكاملة، ج2، ص.155

[10] زكي الارسوزي: المؤلفات الكاملة، ج1، ص51.

[11] زكي الارسوزي: المؤلفات الكاملة، ج1، ص55.

[12]  زكي الارسوزي: المؤلفات الكاملة، ج1، ص108.

[13]  زكي الارسوزي: المؤلفات الكاملة، ج2، ص158.

[14] زكي الارسوزي: المؤلفات الكاملة، ج1، ص92.

[15] زكي الارسوزي: المؤلفات الكاملة، ج1، ص108.

[16] زكي الارسوزي: المؤلفات الكاملة، ج1، ص57.

[17] زكي الارسوزي: المؤلفات الكاملة، ج1، ص57-58.

[18] زكي الارسوزي: المؤلفات الكاملة، ج1، ص57.

[19] زكي الارسوزي: المؤلفات الكاملة، ج1، ص57.

[20] زكي الارسوزي: المؤلفات الكاملة، ج1، ص59-60.

[21] الاشارة هنا الى القصة المتداولة عن كيفية ظهور هذا الشعار.

 

في المثقف اليوم