دراسات وبحوث

العقل والشرع في الإسلام والكلام (3-3)

ميثم الجنابي "أكثر العلوم الشرعية عقلية عند عالمها،

 وأكثر العلوم العقلية شرعية عند عارفها"

(الغزالي)

 لقد بلور الشرع الإسلامي قضاياه الخاصة بأثر موقع القرآن فيه، باعتباره مصدره الفكري اللغوي. وبهذا يكون قد أدخل في فلك الذهنية الإسلامية الكثير من مواقفه ومفاهيمه وعباراته الرمزية وأحكامه الواقعية وخيالاته وأوهامه، التي دار حولها جدل العقل المجرد مثل قضايا الحسن والقبح، والصلاح والأصلح، والقضايا السمعية (الإيمانية) كالسراط والميزان ومنكر ونكير وعذاب القبر وغيرها. ولم يكن بإمكان الوعي النظري اللاهوتي (الكلامي) والفلسفي والأدبي أن يتجاهل قضاياه الميتافيزيقية والعملية بوصفها قضاياه الخاصة. إذ اتخذت هذه القضايا هيئة ومظهر المعضلات الملموسة للوعي الثقافي. لهذا كانت مدارسه واتجاهاته العديدة ملزمة بالانطلاق منها، باعتبارها قضاياه الخاصة. وبغض النظر عن الاختلاف بين الفرق الإسلامية ومنظومات حلولها الفكرية لهذه القضايا، فإنها جميعا شكلت المقدمة الروحية التاريخية، التي لم يكن بإمكان أي من هذه الفرق تجاوزها في الآراء والمواقف. فالتعامل الفكري مع النصوص اللغوية "المقدسة" هو الميدان الأول لنشاط الفكر التاريخي الملموس، أي ميدان التفسير والتأويل، وفي التأويل ميدان العقل، وفي العقل ميدان التجربة، وفي التجربة روح العصر. فقد دعا إخوان الصفا، على سبيل المثال، العقل "بالساحر الأعظم"، ومرتِّب الوجود ونحّاته كما ترتّب العبقرية الشعرية لغة الفكر وموسيقى الكلمة. فهو العالم غير المتناهي في مادته المحدودة. وبهذا تكفّ النهاية واللانهاية عن الانفصال.

أقلقت مشكلة العقل والشرع الوعي اللاهوتي للدرجة التي تحولت فيه إلى إحدى المعضلات الكبيرة للثقافة اللاهوتية. والتجربة التاريخية لثقافة الخلافة عمّقت مختلف جوانب المعضلة دون أن تزيلها. ومع كل تطور أو تغير أو تحوّل عاصف، أصبح الرجوع إليها من بين قضاياها المركزية. فإذا كان من الممكن أن تتخذ من موت النبي محمد إحدى بداياتها السهلة والسياسية، التي وضعت حدا لصراع القوى حول ما إذا تموت الأنبياء أم لا، وحول ما إذا كانت الأنبياء عرضة للموت أم لا، فإن الجدل لم يعد حول قضية موت النبي محمد، بل عن النصوص القرآنية ذاتها. أما فقهها وتفسيرها فقد جرى من خلال حسمها الواقعي عبر تحقيق النص بما يتطابق ومواضيعه الظاهرة. ولعل تأكيد ابو بكر على أن الأنبياء تموت، وأن محمدا ميت لا محالة، واستشهاده بالآية "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" سوى مثالها النموذجي الأول. بينما عاد الفكر اللاحق في مجرى البحث في مشكلاته الملموسة للرجوع إلى هذه المقدمة التاريخية محوّلا إياها إلى مصدر أو درجة أو صيغة لفهم العلاقة الممكنة بين العقل والشرع (النص).

وعندما حاول الغزالي حل هذه المعضلة، فإنه لم يكن بإمكانه تجاهل طابعها التاريخي. بل يمكن القول، بأن مأثرته بهذا الصدد تقوم أيضا في إدراكه هذا الجانب بصورة أوسع وأدق من أغلب فلاسفة عصره. بمعنى إدراك مضمونها الاجتماعي السياسي والروحي. إلا أن هذا الإدراك لم يظهر دفعة واحدة،  بقدر ما كان نتاجا للصراع الفكرى ولتجربته السياسية والروحية. فقد انطلق من تراث الكلام اللاهوتي وحلوله لهذه القضية مستندا بالأخص إلى رصيد الكلام  كما بلوره الأشعرى والباقلاني والجويني. ونعثر على ذلك بوضوح في أسلوبه الجدالي في (تهافت الفلاسفة). غير أن الغزالي يتجاوزهم في الكثير من آرائه ومواقفه. فما يثير اهتمامه في الجدل الفكري ضد الفلاسفة المسلمين ومصادرهم النظرية هو  كل ما له صلة أو  مساس "بأصل من أصول الدين" (الشرع). فالانجازات والنتائج العلمية للعلوم الطبيعية بنظره لا تدخل في حصيلة أو احتكار أي اتجاه فكري ومذهبي، بسبب كونها نتاج العلوم المستقلة. فالاستنتاجات الدقيقة للعلوم الطبيعية، كما يقول الغزالي، لا تعارض بحد ذاتها الشرع ولا تؤيده. لهذا السبب وقف بقوة ضد آولئك الذين "وجدوا في محاربة العلم دفاعا عن الدين".  بل نراه يجد في هذا الأسلوب الطريقة المثلى والأسهل لإبطال الشرع[1]. فاستقلالية الاستنتاجات العلمية الدقيقة تجعلها خارج حيّز الانتماء المذهبي والعقائدي والديني والفكري. وبالتالي لا تمتلك قوة برهانية مطلقة تجاه إشكاليات الوجود الكبرى ومعضلاته الخالدة. لهذا كتب بأن استنتاج ما إذا كانت الأرض كروية أو مبسوطة، وما إذا كانت السموات طبقات معدودة أقل أو أكثر، فنسبة النظر فيها إلى البحث الإلهي كنسبة النظر في طبقات البصلة وعددها وعدد حبّ الرمان[2].ذلك يعني، أن الغزالي حاول في أول أعماله الكلامية الفلسفية الكبرى إبراز الطابع العقائدي لقضايا الفلسفة الأساسية ومبادئ الوجود الكبرى. مما أعطى له ذلك إمكانية صياغة عناصر الجدل "السلبي" (النقدي) تجاه التيارات الفلسفية، وبالتالي إظهار ما اسماه "بتهافتهم" المنطقي فيها بما في ذلك تجاه قضية الموقف من الشرع. لهذا ليس دقيقا اعتبار انتقاداته للعقل هنا رفضا للعقلانية أو دليل على اعتبار الشرع الحاكم الأعلى. فعندما ناقش الغزالي الفكرة القائلة، بأن السماء شبيهة بالحيوان، أي أن لها  نفسا تتحرك بإرادتها الداخلية وأن غرضها من حركتها الدورية هو عبادة رب العالمين، نراه يعتبرها مما لا ينكر إمكانه. لكنه أكد على انه لا دليل للعقل فيها. وانه إذا كان بالإمكان الإقرار بذلك، فإن معرفته لا يمكن الاطلاع عليه إلا للأنبياء بإلهام من الله أو بوحي، أما قياس العقل فليس يدل عليه[3]. والغزالي مصيب فيما لو جرى النظر إلى الظاهرة بالصيغة اللاهوتية، بمعنى إدخال عالم الآلهة في حركة المادة وتشبيهها على مثال سلوك العبادات. والغزالي يدرك دقة هذه الصياغة. أما الطابع الظاهري في معارضة العقل في هذه الصياغة وأمثالها، فتحتوي في الواقع على عناصر التقييم العقلاني الشكوكي حول قدرة وموقع العقل في المعرفة، وبالتالي تساهم في رفع شأنه الفعلي.

وقف الغزالي ضد إدخال العقل عنوة في عالم التأويل المفتعل. وانطلق في موقفه هذا من أن التحكّم بالعقل بهذا الشكل هو مجرد تحكم محض، وبالتالي لا قيمة عقلية فيه. ذلك يعني أنه يقف هنا إلى جانب تحديد وتمييز مجالات العقل والشرع. لكن ذلك لا يعني بأنه صاغ نظرية الحقيقتين (الشرعية والعقلية) رغم تضمّن آرائه الأولية لبعض عناصرها. فهو يشير في أكثر من موضع إلى أن الشرع لا يلزمه أن يخالف الاستنتاجات العقلية للفلاسفة والمفكرين بصدد قضايا العلم وأحكامه الدقيقة. وبالتالي، فإن الخلاف الذي يبدو في ظاهره موجها ضد العقل في (تهافت الفلاسفة) ما هو في الواقع سوى الصيغة الكلامية الفلسفية والعقلانية الشكوكية تجاه "الخلافات الأربعة الأساسية"، والتي أفرد لها الكثير من أوراق (تهافت الفلاسفة) ألا وهي كل من السببية، والنفس، وخلود النفس، وقضية الحشر والنشر.

إن موقفه المعارض لعقل الفلاسفة يقوم أولا وقبل كل شيئ في رفض دعوى حاكمية العقل المطلقة. من هنا دعوته لمهمة النظر إلى الشرع باعتباره الممثل الآخر للعقل أو مكمله. وكتب بهذا الصدد قائلاً "إننا لسنا نعترض على دعواهم، بل ربما نبين من تفصيل الحشر والنشر، إن الشرع مصدّق له. ولكننا ننكر دعواهم دلالة مجرد العقل عليه والاستغناء عن الشرع فيه"[4]. وحاول الدفاع عن هذه الفكرة بصيغ ومستويات عديدة في (تهافت الفلاسفة)[5]. إلا أن آراءه هنا تعبّر عما يمكن دعوته بمستواها الأدنى أو مستواها العقائدى. لكنه في مجرى هذا الصراع تجمّعت عناصر الفكر الإيجابي كما نراها في مساعيه لإبداع الصيغة المنظمة لعلاقة العقل بالشرع. ونرى ذلك بوضوح للمرة الأولى في (الاقتصاد في الاعتقاد). فانتقاده في مقدمة الكتاب لآراء الحشوية والفلاسفة و"غلاة المعتزلة" كان موجها ضد الافراط والتفريط اللذين أديا إلى أن يصرف العقل في صدام مع الشريعة، كما يقول الغزالي. من هنا أعتبر المهمة الأساسية التي ينبغي الدفاع عنها تقوم في إيجاد الحل الوسط أو "الوسط الذهبي" أو "الاعتماد على السراط المستقيم"[6].

فحتى في الحالة التي يفضل فيها الشرع مقارنة بالعقل، نراه لا يتطرق إلى الأفضلية والضعف بصورتهما المطلقة، بقدر ما يربطهما بمستويات وميادين معينة من المعرفة. فأفضلية الشرع مقارنة بالعقل هي للعوام وليس للخواص. وحتى في حالة النظر إلى أفضلية الشرع بالنسبة للعوام، فإنه يتناول هذه القضية ضمن إطار ما دعاه بالتدرّج الإيماني المعرفي. لهذا وقف بالضد مما اسماه "بتعلّم العلوم الدقيقة قبل الجليلة والخفي  قبل الجلي". وبالتالي لا معنى لدراسة وبحث الأسرار الإلهية بالنسبة للعوام. إذ ليست هذه الأسرار سوى القضايا التي "تحيرت بها عقول الفلاسفة والمتكلمين". من هنا دعوته إلى الكفّ عن البحث فيها، والتمسّك بما يقوله الشرع[7]. وبالتالي، ليس المقصود بإخضاع العقل للشرع هنا سوى إخضاع عقل العوام للشرع. لهذا طالب العوام بالكفّ عن الحكم بمعقولها على الشرع، إذ في ذلك "مصدر هلاكها"[8].

ولم يقف الغزالي عند هذا الحد، بل تعداه إلى القضية الفكرية النظرية لعلاقة العقل بالشرع من زاوية كشف محدودية العقل مقارنة بالشرع. غير أن هذه الفكرة مرتبطة بمحاولته تحليل وإبراز ما دعاه "بذمّ العلم المذموم"، أي في محاولته الكشف عن الأضرار التي يمكن أن تؤدي إليها بعض العلوم. ولم يقصد بذلك سوى من يتدخل في ما لا يعنيه، أو ما يمكن دعوته بالتطّفل الفكري وحذلقته وانعدام الاحتراف. وحتى في هذه الحالة،  فإنه لم يقصد بذلك سوى ما يمسّ فكرة النجاة الحقيقية. وقدّم بهذا الصدد مثلا بسيطا من خلال مقارنته بين من يعالج نفسه دون معرفة بالطب وبين من يعالجه طبيب ماهر. إنه حاول أن يعطي للظاهرة قيمة اجتماعية سياسية وأخلاقية وليس قيمة معرفية. ومن ثم ربطهما في الوقت نفسه بروابط دائمة.

 

ا. د. ميثم الجنابي

.............................

[1] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص81.

[2] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص81.

[3] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص218.

[4] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص256.

[5] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص379.

[6] الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص2.

[7] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص30.

[8] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص31.

 

 

في المثقف اليوم