دراسات وبحوث

الجاحظ: فلسفة النقد العلمي للارتزاق "الثقافي"

ميثم الجنابيإن للإبداع الكبير أثره ومآثره وتحدياته وتعرجاته بين الخصوم الأدعياء والمحبين الأدباء. ولا يعرف حقيقة الأديب الكبير غير  الأديب الحق. وإذا كانت الثقافة العربية قد ربطت فكرة الأديب والفيلسوف بشخصية التوحيدي، وهو يستحقها بالفعل، عندما قيل فيه بأنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، فإنها تنطبق على الجاحظ أيضا. بل عليه بالمعنى الدقيق للكلمة. فهو الأديب الأول في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، وأحد أكبر نماذجها الموسوعية الكبرى، وأول من رسم معالم بيانها ورتب أصوله، وأدرجه في مساراته الفهم الفلسفي، والجدل الكلامي، والروح المعتزلي، والشعر العربي، وحكمة الشعوب والأمم، ونوادر إبداعها الجميل. ولم يكن ذلك مجرد تجميع وترتيب، بقدر ما كان يندرج ضمن سياق رؤيته الفلسفية والنقدية والأدبية. وحتى لو كان الأمر كذلك، كما يقول الجاحظ، فإن المروءة والسؤدد والمعرفة العميقة تفترض كحد أدنى إنصاف الكاتب على جهوده، ومؤونة جمعه وخزنه، وطلبه وتتبعه، وطول التفكير، واستنفاد العمر في طلب الحقيقة وتبيانها وتقديمها للجميع، بوصفه القدر الضروري من التزام رجل العلم الحقيقي بماهية الحقيقة وشروطها وغايتها[1].

وليس مصادفة أن نراه ينظر إلى كتاب (الحيوان) بوصفه الكتاب الذي "تستوي فيه رغبة الأمم، وتتشابه فيه العرب والأعاجم، لأنه وإن كان عربيا أعرابيا، وإسلاميا جماعيّا، فقد اخذ من طرف الفلسفة، وجمع بين معرفة السماع وعلم التجربة، وأشرَكَ بين علم الكتاب والسنّة، وبين وجدان الحاسة وإحساس الغريزة، ويشتهيه الجميع الفتيان والشيوخ، والاغبياء والفطناء.."[2]. بعبارة اخرى، إننا نقف أمام منهج دقيق في ما يخص رؤية الغاية وراء البحث عن الحقيقة وتأسيسها وغرسها في الوعي الاجتماعي العام، ووسائل بلوغها والبقاء في الوقت نفسه ضمن سياق الانتماء الثقافي الذاتي.

لقد كان هذا المدخل العام والنتيجة النهائية في الوقت نفسه حصيلة تقييمه النقدي لما واجهه هو ومؤلفاته من هجوم مرير لا يخلو من الرعونة من جانب كل أولئك الذين لم يكن بمقدورهم الارتقاء إلى مصاف الرؤية الثقافية بشكل عام والإسلامية بشكل خاص. لقد أراد الجاحظ القول، بأن للحقيقة مسارها وطرقها وتعرجاتها ومظاهرها. لكنها تبقى في نهاية المطاف وراء كل ما يتخذ هيئة الحجاب أيا كان شكله ولونه. لقد أراد رفع الوعي إلى مصاف الرؤية المنطقية وتقديمها بصور البلاغة الرفيعة. وقد كان ذلك مدخله العامة في كل ما كتبه. فعندما استهل كتاب (الحيوان)، على سبيل المثال، فانه لن ينغمس ويتباهى بالإفراط الفارغ والممل للتعظيم والتبجيل لله وملائكته وأنبيائه، وملئها بالصيغة النمطية التي نادرا ما تختلف من كاتب لآخر، أو مرحلة عن أخرى. على العكس إننا نرى فيها نموذج الرؤية الفلسفية الباحثة والمؤسسة لمعنى الحقيقة، وأهميتها بالنسبة للنفس العارفة وأثرها من ثم بالنسبة لكينونته الأخلاقية والعقلية والروحية. فهو يوجه خطابه للقارئ والناقد والحاقد لكي يجنّبه الشبهة، ويعصمه عن الحيرة، وأن يجعل بينه وبين المعرفة نسبا، وبين الصدق سبب، وأن يحبب إليه التثيّت، وأن يزين في عينه الإنصاف، وأن يذوقه حلاوة التقوى، وأن يودع صدره برد اليقين، وأن يعرفّه ما في الباطل من الذلة، وما في الجهل من القِلّة[3].

إننا نقف هنا أمام موقف علمي أخلاقي عميق، مهمته تنوير العقل وتهذيب الأخلاق، ومن ثم تحرير العقل من الانهيار أمام الجهل والباطل. ووضع هذه في استطراده الواسع عن الحبكة الداخلية للجهل والباطل في كمية ونوعية الهمجية الجاهلة في تقييم مؤلفاته وكتبه. وهي الصيغة التي لم تكن في مواقف عبد القادر البغدادي سوى مقاطع مأخوذة مما استعرضه الجاحظ نفسه في مقدمة كتاب (الحيوان). بمعنى إن البغدادي كان حتى في هجومه ضد الجاحظ مقلدا وسارقا لما وضعه الجاحظ نفسه في مقدمته.

فهو يشير في المقدمة على اعابة كتبه مثل (حيل اللصوص) و(غش الصناعات) و(المُلَح والطُّرَف) و(احتجاجات البخلاء) و(الصُّرحاء والهُجناء) و(مفاخرة السودان والحمران) و(الزرع والنخل) و(فضل ما بين الرجال والنساء) و(القحطانية) و(العرب والموالي) و(الأصنام) و(المعادن) و(الفرق ما بين هاشم وعبد شمس) و(الفرق ما بين الجن والأنس) و(الهاشميات) و(خَلْق القرآن) و(في الرد على المشبِّهة) و(أصول الفتيا والاحكام) و(الاحتجاج لنظم القرآن) و(الوعد والوعيد)، و(النصارى واليهود) و(الجوابات) و(المسائل) و(أصحاب الإلهام) و(الحجة في تثبيت النبوة)، و(الرد على الجهمية في الادراك) و(الفرق بين النبي والمتنبئ) و(الحيوان) و(العباسية) وكثير غيرها.

وفي مجرى استعراضه لمن هاجمه حاول الكشف عما في هذه الهجمات من شناعات لعل اولها هو افتقاد الرؤية النقدية للمنطق والعلم. لهذا لم يستفض الجاحظ في ردوده على ما في هذه الهجمات، انطلاقا من سخافتها العقلية ومن طابعها المأجور. واكتفي في نهاية المطاف بعبارة "هل يضر السحاب نبح الكلاب؟". تماما كما لا يتغير البحر حالما يرمي فيه غلام بالحجر.

إن المهمة الاكثر جوهرية بالنسبة للجاحظ كانت تقوم في مصادر سوء الفهم هذا، وانه آت من أنصاف المتعلمين والمرتزقة والمحجوبين بهراء العقائد الميتة، والفاقدين للعقل النقدي الحر. وليس مصادفة أن يضع احد رسائله النقدية عما امساه بأخلاق الكتّاب، الذي حاول من خلاله الاجابة على كافة هذه الأسئلة.

ولعل أهمها هو جهل هذا النمط من التفكير على استيعاب ما يريد قوله. وقد تكون عبارة ابن قتيبة في كتابه (تأويل مختلف الحديث) عن أن الجاحظ كان آخر المتكلمين وأحسنهم حجة. كما انه كان أشدهم تعبيرا في كتاباته فيما يتعلق بتعظيم الصغير حتى يعظّم، وتصغير العظيم حتى يصّغر. بل وبلغ به الاقتدار على أن يعمل الشيء ونقيضه، كما يقول ابن قتيبة. لهذا نراه يحتج بفضل السودان على البيضان، ويحتج مرة للعثمانية على الرافضة، ومرة للزيدية على العثمانية وأهل السنّة، ومرة يفضل عليا ومرة يؤخره. كما كان يقول قال رسول الله ويتبعه قال الجماز وقال اسماعيل ابن غزوان كذا وكذا من الفواحش[4].

إن هذه الصيغة التي وضعها ابن قتيبة تكشف عن عدم فهمه للمعنى الفلسفي النقدي والعقلاني الكبير في مواقف ومنهج الجاحظ، الذي قدم امثلة على أن إشكالية التعظيم والتصغير قد تكون مفتعلة. وإن تأسيس الحق والحقيقة العقلية هو الذي يجعل من الإنسان حيا قادرا فعالا عارفا. وليس مصادفة أن تسحب أو تنفي المعتزلة هذه الصفات عن الله عبر إرجاعها إلى كينونة الإنسان الفعلية التاريخية والثقافية. والإبقاء على الذات الإلهية بوصفها ذات بذاتها.

أما القدرة على أن يعمل الشيء ونقيضه، فإنها لم تكن من أثر التقاليد الجدلية المميزة لعلم الكلام بشكل عام والمعتزلة بشكل خاص، الذين "علّموا وسهلّوا الجدل للناس". بمعنى عملهم الفعال في تنظيم العقل النقدي والمساهمة في إثارة الشكوك بوصفها طريق الوصول إلى الحق. كما لم يكن عمل الشيء وضده لعبة اللهو الجدلي واللغو المهني، بقدر ما كانت تعبيرا عن تناقضات الحياة الفعلية التي لا يمكن وضع مكوناتها في سلال مختلفة ووزن إحداها بالأخرى. فالحياة أوسع وأعقد من هذه الرؤية الشكلية الجامدة والمسطحة. ومن ثم تحتوي على كافة المتناقضات، التي ستجعل احد المتصوفة يقول، بأنه عرف الله بجمعه بين الضدين. بعبارة أخرى، إن معرفة الاضداد هو نتاج العقل النقدي الحي والوجدان العامل بمعايير الحق الحقيقة، الذي يذلل الصيغة النمطية الجامدة في الموقف من الوجود بمختلف مظاهره. ومن ثم لم يعن تفضيل أحدهم على آخر بالنسبة للجاحظ تعظيم جانب وتصغير آخر، بقدر ما تعني إن التعظيم أو التصغير المفرط لاعتبارات ظاهرية لا علاقة لها بحقيقة الأشياء لا يعمل في نهاية المطاف إلا على سحق مكونات العقل والأخلاق. وبالتالي، فإن دفاعه عمن كان "ضحية" هذه التصورات تعكس بقدر واحد روح العقل النقدي ووجدان النزعة الإنسانية الرفيعة، التي تسعى لإرجاع حقائق الأشياء إلى أصولها، أو معرفتها كما هي. وينطبق ذلك على موقفه من الاستشهاد بأقوال النبي محمد وغيره بما في ذلك ممن نطق "بالفواحش" ضمن مسار رؤيته وتحليله أو نقده للظواهر والقضايا. لقد أراد القول، بأن الأولوية للعقل الإنساني، بوصفه كائنا واحد عند الجميع ولكنه يتمايز بقدرته على أن يكون فعالا أو خاملا، قويا أو واهنا. ولا يقلل ذلك من أن يجري وضع أقوال العقلاء إلى جانب أقوال النبي محمد. لاسيما وأن الفكرة المعتزلية التي كانت احد المكونات الجوهرية للرؤية العقلية والعقلانية تقوم في أن النبوة بالنسبة لها ليست كيانا غريبا وسحريا، بل نتاج الفضيلة الشخصية للإفادة والاستفادة. بمعنى إنهم نزعوا منها صفة الافراط اللاهوتي المميز لتقاليد الرؤية السلفية المكتفية بذاتها شأن حراشف الماضي الميتة! وبهذا يكون المعتزلة قد فسحوا أمام العقل إمكانية الانطلاق صوب عوالم الوجود بكل مظاهره وخفاياه. وقد كان الجاحظ احد النماذج الحية لهذا النمط من التفكير المعبر عن صيرورة وكينونة الروح العقلي والثقافي والنقدي في الحضارة الإسلامية.

لقد كان نقف "الكاتب المزيف" او المرتزق جزءا من مهمة التنوير العقلي وتأسيس المعرفة العلمية. رغم إن لهذا النمط مقدماته ليس فقط في شروط الجود الاجتماعي والاقتصادي بل وتقاليده الخاصة. فقد كانت ظاهرة الارتزاق بما في ذلك "الثقافي" صفة ملازمة للسلطة الخالية من قيم الروح الاجتماعي. وقد اتخذت في تاريخ الاسلام اشكالا وصورا عديدة مثل ظاهرة القصاصين والحكواتي و(اصحاب القلم) وليس العلم. او ما يمكن أن نطلق عليه بالمثقف الموظف أو الأجير أو المرتزق. وهم في العادة شيء واحد من حيث الجوهر، لكنه مختلف حسب الصدفة.

لقد كان نقد الجاحظ للكتّاب، هو الصيغة الفكرية والثقافية لنقد هذا النمط، الذي تجرأ على مختلف سفاهات وسخافات الهجوم الجريء المميز للأغبياء والمرتزقة على ممر التاريخ. والمقدمة المنهجية التي وضعها وانطلق منها في نقد الكاتب المزيف والمرتزق تقوم في أن "ضعف العلة ما التمس بعد المعلول، ونصبت له علما على الموجود بعد الوجود. وإذا تقدم المعلول عنه، والمخبر عن خبره استغنى عن الحاكم وظهر عور الشاهد[5]" بمعنى انه لا معنى للمعرفة وشخصية الكاتب عندما يكون دوما في ذيل المعرفة. فالمفكر الحقيقي هو من يتسابق ويسبق وجود الأشياء المعروفة، أي المعارف الجلية والتي يرتقي بعض منها إلى مصاف اليديهة. إن حقيقة المعرفة معاناة دائمة على مستوى الحس العقل والحدس. والأهم من ذلك محكومة بمعايير الثقافة الذاتية وهمومها الواقعية. من هنا قول الجاحظ عن نفسه:"إنما لم اقل إلا بعد الحجة. ولم احتج إلا مع ظهور العلة. ثم استشهد مع ذلك الاضداد بيانا، وما اجمع عليه الأعداء إنصافا"[6]. بعبارة أخرى، انه يضع نفسه واكتشاف الحقيقة في تيار الوجود المتضارب والمتناقض، مع البقاء في حيز الإنصاف للحقيقة كما هي. وهذه هي ذروة ما ينبغي أن يصل إليه المفكر الحقيقي،. تماما كما أنها ذروة وجوده الذاتي وحقيقة سريانه في كينونة الأمة ومشاريعها. وما عدا ذلك أو بدونها فهو لا شيء بمقياس العدم وليس بمعايير الوجود.

إن هوية هذا النوع من الكتّاب، كما يحققها الجاحظ تقوم في أنه لا يتقلد هذه الكتابة إلا تابع، ولا يتولاها إلا من في معنى الخادم. إذ لم نر عظيما تولاها بنفسه، لأنه محكوم عليه بالوفاء والصبر. في حين تتطابق ماهية هذا النوع من الكتّاب في "أحكامهم أحكام الأرقاء، ومحلهم من الخدمة محل الاغبياء. وهو مع ذلك في الذروة القصوى من الصلف والسنام الأعلى من البذخ، وفي البحر الطامي من التيه والسرف"[7]. وقد استعرض بعض نماذج هذه الشخصيات، حيث كان أول مرتد في الإسلام كاتب. والذي حرّف في القرآن، فنهاه الوحي هو عبد الله بن سعد بن ابي السرح[8]. ثم بعده معاوية بن ابي سفيان وكان أول من "غدر في الإسلام بإمامه وحاول نقض عُرى الاسلام بآثامه"[9]. ثم عثمان بن عفان (كتب لأبي بكر) فلم يمت حتى "أدّاه عِرقُ الكتابة إلى ذمِّ من ذَّمه من أوليائه"[10]. وبعده زياد بن ابيه (كتب لعمر بن الخطاب)، فانعكس شر ناشي في الإسلام، نقضت بدعوته السنّة (النبوية)، وظهرت في أيام ولايته بالعراق الجبرية"[11]. ثم مروان بن الحكم (كتب لعثمان) فخانه في خاتمه واستعمل الرعايا حربا عليه في حكمه. ثم انقضى الأمر إلى علي بن ابي طالب "فتبين من البصيرة في الكتّاب ما لم ير التنويه بذكر كاتب حتى مات"[12].

وفي الوقت نفسه لم يخل انتقاد الجاحظ بهذا الصدد من نقد التيار القومي المتشنج والمعادي للعرب والإسلام من جانب "الشعوبية".  من هنا وضعه "العربية" بالضد منها. فالكاتب الذي يجلس وراء الطاولة وأمامه الدواة يأخذ في لفظ الكلام. من هنا روايتهم لبرزجهر وأمثاله، ولأردشير وعهده، ولعبد الحميد رسائله، ولابن المنقفع أدبه، وجعل كتاب مزدك معدن علمه، ودفتر كليلة ودمنة كنز حكمته[13].  وبالضد من هذا النمط (المثقف المحدود المعرفة والمحكوم بإرثه الخاص فقط)، أي ذاك الذي لا يحتكم إلى روح المعاناة الفعلية في الإبداع والبحث عن الحقيقة وضع الشخصيات العربية التأسيسية في مختلف الميادين مثل ابن عباس في العلم والتأويل، ومعاذ بن جبل في العلم بالحلال والحرام، وعلي بن ابي طالب في الجرأة على القضاء والأحكام، وأبو الهذيل العلاّف في الجزء والطفرة (أي نظرية الجزء الذي لا يتجزأ)، وإبراهيم بن سيار النظَّام في الكامنات والمجانسات (أي نظرية الكمون وجنس الحيوان كله واحد وأفعالها من جنس واحد)، وحسين النجار في العبادات والقول بالإثبات، والأصمعي وأبو عبيدة في معرفة اللغات والعلم بالأنساب[14].

لقد سعى الجاحظ إلى إبراز العلاقة المتوترة والضرورة بين المعرفة والأخلاق، والسرّ الكامن وراء ما يمكن أن تؤدي إليه من مختلف أصناف الخيانة حالما يجري كسرها وإهمالها في نفسية وذهنية وشخصية الكاتب. وذلك لأنها تؤدي إلى السقوط في أوحال الهراء "العلمي" والانحطاط بمختلف أشكاله، والاستعداد لقبول الرذيلة والسباح في سواقيها النتنة. ووضع الجاحظ هذه الشخصية على مثال جامع من تراث الأمة وشخصياتها الكبرى. بحيث إذا جرى ذكر شريح جرّحه؛ وإذا نعت له الحسن استثقله؛ وإذا وصف له الشعبي استحمقه؛ وإذا قيل له ابن جبير استجهله. وبالمقابل نراه يقطع ذلك في مجلسه بسياسة اردشير بابكان، وتدبير انو شروان، واستقامة البلاد لآل ساسان. ذلك يعني، إن نقد الجاحظ لهذا النمط من الكتّاب لم يقف عند حدود "المعرفة" و"العلم" بل ويتعداه إلى ما يمس الشخصية العربية الإسلامية زمن صعود وتهور "الشعوبية". من هنا قوله، بأنه حالما يجري إحراج هذا النمط من الكتّاب من وجهة النظر الإسلامية والعقلية، فإنه حينذاك يرجع من ذكر السنن إلى المعقول، ومن محكم القرآن إلى المنسوخ، ولا يرتضي من الكتب إلا المنطق. بينما هم في الواقع، كما نستشف من نقد الجاحظ لهم، بأنهم ليسوا أصحاب عقول، ولا معرفة بتراث الأمة، ولا يتمسكون بالمنطق. لقد وجد في كل ما يسطروه ويسعون للتعبير عنه مجرد تقليد اجوف وضعف دراية بحقيقة المعرفة وأصولها. وسوف يأخذ بهذه الفكرة النقدية لاحقا كل من الغزالي وابن رشد.

إذ نعثر عليها في نقد الغزالي للفلاسفة ونقد المنطق والتقليد الفلسفي. ومن خلاله أراد تأسيس فكرة الحكمة الثقافية استنادا وانطلاقا من التجربة الذاتية للأمة والعمل بمعاييرها، وليس أخذ ما هو جاهز من تقاليد الإغريق وغيرهم. وفي الوقت نفسه دعى إلى الأخذ بما عند الآخرين لكل ما يمكنه تهذيب المنطق الصادق واليقين الفعلي. وقد استكملها ابن رشد لاحقا بفكرته القائلة، بأن من صفات الفيلسوف الحق أن يكون صحيح الاعتقاد لآراء الملة (الدين) التي نشأ فيها، متمسكا بالأفعال الفاضلة التي في ملته، كأن يكون متمسكا بالفضائل المشهورة. ذلك يعني، إن الفيلسوف الحق هو ذاك الذي يمثل في إبداعه وقناعته ونفسه، ثقافة أمته وفضائلها المتسامية أولا وقبل كل شيئ. ووضع هذه الفكرة في أساس تصنيفه وانتقاده في نفس الوقت لأنواع الفلاسفة الخارجين عن فلاسفة الحق، وهم "الفيلسوف الباطل، والفيلسوف المبهرج، والفيلسوف الزور".

وقد يكون موقفه من علاقة الكتّاب بالقرآن والحديث أنموذجا أو مادة جلية بهذا الصدد. فقد سار موقفه بصدد هذه القضية ضمن السياق المذكور اعلاه. فالجاحظ، وبأثر نظرته العقلية العميقة والمتجانسة ابتعد، شأن كل كبار المعتزلة، عن إشكاليات علم الكلام التقليدية وقضاياه الدينية والعقائدية. غير أن ذلك لا يعني ابتعاد أو تجاهل أصول الثقافة العربية الإسلامية وموقع القرآن فيها. وضمن هذا السياق ينبغي فهم انتقاد الكتّاب الذين تجاهلوا هذا الجانب وحاولوا التخلي ليس عنه فقط بل وعن أصول الثقافة الذاتية نفسها.

إننا نعثر عنده على ما يمكن دعوته بالحكمة الثقافية. والحكمة الثقافية على خلاف الحكمة المنطقية والمجردة والمأخوذة من بطون الكتب وليس من تجارب الأمة، تبقى في أفضل الأحوال مجرد الفاظ جميلة ولكن لا في محلها. إنها لا تصنع وعيا متجانسا. فالأخير لا تصنعه سوى إمكانية الربط والتوليف والنفي المنظومي عبر تمثّل تجارب الأسلاف، ومعايشة المواقع، واستشراف المستقبل.

وقد اورد الجاحظ هنا عدد من الشخصيات التي حاول من خلالها البرهنة على ما اسميته بالحكمة الثقافية الذاتية مثل ابو بكر الأصم وبشر بن المعتمر، أي عدد من النماذج الكبرى للمعتزلة. فقد وضع الأصم موقفه النقدي، على سبيل المثال في تقييم شخصية وإبداع ابن المقفع، بالعبارات التالية:"ما رأيت شيئا إلا وقليله أخّف من كثيره إلا العلم. فإنه كلما كثر خف حمله. ولقد رأيت عبد الله المقفع هذا في غزارة علمه وكثرة روايته قد اوهنه علمه، واذهله حلمه، وأعمت حكمته، وحيرّته بصيرته كمثل الحمار يحمل اسفارا"[15]. وهي فكرة نقدية تحتوي بقدر واحد على نقد هذا النمط من الكتّاب ولكن من خلال إشكالية العقل والعلم (المعارف) المميزة لبعض مراحل الصراع الفكري والعقائدي العنيف في مجرى تاريخ الخلافة، عندما وضعت بمعادلة علمه اكثر من عقله، وعقله أصغر من علمه. وترتب عليها جدال فكري وسياسي ومذابح فردية، كما جرى الحال بالنسبة للسهروردي المقتول. بينما ركز بشر بن المعتمر على إشكالية العامة والخاصة في المعرفة، أي التفريق بين التقليد والإبداع الحر. فقد روى أحدهم كيف أنهم كانوا في مجلس بشر بن المعتمر في جماعة من المعتزلة وأصحاب الكلام، فتذاكروا العوام واستحواذ الفتنة عليهم فكان موقفه يقوم في نقد التقليد الملازم للعوام، وإنهم لا يدينون بالحقيقة ولا يجيدون إلا ظاهر الحلية. وقابل هؤلاء بشخصيات العلم (المعارف أو المعلومات) أمثال عمر ابن خرج في السفه والمباهات، وإبراهيم بن العباس في الشره والرقاعة، ونجاح ابن سلمة في الطيش والسخافة، ويحيى بن خاقان في الذل والفاقة[16].

والحصيلة التي أراد الجاحظ قولها هنا تقوم في "أن محض العمى التقليد في الزندقة، لأنها إذا رسخت في قلب امرئ تقليدا، اطالت جرأته، واستغلق على اهل الجدل إفهامه". وهو يقصد بذلك أولئك المتشبعون بتقليد العقائد أو ما ندعوه اليوم بالتعصب والانغلاق الأيديولوجي. فهذا النوع لا يفكّ انسداد عقله وانغلاقه سوى يأس الهزيمة الساحقة والزوال من ميدان الوجود. ولعل تجربة المعتزلة، رغم كل طابعها الماساوي دليلا على ذلك. فقد جرى محاربتها وملاحقتها وتدميرها بقوة السقهر والارهاب والتجريم والتحريم. ومع ذلك اندثر كل ن سعى لاندثارها، وبقيت المعتزلة قوة كامننة في العقل والقلب والروح، كما لو انها الشعلة الابدية للاجتهاد الحر، على عكس مرتزقة الثقافة ايا كان "مجدهم" في الحياة! والسبب يكمن في أن المعتزلة هي التي تتمثل منطق الحقيقة والإخلاص لها بمعايير التجارب الذاتية.

 

ا. د. ميثم الجنابي

........................

[1]  الجاحظ: كتاب الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، مصر، القاهرة، ط، 2، ج1، ص11.

[2]  الجاحظ: كتاب الحيوان، ط، 2، ج1، ص11.

[3] الجاحظ: كتاب الحيوان، ط، 2، ج1، ص3.

[4]  ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث، ص71-72.

[5]  ثلاث رسائل للجاحظ،، القاهرة، المطبعة السلفية، 1344 للهجرة، تحقيق ونشر يوشع فنكل، ص40.

[6]  ثلاث رسائل للجاحظ،، ص40

[7] ثلاث رسائل للجاحظ،، ص42.

[8]  أبو يحيى عبد الله بن سعد بن أبي السرح القرشي (ولد سنة 23 قبل الهجرة) في مكة وتوفي عام ستة وثلاثين للهجرة. اعتنق الإسلام قبل صلح الحديبية. ثم هاجر للمدينة. واتخذه النبي محمد كاتبا للوحي مع عدد من الصحابة. اقترف خطيئة التشويه المتعمد لكتابة القرآن عندما استبدل عبارة  (السميع العليم) (بالعليم الحكيم). ولم يعترض النبي محمد على ذلك انطلاقا من أن الله هو السميع العليم كما انه أيضا العليم الحكيم. الأمر الذي جعله كما تقول التقاليد الإسلامية أن يصاب بالافتنان. وأضاف إلى ذلك قوله عن النبي محمد، بأنه لا يدري ما يقول، وانه كان بإمكانه كتابة ما يشاء مما يوحى له شأن ما يوحى لمحمد. عندها ترك المدينة وقفل راجعا إلى مكة. بمن ثم ارتد عن الإسلام صوب الوثنية. ومن اجل تخفيف هذه الطعنة التي يمكن أن تنسب إلى النبي محمد جرى تفسير فعلته على أنها زلة شيطان! بينما في الواقع لا شيطان غير وساوس النفس المبتذلة! ومع ذلك يجري تصويره على انه صحابي وقائد عسكري. وقد كان عبد الله بن ابي السرح اخا لعثمان بن عفان في الرضاعة. وعملا عثمان، شأنه تجاه اهله وأقاربه، من اجل إرجاعه إلى موقعه المقبول في الجماعة والأمة الجديدة. ولاحقا يصبح والي مصر زمن خلافة عثمان. واشترك في الكثير من المعارك. وكان له مآثر كبيرة فيها. وبعد مقتل عثمان اعتزل الحياة الإدراية والسياسية. ولم يبايع علياً ولا معاوية. ومات بعسقلان. ويقال في ليبيا. إننا نقف هنا امام نموذج تمثل كل تقاليد القرشية الوثنية والقبلية. من هنا تناقضاتها الحادة بمعايير الأخلاق والسياسة والفكر. غير أن هذه قضية اخرى. لكنها تكشف عما في نقد الجاحظ لهذا النمط من الكتّاب.

[9]  الجاحظ: ذم أخلاق الكتّاب، ضمن مجموعة الرسائل، القاهرة، 1964، تحقيق عبد السلام محمد هارون، ج2، ص189.

[10]  الجاحظ: ذم أخلاق الكتّاب، ج2، ص189.

[11] الجاحظ: ذم أخلاق الكتّاب، ج2، ص189.

[12]  ثلاث رسائل للجاحظ،، ص41؛ الجاحظ: ذم أخلاق الكتّاب، ج2، ص189. وتجدر الإشارة هنا إلى أن موقف الإمام علي بن ابي طالب مبني على التجربة الحياتية والسياسية. بمعنى انه لم يقف ضد الكتّاب أيا كان نوعهم وشخصياتهم، بل ضد النوع الذي جسدته تقاليد الخيانة الأموية، بدأ من معاوية بن ابي سفيان، وانتهاء بمروان بن الحكم. وذلك لأننا نعثر على تقييم وإشادة بالكتّاب كما في موقفه من مالك بن الاشتر. وهي حادثة اشار اليها الجاحظ نفسه في كتاب (المعاش والمعاد).

[13] ثلاث رسائل للجاحظ،، ص43.

[14]   ثلاث رسائل للجاحظ، ص43.

[15]  ثلاث رسائل للجاحظ،، ص43

[16] ثلاث رسائل للجاحظ،، ص44-45.

 

 

في المثقف اليوم