دراسات وبحوث

ابن مضاء الأندلسي في مواجهة ابن رشد

محمود محمد عليلا شك في أن الدراسات المنطقية والفلسفية والعلمية في بلاد الأندلس قد منحت الاتجاه اللغوي دقة وشمولاً وهيأت الجو للبحث النظري في اللغة . ولكن عوامل جديدة حالت دون الإمعان في هذا اللون من الدراسات بسبب الإلحاح الشديد في الدعوة إلي مزج النحو بالفقه بدلاً من مزجه بالمنطق، وصاحب هذا الاتجاه هو ابن مضاء (أحمد بن عبد الرحمن بن محمد) المولود في قرطبة سنة 512 هـ، والمتوفى سنة 592هـ . لقد عاش في عهد عبد المؤمن المتوفى سنة 558 هـ والتحق ببلاطه حوالي 545 هـ حين وفد إليه من قرطبة ضمن الوفود الأندلسية التي جاءت لتقديم التهاني. واستمر في البلاط الموحدي على عهد يوسف بن عبد المؤمن المتوفى سنة 580 هـ الذي عينه قاضياً للقضاة، وهو المنصب الذي استمر فيه على عهد ابنه يعقوب المنصور، إلى أن توفي سنة 592 هـ قبل ثلاث سنوات من وفاة هذا الأخير. هذا وقد اشتهر ابن مضاء، خصوصاً في العصر الحاضر، بكتابه "الرد على النحاة"،وهو المؤلف الوحيد الذي وصل إلي أيدي الباحثين، بعدما اكتشفه ونشره ونشره الدكتور " شوقي ضيف"، مع مدخل حول ما سماه "ورقة ابن مضاء"، فهالته تلك الطرفة النفيسة، واعتبرها امتداداً لثورة الموحدين علي فقهاء المشرق، وعلي آرائهم ومذاهبهم في التشريع .

لقد كان بين النحو والفقه نسب وآصرة متينة، ولذلك وجدنا ظلال ثوره فقهاء الظاهرية القائمة علي إهدار القياس وعدم الخوض في التفاصيل والجزئيات والاعتماد علي ظاهر القرآن والسنة في استنباط الأحكام الفقهية والشرعية، وهذه الثورة كان ابن حزم قد وصفها من قبل في كتابه " الإحكام في أصول الأحكام قائلاً :" وذهب أهل الظاهر إلي إبطال القول بالقياس في الدين جملة قالوا لا يجوز البتة في شئ كلها إلا بنص كلام الله تعالي أو بنص كلام النبي صلي الله عليه وسلم أو ما يصح عنه عليه السلام من فعل أو إقرار " .

وهذه الثورة يتبناها لأول مرة في بلاد الأندلس أولي الأمر من الموحدين وهو يوسف بن عبد المؤمن ؛ حيث حمل علي الفقه المالكي في بلاد الأندلس ورما به غرضا بعيداً، فأحرق كتبه، ونكل بحملته، ولقد كان لهذا الأمر صدي لدي ابن مضاء الذي أراد أن يصانع ولاة أموره في حملتهم، فعقد اللواء لحملة أخري ليست في الفقه ولكن في النحو، إذ بدا له أن النحو الذي أثر عن المشارقة، قد شرق بألوان القياس والتعليل والتأويل، وهي مبادئ كان مذهب الظاهرية يناقضها ويقوم علي إبطالها، واجتهد ابن مضاء من خلال آرائه النحوية في كتابه " الرد علي النحاة" في بيان فساد مذهب النحاة بمغالاتهم في النظر والاحتكام إلي الرأي والتأويل، قال :" وإني رأيت النحويين – رحمة الله عليهم – قد وضعوا صناعة النحو لحفظ كلام العرب من اللحن وصيانته من التغيير، فبلغوا من ذلك الغاية التي أموا وانتهوا إلي المطلوب الذي ابتغوا، إلا أنهم التزموا ما لا يلزمهم وتجاوزوا منها القدر الكافي فيما أرادوه منها، فتوعرت مسالكها ووهنت مبانيها وانحطت عن رتبة الإقناع حججها.

ولقد كانت غاية ابن مضاء في كتابه واضحة، فقد رأي أن النحو بحاجة إلي إصلاح مما أفسده من التمحل وتنقية مما شابه من التكلف وتخليص مما اعتوره من التقدير والتأويل، وإلي انتشال من وهدة المنطق وعماية الفلسفة وسفسطائية الجدل، والإسراف في البعد عن الفطرة، ولقد كشف عن هذه الغاية التي تحدوه في أول كتابه إذ قال :" قصدي في هذا الكتاب أن أحذف من النحو ما يستغني النحوي عنه وأنبه على ما أجمعوا على الخطأ فيه" .

ثم يشرع في بيان ذلك مبتدئاً بنقد نظرية العامل، مطالباً بحذفها من النحو ليس فقط لكون النحو في غير حاجة إليها، بل أيضاً لأنها مبنية على تصور خاطئ. يقول: "فمن ذلك ادعاؤهم أن النصب والخفض والجزم لا يكون إلا لعامل لفظي، وأن الرفع منه ما يكون بعامل لفظي وبعامل معنوي، وعبروا عن ذلك بعبارات توهم في قولنا "ضرب زيد عمروا" أن الرفع الذي في "زيد" والنصب الذي في "عمرو" إنما أحدثه "ضرب" .

وهذا في نظر ابن مضاء خطأ، لأن "من شرط الفاعل أن يكون موجوداً حينما يفعل فعله"، هذا بينما "لا يحدث الإعراب فيما يحدث فيه إلا بعد عدم العامل، فلا ينصب "زيد" بعد "إن"، في قولنا "إن زيدا…"، إلا بعد عدم "إن"، أي بعد أن لم تعد موجودة في الكلام. هذا إذا اعتبرنا أن العامل الذي نصب "زيداّ" في العبارة المذكورة عامل لفظي ("إن"). أما إذا قيل له إن العامل معنوي وليس لفظياً فإن ابن مضاء يجيب قائلاً إن "الفاعل" عند من يقولون بهذا -وهم المعتزلة خاصة- على نوعين: فاعل بالإرادة كالحيوان، وفاعل بالطبع كالنار التي تحرق الخشب. أما ألفاظ اللغة فهي لا تفعل لا بإرادة ولا بالطبع. أما القول بأن المقصود بفكرة العامل في النحو هو مجرد "التشبيه والتقريب، وذلك أن هذه الألفاظ التي نسبوا العمل إليها إذا زالت زال الإعراب المنسوب إليها، وإذا وجدت وجد الإعراب، وكذلك العلل الفاعلة عند القائلين بها…"، فإن ابن مضاء لا يعترض على ذلك من حيث المبدأ، فهو يرى أنه كان من الممكن التسامح في ذلك "لو لم يسُقهم جعلُها عواملَ إلى تغيير كلام العرب وحطه عن رتبة البلاغة إلى هجنة العي وادعاء النقصان فيما هو كامل، وتحريف المعاني عن المقصود.." .

ويستمر ابن مضاء في نقد نظرية العامل فيعترض على تقدير العوامل المحذوفة، وعلى تقدير متعلقات المجرورات، وعلى تقدير الضمائر المستترة، وعلى تقدير الأفعال. كما يعترض على آراء النحاة في التنازع والاشتغال وفاء السببية وواو المعية، لينتقل إلى الدعوة إلى إلغاء العلل الثواني والثوالث، وإلغاء القياس وإلغاء اختلافات النحاة. يقول: "ومما يجب أن يسقط من النحو الاختلاف فيما لا يفيد نطقاً، كاختلافهم في علة رفع الفاعل ونصب المفعول وسائر ما اختلفوا فيه من العلل الثواني وغيرها، مما لا يفيد نطقاً، كاختلافهم في رفع المبتدأ ونصب المفعول، فنصبه بعضهم بالفعل وبعضهم بالفاعل وبعضهم بالفعل والفاعل معاً. وعلى الجملة كل اختلاف فيما لا يفيد نطقاً" .

ولنقف برهه عن مبررات ابن مضاء في إلغاء القياس، فقد رأينا آنفاً أن ابن حزم اعترض بشدة علي استخدام القياس المنطقي لأنه يقود إلي استنتاجات لا يُسمح للبشر بالتوصل إليها، وربما تكون العواقب وخيمة جداً في النظرية اللغوية، ولكن المبرر الأساسي يتضمن جهل الإنسان بالمقارنة مع القدرة الكلية لله عز وجل . وفي كتاب الإيضاح للزجاجي، يميز المؤلف بين ثلاثة مستويات من التفسيرات للظواهر النحوية : العلل الأولية وهي القواعد النحوية كما يعرفها الناطق الأصلي باللغة ؛ والعلل الثانوية وهي التي تعمل حسب المضارعة بين عناصر منظومة اللغة، وأخيراً، تشكل العلل النظرية والجدلية أعلي مستوي، أي العلل التي تكشف من خلال التفكير التأملي، وعند التفكير منطقياً يستطيع النحوي أن يكشف سبب كون الظواهر النحوية علي ما هي عليه.

ومن وجهة نظر ابن مضاء، فإن طريقة التفكير بخلق الله تعالي قد تتفاقم إلي حد الكفر . ومثلما ينبغي للبشر أن يطيعوا الأحكام التي بينها الله تعالي في القرآن الكريم من غير أن يسألوا لماذا تكون هذه الأحكام علي ما هي عليه، ولكن ينبغي أن يتقبلوها لأنها ببساطة أوامر الله تعالي، فإن المتكلم يجب أن يتقبل القواعد النحوية من غير التأمل بالأسباب وراء هذه القواعد، يقول ابن مضاء :" ومما يجب أن يسقط من النحو العلل الثواني والثوالث، وذلك مثل سؤال السائل عن (زيد) من قولنا (قام زيد) بم رفع؟ لأنه فاعل، وكلُ فاعل مرفوع، فيقول ولم رفع الفاعل؟ فالصواب أن يقال له : كذا نطقت به العرب . ثبت ذلك بالاستقراء من الكلام المتواتر . ولا فرق بين ذلك وبين من عرف أن شيئاً ما حرم بالنص، ولا يحتاج فيه إلي استنباط عله، لينقل حكمه إلي غيره، فسأل لم حرم ؟ فإن الجواب علي ذلك غير واجب علي الفقيه" .

ويتبين من هذا النص الصلة الفقهية لاحتجاجات ابن مضاء ضد النظرية اللغوية . فهو ليس ضد دراسة اللغة في حد ذاتها (في حقيقة الأمر نراه يكثر من الاقتباسات في احتجاجاته من المؤلفات اللغوية لكي يبين لنا أنه يعرف ما يقول)، ولكنه يود أن يخلص النظرية اللغوية من الشوائب المؤذية التي لا نفع فيها لغرض الفهم الفضل للغة وتشكل تهديداً للمؤمن الأصولي.

ويتقبل ابن مضاء العلل الأولية فقط في مناقشته الجدل النحوي، ومن منظوره هو فإن هذه ليست عللاً علي الإطلاق، ولكنها حقائق قد يلحظها الناطق الأصلي . وعندما تلحظ أن الفاعل في الجملة في حالة الرفع، فإنك ستعرف أن كل فاعل يكون مرفوعاً، لأن هذه قاعدة من قواعد اللغة العربية . ولكن ليس هناك حاجة إلي التفسير المفضل أبعد من هذه الملاحظة التي تقوم علي الحقيقة التجريبية .ويورد ابن مضاء أمثلة في واحد من الأبواب الأخيرة من رسالته علي التمارين عديمة الجدوي التي يخضع النحويون تلاميذهم لها لمجرد أنهم يريدون أن يدربوهم علي اختراع تفسيرات أكثر تعقيداً للظواهر اللغوية، كما أننا نعلم من مصادر أخري أن النحويين يخترعون الصيغ الافتراضية لكي يستنطقوا تلاميذهم عن القواعد الصوتية . وفي مثال مبالغ فيه يسأل النحوي تلاميذه عن الصيغ المختلفة التي يمكن اشتقاقها من الفعل الذي يتكون من ثلاث همزات، ويعلق ابن مضاء علي هذا التمرين بقوله :" وهذا في مسألة واحدة فكيف إذا أكثر من هذا الفن، وطال فيه النزاع، وامتدت إليه أطناب القول، مع قلة جدواه وعدم الافتقار إليه . والناس عاجزون عن حفظ اللغة الفصيحة الصحيحة فكيف بهذا المظنون المستغني عنه ".

وهكذا يظهر أن ثورة ابن مضاء ليست سوي محاولة إصلاح محدد مستلهم من آراء ابن حزم في نفي القياس والتعليل، فرمي إلي استبعاد العوامل التقديرية والعلل الثواني والثوالث، والصيغ التمرينية غير المسموعة وأنكر منها كل ما ليس له نظير.

واضح أننا هنا إزاء رؤية ظاهرية للنحو العربي يسهل ربطها بظاهرية ابن حزم، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن ابن مضاء ألف كتابه بعد سنة 581 هـ (113)، أي زمن يعقوب المنصور الذي تولى الحكم سنة 580 هـ، والذي اشتهر بالمبالغة في الأخذ بـ"الظاهر" واعتماد الأصول وحدها، ونهى عن تقليد أحد من الأيمة القدماء، بل إنه أمر بإحراق كتب المذاهب الفقهية، وقيل في ذلك : "وكان قصده محو مذهب مالك مرة واحدة وحمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث" .

يمكن القول إذن إن كتاب "الرد على النحاة" لابن مضاء القرطبي يندرج، بكيفية عامة، في نفس الخط الفكري المؤسس للمشروع الثقافي لدولة الموحدين، وأنه منخرط بصفة مباشرة في حملة "يعقوب المنصور "من أجل تكريس العمل بـ"الظاهر".

بيد أنه علي الرغم من الهزة الكبيرة التي أحدثها ابن مضاء من خلال كتابه " الرد علي النحاة " في منهج النحو العربي وأدواته لما فيها من مخالفة المألوف الغالب في الدرس النحوي الذي انغمس في المنطق والفلسفة آنذاك انغماساً كبيراً، إلا أن أفكاره لم تلق الاهتمام والالتفات، وربما كان تجاهلهم بها في نظرهم هو عدم ردهم عليها، وليس في ذلك ما يثير الغرابة، طالما أن قبول نقطة الافتراق ( عن المتوارث) في الرسالة قد يساوي التخلي عن الأشياء التي يعتز بها النحويون، فبم يُعز صنيع الشيخ أدني صورة من صور التعليق أو المواجهة، غير ما كانوا يبدونه من الامتعاض من هذا الاجتراء علي أكابر النحاة والخروج علي أصولهم ومنهجهم، وقد كانت جرأة ابن مضاء معهودة معروفة بين نحاة عصره، ولذلك رد عليه ابن خروف ( ت: 609هـ) في هذا التطاول والاجتراء في كتاب سماه " تنـزيه أئمة النحو عما نسب إليهم من الخطأ والسهو " ولما بلغ ذلك ابن مضاء، اغتاظ وقال " نحن لا نبالي بالأكباش النطاحة وتعارضنا أبناء الخرفان " .

ثم لم تلبث قوة الدفع أن تلاشت مع الزمان الذي لم يمتد به كثيراً، وأخذ النحاة يعودون أدراجهم إلي مألوف درسهم، وإلي ما كانوا عليه من خلط للنحو بالمنطق، ومن أخذ بالفكر العقلي الموغل في التجريد،وتعلقوا مرة أخري بما كانوا قد ابتعدوا عنه فترة يسيرة من الزمان من مناهج أسلافهم وأسالبيهم وطرائقهم وأفكارهم الفلسفية القديمة، وتركوا آثاراً وآراء تعكس ما عادوا إلي الانغماس به علي نحو ما كان يفعل نحاة المشرق آنذاك، وهي آثار وآراء منسوبة إلي كبار النحاة الأندلسيين في ذلك الزمان كالشلوبين المتوفي سنة 645هـ وابن هشام الأنصاري المتوفي سنة 646هـ وابن الحاج المتوفي سنة 647هـ وغيرهم، وما تزال هذه الآثار والآراء ماثلة في كتب النحو بين أيدي الباحثين حتي الآن .

وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة نود مناقشتها قبل أن ننهي هذه المقالة، وهي تتعلق بالعلاقة بين نكبة ابن رشد وابن مضاء، فمن المعروف أن ابن مضاء كان كما ذكرنا قاضيا للقضاة (بمثابة وزير العدل) وهو المنصب الذي استمر فيه على عهد يعقوب المنصور إلى أن توفي سنة 592 هـ. ونحن نعرف أن حملة هذا الأخير على الفلسفة والفلاسفة قد بدأت قبل وفاة ابن مضاء بوقت طويل، ونعلم أيضاً أن المؤامرة على " ابن رشد "، قد بدأت بشكل علني عام 591 هـ، ونعلم ثالثاً أن محاكمة ابن رشد قد تمت في السنة نفسها التي توفي فيها ابن مضاء أو بعدها بقليل .

وإذن فالسؤال الذي يطرح نفسه أولاً هو: كيف كانت علاقة ابن مضاء بالحملة على الفلسفة والفلاسفة عموما وبنكبة ابن رشد خصوصاً؟ إن ما يفرض طرح هذا السؤال كما يقول الدكتور " محمد عابد الجابري"، هو كونه كان قاضياً للقضاة، وبالتالي فمن المحتمل أن يكون له دور ما في تلك الحملة والنكبة لأنه هو "المرجع" الذي يعتمد عليه الخليفة في مثل هذه الأمور. وهذا السؤال وإن كان لا يملك ما يسمح لنا حتى باقتراح فرضية بشأنه، إلا أنه كان ذلك يمثل أحد وجهي القضية التي تطرح نفسها على الباحث بخصوص العلاقة التي يمكن أن تكون بين نكبة ابن رشد وبين ابن مضاء بوصفه قاضي الجماعة أيام تلك النكبة. أما الوجه الآخر فيخص هذه المرة العلاقة بين كتاب ابن مضاء في "الرد على النحاة"، وكتاب ابن رشد "الضروري في النحو". وما يبرر طرح هذه المسألة هو أن الرجلين عاشا متعاصرين (ولد ابن مضاء قبل ابن رشد بأربع سنوات فقط وتوفي قبله بثلاث لا غير)، وقد عملا معاً منذ شبابهما في بلاط الموحدين؛ خصوصاً مع يوسف بن عبد المؤمن وابنه يعقوب المنصور، وقد توليا في عهدهما منصب القضاء في بعض المدن ثم منصب قاضي القضاة الخ. وأكثر من ذلك – وهذا ما يهمنا هنا أكثر- ألف كل منهما كتاباً في النحو، وقد أراد كل منهما بكتابه تبسيط النحو العربي وتيسيره -وإن كان ذلك من جهتين مختلفتين تماماً. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا سؤال مضاعف: فمن جهة لماذا لم يشر أي منهما، لا من قريب ولا من بعيد، إلى كتاب الآخر، مع أنهما يشتركان في الهدف وإن اختلفا في المنهج والرؤية؟ ثم أي منهما أسبق من صاحبه إلى تأليف كتابه؟ ذلك لأنه إذا كنا نعلم أن ابن مضاء قد ألف كتاب "الرد على النحاة" بعد سنة 581 هـ، أي زمن يعقوب المنصور، فإننا لا نعلم شيئا عن تاريخ تأليف ابن رشد لـ "الضروري في النحو" .

وهنا يقول الدكتور الجابري :" ... يمكن أن نرجع سكوت كل منهما عن صاحبه بكونهما ينتميان، على صعيد كتابيهما على الأقل، إلى بعدين مختلفين في المشروع الثقافي الموحدي: بعد يرتبط بظاهرية ابن حزم على مستوى العقيدة والشريعة، وإلى هذا البعد ينتمي ابن مضاء كما بينا، وبعد يرتبط بفكر أرسطو على مستوى المنطق والعلوم العقلية، وإلى هذا ينتمي ابن رشد كما هو معروف. وهو يرتبط بأرسطو في كتابه "الضروري في النحو" ليس على صعيد ما يسمى بـ "تأثير المنطق الأرسطي في النحو العربي"، بل صعيد منهج التأليف العلمي. أما ارتباطه بالموحدين في هذا الكتاب كما في كثير من كتبه فلم يكن فقط على مستوى "السياسة الثقافية" فحسب، بل أيضا على مستوى الاستجابة للطلب .

إن "ابن رشد" يصرح في كتابه هذا –كما فعل في كتب أخرى- أنه ألف كتابه هذا تلبية لأمر صدر به إليه من أحد أمراء الموحدين، لا يذكر اسمه ولكن يقول عنه إنه هو الذي "أرشد الغاية التي بها استقام نحو هذا النظر وجرى في هذا المسلك"، بمعنى أنه هو الذي اقترح عليه تأليف كتاب في النحو على الطريقة التي سلكها فيه" .

ويفهم من سياق كلام ابن رشد أن "الغاية" التي طلِب منه تحقيقُها بكتابه هذا هي ما أفصح عنه في مقدمته، حيث كتب يقول: "الغرض من هذا القول أن نذكر من علم النحو ما هو كالضروري لمن أراد أن يتكلم على عادة العرب في كلامهم ويتحرى في ذلك ما هو أقرب إلى الأمر الصناعي وأسهل تعليما وأشد تحصيلا للمعاني"، وإذن فالغاية هي تأليف كتاب في النحو على الطريقة العلمية التي تراعي تنظيم مسائل العلم تنظيما منطقيا يصير به "أسهل تعليما وأشد تحصيلا للمعاني".

الكتابان، كتاب ابن مضاء وكتاب ابن رشد، تجمع بينهما الغاية وهي تيسير النحو العربي، ولكن تفرق بينهما الطريقة والمرجعية : ابن مضاء يتحرك داخل بنية النحو العربي، كما كانت منذ سيبويه، مع "إسقاط كل ما لا يفيد نطقا"، الشيء الذي يربطه بظاهرية ابن حزم. أما ابن رشد فيريد أن يعيد بناء النحو العربي وفق "الترتيب" الذي هو "مشترك لجميع الألسنة"، وهو في هذا ينطلق من مشكاة أبو نصر الفارابي الداعي إلي خصوصية العلاقة بين اللغة والفكر في وحدة لا تتجزأ، أو لا تفصم عراها.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم