دراسات وبحوث

دور المنطق في تجديد الخطاب العقدي عند الأشاعرة (7)

محمود محمد علينعود في هذا المقال السابع ونكمل حديثا عن دور المنطق في تجديد الخطاب العقدي عند الأشاعرة من خلال إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وفي هذا نقول: وأيا ما كان ألأمر بخصوص النزاع حول الأولوية بين ابن حزم والجويني في مزج الفقه بالمنطق، ومع تأكيدنا علي رد هذه الأولوية إلي ابن حزم، فإن ذلك لا يحول بيننا وبين القول بأن الجويني كانت له جهود واهتمامات لا تنكر في هذا المجال، وإن كان متأثرا في بعض جوانبها بأرسطو وفلاسفة الإسلام أمثال ابن سينا، ويبدو ذلك واضحاً في حديثه عن قياس الشبه عند الفقهاء، وهو يقسمه إلي قياس من الأعلى إلي الأدنى، وقياس من الأدنى إلي الأعلى، ثم قياس المساواة.

وقد عالج أرسطو هذه الأقيسة، ففي أكثر من موضع من كتاب الطوبيقا أو الجدل، نجد أن هذه الأقيسة ترد متسلسلة علي النحو التالي:  قياس من الأعلى، وقياس من الأدنى، ثم قياس الشبه. علي أن أرسطو كثيرا ما يبدل هذا الأخير بقياس المساواة .

ولعل القارئ لكتاب "الطوبيقا" يدرك هذه الوحدة الضمنية التي تربط هذه الأٌقيسة بعضها ببعض، مع الاعتراف بأن قياس المساواة، وقد ذكره الجويني فإن هذه الوحدة الضمنية، أصبحت واضحة تماماً بين قياس من العلي ومن الأدنى، وفي هذا يقول الجويني: "والذي يحيك في الصدر أن المعني، إذا أمكن فهو أولي، ونصبه في مراتب الأقيسة أعلي، والتمسك بالأدنى مع الاستمكان من الأعلى لا يتجه في طريق الفتوي والنظر تدوار علي تمهيد طريق الاجتهاد، التي هي مستند الفتوي، فسبيل الجواب عنه، أن نقول إذا اشتملت المسألة المظنونة علي مراتب من الأدلة متفاوتة، فلا حرج علي المستدل، لو تمسك بأدني المراتب، وإنما يظهر تفاوت الرتبتين، إذا تناقض موجب الحجتين، فيقدم موجب الأعلى من الأدنى، فأما إذا توافقت شهادات المراتب المختلفة علي مقتضي الوفاق، فلا معاب علي من يتمسك بالأدنى .

ولنا هنا ملاحظتان : إحداهما أن الجويني يدرك هذه العلاقة العضوية الكائنة بين قياس الأعلى وقياس الأدنى، وما أكثر المواضع التي يذكر فيها أرسطو في كتاب : الجدل قياس الأعلى والأدنى.

وفيه يقول أرسطو :" ونستطيع أن نستدل عن طريق الأعلى والأدنى أو الأكثر والأقل،وفيه أربعة مواضع أحدهما : أن ننظر في محول الوضع وموضوعه، فإن وجدنا ما يتزيد فيه محمولة، ويوجد فيه أكثر يوجد فيه موضوعه أكثر، قلنا أ، المحمول في الموضوع وفي الإبطال يعكس هذا، إن وجدنا ينتقص فيما يتزيد فيه موضوعه، حكمنا بأنه غير موجود للموضوع، مثال ذلك في الإثبات إن كان ما هو أ:ثر لذة أكثر خيراً، فاللذة خير . وفي الإبطال : إن كان ما هو أكثر لذة أقل خيراً، فاللذة ليست بخير.

والملاحظة الثانية : أن أرسطو قد عرض لنظرية قياس الشبه في أكثر من موضع في كتب "الطوبيقا " فمثلاً يقول أرسطو :" وأما القوة علي أخذ التشابه فإنما تكو بالرياضة في أخذ التشابه بين الأشياء المتباينة، كما أ، القوة علي أخذ الفصول، إنما تحدث لنا بالرياضة في أخذ فصول الأشياء المتشابهة والشبه علي وجهين : إما شبه علي وجه المناسبة، وإما في شئ يعم المتشابهين وربما وجد في الشئ الواحد الشبيهان معاً : مثال ذلك الحسن والعقل، فإنهما متشابهان من جهة إنهما إدراك، ومن جهة المناسبة : فإن حال العقل من النفس كحال الحس من البصر، فبهذه الأشياء تحصل لنا القوة علي هذه الآلات الأربع ".

كما نلاحظ أيضاً، أن قياس الطرد وقياس العكس الذي ذكرهما الجويني يمكن ردهما إلي أصول يونانية، فقياس الطرد وقياس العكس، قد عالجهما أرسطو في كتاب " الطوبيقا" مع غيره من الحجج العامة ونستدل علي ذلك بهذا الفقرة من كتاب " الطوبيقا"، حيث يقول :" إذا قيل محمول واحد علي شيئين فإن كان وجوده في أحدهما أحري من وجوده في الآخر، ثم كان موجودا فيما وجوده فيه ليس بأحري، فإنه موجود فيما ووجده فيه أحري . وبالعكس : إن كان غير موجود فيما وجوده فيه غير أحري . فإذا قصدت إلي الإثبات، جعلت الابتداء بموضع الأقل، وإذا قصدت إلي الإبطال جعلت الابتداء بموضع الأكثر، والأحري والأخلق . مثال ذلك في الاثبات قولنا : إن كان اليسار أحري ألا يوجد خيرا من الصحة، ثم كان اليسار خيرا، فالصحة خير، وفي الإبطال عكس هذا، وهو أنه : إن كانت الصحة أحري أن توجد خيرا والصحة ليست بخير، فاليسار أحري ألا يكون خيرا " .

ومع اعترافنا، بأن قياس الطرد وقياس العكس، وقد ذكرهما أرسطو، إلا أنهما لا تؤديان إلي نتائج يقينيه، مهما كانت وظيفتهما المنطقية . وكتاب " الطوبيقا" هو مؤلفات الشباب، التي كان يتمرن فيها أرسطو، ويتمرس من أجله الوصول إلي نظرية القياس في كتاب " التحليلات الأولي " فإذا كانت هذه الأقيسة أو الحجج ذات الطابع الاحتمالي، قد تطورت تاريخياً عند مؤسسها أرسطو، فإنها قد أدت في النهاية إلي الاستدلال القياسي اليقينية (.

وهنا يمكن أن نفهم، لماذا سيحاول الإمام الغزالي جعل هذه الأقيسة من الأقيسة الفاسدة، لأنها تؤدي إلي نتائج ظنية .

ومما يدل علي وجود آثار منطقية في كتاب " البرهان" للجويني، قياس العلة وقياس الدلالة اللذان يمثلان عند المناطقة " برهان اللمم " و"برهان الإن"، وقد تحدث الإمام الغزالي في هذا بإسهاب، فقال :" اعلم أن الحد الأوسط إن كان علة للحد الأكبر سماه الفقهاء " قياس العلة"، وسماه المنطقيون " برهان اللم " أي ذكر ما يجاب به عن " لم "، وإن لم يكن عله سماه الفقهاء " قياس الدلالة"، والمنطقيون سموه " برهان الإن"، أي هو دليل علي أن الحد الكبر موجود للأصغر من بيان علته .

وبرهاني اللم والإن، قد وردا كثيرا في كتب المنطق عند فلاسفة المسلمين وبخاصة الأشاعرة، فمثلا تحدث عنه الشيخ الرئيس ابن سينا بوضوح في " الاشارات والتنبيهات"، حيث نسبة أجزاء النتيجة بعضها إلي بعض كان البرهان برهان "لم"، لأنه يعطي السبب في التصديق بالحكم، ويعطي السبب في وجود الحكم – فهو مطلقاً معط للسبب، وإن لم يكن كذلك، بل كان سبباً للتصديق فقط، فأعط اللمية في التصديق، ولم يعط اللمية في الوجود، فهي المسمي برهان " إن" لأنه دل علي إنية الحكم علي نفسه دون لميته في نفسه " .

ومما يدل أيضا علي تأثر الجويني في كتابه " البرهان" بالمنطق وجود بعض الأفكار المنطقية المتعلقة بالأقيسة الشرطية، والتي استخدمها الجويني استخداما غامضاً، كفكرة " السبر والتقسيم"، والسبر يعني عند الجويني، إحصاء كل هذه الأسباب، ما عدا سبباً واحداً يكون هو العلة الحقيقية لحدوث الشئ . يقول الجويني :" السبر والتقسيم ومعناه علي الجملة أن الناظر يبحث عن معان مجتمعه في الأصل، ويتتبعها واحدا واحدا ويبين خروج آحادها عن صلاح التعليل به، إلا واحدا يراه ويرتضاه، وهذا المسلك يجري في المعقولات علي نوعين : فإن كان التقسيم مشتملا علي النفي والاثبات حاضرا لهما، فإذا بطل أحد القسمين تعين الثاني للثبوت .

أما النوع الثاني من "السبر والتقسيم"، فإنه أقل أهمية من النوع الأول فيما يري الجويني، وهو يحتوي علي قسم ثنائي أيضاً، ولكنه أيضاً لا يوصلنا إلي معرفة يقينية . يقول الجويني: "وإن التقسيم الظني مرسلاً بين معان لا يضبطها حصر كما ذكرناه في المعقولات، ورددناه فيها – فقد قال بعض الأصوليين : أنه مردود في المظنونات أيضاً، فإن منتهاه إحالة السابر الأمر علي وجدانه .وهذا غير سديد، فإن هذا الفن من التقسيم إنما يبطل في وجدانه . وهذا غير سديد، فإن المسألة المعروفة بين النظار، وإذا كثر بحثهم فيها عن معانيها، ثم تعرض السابر لإبطال ما عدا مختاره .

ولا يستعبد الجويني إمكانية استخدام منهج السبر والتقسيم بنوعيه في ميدان الأقيسة الفقهية. وإذا كان النوع الأول مقيداً، فإن النوع الثاني من شأنه إذا استخدمه الفقيه أن يزيد عنده من درجة الشك وعدم اليقين.

ويلاحظ أن مفهوم "السبر والتقسيم" الذي استخدمه الجويني استخداماً غامضا هنا هو في حقيقة ألأمر عبارة عن القياس الشرطي المنفصل كما يقول الغزالي بعد ذلك :"القياس الشرطي المنفصل وهو الذي يسميه الفقهاء والمتكلمون " السبر والتقسيم "، وذلك حينما أردا أن يبرر مشروعية استخدام المنطق اليوناني في العلوم الشرعية الإسلامية......... وللحديث بقية

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم