دراسات وبحوث

محمد بن إدريس الشافعي رائد علم أصول الفقه (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا في مقالنا الثاني والأخير عن محمد بن إدريس الشافعي رائد علم أصول الفقه؛ حيث يكون حديثنا عن الرأي الثاني ويتمثل في الأصل الإسلامي للمنهج الأصولي عند الشافعي: وفي هذا يمكن القول: إذا كان بعض الباحثين من العرب والغربيين قد مالوا إلي القول بتأثر الشافعي في أصول الفقه بالمنطق الأرسطي، فإن فريقا آخر من الباحثين قد رفض هذا القول وردوا المنهج الأصولي عند الشافعي إلي أصل إسلامي خالص .

وأصحاب هذا الرأي ينكرون أي أثر خارجي في تكوين المنهج الأصولي عند الشافعي، ومن هؤلاء الدكتور علي سامي النشار الذي يقول بأنه ليست هناك أدلة واضحة علي تأثر الشافعي بالمنطق الأرسطي، وأن المنهج الأصولي عند الشافع، قد تكون بمنائ عن منطق أرسطو، وكان أغلب ما أضافه إليه الشافعي عناصر بيانية ونقلية خاصة بطرق الأسناد أو عدالة الناقلين أو علي العموم مباحث خاصة بالكتاب والسنة، وبجانب هذا كانت هناك طرق عقلية أو مدارك للعقول يلجأ إليها نظار المسلمين وفقهاؤهم، بل وحتي هذه الطرق لم يلجأ إليها الشافعي في رسالته، وكان أولي أن يتأثر بها عن أي منهج آخر. أما صوغ الشافعي للأصول في منهج عام متصل فقد صدر فيه عن فكر خاص، أما معرفة الشافعي لليونانية – فليست برهانا واضحا علي دخول المنطق الأرسطي أصول الشافعي . وأسلوب الرسالة وطريقة البحث فيها لا يشعران بوجود أية علاقة بينها وبين أية دراسة أجنبية عن التفكير العربي واللغة العربية .

وقد أخذ الدكتور حسن حنفي في كتابه "مناهج التفسير: محاولة في علم أول الفقه" بهذا الرأي حيث يقول:" يكاد يجمع العلماء علي أن الشافعي هو واضع علم الأصول في إملائه العظيم " الرسالة"، والتي يظهر فيها علم أصول الفقه، وهو ينشأ من داخل البيئة الإسلامية نشأة تلقائية، وظهور مصطلحات العلم وموضوعاته ومشاكله دون أدني أثر خارجي وارتباط العلم باللغة العربية ورفض المنطق اليوناني باعتباره وثيق الصلة باللغة اليونانية .

وقد ساير هذا الرأي أيضا الدكتور محمد عابد الجابري، حيث يقول:" أن الشافعي هو أول من أصل الأصول وصاغ منهجية الفكر العربي الإسلامي كله دون التأثر بمؤثرات يونانية " وينتهي الدكتور الجابري إلي أن "القواعد التي وضعها الشافعي في رسالته في أصول الفقه لا تقل أهمية بالنسبة لتكوين العقل العربي الإسلامي عن قواعد المنهج التي وضعها " ديكارت" (1596-1650م) بالنسبة لتكوين الفرنسي خاصة والعقلانية الأوربية الحديثة عامة".

والحق هو أنني أرجح هذا الرأي، حيث تجدر الإشارة إلي أن لغة الرسالة لشافعي لا تسمح بإقامة علاقة وثيقة بينه وبين أرسطو أو الرومان وما أشار إليه بعض المستشرقين من نقاط في هذا الصدد بأن الشافعي تأثر بأرسطو، ويمكن أن يكون ما بينهما من تشابه احيانا هو مجرد اتفاق في المنحي لا تأثير وتأثر . فالشافعي من المشهورين في تاريخ الفكر الإسلامي الذين وقفوا من المنطق الأرسطي موقفا سلبيا؛ فقد أورد قاضي المسلمين " الحافظ عز الدين بن عبد العزيز " (ت:767هـ) قولا سمعه عن الشافعي دهو:" ما جهل اناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلي لسان أرسطوطاليس" .

والغرض مما قاله الإمام الشافعي، كما يري جلال الدين السيوطي (ت: 911هـ) أن من أراد تخريج القرآن والسنة والشريعة علي مقتضي قواعد المنطق ولم يصب غرض الشرع، فإن كان في الفرع نسبة إلي الخطأ وإن كان في الأصول نسب إلي البدعة وهذا أعظم دليل علي تحريم هذا الفن وهذا هو مجمل كلام الشافعي".

وإذا كان الشافعي قد نقد المنطق لارتباطه باللغة اليونانية، فهذا يرجح عندي أنه لم يدخل هذا المنطق أو يتأثر به في رسالته التي دونها في علم أصول الفقه، إلا أنها كانت هي النافذة التي ادخل منها فقهاء الأشاعرة بعد ذلك، وبخاصة الغزالي (ت:505هـ) المنطق الأرسطي في علم أصول الفقه؛ حيث يحدثنا الشيخ عبد الوهاب خلاف عن طريقة الغزالي وغيره من علماء الكلام الأشعريين في الدراسات الفقهية فيقول:ط فأما علماء الكلام فتمتاز طريقتهم بأنهم حققوا قوعد علم أصول الفقه وبحوثه تحقيقا منطقيا نظريا وأثبتوا ما أيده البرهان العقلي، ولم يجعلوا وجهتهم انطباق هذه القواعد عليما استنبطه الأئمة المجتهدون في الأحكام . فما أيده العقل وقام عليه البرهان فهو الأصل الشرعي سواء أوافق الفروع المذهبية أم خالفها .

رأينا فيمل سبق، كيف أن الإمام الشافعي، هو أول من أنشأ الأسس والقواعد وأصل الأصول، ووضع المبادئ والقوانين التي يقوم عليها علم أصول الفقه، والمنهج الأصولي، وذكرنا رأينا الذي نعتقد فيه أن الشافعي في هذا لم يتأثر بالمنطق الأرسطي، وإن كانت بحوثه المنهجية قد فتحت الباب بعد ذلك لدراسة المسلمين للمنطق الأرسطي، وتأثرهم به، ذلك التأثر الذي نجد له بعض المعالم الواضحة في منهج الغزالي بوجه خاص .

ونحاول هنا أن نقف علي تطور المنهج الأصولي في الفكر الإسلامي؛ حيث أنه بعد الشافعي لم يقف التدوين في علم أصول الفقه، بل تتابع بعده التأليف في هذا العلم، فصنف الإمام " أحمد بن حنبل " (ت: 241هـ) كتاب "طاعة الرسول" وكتاب "العلل" وكتاب "الناسخ والمنسوخ". وكذلك كتب في أصول الفقه علماء الكلام وكثير من فقهاء الحنفية .. وتوسعوا في أبحاثهم، وكانت الدراسة كلها تدور حول الحكم والدليل والاستنباط والمستنبط، إلا أنهم مع اتفاقهم في مادة البحث، اختلفت طرائقهم، وتعددت مناهجهم، فكانت علي طرق ثلاث: أحداها طريقة المتكلمين، والثانية الحنفية، والثالثة، طريقة المتأخرين ".

أما طريقة المتكلمين: فقد شاعت هذه الطريقة أو عرفت بطريقة الشافعية، لأن الشافعي أول من نهجها، والشافعية هم الذين سبقوا للكتابة عليها، كما عرفت بطريقة المتكلمين؛ حيث أفادوا في مناهج دراساتهم من علم الكلام، ولأن أكثر الكاتبين فيها كانوا من علماء الكلام وبخاصة الأشاعرة؛ فاتجهوا اتجاها منطقيا نظريا كثرت فيها الفروض النظرية، فأخذوا يجردون صور تلك المسائل في الفقه ويميلون إلي الاستدلال العقلي ما أمكن لأنه غالب فنونهم طريقتهم، فأثبتوا ما أيده البرهان من القواعد الأصولية بعد دراستها وفحصها، فلم تكن وجهتهم تطبيق هذه القواعد علي ما استنبطه الأئمة المجتهدون من الأحكام ولا ربطها بتلك الفروع، بل كانت وجهتهم هي الوصول إلي أقوي القواعد وأضبطها، فما أيده العقل، وقام عليه البرهان، هي الأصل الشرعي عندهم، سواء أوافق هذا الأصل مذهبا من المذاهب أم جاء مخالفا له، فأخضعوا الفروع للقواعد، ولم يخضعوا القواعد للفروع .

وقد كتبت عدة كتب علي طريقة المتكلمين كانت الصل لما بعدها من الكتب، وهذه الكتب هي: المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين محمد بن علي البصري الذي كان معتزليا وتوفي سنة 463هـ، وكتاب " البرهان في أصول الفقه " لأبي الحرمين أبي المعالي الجويني (ت:487هـ) وكتاب " المستصفى من علم الأصول " لأبي حامد الغزالي .

طريقة الحنفية:

امتازت هذه الطريقة بأن علماء الحنفية وجهوا عنايتهم إلي تقرير القواعد الأصولية وتحقيقها علي ضوء ما نقل عن أئمتهم من الفروع الفقهية، ومعني ذلك أنهم استمدوا أصول فقهم من المسائل والفروع الفقهية المنقولة عن أئمة المذهب الحنفي، وكانوا إذا وجدوا قاعدة من القواعد لا تتسع لبعض الفروع المقررة في المذهب، تصرفوا في القاعدة، واخذوا يشكلونها علي الوجه الذي يجعلها تشمل جميع الفروع، ولهذا كثرت الكتب الفقهية في كتب أصول الحنفية، وإن كانوا يذكرونها علي سبيل التفريع علي القواعد، ولعل ذلك يرجع إلي أئمة الحنفية التي لم تترك قواعد مدونة كالتي تركها الشافعي لتلاميذه.

وهذا يوضح لنا أن طريقة الحنفية تقوم علي تقرير القواعد الكلية علي ضوء ما نقل عن الأئمة من الفروع، ولهذا أكثروا من هذه الفروع في كتبهم، لأنها هي التي تثبت القواعد الكلية نفسها، وهي طريقة تخلو من أثر المنطق اليوناني فيها .

وإن كان بعض الباحثين المعاصرين، يري أن هذه الطريقة، والتي تمثل مدرسة الرأي في الكوفة، قد استفادت من الوسط الثقافي الذي ميز العراق بعد القرن الأول الهجري، وأهم ما كان يميز هذا الوسط الثقافي، هو الفلسفة الهيلنستية وبعض عناصر المنطق الأرسطي والقانون الروماني " وهذه العناصر قد انعكست بوضوح في النسق الفقهي الحنفي .

غير أنني أخالف هذا الرأي، لأن كل المصادر التاريخية تؤكد لنا بأن افمام أبي حنيفة النعمان وتلاميذه، وبخاصة تلميذه " محمد بن الحسن الشيباني "، الذي نشر مذهب أبي حنيفة، لم يتأثروا بأي عناصر فلسفية ومنطقية ذات طابع يوناني، الأمر الذي أدي بكثير من المؤرخين والباحثين بأن يطلقوا علي هذه الطريقة اسم " طريقة الفقهاء "، تلك الطريقة التي تعتمد في كل أمورها علي الفروع الفقهية الإسلامية .

ومن خصائص هذه الطريقة ما يلي:

أ- أنها استنباط لأصول وقواعد للاستنباط الفقهي ومهما يكن الدافع إليها والحافز عليها، فهي تفكير فقهي كلي، فقد كانت قواعد مستقلة تمكن الموازنة بينها وبين غيرها من القواعد المختلفة تمكن للعقل السليم المستقيم أن يصل إلي أقومها وأقواها .

ب- أنها دراسة للأصول قرينها من الفروع، فهي ليست بحوثا نظرية مجدرة، ولكنها بحوث كلية، وقضايا عامة تطبق علي فروع جزئية في دراستها، فتستفيد الكليات من تلك الدراسة حياة وقوة، ولا تكون مقصورة علي التصور المجرد . ومن أجل ذلك عمد بعض الشافعية إلي تطبيق قواعد الأصول علي المذهب الشافعي، فكان يذكر القاعدة، ثم يذكر ما يتفرع عليهما من فروع . ومن هؤلاء الإمام الأسنوي (ت: 707هـ) في كتابه " التمهيد في تخريج الفروع علي الأصول "، فاستفادت الأصول من ذلك حياة واستفاد المذهب الشافعي منه قوة استدلال .

ج- أن دراسة الأصول علي هذه الطريقة، هي دراسة فقهية مقارنة، لا تكون الموازنة فيها بين الفروع، ولكن تكون الموازنة بين الأصول لا يهتم القارئ فيها بالجزئيات، بل يتعمق في دراسة الكليات، ويصل من تلك الدراسة إلي القواعد الكلية التي بني عليها المذهبين اللذين عمدا إلي الموازنة بينها أو دراستهما دراسة مقارنة .

د- أن هذه القواعد الخادمة للمذهب الحنفي هي ضبط لجزئياته تردها إلي أصولها، وبالاطلاع عليها يستطيع أن يتعرف أحكام ما يبني عليها، إلا ما يكون شاذا جاء علي غير الأصول، وتخالفت أحكامه عن مقتضي القواعد والأقيسة .

هـ- أنها تصور كيف يكون التخريج في ذلك المذهب، وتفريع فروعه واستخراج أحكام المسائل عارضة لم تقع في عصر الأئمة، بحيث تكون الأحكام غير خارجة عن مذهبهم، وبحيث لو كانوا أحياء لحكموا فيها هذه الحكام، لأنها علي طريقتهم، وعلي مقتضي الأصول المستنبطة من فروعهم، ولا شك أنه بذلك ينمو المذهب، ويتسع رحابه، ولا يقف العلماء فيه عند جملة الأحكام المروية عن أئمتهم، بل ويقضون فيما يجد من أحداث علي طريقتهم، وبذلك يكون أتباع المذهب غير مانع من استخراج الأحكام لما يجد من أحداث .

هذه هي طريقة الحنفية، ولقد كتبت مصنفات كثيرة علي هذه الطريقة.

وأما طريقة المتأخرين: فقد جمعت بين الطريقتين السابقتين فعنيت بتحقيق القواعد الأصولية وإقامة البراهين عليها، كما عنيت بتطبيق هذه القواعد علي الفروع الفقهية، وربطها بها، وهذه الطريقة أخذ بعض علماء الحنفية وبعض علماء الشافعية. وقد ظهرت مؤلفات عدة جمعت بين الطريقتين .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

 

في المثقف اليوم