دراسات وبحوث

محمد وتحدي الوجود التاريخي للعرب (1-2)

ميثم الجنابي"النبي محمد هو التحقيق الأصيل للحقائق الإنسانية الكبرى والحق الأخلاقي"

 إن بداية النبوة المحمدية واستمرارها أعمق وأعرق من أن يجري ربطها بحالة أو ظرف أو حادثة عادة ما يجري وضعها في بداية النبوة، أو يجري النظر إليها عن أنها بداية الإسلام. فقد كان ظهور الإسلام نتاجا لإسلام محمد نفسه. وهو إسلام تشكلت ملامحه التأملية الأولى في مجرى نمو شخصيته، وبالأخص في مجرى رحلاته إلى العراق والشام، الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول، بأن البذور الأولية لإسلام محمد قد زرعها العراق والشام في أعماقه. فقد كانت مكة عصية على استيعاب وقبول الفكرة التي سيجاهر بها محمد بعد عقود من الزمن، اي حالما يبلغ الأربعين من العمر، بحيث جعلوا منه "عمر النبوة"، أي بلوغ الكمال بالنسبة لأولئك الرجال الذين قدر لهم لعب دور كبير في حياة الروح والتاريخ الفعلي للأمم.

فالفكرة الإسلامية هي فكرة "الهلال الخصيب"، على الأقل من حيث استعدادها للكمال الروحي الوحداني. وليس مصادفة أن يحصل الإسلام على بعده العالمي والثقافي بفضل المشرق (العربي). فقد كان تعرّب المشرق تعربا ثقافيا، وذلك لأنه استطاع بفعل تاريخه الثقافي العريق ان يتحول إلى كينونة ثقافية على عكس شبه الجزيرة العربية، التي كانت وما تزال بنية إثنية قبلية مغلقة. الأمر الذي أبقى على الإسلام فيها إسلاما بدويا، يصعب ان تتبلور فيه حالة العقل النظري.

ومع ذلك فإن الوعي التاريخي المحكوم بقيمة الزمن التاريخي يربط بداية الإسلام ببداية الوحي، أي الحالة التي أوحى إليه ملكه ومالك الوساطة الحية لتحويل المعاناة الفردية الصادقة والخالصة إلى آيات قابلة للقراءة في غار حراء، أي كل ما هو متعارف عليه عما حدث له في شهر رمضان، حيث ظهر له "جبريل" بكتاب فقال له:

- اقرأ!

- ما اقرأ؟

قال فختني به (خنقني) حتى ظننت انه الموت ثم أرسلني فقال:

- اقرأ!

وكرر طلبه أربع مرات. وفي الرابعة قال جبريل "اقرأ بسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علّم الإنسان بالقلم. علّم الإنسان ما لم يعلم". إننا نعثر في هذا الوحي على البذرة الأولية واللحظة التأسيسية للفكرة الجديدة النابعة من معاناة ذاتية عميقة لازمته منذ زمن مبكّر عن علاقة الإنسان بالله وعبرها بالوجود من خلال قراءته بمعايير العلم والمعرفة. لقد كانت بداية الدعوة قراءة وقلم (كتابة) وعلم، اي أولوية الروح، شأن كل حركة محكومة بالروح ومتطلباته. وقد كانت الصيغة الأولية والجوهرية التي نبعت من أعماقه الصافية في غار حراء، أي في دهليز الصمت المدوي للتأمل الخالص، تقوم في تعلم قراءة الوجود وتجارب الإنسان والأمم. اذ لم يحميها ولن يحميها وينقلها إلى الأجيال اللاحقة غير القلم وما يسطّره من الأبجدية الثقافية للعلم والمعارف.

وما قبل ذلك لم يعرف محمد النبوة على حقيقتها. لقد كان لقاء حراء النداء العقلي الأول للوجدان المتراكم في مجرى عقود من الزمن في تأمل ما حوله، أي تأمل إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي لعرب الجزيرة. وبعدها أخذت تداعب خياله، كما هو جلي في حالة انقطاع الوحي إلى ان يظهر من جديد ليناديه بقوة أكبر بحيث تجعل كل ما فيه يرتجف، مع ما أدى به لاحقا إلى النهوض بعد ان تدّثر ظاهريا بالغطاء وباطنيا بمعطف التحدي والإرادة الذي ارتداه حتى مواراته الأرض.

أما القصة المروية عن مخاطبة خديجة لأخيها ورقة بن نوفل لفهم ما جرى، باعتباره احد النصارى العارفين بشؤون النبوة استنادا إلى تقاليد النصرانية واليهودية، فإننا نعثر فيها على اختلاط الواقع بالاختلاق. فقد أجابها ورقة بن نوفل، حسب المصادر المؤرخة لهذه الأحداث، بعبارة: "قدوس قدوس! والذي نفس ورقة بيده لأن كنت صدقتيني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى. وانه لنبي هذه الأمة. فقولي له: فليثبت!". وتحتمل هذه الرواية الصدق والكذب بقدر واحد، وذلك بسبب عدم تجانس ما فيها وسلوك نوفل بن ورقة نفسه. فعبارة الناموس الأكبر فلسفية إغريقية، ولو كان هذا الكلام صحيحا لكان هو أول من أسلم. ثم ماذا تعني عبارة "انه نبي لهذه الأمة". بمعنى طابعه القومي العربي؟ أو الصيغة الأولية والعادية لظهور نبي عربي بين العرب، وليس نبي من خارجهم. وتحتمل جميع هذه الفرضيات على قدر من الواقعية، لكنها لا تغير وقد لا تعني شيئا على الإطلاق بالنسبة لفهم وتحديد ماهية النبوة المحمدية وحقيقتها. لكنها تشير إلى حقيقة جلية، وهي أن محمدا كان يعرف الأنبياء ولا يعرف النبوة. وهي الصيغة الواقعية والتلقائية لحقيقة النبوة المحمدية بوصفها معاناة روحية وعقلية كبرى وعنيفة وضعته أمام تحديات هائلة تجاه إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للعرب آنذاك. 

لقد كان محمد يعرف الأنبياء، أي أولئك الذين "يرتبطون بالسماء" بوصفه طريق العودة للأرض. لكنه لم يعرف النبوة. والفرق بينهما جوهري وهائل. الأولى سماع وحكاية، والثانية إلهام واستلهام للعلم والعمل. فقد أدهشه حتى الهلع صوت ملاكه الغامض، أي ملاك الروح النابع من همومه الذاتية العميقة في تأمل الوجود. مما أنتج بدوره مهمة القراءة الجديدة للوجود بمعايير تتوحد فيها الرؤية الواضحة والجلية ومغامرات المستقبل، أو ما سيطلق عيها القرآن كلمة الغيب، أي كل ما يختبئ وراء الأفق ويظهر من جديد في الدورة الأبدية للحياة نفسها، بوصفها تحديا وكفاحا تجاه إشكاليات الحاضر والمستقبل، والطبيعة وما وراءها.

 إن معرفة محمد بالأنبياء والنبوة مبنية على السماع، أي تستمد تصوراتها مما تراكم في التقاليد العربية القديمة. فقد كانت العرب على معرفة ودراية كبيرة بالأنبياء والكهنة والعرافة وغيرهم. بمعنى أن تجاربهم التاريخية الروحية والفكرية بهذا الصدد تتسم بقدر كبير من الدراية الواقعية والنقدية. وليس بقاء الوثنية العربية، التي لا تخلو من روح وأرواح، واستمرار هيمنتها، سوى أحد الأدلة الدامغة بعدم قناعتهم بفكرة النبوة "السماوية" وما شابه ذلك. لقد كانت هذه التصورات تبدو لهم مجرد خرافات لا غير. وليس مصادفة ألا يقتنع محمد نفسه بنبوته في أول الامر، كما نعثر عليه في الخبر المشهور عن طلب محمد من خديجة ان تستفسر من ورقة بن نوفل، أخيها، الحنفي المتنصر. والسبب القائم وراء ذلك هو ضعف انتشار تقاليد الأنبياء بينهم، كما هو الحال عند بني إسرائيل الذين نعثر عندهم في كل حي ومزبلة على أربعة أنبياء! بينما قطعت النصرانية فكرة النبوة والأنبياء، انطلاقا من ان الله اختتمها بنفسه! إذ لم تكن الأولى قادرة على تثبيت اليقين، بينما تبدو الثانية غير منطقية وغير واقعية بحد ذاتها بالنسبة لذهنية العرب الواقعية الخشنة والشكوكية آنذاك. وعموما، إن الأديان جميعا لا تقتنع إلا بما عندها وفيها، وذلك لأنها تلقين واستسلام. وسوف يجري غرس هذه الشجرة الميتة في أرض الإسلام، وسوف تنتج أيضا ثمارها الميتة بهيئة تقاليد جازمة وحازمة تجاه كل ما يتعارض مع وعيها من تلقين سيء وتقنين أسوء. وهذه بدورها لم تكن معزولة عن اثر التقاليد الوثنية العربية وجمودها المتعجرف. فقد أنتجت الجزيرة العربية منذ بداية الإسلام النماذج الأولية لكل الأنماط الكلاسيكية للتقليد والإتباع وتقديس النصوص، أو ما يسمى بأهل الرواية، على خلاف أهل الدراية والعقل التي نشأت في العراق. من هنا ضعف أو اضمحلال الفكرة النقدية العقلانية فيما يخص إشكاليات عوالم الطبيعة والماوراطبيعة، والتفكير النظري في الجزيرة.

كان تفكير محمد وذهنيته في البداية يسيران ضمن هذا السياق، أو إنهما لا يخلون من أثره. فقد عاش محمد قبل النبوة أربعة عقود من الزمن في "الجاهلية" وتربى على قيمها ومفاهيمها. لكنه كان يعاني من خلل مضامينها الروحية والمستقبلية. وبالتالي، فإن ظهور النبوة من أعماقه في أعماق حراء، تكشف من الناحية البيانية الغور العميق للخلوة والابتعاد عن عالم الجاهلية، التي أثمرت نبعها الأول في إرواء مساعيه الشخصية التي أثمرت لاحقا بيقين النبوة والرسالة. فالنبوة الأولى هي كالطفولة الأولى كتلة وجدانية من البراءة والبراعة في كل شيء. بينما الرسالة هي وعي للبراءة، وبراعة في التحدي تجاه كل شيء. اذ نعثر عليهما في استفسار خديجة من أخيها ورقة عن ماهية ما جرى لمحمد، وخطابها لمحمد بعبارة "اثبت وأبشر! فو الله انه ملك وما هذا بشيطان". كما أنها تسمي جبريل في خطابها لمحمد بكلمة "صاحبك". وهي الصيغة التي كانت العرب تطلقها على الكهانة والعرافة. ذلك يعني إنهم كانوا يعرفون الله والملاك والشيطان. لكن الله المحمدي هو ليس إله الجاهلية.

فقد ارتبط الإله المحمدي بفكرة النبوة المحمدية أولا، وفكرتها التوحيدية الخالصة ثانيا، وانتصارها ثالثا. فهو ثالوث واقعي وتاريخي لا علاقة له باللاهوت أيا كان شكله ومحتواه. الأمر الذي أعطى للنبوة المحمدية أبعادها الخاصة، بوصفها تحديا نوعيا لتقاليد الوثنية بشكل عام والعربية بشكل خاص، أي كل ما سيحصل على معناه الدقيق في وصف "الجاهلية". وليس مصادفة أن تعكس ما وضعته التقاليد الإسلامية اللاحقة في تصوير النبوة المحمدية سواء بمعايير الفكرة الدينية والأسطورية أو غيرها، بأقدار ونوعيات متباينة الطابع التاريخي للظاهرة، أي تصويرها على أنها نبوة تاريخية من حيث الشكل، والمحتوى، واللغة، والعبارة، والصورة، والفكرة أيضاً. إذ كل ما فيها من توكيد على صحتها وغايتها كان يستمد شكله ومحتواه من مجرى الصراع ضد الوثنية. وتكفي الإشارة هنا إلى "أسباب النزول" لمعرفة حيثيات هذه الظاهرة. بمعنى إن كل آيات القرآن المرتبطة بالنبوة المحمدية هي انعكاس أما لتحدي الوثنية أو مواجهة الجاهلية، وأما لتأسيس معناها وحقيقتها بالنسبة للإنسان والجماعة والأمة، وأما لغايتها العملية والمستقبلية بوصفها أسلوبا ونموذجا لبلوغ الحق والحقيقة.

 كان اليهود، على سبيل المثال، يهددون غيرهم في جزيرة العرب من أن الله سيبعث نبيا يخلّصهم ويخلّص غيرهم من الظلم والحيف ويبسط سيطرته على من حوله. وقد وجد محمد في ذاته بعد الشعور بالنبوة وإدراك مهماتها الأولية وغاياتها الكبرى، ذلك النبي المقصود. وقد صورته آيات القرآن العديدة بعبارة "مصدّق لما معهم" أو "بين يديهم"، أي مصدّق للفكرة المذكورة أعلاه. وتصور إحدى الآيات ذلك بوضوح عن أن ما يأتي به "من عند الله مصدّق لما معهم، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به".

فقد كانت تلك فترة أو زمن النبوة والأنبياء، الذي حوّله محمد إلى تاريخ الإسلام. فقد كانت الجزيرة مليئة آنذاك بالأنبياء والكهنة والعرافين. الأمر الذي يشير إلى تراكم الشحنة الوجدانية التي تتحسس الأفق المسدود لما هو موجود على الأرض، ومن ثم السعي للخروج منه إلى عالم السماء في مجتمع لا يتسم بالتعقيد، ولكنه يتسم بخراب معنوي وأخلاقي كبير. وعادة ما تظهر في هذه الحالات التاريخية "قوة المستقبل" الجسدية أو الروحية أو توليفهما. وقد كانت النبوة المحمدية في بدايتها قوة المستقبل الروحي، بحيث يمكننا القول، بأن الإسلام "المكي" هو إسلام الروح، بينما الإسلام "المديني" هو إسلام الجسد. ولكن قبل ان يتخذ هذا التمايز طريقه بما في ذلك في تقسيم السور والآيات القرآنية، كان لابد للنبوة أن تقطع هذا المسار بتحولها من نبوة الروح إلى نبوة الجسد. بمعنى الصعود للسماء والهبوط منها إلى الأرض. وبأثرها تآلفت وحدة الروح والجسد، أو الدين والدنيا في "رسالة" تتعامل مع إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي بمعايير الفكرة الوحدانية الجديدة. لكنهما (المكي والمدني) بقيا مع ذلك في ترابط أو وحدة واحدة بالنسبة لتاريخ النبوة المحمدية بوصفه وحيا ذاتيا، أي وعيا فرديا خالصا لما يجري من حيث التحدي والإرادة والعقل والبديل.

 إن هذا التحول للنبوة من الروح إلى الجسد يتمثل مضمون الانتقال التاريخي من المرحلة الثقافية الدينية إلى المرحلة الدينية السياسية. فهو التحول الذي أوقف الامتداد الزمني لفكرة الوحدانية، كما نعثر عليه في الحنيفية، عبر تحويلها من تأمل فردي وعروج صوب السماء الصافية للروح إلى عالم الصخب الأرضي وإشكالاته، أي تحويل الزمن إلى تاريخ، والذي نعثر على صيغته الرمزية في قصة سلمان الفارسي. اذ نعثر فيها على نموذج البحث عن نبي ينقله من سماء الروح إلى أرض التحدي الشائك للإرادة والعقل. ففي قصته نعثر على البحث عن إنسان - فكرة لكي يشاركها الكفاح من أجل الحق، بوصفه طريق الأمان والطمأنينة الصافية للروح والجسد. فقد اعتنق سلمان الفارسي المجوسية (ديانة قومية) ثم النصرانية (عالمية) لكنه ظل قلقا في إيمانه. انه يقطع مسافات وأحوال غاية في التعقيد آنذاك من اجل الأمان والإيمان الروحي العملي. بعبارة أخرى، إننا نعثر في هذه القصة الواقعية والرمزية أيضا على المغزى التاريخي والفكري والروحي القائل، بأن الإسلام المحمدي هو مستودع الإيمان والأمان الروحي، ومن ثم خاتمة ما يصل إليه الإنسان المخلص في إخلاصه. أما عدم إيمان بعض من آمن بالله الواحد بنبوة محمد (من بين رجال الحنيفية العربية) فإنه يدل آنذاك على تعاظم الفكرة المجردة الوحدانية أكثر مما له علاقة بفكرة النبوة.

كان ظهور النبوة المحمدية بوصفها دعوة للتوحيد الحنيفي، الصيغة التاريخية لتقاليد الفكرة وشخصياتها العربية

1 . وبالتالي، فقد كانت النبوة المحمدية واحدة من بين نبوات كثر آنذاك. ذلك يعني أنها ظهرت ضمن حالة روحية تعكس حالة انغلاق الأفق التاريخي للعرب آنذاك. ومن ثم كان البحث عن قوة ما فوق طبيعية هو الأسلوب الوحيد للرجوع إلى الطبيعة أو الواقع. فقد بلغت التجزئة ذروتها وتكلسها، الأمر الذي جعل من الصعب توحيد العرب. فلا البنية الاجتماعية ولا الاقتصادية ولا الثقافية ولا الفكرية ولا الروحية تحتوي على الحد الأدنى للتوحيد. بينما كان اغلب الأنبياء الذين انتشر ظهورهم آنذاك أمثال مسيلمة وسجاح وطلحة والأسود العنسي وكثير غيرهم يمثلون ويتمثلون مساعي الوحدة المجزئة، أي القبلية والمناطقية والفئوية. لقد كان هؤلاء الأنبياء كهنة التقاليد المتكررة، أي غير القادرة على الخروج من الطريق المسدود للعرب آنذاك.

كانت المهمة الفكرية والعملية للخروج من دهاليز الانحطاط والانغلاق ليس بالدوران فيها بل عبر كسرها ككل. اذ لا طريق فيها ولا مخرج. وهي المهمة التاريخية التي أنجزها محمد عبر تحويل نبوته إلى رسالة كونية وأبدية، بمعنى الخروج من المأزق العربي ككل إلى رحاب غير محدودة بالإثنية والجغرافيا المحلية، وتذليل الزمن الوثني بتاريخ الخلق الإلهي. بعبارة أخرى، لقد كانت مأثرته التاريخية بهذا الصدد تقوم في تحديه الشامل للوجود التاريخي للعرب آنذاك بنبوة تتمثل حقيقة ومعنى "الرسالة السماوية" الهادفة للتوحيد الخالص لله الواحد الأحد. لقد جمع محمد بين النبوة والرسالة عبر قراءة جديدة مهمتها تحدي الواقع بكل ما فيه بفكرة تحتوي في أعماقها على كل شيء.

وإلا فقد عرف تاريخ العرب ما قبل محمد كلمة النبي والرسول، ومن ثم لا معنى لقول من قال بأن أسم الرسول من أصول آرامية سريانية أو مسيحية (بالإغريقي ابوستولوس). فهذه مجرد خزعبلات لغوية لا غير، أي أنها اقرب إلى اللغو اللاهوتي منه إلى اللغو الثقافي. فالقرآن لم يستعمل كلمة رسول بالمعنى الوارد في (العهد الجديد)، كما أن القرآن يتكلم عن رسل المسيح باستعمال كلمة الْحَوَارِيُّونَ، التي تعادل معنى الصحابة، وليس معنى الصيغة الأمهرية لها. فكلمة حواري من حاور ويحاور وحوار.

 وقد أشار الهمداني في كتاب (الإكليل) إلى وجود عبارة رسول الله على قبور الأنبياء القدماء، مثل "أنا الحارث بن عمر. رسول رسول الله شعيب إلى مدين"، و"أنا حنظلة بن صفوان. رسول الله إلى حِمْيَر"، أي إلى عرب اليمن. كما كانت كلمة الرسول موجودة عند أهل حران بمعنى المبّشر والمنقذ. وتختلف كلمة الرسول بالمعنى الإسلامي عما ينسب إلى النبي ماني من قوله، بأنه رسول الله، في حين كان محمد يقول انه رسول للعالمين، ورسول أمين ومبشر ونذير وما إلى ذاك من وظائف تكشف عن وحدة الأبعاد الدينية والسياسية (العملية) التي سيجرى لاحقا تتويجها بفكرة خاتم الأنبياء. وقد سبق للنبي ماني أن قال بها، كما ينقل البيروني، لكن الفرق جلي بين الإعلان عن الفكرة وتحقيقها. فهي لم تتجسد في التاريخ الفعلي إلا في شخصية محمد. اذ لم يظهر بعده دين عالمي. وليس لهذه الخاتمة علاقة بالفكرة الدينية والدين واللاهوت، بقدر ما لها علاقة في بسط الديانة الجديدة في كل ما لم يخضع لأثر الديانات القومية والعالمية على النطاق "العالمي آنذاك"، أي نقل "العالم الإسلامي" إلى مرحلة تاريخية ثقافية جديدة لها عقيدتها الشاملة في حل إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي على مستوى الفرد والجماعة والأمة والدولة والثقافة.

 لقد دمج محمد النبوة بالرسالة، أي الفكرة الدينية بالفكرة السياسية. وهو ما لم يعرفه تاريخ النبوة والنبوات في الجزيرة. كما لم تعرف الجزيرة أيضا أهمية الفكرة السياسية. بمعنى جمعهما في كل واحد هو الذي أدى إلى الانتصار الأعظم في تاريخ العرب بنقلهم من أطوار المرحلة الثقافية الدينية إلى المرحلة الدينية السياسية.

إن بلوغ النبوة المحمدية درجة الرسالة أدت إلى رفع درجات التحدي التاريخي إلى ذروتها القصوى. فإذا كانت النبوة شيئا معهودا لحد ما في جزيرة العرب، وكونها جزء من تقاليدها الروحية والوثنية، بمعنى تعايش النبوة والكهانة والعرافة بوصفها أشكال مختلفة للوساطة بين الله والإنسان، فإن نبوة الرسالة كانت تتضمن بالضرورة صيغة التشريع، أي أن الرسالة الموجهة للعالمين وباسم رب العالمين، حسب الرؤية المحمدية، تحتوي على تشريع يمسّ عالم الإنسان الطبيعي والماوراطبيعي. الأمر الذي وضعه بالضرورة في مواجهة الوثنية العربية ككل وعلى كافة المستويات والجوانب. بمعنى مواجهة ونقض التقاليد الوثنية في الموقف من الله، والآلهة، والملائكة، والجن والشياطين، والحياة والموت، وما بعد الموت، والقيم الاجتماعية والأخلاقية وغيرها. بمعنى مواجهة وتذليل مضمون وأشكال الوثنية، ومن ثم الاستناد إلى الشريعة وليس إلى تقاليد القبيلة في فكرة الحق والقانون، وأولوية العقيدة على كل انتماء آخر، وأخيرا تأسيس وإرساء الفكرة السياسية عبر فكرة الجماعة والأمة.

ومرّت هذه العملية المعقدة للتحدي، التي لازمت حياة محمد حتى النهاية، بثلاث مراحل أو تحديات كبرى. الأولى وهي تحدي النفس؛ والثانية وهي تدقيق وتحقيق الفكرة الوحدانية؛ والثالثة وهي التحدي الذي بلغ ذروته في الفكرة الدينية السياسية عن أولوية وجوهرية الجماعة والأمة. 

فقد جرى مسار التحدي الأول (تحدي النفس) من خلال فكرة النبوة ذاتها، ومن خلال التحرر التدريجي ثم القطيعة الشاملة مع تقاليد الحنيفية في الجزيرة. وكلاهما كانا يتداخلان ويكمل أحدهما الآخر.

فتحدي النفس بفكرة النبوة تمثل نفسية وذهنية النقد المستتر والعلني لتقاليد الوثنية العربية، والابتعاد التدريجي عنها، ثم مقاطعتها التي بلغت ذروتها الأولى في الاقتناع الذاتي بنبوته. إذ كان الإعلان والجهر بنبوته يحتوي على يقين تام بصحة الفكرة التي يدعو إليها، أي فكرة التوحيد الخالص للإله الواحد ونبذ تعدد الآلهة بوصفه رديفا للوثنية. فقد توصل محمد، بأثر تأمله الطويل والعميق إلى فكرة جلية تقول، بأن تعدد الآلهة لا يصنع وحدة ولا يقينا. الأمر الذي يترتب عليه ديمومة الخلاف والصراع وانعدام وحدة القيم والقواعد الملزمة للجميع، مع ما يترتب عليه من ضياع للحق والحقوق والحقيقة. فإذا كانت بداية التحدي الأول والنقد العلني للوثنية مبنية على فكرة وموقف يقولان، بأن الأوثان والأصنام التي يعبدها العرب لا تضر ولا تنفع، فإنه سيقرر لاحقا، بأنها مجلبة للضرر. بعبارة أخرى، إن الأصنام ليست حجارة لا تضر ولا تنفع، بل نمط حياة ورؤية وعقيدة وقيم. فالحجارة بحد ذاتها على الدوام تضر وتنفع عندما تكون في محلها أو غيره. فحجارة الطريق ليست كحجارة على قارعة الطريق. أما حجارة الأوثان فهي رمز قوته بما فيه. فأوثان جوبيتر الرومية ليست كأوثان قبائل بدائية. فالأولى تعكس قوة الدولة والإمبراطورية والإرادة، بينما الثانية تحشر أتباعها في انغلاق مزدوج. وعلى العموم يمكن القول، بأن الأثر الأكبر للأوثان يقوم في قدرتها على تجزئة الإرادة ونثر الشلل في عضلات ومفاصل العلم والعمل. فالوثنية يمكنها صناعة الدولة والحضارة والوحدة والإمبراطورية، عندما تكون جزء من صيرورة الدولة والثقافة المرافقة للمرحلة الثقافية الدينية، بينما تفقد قيمتها وتتحول إلى أحجار معرقلة لمسيرة الروح والجسد في حالة الانتقال إلى المرحلة الدينية السياسية. وهي الحالة التي واجهها محمد في مجرى انتقال الدعوة النبوية للإسلام إلى إسلام الشريعة والمرسلة، التي شكلت فكرة الوحدة والتوحيد والوحدانية باطنها العقائدي والروحي والعملي. فقد تماهت الوحدة في الجزيرة مع المعشر القبلي. أما التراكم الفعلي لعناصر الوحدة فقد كان يجري بصورة بطيئة ومتوازية مع التجزئة القبلية، بينما كان التوحيد الفعلي يفترض وجود آلية ومرجعية من نوع آخر. وهو السرّ الذي يفسر القبول النسبي والجزئي باليهودية والنصرانية بين العرب قبل الإسلام. إذ جرت محاربة الوثنية عبرهما، من خلال نزع قدسية شعائرها واستبدالها بأخرى. أنها غزوة الروح، بمعنى الخروج إلى عالم أوسع وأعمق وأكثر تجريدا، بحيث تصبح معها فكرة خلق الله للإنسان والكون معقولة ومقبولة.

واحتوت هذه الفكرة على أبعاد نافية للفكرة الوثنية، ومن ثم اعتبار الوثنية في أفضل أحوالها مجرد أصنام وأوهام مخلوطة بقيم ومفاهيم واقعية أيضا. بمعنى أنها قادرة على صنع قوة الجسد والروح الأخلاقي أيضا وذلك لأنها تنزع عقيدة الثواب والعقاب الجسدي ما بعد الموت، لكنها غير قادرة على الديمومة ما لم تستنفذ طاقتها الدينية. وليس مصادفة أن يجري نفيها بالفكرة الدينية. فقد كان القضاء على الوثنية مجرد مرحلة أولية تلازم بالضرورة انتصار الفكرة أو العقيدة  أو الدين الجديد. هكذا جرت في كل مكان وزمان. ففي جزيرة العرب قبل الإسلام، أدى انتشار اليهودية في اليمن إلى هدم "بيت رئام" الوثني، رغم أنه كان يعني "بيت الرحمة". بينما سيقوض الإسلام لاحقا كل بقايا الكعبات العديدة مثل ذو الخلصة (الكعبة اليمانية) التابعة لقبائل خثعم وبجيلة ودوس، وكعبة أياد (شداد) الخاصة بقبائل أياد2 ، وذو الكعبات التابعة لبكر وتغلب، و"سقام" وهو بيت كان للعزى وكانوا يضاهون به الكعبة في التعظيم والإجلال، وبيت الربة (اللات) التابع لثقيف، إضافة إلى ما كان يقع خارج الجزيرة مثل كعبة بيت الأقيصر، الواقعة في مشارف الشام، التي كانت تقصدها قبائل قضاعة ولخم وجذام وعاملة، وغيرها من الكعبات، وبالمقابل يبقي على كعبة مكة باعتبارها قبلة الإسلام وبيت الله الحرام.

جعل محمد من محاربة الوثنية الأسلوب العام لنفي كل أشكالها ومظاهرها الفكرية الروحية والعملية، كما هو جلي في محاربة الكهانة والعرافة، والنسيئة، وتقسيم الثروة بين الآلهة والبشر، ومختلف أشكال العبادات القبلية، باستثناء "العبادات العامة"، أي تلك التي كانت تحتوي على عناصر التوحيد الاجتماعي والسياسي والروحي بعد دمجها في منظومة العبادات الإسلامية كالصلاة والحج وغيرها. وعموما تنوعت وتغيرت وتبدلت في مجرى تحدي النبي محمد لمعالم الوثنية، أساليب صراعه العملي معها. لهذا لم توجد صيغة واحد جامعة لموقف الإسلام من التقاليد الوثنية. والسبب يكمن في أن الوثنية بالنسبة للإسلام كانت تتطابق مع تقاليد "الجاهلية" أكثر مما مع تقاليد عبادة الأوثان والأصنام. ولعل موقف النبي محمد من تقاليد العرب الأخلاقية القائل، بأن "خيركم في الإسلام خيركم في الجاهلية، "وخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا"، و"الناس معادن، خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا"، تعكس رؤية محمد الواقعية والعميقة لقيمة التقاليد بوصفها تجربة حياتية ومن ثم تحتوي على متناقضات الوجود. وضمن هذا السياق يصبح الإسلام الوريث الجديد للتقاليد الوثنية بعد إعادة دمجها في العقيدة النظرية والعملية للإسلام المحمدي، أي أن قبول هذه التقاليد كان مرتبطا بشخصية محمد وبما يضمن استمرار الموقف من الفضيلة والرذيلة بوصفها قيما مجردة، ودمج البعض منها في عقيدة النبي محمد، بوصفها جزء من مهمة عملية. لكنها كانت في الاطار العام محكوم بفكرته عن التوحيد. وهذه بدورها كانت تسعى لتحديد وتقييد القيم والمفاهيم والسلوك الظاهر والباطن بالفكرة الوحدانية، بوصفها مصدر ومعين الحق والحقيقة واليقين التام. فإذا كانت العرب تحترم الكهانة والعرافة، فإن محمد وقف بالضد من إطلاقها عليه من أجل أن يحدّد ويقّيد الخلاف الجوهري بينهما وبين نبوته، انطلاقا من أن الفرق بينهما هو الفرق بين الحدس الشخصي والشعوذة من جهة، وبين الوحي واليقين الحق من جهة أخرى. إذ لا عرافة ولا كهانة عند محمد، مع أن ما يقوله في الشكل يتشابه معهما، والاستثناء الوحيد هو ما ورد في سورة (الروم).

إن الفرق الجوهري بين نبوته وبين الكهانة هو الفرق بين الطبيعي والماوراطبيعي في تأمل وفهم الوجود. فالعرب كانت تقول عن سقوط نجم "مات ملك"، أو "ظهر ملك"، أو "ولد مولود" أو "مات مولود". بعبارة أخرى، أنها كانت تربط حياة وموت النجوم بحياة وموت الناس. بينما أعطى لها محمد بعدا ميتافيزيقيا. فسقوط النجوم هو انعكاس لأمر الهي ينتقل منه إلى حملة العرش ثم أسفل حتى السماوات الدنيا. فالشياطين تسترق السمع لهذا الخبر أو ذاك فتنقله إلى الكهان. وبالتالي، فإن الكهانة تستند إلى طرق خاصة بها للاتصال بالله. الكهانة شيطانية، بينما النبوة رحمانية. والكهان يرتبطون بالله ولكن عبر وسيط آخر (شيطاني)، بينما تتصل النبوة بالله عبر الوحي (ملائكة الرحمن). فالكهانة تستمد مقوماتها من تقاليد الوثنية التي تعتبر الشيطان قوة مبدعة للشعراء والكهان والعرافة، بينما أعطى محمد لهذه العلاقة بعدا يتسم بالمغامرة والتخريب المريب للحس والعقل والحدس. الأمر الذي يفسر الموقف المعارض للشعر والشعراء، ليس فقط من اجل إبراز خصوصية الآيات القرآنية واختلافها عن بيوت الشعر والشعراء، بل ولمصادرهما الذاتية. فالشعر من دغدغة الشيطان، بينما الآيات من وحي الرحمن. لهذا نرى محمد لاحقا يدفع فكرة وشخصية الشيطان إلى أقصى درجاتها بمعايير الفكرة الوحدانية بحيث جعل منه مصدر الخطأ والخطيئة في المواقف والأحكام. (يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

..............................

1-  وبالتالي لا علاقة لها على الإطلاق بالفكرة الشائعة الانتشار (بالأخص بين المستشرقين والمستعربين) من أن النبي محمد في مجرى احتكاكه باليهود والنصارى وتعرفه على بعض ما في كتبهم عن النبي الموعود هو الذي رسّخ عنده اعتقاد نبوته ويقينه بها. إذ كل ما في الآيات "المكية" يؤسس لفكرة النبوة والأهم من ذلك فكرة الوحدانية الجديدة. أما محاولة البعض تفسير النبوة بمعايير علم النفس، انطلاقا من أن النبوة أقرب إلى الجنون والنبي شبه مجنون! فهذا ليس اكتشافا، بل أن أهل قريش اعتقدوا بأنه قد يكون مريضا لشيطان يلعب فيه، ومن ثم فهم مستعدون لتقديم المال من اجل علاجه! وينطبق هذا على اغلب الدراسات الأوربية بصدد النبوة المحمدية المبنية على مقارنات مألوفة لهم أو لاكتشافات شخصية ولغوية عابرة. 

2- وهي مجموعة قبائل كانت تعيش في تهامة إلى أن حاربتهم قبائل مضر وربيعة فأبعدتهم عن جزيرة العرب إلى العراق.

 

 

في المثقف اليوم