دراسات وبحوث

الجاحظ: مغامرات الروح والجسد الثقافي

ميثم الجنابيللروح مغامراته، وللجسد أيضا، سواء جرى الحديث عن الروح والجسد الفردي أو العام. فكلاهما تعبير خاص ومتميز عما يمكن دعوته بمغامراتهما الثقافية. فالثقافة ونوعيتها وطبيعة مرجعياتها الكبرى هي التي تحدد على الدوام مكانة وقيمة الروح والجسد. فكلما يكون انفتاح مبادئها الجوهرية الكبرى أكبر كلما يكون انفتاح الروح في مغامرات الحرية أبعد وأوسع. وينطبق هذا على الجسد أيضا. وهذه بدورها جميعا نتاج الصيرورة التاريخية للأمم وكينونتها الثقافية. والمقصود بذلك، إن المغامرة كانت وما تزال وسوف تبقى جزء من تاريخ الثقافة. ولا تعني المغامرة هنا سوى الانغماس بهموم الكشف والاكتشاف، أي كل ما يندرج في دروب الحرية التي يجري تحسسها وعقلها وتذوقها في مجرى الإبداع ومعاناته. حينذاك تتلاشى قيمة كل ما يتعارض مع معنى الحق والحقيقة. فالحرية هي مفتاح الحق والحقيقة لأنها سعي دائم للاجتهاد. ومن ثم متحررة من كل قيود خارجية أيا كان شكلها ومضمونها. وفي مجراها يتراكم وعي الذات الإنساني وفلسفة النفس الثقافية.

فالنفس التقليدية ترتجف وتنهار أمام أدنى "خروج" على ما تكلّس في نفسيتها ووعيها من قواعد وقيم. من هنا خوفها وكراهيتها للحرية. بينما النفس الثقافية هي الصيغة الأكثر رقيا وسموا في معاناة الفرد بوصفها اكتشافا إنسانيا والسير معه وفيه حتى "النهاية". مع انه لا نهاية هنا سوى ما يتطابق مع معنى المدى الفعلي للحدود الممكنة في التجارب التاريخية الثقافية للأفراد والجماعات والأمم. ذلك يعني، أن لكل تجارب ثقافية خصوصيتها في تاريخ الأمم والحضارات. وتنبع هذه الخصوصية وتلازم كيفية تكوّن وفاعلية المرجعيات الثقافية الكبرى المحدِدة لمفاهيمها وقيمها تجاه النفس والآخرين والطبيعة والكون، باختصار تجاه الوجود ككل.

وللثقافة الإسلامية طابعها الخاص، المرتبط بصيرورة مرجعياتها الفكرية والعقائدية الكبرى، أي كل ما نعثر عليه في تنوع إبداعها التاريخي في مختلف ميادين الحياة. كما أنها ظاهرة مرتبطة بمسار الإسلام التاريخي ومنطقه الثقافي. فللثقافة الإسلامية مسارها الخاص، الذي ابتدأ بنشوء وتطور وهيمنة الإسلام المحمدي أول الأمر، وتوسع مداه اللاحق في مجرى بناء الدولة الإمبراطورية. بينما تراكم منطقه الثقافي من خلال تفاعل وصراع واختلاف قواه الاجتماعية والسياسية. ونعثر على هذه الحالة في اختلاف وتنوع الفِرق والمدارس الفلسفية والكلامية والفقهية وكثير غيرها، والبقاء في نفس الوقت ضمن حيز الثقافة الإسلامية والانتماء إليها. وقد كان لهذه الظاهرة تجسيدها الخاص في تنوع الفِرق الفكرية، التي حقق المعتزلة في ذاتهم أحد أهم وأرقى نماذجها العقلية والإنسانية آنذاك.

فقد تميز المعتزلة ضمن سياق المسار التاريخي للإسلام بخصوصية منطقهم الثقافي فيه. بمعنى انه حققوا بذاتهم وإبداعهم الفكري ومواقفهم النظرية والعملية أحد النماذج الرفيعة والمتميزة لمنطق الإسلام الثقافي. ولعل إبداع الجاحظ هو أحد النماذج المتميزة والخاصة في تيار الاعتزال الذي حقق بدوره ما ادعوه بالمنطق الثقافي للإسلام.

فقد كان الجاحظ فريدا في هذا المجال والإبداع على السواء. فعنده فقط نرى روح المغامرة الحية في اكتشاف معالم وبواطن الروح والجسد بمعناهما الثقافي. ومن ثم التعامل معهما بمعايير الفكرة الإنسانية وفكرة الحرية. الأمر الذي نراه في تتبعه الدقيق والعميق لمختلف جوانب الوجود الإنساني التي كانت آنذاك محصورة ومطمورة تحت ركام وقيود العقائد المزيفة. إذ نعثر في ما كتبه على ملاحظة مختلف أشكال ومستويات النفس الإنسانية. لكنه كان يتعامل معها بمعايير الرؤية الثقافية. بل انه نظر وحدد مواقفه من مختلف عوالم النفس والجسد الإنساني، بل والحياة ككل، ضمن معايير الرؤية الثقافية. من هنا تحول مغامرات الروح والجسد والعقل والضمير عنده إلى تعبير نموذجي عما ادعوه بصيرورة وتكامل النفس الثقافية.

فقد كان الجسد، بمعايير الرؤية الإسلامية التقليدية السائدة آنذاك يتطابق أساسا مع جسد المرأة. فقد كانت وما تزال المرأة محور "العادات" و"العبادات" في الرؤية الإسلامية التقليدية الجافة والميتة والفاقدة لأبسط مقومات الرؤية الإنسانية وقيم الحرية. كما أنها الهاجس الأول والأخير الذي تتهاوى معه وتنحّط حتى فكرة الله والنبي والقرآن وكثير غيرها مما يرتقي في قواعد رؤيتها إلى مصاف "القيمة المقدسة". فهي هاجس العبادة الأول والأخير في الدنيا والآخرة! في الدنيا بهيئة زواج وطلاق ونساء وإماء، وفي الآخرة حور العين! وما بينهما تشنج في المظاهر وتغنج في البواطن، يعكس بقدر واحد الرياء والرذيلة. ولكن بما انها من "نيات" الباطن، من هنا اختفاءها وراء حجاب الرياء الكثيف.

وقد وقف الجاحظ أمام هذه الظاهرة الخربة التي لا طهارة فيها ولا عبادة، باستثناء الشهوة الخفية. من هنا محاولة إخراجها إلى العلن من اجل إزالة الرياء القاتل للروح الإنساني والحرية الفعلية. وفي الوقت نفسه الكشف عن أن كل ما في المرأة جميل بما في ذلك ما يبدو "فحشا" و"فاحشا" في أعين الذكور الغاضبة! ودفع إلى الأمام أحد النماذج الأكثر إثارة بالنسبة لهذا التنوع من الرؤية والمواقف من اجل كشف عورتها في "عورة" النساء. والمقصود بذلك ظاهرة القيان والغواني. وقد تناول مقدمات الفكرة المقلوبة عن المرأة ومن ثم اللغط والظلم الدائر حولها، ووجدها في التحريم والميراث. ولولاهما "لم يكن واحدا أحق بواحدة منه من الآخر"[1]. وواجهها الجاحظ بفكرة تقول، بأن "كل شيء لم يوجد محرما في كتاب الله وسنتّه فمباح مطلق"[2].

لقد كان مضمون هذا الموقف وغايته تؤسس لإمكانية تأويل كبيرة وهائلة ونزوع كبير نحو الحرية حالما يجري النظر إليها ضمن سياق وغاية تفكير الجاحظ العقلاني وتقاليد الاعتزال ككل. فالجاحظ لا يقيم وزنا لمفهوم الاستحسان أو عدم استحسان المواقف من جانب الناس، وذلك لأنه مفهوم لا يمكنه أن يكون مقياسا دقيقا[3]. من هنا موقفه المعارض والناقد لما اسماه بآراء الحشوية في تحريمها حتى النظر إلى المرأة[4]. بنما نراه يقدم الكثير من صورة  "الفحش" التي كان يقوم بها خلفاء بني أمية، التي أسس لها معاوية بن ابي سفيان، دون أن يجري نقدها وإدانتها من جانب الحشوية وأمثالها من "أهل السنّة والجماعة". لقد اباحوا لأهل السلطان كل ما في الإمكان القيام به واعتبروه في حالات عديدة "سنّة"، بينما يجري محاصرة المرء المسلم بقيود تشمل كل ما فيه، بما في ذلك هواجسه! لقد أرادوا "تطهير" المرء من أية مساع قد تثير فيه رغبة السير نحو حرية الروح والجسد، ومن ثم الإبقاء عليه بهذه الحالة بوصفه مسار "السراط المستقيم" تجاه الموت وانتظار المغانم الخيالية "لحور العين".

وبالتالي، فإن تناول الجاحظ لظاهرة القيان والغواني لم يكن معزولا عن نقد ظاهرة الحشوية (السلفية الدينية الجامدة) في موقفها من المرأة. ومن ثم فهو لم يقصد بذلك استفزاز الضمير الخرب للحشوية، بقدر ما كان يسعى لتأسيس الرؤية العقلانية في التعامل مع المرأة بمعايير الرؤية الإنسانية، وتعظيم دورها المبدع في مختلف المجالات والميادين. وليس مصادفة أن يقول، بأن ما تمتلكه القيان من مهارات في الغناء والشعر والمجالسة وكثير غيرها هو إبداع ما دونه إبداع. بحيث تسائل قائلا:"فأي صناعة في الأرض أشرف منها؟"[5]. ودفع هذه الفكرة صوب مداها المنطقي الذاتي، عندما تناول كل ما كان يبدو "محرما" في أعين العقائد الميتة وقيمها المتهرئة بالكذب والرياء، لكي يكشف عن حقيقتها كما هي. بمعنى البحث عن المعنى الحقيقي في الظواهر، وحقيقة المعنى في الموقف منها، بوصفه التزاما عقليا وإنسانيا.

وقد كانت تلك الصفة العامة والمميزة لكل ما كتبه الجاحظ بهذا الصدد. إنها تشير أولا وقبل كل شيء إلى تحرره الداخلي وتأسيسه للنفس الثقافية من خلال تتبع حيثياتها في كل شيء وفعل ومعاناة وإبداع. ومن ثم فإن كل ما يضعه، بغض النظر عن طابعه "الساخر" والهزلي والمضحك، هو جدّ في جدّ. وكتب بهذا الصد يقول، بأنه "لا يمكن وضع الهزل في قالب الجد، فإن ابدلت السخافة بالجزالة انقلب عن جهته". واستشهد بهذا الصدد بفكرة ابي الدرداء القائل:"أني لاستجمُّ نفسي ببعض الباطل مخافة أن احمل عليها من الحق ما يمّلها". وكذلك قول الإمام علي بن ابي طالب:"العلم أكثر من أن يحصى، فخذوا من كل شيء أحسنه". وقد حدد ذلك موقفه المعارض والنقدي لأولئك المتشددين من أهل النسك والتدين الذين يرفضون ولا يقبلون ذكر ما يبدو لهم مقززا من عبارات وكلمات مثل الأير والنيك وما شابه ذلك. واعتبر الجاحظ هذا النوع من الناس ومواقفهم هو نتاج فقدانهم "للمعرفة والكرم والنبل والوقار"، والذي يجري تعويضه "بهذا القدر من التصنّع"[6]. واستشهد الجاحظ هنا بقول الإمام علي بن ابي طالب لقوم دخلوا عليه، بعبارة:"من يَطُلْ أير أبيه ينتطق به". والمقصود بذلك انه من كثرت إخوته اشتد ظهره بهم. بينما ينسب لابن حازم قوله، بانه كان يقيم ذكره ويصعد الُّسلَّم وامرأته متعلقة بذكره حتى يصعد". كم لو ان أيره العروة الوثقى! بينما تساءل ابن اخي ابي الزّناد من عمه:

أنخر عند الجماع؟

يا بني! إذا خلوت فاصنع ما احببت.

يا عم! اتنخر انت؟

يا بني! لو رأيت عمك يجامع لظننت انه لا يؤمن بالله العظيم![7]

في حين كان بعض الصالحين يقولون في دعائهم:"اللهم قوّ ذكري على نكاح ما احللت لي"[8]. وأورد الجاحظ اعداد كبيرة من النكت والنوادر التي حاول من خلالها الكشف عما في الرياء الديني من أثر سلبي وانتهاك لحقيقة الجماع والنيك والمضاجعة من قيمة معنوية وجسدية وأخلاقية. واستشهد بالكثير من الأمثلة "الفاحشة" ذات الصلة بتصورات الناس على مختلف مستوياتها. منها، على سبيل المثال، كيف أن أحد الرجال أراد أن يعلّم رجلا آخرا النيك، بعد أن استفسر منه، وهما في مجلس الفقهاء. لاسيما وأن عنده جارية يريد أن يشبعها. فقدم له المشورة والوصفة التالية:"إذا صرت إلى منزلك فنم على قفاك، واجعل مخدة بين رجليك وركبك ليكون وطاءً لك. ثم أدع الجارية وأقم أيرك وأقعدها عليه، وتحوّل ظهرها إلى وجهك. وأرفع رجليك ومرها أن تأخذ بإبهامك كما يفعل الخطيب على المنبر(!) ومرها تصعد وتنزل عليه، فأنه شي عجيب. فلما صار الرجل إلى بيته فعل ما أمره به. وجعلت الجارية تعلو وتسفل، فقالت: يا مولاي من علمّك هذا النيك؟ قال: فلان المكفوف. فقالت: يا مولاي ردّ الله عليه بصره"[9].

ويروي كذلك قصة المرأة التي طلب يدها للزواج كثيرون فكانت ترفض. لكنها قبلت بزوج، وفي الوقت نفسه كانت تتخوف من عظم أيره، واشترطت عليه أن يدخل ما يكفيها بكفالة أمها. وليلة الزواج كانت أمها هي التي تدخل من أيره جزأ جزأ، والبنت تقول: زيدي. إلى أن ادخله كله جملة. بينما كانت البنت تقول "زيدي". فقالت الأم "لم يعد شيئا". عندها قالت لأمها:"رحم الله أبي، فإنه كان اعرف الناس بك، إذ كان يقول "إذا وقع الشيء في يديك ذهبت البركة منه". قومي عني!

ويورد حادثة طريفة أخرى تتحدث عن ماجنة في المدينة (المنورة) اسمها سلاّمة الخضراء، أخذت مع مخنث وهي تنيكه بكيرنج (عضو اصطناعي). وعندما أمسكوها أوجعوها ضربا، وأخرجوها على جمل، فشاهدها رجل وتسائل ما بها، فأجابته:"بالله اسكت! ما في الدنيا أظلم من الرجال. انتم تنيكوننا الدهر كله، فلما نكناكم مرة واحدة قتلتمونا"!

إن موسوعة الجاحظ حول ما يبدو مجونا، تعكس في الواقع مستوى تطور العلاقات الاجتماعية والانفتاح الفكري والثقافي في أحد أهم وأعقد مظاهره كالموقف من المرأة والفن، وقيمة وأهمية العلاقة الجسدية والوجدانية في وقاع الرجال والنساء. وقد تناول جميع هذه القضايا، التي ما زال اغلبها في العالم العربي والإسلامي، مغلقة أمام انفتاح الروح. بينما فك رتاجها العتيق يحمل في طياته احد المصادر الكبيرة للحرية. ووضع كل هذه المواقف والأحكام ضمن أنساق الرؤية العقلية والعقلانية المميزة للاعتزال. بحيث نراه يجعل من الحرية والاعتدال طرفي المعادلة الأرقى للوجود الإنساني. فالحرية بالنسبة له اعتدال، والاعتدال حرية بما في ذلك في الموقف من المرأة ومتطلبات الروح والجسد. وكتب بهذا الصدد قائلا: "فكل شيء خرج عن الحدّ في خُلُق، حتى في الدين والحكمة، اللذين هما أفضل الأمور، فهو قبيح"[10]. وفي الحالة المعنية تتضمن هذه الفكرة وتؤسس للدفاع اولا وقبل كل شيء عن الإبداع الإنساني الحر بشكل عام ودور النساء فيه بشكل خاص.

 

ا. د. ميثم الجنابي

...........................

 [1] الجاحظ: القيان، ضمن مجموعة (رسائل الجاحظ)، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، 1964،ج2، ص147.

[2]  الجاحظ: القيان، ج2، ص147.

[3]  الجاحظ: القيان، ج2، ص147.

[4]  الجاحظ: القيان، ج2، ص154.

[5]  الجاحظ: القيان، ج2، ص180.

[6]  الجاحظ: مفاخرة الجواري والغلمان، ضمن مجموعة (رسائل الجاحظ)، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، 1964،ج2، ص92.

[7]  الجاحظ: مفاخرة الجواري والغلمان، ج2، ص94.

[8]  الجاحظ: مفاخرة الجواري والغلمان، ج2، ص95.

[9]  الجاحظ: مفاخرة الجواري والغلمان، ج2، ص131-132.

[10]  الجاحظ: القيان، ج2، ص162.

 

في المثقف اليوم