دراسات وبحوث

الدين والعاطفة

مجدي ابراهيمفي مقال سابق عن تربية الشعور الديني ذكرت شيئاً عن الخواطر كونها معتمد العمل في الأساس، وذكرت شواهد منصوصاً عليها في إطار تزكية الشعورُ الديني كونه مورداً من موارد العاطفة، بل وربما يكون أساساً لها وأصلاً. ولا معنى للدين بغير العاطفة، وتساءلت حينها: كيف يتّصل العبد بخالقه وهو مُجَرَّد عن العواطف النبيلة الدافعة إلى الاتصال بالله؟

تأكيداً لعاطفة الشعور الديني، تبرز أمامنا ملامح توجهات السّرائر لدى أهل البصائر؛ لتتخذ من العاطفة النبيلة مناط حركة وعمل وتوجّه، ودوافع غائرة في وجدان أصيل، وبواعث وعي وعقل وتفكير.

فإذا كانت العاطفة خاصَّة قلبية لطيفة هى مستودع الأسرار الإلهية، فللقلب طاقة نورانية نافذة إلى ملكوت السّموات لا تتغذى إلا بهذا الرافد الشعوري الذي يتصل بالعاطفة فتتصل العاطفة بالقلب، فيتصل القلب بالنور السّاري في أجزاء الكون كله: تفاصيله وذراته وممكناته.. ولله في خلقه شئون!

وللدين في قلوب المؤمنين سلطاتُ عجيب يتنامى في شعور الشاعرين بوجود الله ويزداد ليرتفع إلى أسمى آيات الإيمان: هو سلطان الإيمان يقوى في الضمائر ويعلو ويشتد كلما قوت روحه وعلت واشتدت إلى حيث الاتصال بالله من طريق الحب لا من طريق المعرفة النظرية.

والطريقان قد يجتمعان ولكنهما لا يستويان لا في الدرجة ولا في النوع ولا في طريق الوصول، لأن طريق المعرفة النظرية برهان عقلي وكفى؛ هو إلى الجفاف والصلابة أقرب منه إلى شاعرية الوجدان الديني ومعاناة التجربة الشعورية الفياضة بمعايشة الإيمان؛ فمثل هذا "الإيمان" الدافق الفعال في قلوب المؤمنين لا يسعه البرهان العقلي ولا تحتويه مساحة الأدلة النظرية؛ ولكن مساحته التي تسعه هى "قلب المؤمن" الذي يرى الأشياء بنور الله ويشعر شعوراً قوياً أن الله معه في كل حال، وأن الحب أسمى وأقوى وأشد فاعلية من جميع البراهين النظرية.

وأغلب الظن أن الله تعالى عرف بالحب لا بالعقل ! لأن العقل في الغالب معزول عن المعرفة الإلهية: أنت تبحث بالعقل المشكلات اليومية والمبادئ المفروضة، وبالعقل تستن الحجج المنطقية لتجادل بها من تود مجادلته لتقنعه بشيء ما يفرضه هواك، ثم تتلذذ بانتصارك عليه وإفحامك له وتنتشي فرحاً كلما فزت بالعقل على خصمك فتثني على العقل لا لأنه عقلك عن صفات مرذولة كنت ستقع فيها وأنت تدري أو لا تدري، ولكن لأنه أعانك على نصرة هواك؛ فما دخل معرفة الله ها هنا بالعقل؟

وأي عقل تلك أوصافه له تحصيلٌ بمعرفة الله؟ يٌعرَفُ الله - تعالى الله عن المعرفة - بالله لا بالعقل. أما العقل فهو من العجز بحيث لا يَدل إلا على عاجز مثله. العقل عاجز عن أن يعرف نفسه، وإلا فما وقع الخلاف البادي بين المتحاورين والمتجادلين من أجل نصرة هواهم على سواهم، بل لو كانت هناك معرفة يتوصّل إليها العقل في ذاته ما صحّ أن يكون ها هنا خلاف ولا نزاع ولا شقاق يؤدي بالضرورة إلى ذهاب الريح!

أفئن دلَّ ذلك على شيء؛ فمدلوله الأقوى أن"الوحدة العقلية" مفقودة أو تكاد بين الناس؛ فكيف يتأتَّى لي الزعم بعد ذلك أن تكون هى هى المقياس الصالح لمعرفة الله؟

إنما المقياس الصالح لمعرفة الله هو "الحب"؛ فالله بالحب لا بالعقل عرفوه! ولو لم تكن هناك موهبة إلهية تمكن الموهوبين بقدرة المعرفة بالله عن طريق المحبة ما جاز أن يكون الله معروفاً بغير هذه الوصلة الروحيّة والصلة الكمالية في عباده المقربين. وليس من شك في أن هذا الطريق الأخير "طريق الحب" لهو نفسه الطريق الذي يعمق من سلطان الدين في القلوب ويُعلي من شأنها - بتفعيل الدين وتثويره - ليهبها مثل هذه الدرجة الواعية: أعني تلك الوصلة الروحية التي تكشف، على الحقيقة، قوة الدين وأغواره الدفينة في نفوس المؤمنين. ولننظر إلى قول من قال: أحبابنا شتان: واف وناقضُ.. لا يستوي قط محبُ وباغضُ.." وما يستوي الأعمى ولا البصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور.. وما يستوي الأحياء ولا الأموات. إنّ الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور".. "والمرءُ مع من أحبَّ".

ليس هناك شعوراً قط أقوى وأنبل من ذلك الشعور الذي تكشف التجربة الروحية عنه الغطاء؛ ففي تلك التجربة نفسها تشعر الروح بوعيها المتسامي وذاتيتها المتعالية وحيويتها الباطنة والحاضرة دوماً في رحاب الله؛ تماماً كما تشعر بتحررها عن العلائق والأوهام والشواغل ومعاقرة الآفات.

ومن هاهنا تكون "تربية الشعور الديني" كامنة في هذا التحرر: تحرر الروح من سطوات الأغيار. لكن هذه ليست كلمات تُقال بل طريق شاق طويل كله مكابدة وعناء في نهايته يجيء مثل هذا التحرر، لكنما البداية إنما هى فضائل كريمة تُزكي النفس وتترقى بها عروجاً في طريق الكمال: البدايةُ جهاد.. والنهاية اتصال.

أولى هذه الفضائل وأوْلاها فضيلة "الجهاد" الذي تتحقق فيه هداية السبيل. والجهاد عمل دائب وعبادة وتكليف ورباط. الجهادُ هو الذي يخلق للإنسان قوة تمهد لسلطان الإيمان أن يستقر في قلب المجاهد، فتمنع عنه خواطر التعطيل والانحراف؛ ليتفجر من المجاهدة نور يهدي به الله إلى سبيله. لاحظ قوله تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سبُلنا" (العنكبوت: آية 69)، أي الذين يعملون (والعمل جهاد) بما يعلمون؛ يوفقهم الله ويهديهم إلى ما لا يعلمون حتى يكونوا علماء حُلماء.

وتلك هى ولا شك "علوم المعارف" التي هى مواريث أعمال القلوب، تتأتى بالمجاهدة والكدح قاصدة توفيق الله. قال بعض السلف نزلت هذه الآية في المتعبدين المنقطعين إلى الله سبحانه وتعالى، المستوحشين من الناس، فيسوق الله تعالى إليهم من ذوات نفوسهم مَنْ يعلمهم أو يلهمهم التوفيق والعصمة، وإليه الإشارة بقوله تعالى:"ومن يتق الله يجعل له مخرجاً"؛ قيل مخرجاً من كل أمر ضاق على الناس ويرزقه من حيث لا يحتسب: أي؛ يعلمه علماً بغير تعليم ويفطنه بغير تجربة أي بالشاهد الصحيح والحق الصريح.

وكلما تَقدَّم الجهادُ  مثل هذا الحبّ العلوي الذي يستشعره قلب العبد المؤمن مأخوذاً من عين الإتباع لسيد الخلق -  صلوات ربي وسلامه عليه - في قوله تعالى:" قل إن كنتم تحبون الله فأتبعوني يحببكم الله"، صار بالتحقيق فضيلة ماضية لا صعوبة فيها ولا مشقة؛ وصارت التربية الروحيّة على هذا النهج النبويّ الكريم هى النموذج الذي ينتهجه الصالحون العابدون العارفون لله من طريق المحبة.

وأول درجات التربية للشعور الديني تكمن في سدّ ذريعة عناء الخواطر: بحذف الخواطر الرديئة والنهوض بالجملة للتحقق من خواطر اليقين الإيماني مع العصمة الدائمة بالرقابة الإلهية على العمل، وعلى الفعل وعلى التصريف؛ فيما يفعل العبد وفيما يقول. وهذا لا يتمّ بغير جهاد ومكابدة. وفي الأثر أن كل قلب أجتمع فيه ثلاثة معان لم تفارقه خواطر اليقين، ولكن يضعف الخاطر ويخفى لضعف المعاني ودقتها، ويقوى اليقين ويظهر؛ لأن هذه الثلاثة مكان اليقين في القلب، بها جميعاً يقوم فيه سلطان الإيمان ناهضاً غير خذلان.

تتمثل تلك المعاني الثلاثة في "الإيمان"، "والعلم"، "والعقل". ولنا أن نلاحظ أن العقل المذكور هنا ليس هو العقل النظري المنطقي الاستدلالي المجرّد عن الفاعلية العملية.. كلا بل هو العقل عن الله، هو الخاصة الإنسانية التي تعقل أوامر الله وتنتهي عند نهيه، ولا يخلو هذا العقل العملي من استدلال يقوم على شرطه ويجرد النظر العقلي وفق خاصته، لكنه لا ينفصل مطلقاً من فاعلية التحقق بالتجربة مع الله.

وعليه؛ فإذا لم يكن القلب يخلو من هذه الثلاثة صار مخصوصاً بصفة أهل الإيقان أولئك:" الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب"؛ هؤلاء هم المخصوصون بتجليات السكينة القلبية التي أنزلها الله تباركت عطاياه في قلوب المؤمنين؛ ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم.

وبما أن القلب موطن الإيمان لا ريب فهو خزانة من خزائن الملكوت؛ فقد وجب أن يكون محفوظاً على الدوام بنور الإيمان إذا كان الدين الواصب شرعته ومنهاجه وفيض أسراره ومنازل أنواره.

كتب عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - إلى أمراء الأجناد:"أحفظوا ما تسمعون من المتعظين، فإنهم ينجلي لهم أمورٌ صادقة". وكان أبو الدرداء يقول:" المؤمن ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، والله إنه للحق يقذفه الله تعالى في قلوبهم ويجريه على ألسنتهم". وقال بعض العلماء:"ظنُ المؤمن كهانة"؛ أي كأنه سحر من نفاذه وصحة وقوعه، وقال أحدهم:"يد الله تعالى على أفواه الحكماء لا ينطقون إلا بما هيأ الله عزّ وجل لهم من الحق". وأثر عن بعضهم أنه قال:"لو شئت لقلت إنّ الله يطلع الخاشعين على بعض سره"؛ فمن حق مَنْ شاء أن يستغرب مثل هذه الأقوال، وأن يستهجن قائليها؛ ولكنه لن يكون قد تربّى سلفاً على فقه الشعور الديني العميق، فما هو في الأصل إلا نور الحكمة يترائى لهم بمقدار ما ينكشف الحق لمثل هذه القلوب المؤمنة العاقلة عن الله حكمته، كما جاء في تفسير قوله تعالى:"يؤتي الحكمة  من يشاء"، قيل: الفهم في كتاب الله. وقد قيل في قوله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا إنّ تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً"؛ إنه "النور تفرقون به بين الشبهات؛ و"اليقين" تفرقون به المشكلات. ومن أصدق من الله قيلاً:"واتقوا الله ويعلمكم الله".

وفي ملكوت القرآن ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد، ومن أجل تربية وجدانية نابضة بالحياة الروحيّة قال أهل البصائر الذين حفظوا قلوبهم بنور الإيمان الثابت الدائم الواصب؛ المترقي بالزيادة إلى عين اليقين، قالوا: إنّ أول ما يَرد على القلب الخواطر، وهو حديث النفس ثم الميل، وهو ميل الطبع إلى العمل. ثم الاعتقاد ؛ ثم حكم القلب بأن ينبغي على الفعل أن يفعل، ثم العزم، وهو عزم الإنسان أخيراً على الفعل في تصميم.

فهذه - كما ترى - سلسلة أخلاقية تربوية، من مراقبة الإدراك: تبدأ بالخاطر الوارد على القلب، وتنتهي بالفعل (أي العمل) وترتد في البداية والنهاية إلى فضيلة الجهاد وإلى شرف المجاهدة. وبما أن الخواطر هى المحركات للإرادات؛ فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور المنويِّ بالبال لا محالة؛ فبداية الأفعال الإنسانية تكون في الخواطر؛ فأنت لا تفعل الفعل بحركة آلية تلقائية كما لو كنت آلة، ولا تفعله بحكم الغريزة كما لو كنت حيواناً، ولكن تفعله بخاطر يَرد على القلب يحرك البواعث. والبواعث تحرك الرغبة. والرغبة تحرك العزم. والنية تحرك الأعضاء. وهكذا دواليك حركة من خطرة، فالخواطر تحرك الرغبة ضرورة وتدفعها إلى الفعل، إنْ كانت تدعو إلى الخير وهو مما ينفع في الآخرة؛ فإنها تسمى "إلهاماً"، وإنْ كانت تدعو إلى الشر، وهو ما يضرُّ في الآخرة فإنها تسمى  وسواساً". وإنما تأتي التربية للشعور الديني دُرْبة على معروف الخواطر والتفرقة بينها فيما إذا كانت خيراً أو شراً ثم استعداد المرء على أن يعمل بمقتضى الصحيح الخيِّر منها ويترك وراءه ما عداه. فكأنما هذا كله يطلعنا على أهمية تلك الخواطر في أعمال الإنسان: أعرف خواطرك تعرف عملك.

وخاطر الخير سببه الملك.. وخاطر الشّر سببه الشيطان؛ كما قال أبو مسعود رضى الله عنه:" وقد روينا من طريق مسند في القلب لمَّتان: لمَّة من الملك إيعادُ بالخير وتصديقُ بالحق. ولمَّة الشيطان إيعادُ بالشر وتكذيبُ بالحق". ومن صدق العزائم في توجُّهات القلوب المستنيرة بنور الإيمان أن يُرَبِّي العبد كل ما يرد عليه من خير الخواطر؛ يزكيها لتكون "فعلاً" يجزي عليه ويثاب أحسن المثوبة وأفضل الجزاء، ويحفظ قلبه بسياج التقوى إذا ما ورد عليه خاطر الشر: يقلعه ويقمعه قبل أن يصير إرادة تنهض بالفعل على التحقيق.

وبماذا يتم حذف الخواطر الشريرة ؟ والجواب: بالاستعاذة بالله تعالى من نزغات الشيطان كما في قوله جل ذكره:"وإمّا ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله، إنّه هو السميع العليم".

وإذا تقوى في القلب نور الإيمان، قوت تباعاً نافذة البصيرة المانعة عن النزغ والتلبيس. تأمل قوله تعالى:"إنَّ الذين اتقوا إذا مسَّهم طائفُ من الشيطان تذكروا فإذا هم مُبصرون". هذه البصيرة خطفة من عبقرية مُبصرة ناتجة عن التذكرة، هى لمحة فريدة من الإدراك العلوي. والتذكرة حركة قلبية تتولد عن فعل التقوى: أعني النور الإيماني الصادق في الترقية اليقينية المحفوظة داخل تلك اللطيفة المشار إليها بالقلب.

وأنت ترى في كل هذا فعالية الجهاد حركة معمولاً بها كل العمل؛ لا تعطل لحظة واحدة من لحظاتها الشريفة؛ إنْ في الشعور وإنْ في العمل. إنها لتمْضِي عملها وتحقق طريقها في اللحظة الخاطفة والخاطر اللمَّاح؛ وذلك لأنها فعالية ( المجاهدة) تتحكم في أدق الدقائق لعمل النفس الباطني؛ وإنها لقدرة لا تتهيأ لأحد إلا لأولئك الذين اكتسبوها بالنظام المقرَّر في طريقهم وبالأركان التي وضعوها قوائم لهذا الطريق؛ فعالية للجهاد وتمرين للعبد وتدريب لنفسه وتهيئة له للاتصال بالحقيقة الإلهية، فضلاً عن كون هذا النظام التربوي يحقق أكبر طاقات الطمأنينة القلبية والسلام النفسي ويجلب السعادة الداخلية التي يعز وجودها ويندر فيمن أرادوا أن يعطلوا في نفوسهم وقواهم مثل هذه الفعالية الجهادية من طريق الإيمان. ثم إنه ليكشف عن اتصال الدين بالعاطفة الوجدانية، وتنمية هذه العاطفة وفق مقررات المنهج المشروط فيها. وأن الشعور الديني في ذاته قائمٌ على تضحيات بالمطالب العاجلة في سبيل تحقيق القدر الكبير من المطالب الآجلة، مع أن هذه الآجلة مكشوفة مرئية مع الفاعلية رؤية العين؛ هى نفسها اليقين الذي أشارت إليه أدبيات أذواق المجتهدين.

ولك من بعدُ - إنْ شئت- أن تتصوَّر أنه كلما مرَّت "اللحظة" خاطراً ولم تتدارك ولم تضمحل صارت شهوة. وإذا لم تتدارك الشهوة صارت طلباً. وإذا لم يتدارك الطلب صار عملاً فعلياً مُحققاً في الواقع الفعلي.

وسلطان الإيمان زاجرُ لكل هذا، وفوق هذا، إذا ما كان علو كل قلب على قدر إيمانه؛ لأن الإيمان في هذه الحالة هو هو "البصيرة القلبية" ذات القوة المانعة عن شرور الخواطر من جهة، ثم هو هو القوة الدافعة من جهة أخرى إلى خير الخواطر وتزكيتها بفضل الله.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم