دراسات وبحوث

الجاحظ: فلسفة القيم المتسامية

ميثم الجنابي"لا يكون المرء نبيلا حتى يكون نبيل الرأي،

نبيل اللفظ، نبيل العقل، نبيل الخُلق"

(الجاحظ)

للقيم الإنسانية تاريخها الثقافي الخاص. ولكل مرحلة تاريخية ثقافية قيمها الخاصة، بوصفها النتاج الضروري الملازم لتجاربها الذاتية. الأمر الذي كان وما يزال وسوف يبقى لفترة طويلة قبل أن يرتقي الوجود الإنساني من حالة وجوده الطبيعي الى مقام وجوده الماوراطبيعي. بمعنى الانتقال من التجارب الجزئية إلى مستوى الرؤية الإنسانية الشاملة. وهذه فكرة مستقبلية وبالقدر نفسه تمثل وتتمثل الآفاق الضرورية لاحتمالات المستقبل العقلانية.

غير أن المستقبل يتراكم في مسار التجارب التاريخية، التي يتوقف على تأسيسها النقدي الدائم إمكانية إرساء أسس المرجعيات الضرورية لوعي الذات التاريخي الثقافي على مستوى الفرد والجماعة والأمة. وقد ساهم الجاحظ في رفد الثقافة العربية الإسلامية بمنظومة من القيم المحكومة بمعايير العقل النقدي. الأمر الذي اعط لها وهج الاستنارة الحية، ورونق البلاغة المعنوية. وكلاهما يمثلان حقيقة الجاحظ بوصفه أحد أهم ممثلي منظومة المعتزلة الفكرية. من هنا توحيده الدائم للفكرة المنطقية والبلاغة الأدبية بمعناها العربي الإسلامي الكلاسيكي. ومن هنا ربط أيضا في مجرى تناوله لإشكاليات النبل والتنّبل والنبيل وما يعارضها، بمعايير التنوير والتأسيس. فالأول هو التعبير الضروري عن مضمون المبدأ العقلي للاعتزال، بينما الثاني هو تمثله بمعايير الروح المعنوي، الذي كان الأدب ميدانه وأسلوبه في الوقت نفسه.

إننا نعثر عنده في ما يخص الفكرة المنهجية لفهم حقيقة النبل والتنّبل والنبيل، بوصفها إحدى القيم الرفيعة، عن ابرازه وتأسيسه لعلاقة المعرفة بالتنوير العقلي. بحيث نعثر عليها حتى في معرض اجابته على من كتب إليه عن هذه القضية. فهو ينتقد من كتب إليه يشتكي ويتشاكى من تنّبل الآخرين عليه رغم أنه "أكثر فهم في المحصول وفي حقائق المعقول. معتبرا ذلك سوء في الاختيار وفي طول مقامه على العار"[1]. وبالمقابل اعتبر الجاحظ الحكم العلمي والدقيق عن حقيقة الشخصية يجري بما يتوافق مع حقيقة النبل وليس حسب ما يتصوره المرء عن نفسه، أو حسب تصورات وأحكام الآخرين. وكتب بهذا الصدد يقول:"وليس الذي يوجب لك الرفعة أن تكون عند نفسك رفيعا دون أن يراك الناس رفيعا، وتكون في الحقيقة وضيعا. ومتى كنت من أهل النبل لم يضّرك التبذّل، ومتى لم تكن من أهله لم ينفعك التنبّل"[2]. بمعنى إن للقيم قيمتها الذاتية التي تتوافق مع ما فيها. وهو استنتاج يحتوي على أبعاد عميقة ومتنوعة، لعل أكثرها جوهرية هو إن النبل عقل ووجدان ومواقف وشخصية وليس إرثا ووراثة. من هنا توكيده وسعيه لتأسيس قيمة النبل وشخصية النبيل بوصفها معاناة دائمة في تنقية الإرادة وشحذها على مسّن الحياة ومصاعبها ومصائبها. وكشف عن حقيقة هذا المعنى على مثال فكرة السيادة الشخصية. بحيث ربطها أساسا بخصلتين وهما كل من الحلم والصبر. وكتب بهذا الصدد يقول، "السيد المطاع لم يسهل عليه الكظم ولم يكن له كنف الحلم إلا بعد طول تجرع للغيظ ومقاساة الصبر. والحرب سجال بينه وبين الحلم، ودول بينه وبين الكظم. وحالما انقادت له العشيرة سمحت له بالطاعة، ووفّق بظهور القدرة خلاف المعجزة"[3].

إن القدرة الإنسانية في صنع ذاتها وسؤددها، بالنسبة للجاحظ، هي الوجه الآخر للمعجزة. لكنها أكثر أصالة وإنسانية لأنها أصيلة وإنسانية، بمعنى خالية من ثقل الأوهام والخرافة. وهكذا هو الحال بالنسبة لكل قيمة جوهرية في الوجود الإنساني. فالمساعي الفردية والشخصية لبلوغ ما يدعوه الجاحظ "بالأمل في الرياسة والطمع في السيادة" يفترض تكلّف الحلم والصبر في البدء. وبالتالي، لا يتم هذا الفعل في بلوغ غايته بالنسبة للإنسان إلا بعد ثلاثة أشياء وهي كل من الاحتمال، ثم الاعتياد، ثم ظهور الطاعة[4]. وهذه بدورها ليست إلا فكرة الإرادة وصيرورتها الذاتية.

لقد وضع الجاحظ قيم النبل والتنّبل والنبيل في منظومة القيم العامة، وبالشكل الذي نعثر فيها على رؤية عقلية وإنسانية واجتماعية وسياسية وفلسفية. إذ نراه يبرّز قيم النبل ويضعها في أعماق منظومة القيم كما لو أنها بؤرة القيم المتسامية. وذلك لأن النبل يحتوي على ما يمكن دعوته برحيق القيم. فكل ما هو عظيم نبيل. كما انه بداية الجمال والجلال الإنساني. وبهذا تصبح قيم النبل جزءا من تاريخ السمو الأخلاقي والمعرفي. فالنبيل كائن وكينونة متوحدة. ومن ثم غير قابلة للتجزئة على خلاف ما هو غيره. وقد وضع هذه الحصيلة في فكرته القائلة، بأن الانسان "لا يكون نبيلا حتى يكون نبيل الرأي، نبيل اللفظ، نبيل العقل، نبيل الخُلق، نبيل النظر بعيد المذهب في التنزه، طاهر الثوب من الفحش"[5].  بعبارة أخرى، إن النبيل هو نبيل في ظاهره وباطنه ومواقفه وأحكامه. وفي ذاته يحقق الكمال الإنساني في جميع مساعيه من حيث الحافز والوسيلة والغاية. لقد أراد الجاحظ القول، بأن النبل هو عقل وإرادة وموقف.

إن هذه الحصيلة التي توصل إليها الجاحظ، كانت مبنية على فلسفة النبل ومنهجها في رؤية المقدمات والغايات الفعلية لهذه القيم. وفي كلهّا هي نقيض عقلي وأدبي للتكّبر والتجّبر ومختلف أصناف الرذيلة التي تفرّغ الإنسان من النبل. ذلك يعني انه سعى لتأسيس الفكرة المنهجية في نفي التجّبر والتكّبر أو الاستبداد من خلال إبراز خللها الذاتي. ومن ثم التأسيس لإرساء أسس ما ادعوه بفلسفة النفس الثقافية. بمعنى دفع مختلف القيم صوب التراكم في منظومة متوحدة وفاعلة بمعايير المنهج العقلي والنقدي والتأسيسي.

وقد يكون هو من بين اوائل المتكلمين وأدباء الإسلام الكبار، الذين ربطوا ظهور القيم بتطور الحضارة. ومن ثم يكون سبّاقا بهذا الصدد حتى على ابن خلدون. ففي مجرى تناوله لظاهرة التكّبر، والتي تفقد الإنسان والمجتمع معنى وقيم النبل، نراه يشير إلى تنوع الترابط بين القيم ومستوى التطور الحضاري. بمعنى استمرار وجود القيم وفاعليتها الاجتماعية والأخلاقية من جهة، وإمكانية استعمالها للمصالح والمآرب السياسية والأيديولوجية، من جهة أخرى. وأن الحضارة في مجرى تطورها تهذّب وتشذّب العقل والوجدان والقيم. وبالتالي، فإن مختلف مظاهر الرذيلة عادة ما تعكس بقايا ما قبل الحضارة. وفي رؤيته النموذجية هذه يختلف اختلافا جذريا عن ابن خلدون ومختلف النظريات الفلسفية التي تؤكد على أن الحضارة هي الحالة التي يلازمها تفسخ وتحلل القيم. من هنا قوله، على انه لو كان في التكبر خيرا لما كان هو في دهر الجاهلية أظهر منه في دهر الإسلام، أي كان "في أهل البدو أكثر منه في أهل الحضر". وينطبق هذا على الحضارات الأخرى من الروم والفرس. فوجود ظاهرة التكبر في الدولة الفارسية القديمة (آل ساسان وانو شروان وجميع ولد اردشير بن بابك) هو ليس تكبرا بالمعنى الدقيق، بقدر ما هو "سياسة للعوام وتفخيم لأمر السلطان والملك"[6]. وعندما تناول هذه الظاهرة على مثال دولة الخلافة، نراه يشير إلى انه "لم يكن من الخلفاء أشد نخوة من الوليد بن عبد الملك وكان اجهلهم وألحنهم". كما لم يكن "في ولاة العراق أعظم كِبرا من يوسف بن عمر وما كان اشجعهم ولا ابصرهم ولا اتمهم قواما ولا أحسنهم كلاما"[7]. لقد أراد الجاحظ القول، بأن الكِبر والتجّبر والاستبداد هو من بقايا ما قبل الحضارة من جهة، وتعبير عن ضعف الشخصية وخللها الداخلي وعقدها النفسية، من جهة أخرى[8].

لقد بحث الجاحظ عما يمكن دعوته بمقدمات التكّبر والتنّبل. ومع ذلك لم يربطها بطريقة محددة دون أخرى. انه في الأغلب يتكلم عن الجانب السياسي العام على مستوى القيادة. لكنه لا يهمل مصدرها الاجتماعي. ففي واقع الأمر من أين للرؤساء والسلاطين والأمراء اكتساب هذه الصفات إن لم تكن هي نتاج التربية ووجود الظاهرة نفسها؟ فالكِبر لو اعترى الشريف والجميل أو الجواد لكان ذلك أفضل رغم سوءته، كما يقول الجاحظ. غير أنه يمكن العثور عليه أيضا عند الدميم والناقص، والجبان والكذوب، تماما مثلما عند من هو بالضد منهم[9]. ووضع هذه الرؤية العامة في أساس نقده لظاهرة التجّبر والتنّبل المزيف.

لقد وجد الجاحظ في شخصية المتكبر والمتجبر ظاهرة تستمد قوتها وأصلها من الاستبداد. فالاستبداد هو القوة التي تشوه الواقع والمفاهيم والقيم. ومن ثم فإن التكّبر والتجّبر والتنّبل المزيف هو من يضع نفسه وسلوكه العلني والمستتر بالضد من حقيقة المعنى المتسامي الذي بلورته الثقافة الإسلامية في فكرة "اسماء الله الحسنى" التي تحتوي على الجبار والمتكبر، ولكن بوصفها مؤشرا وهاديا لنفي وتذليل ظاهرة التزييف في التكّبر والتجّبر البشري. أي على عكس ما في فكرة أسماء الله الحسنى التي جرى لاحقا رفعا إلى مصاف المنظومة النظرية للسلوك العملي والمعرفي، كما هو الحال في التصوف. وقد حلت الثقافة الإسلامية هذه المعضلة الشكلية من خلال جعل الله جبارا والإنسان عبده (عبد الجبار)، أي المتخلق بمعانى الجبروت الآلهي. وينطبق هذا على بقية الاسماء. أما بالنسبة للجاحظ فقد انطلق من تحليل شخصية الإنسان الفردية، باعتباره كيانا ضعيفا. لذلك من اللائق التذلل والتواضع فهو "أذا جاع صرع، وإذا شبع طغى". وأستند هنا أيضا إلى حديث (موضوع) رغم انه يستمد مقوماته من القرآن يقول "العظمة رداء الله، فمن نازعه رداءه قصمه"[10].

ولم يسع الجاحظ في مواقفه هذه سوى للتأكيد على أن الإنسان لا يكون نبيلا حتى يكون نبيل الرأي، نبيل اللفظ، نبيل العقل، نبيل الخُلق. وبهذا يكون قد أرسى أسس الموقف الاجتماعي والسياسي والأخلاقي المعارض للتكّبر والتنّبل المزيف. ووضع حصيلة تصوراته وأحكامه بهذه الصيغة في عبارة مكثفة تقول، بأنه "لم تر العيون، ولا سمعت الآذان، ولا توهمت العقول، عملا احتباه ذو عقل أو اختاره ذو علم بأوبأ مغبة، ولا انكد عافية، ولا أوخم مرعى، ولا أبعد مهوى، ولا أضّر على دين، ولا افسد لعرض، ولا أوجب لسخط الله، ولا أدعى إلى مقت الناس، ولا أبعد من الفلاح، ولا أظهر نفورا عن التوبة، ولا أقلَّ دركا عند الحقيقة، ولا انتقض للطبيعة، ولا أمنعَ من العلم، ولا أشد خلافا للحلم، من التكّبر في غير موضعه، والتنبّل في غير كنهه"[11].

لقد استجمع الجاحظ في تقييمه المذكور أعلاه كافة الأبعاد الأساسية في نقد ظاهرة التكّبر والتنّبل المزيف، بعد إخراجها من معنى الوجود الإنساني الحق. وليس مصادفة أن يسعى الجاحظ أيضا إلى رفع هذه القضية إلى مستوى الرؤية الميتافيزيقية، بحيث نراه يجعل من التكّبر "أول ذنب في السموات والأرض". وبغض النظر عن الموقف الأخلاقي والصورة الدينية الميتافيزيقية في هذه العبارة، فإن مضمونها الاجتماعي غاية في الوضوح، ألا وهو معارضة الظلم والاستبداد. فعندما يقول الجاحظ، بأن "الكِبر هو أول ذنب كان في السمو ات والأرض، وأعظم جرم كان من الجن والأنس"[12]، فإن مضمونه الفعلي، حالما يجري تجريده من صور الدين ولاهوتية الرؤية، يعني أن الكِبر والاستكبار والتجّبر وما يلازمه بالضرورة من التنّبل المزيف ما هو في نهاية المطاف سوى الصيغة الفجة لفاعلية الرذيلة بمختلف أشكالها وأصنافها ومستوياتها. إذ لا يعني أن ابليس هو أول من استكبر سوى الصيغة المقبولة لذهنية العوام عما يمكن دعوته بالنموذج "المتكامل" لظاهرة التكّبر. وبالتالي، فإن كل مظاهره الواقعية ليست إلا أشكالا جزئية لهذه النزعة الإبليسية. ومن ثم ادانتها بالضرورة وإدانة الواقع. إذ ليس إبليس سوى الصورة النموذجية التي تجمع في ذاتها نفس الصفات التي نعثر عليها عند البشر مثل الكِبر، والاحتجاج بالباطل، والزور، والحسد، والظلم، والخديعة والذم.[13]. بل نراه يطير في سماوات التفلسف اللاهوتي بهذا الصدد ولكن دون الوقوع في فخاخه المغرية. فهو يدرج ويحاصر الصورة الدينية اللاهوتية عن نموذج التكّبر في شخصية ابليس ضمن عالم الاسطقسات الإغريقي أو عالم المكونات الكبرى للطبيعة أي الفكرة الفلسفية عن العناصر الأربعة أو الأركان الأربعة. فاحتجاج ابليس بأنه نار، ومن ثم الأفضل غير صحيح، انطلاقا من أن منافع العالم نتاج أربعة أركان وهي نار يابسة حارة، وماء بارد سيال، وأرض باردة يابسة، وهواء حار رطب. ومنها استناج الجاحظ موقفه عن انه "ليس منها شيء مع مزاوجته لخلافه إلا وهو مبق على أن النار نقمة الله من بين جميع الصفات: اسرعهن اتلافا. وهذا كله ثمرة الكِبر"[14]. ووجدت هذه الفكرة تحقيقها في الموقف النقدي المباشر وغير المباشر لظاهرة التكّبر والتجّبر وما يرافقها من تنبّل مزيف. فعلاقة السلطان بالجمهور، ضمن مفهوم وسلوك الطاعة، هي سلطة شكلية ظاهرية، كما يقول الجاحظ. الأمر الذي يجعلها قاسية بالضرورة. ووضع هذه الفكرة النقدية في عبارته القائلة، بأن "السلطان يملك أبدان الناس، ولهم الخيار في عقولهم". وهي الفكرة التي سيقول بها الغزالي لاحقا، في مجرى نقده للفقه والفقهاء، عن انه لا ولاية للفقيه على القلب. بمعنى إن الأعماق السحيقة للإنسان ينبغي أن تبقى خارج سلطة الفقهاء. بينما قرر الجاحظ قبله بقرون من أن العالم الباطني للإنسان في عقله ووجدانه يبقى حرا رغما كل السلطة المتجبرة على الأبدان. الأمر الذي يجعل منها بالضرورة زائفة وقاسية بقدر واحد. ومن ثم عرضة للتحلل.

وبالمقابل كان نقد الجاحظ لرذيلة التكّبر والتجّبر والتنّبل المزيف مبنيا على اساس الاعتراف بقيم وفضيلة العقل والإرادة الإنسانية الحرة، التي ترفع شعار "احتمال الفقر اهون من احتمال الذل". وذلك لأن "الرضا بالفقر قناعة وعز، واحتمال الذل نذالة وسخف"[15]. وعموما إن كل الصفات الرذيلة هي وحدة واحدة من حيث قوتها على التخريب والتدمير الأحمق للعقل والضمير والإرادة. وليس اعتباطا أن يضع الجاحظ كل من اللئيم والحاسد والخائن في سلة واحدة. بل ونراه يجعل من بين أهم معاييرها ومحكها الموقف من الأديب. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه "ليس يأمن اللئيم على إثبات جميع ما اشتمل عليه أسم اللؤم إلا حاسد. فإذا رأيته يعّق أباه ويحسد أخاه ويظلم الضعيف ويستخف بالأديب، فلا تبعده عن الخيانة"[16]. وهنا نقف أمام معايير يكون فيها الأديب مرجعية وفيصلا لحقيقة المواقف وليس الله والأنبياء وما شابه ذلك. لقد أراد إرجاع الفضيلة والرذيلة وقيمها إلى عالم الإنسان الواقعي والفعلي. والحكم بها وعليها بما يتوافق مع مساعي الروح العقلي الإنساني صوب الكمال أو السؤدد الذاتي. وضمن هذا السياق يمكن أن نفهم لماذا يفرّق الجاحظ بين عيوب أخلاقية قابلة للعلاج وأخرى غير قابلة. فالظلم والحمق والبخل عيوب يمكن معها السؤدد، إلا أن الكِبر والكذب والسخف والجهل بالسياسة لا يمكن معها السؤدد[17]. واستشهد الجاحظ هنا بموقف وكلمات قتيبة بن مسلم الباهلي (القائد العسكري العربي الفذ) عندما رفض توجيه قوة عسكرية بقيادة وكيع بن ابي سود، لأنه بنظره رجل عظيم الكبر. إذ لأن "من عظم كبره اشتد عجبه، ومن اعجب برأيه لم يشاور كفيا، ولم يؤامر نصيحا، ومن تبجح بالانفراد وفخر باستبداد كان في الظفر بعيدا والخذلان قريبا، والخطأ مع الجماعة خير من الصواب مع الفرقة، وإن كانت الجماعة لا تخطأ والفرقة لا تصيب"[18].

لقد كانت هذه النتيجة الوصية العملية التي تكشف عن أن للكِبر والتجّبر والتنّبل المزيف نواقص ورذائل لا تغتفر، وذلك لأن نهايتها استبداد وخذلان وخيانة. وتاريخ الأفراد والدولة والسلطات يبرهن على صحة هذه الفكرة التي ترتقي إلى مصاف البديهة النظرية والعملية، لكنها الأكثر رسوخا في ظاهر البشر وبواطنهم بسبب بقائهم ما دون العقل وحقيقة الأدب.

 

ا. د. ميثم الجنابي

***

[1]  الجاحظ. رسالة في النبل والتنبل وذم الكبر، منشورة في مجلة Arabica/ Vol. XIV, October, 1967  تحقيق ونشر ج. بيلات،ص283.

[2]  الجاحظ. رسالة في النبل والتنبل وذم الكبر، ص282

[3]  الجاحظ. رسالة في النبل والتنبل وذم الكبر، ص281.

[4]  الجاحظ. رسالة في النبل والتنبل وذم الكبر، ص281.

[5]  الجاحظ. رسالة في النبل والتنبل وذم الكبر، ص280.

[6]  الجاحظ. رسالة في النبل والتنبل وذم الكبر، ص274.

[7]  الجاحظ. رسالة في النبل والتنبل وذم الكبر، ص247.

[8]    الجاحظ. رسالة في النبل والتنبل وذم الكبر، ص270.

[9]  الجاحظ. رسالة في النبل والتنبل وذم الكبر، ص274-275.

[10]  الجاحظ. رسالة في النبل والتنبل وذم الكبر، ص279.

[11]  الجاحظ. رسالة في النبل والتنبل وذم الكبر، ص276.

[12]  الجاحظ. رسالة في النبل والتنبل وذم الكبر، ص276.

[13]  الجاحظ. رسالة في النبل والتنبل وذم الكبر، ص276.

[14]  الجاحظ. رسالة في النبل والتنبل وذم الكبر، ص275.

[15] الجاحظ. رسالة في النبل والتنبل وذم الكبر. ص282.

[16]  الجاحظ. رسالة في النبل والتنبل وذم الكبر، ص278.

[17]  الجاحظ. رسالة في النبل والتنبل وذم الكبر، ص272-273.

[18]   الجاحظ. رسالة في النبل والتنبل وذم الكبر، ص270.

 

في المثقف اليوم