دراسات وبحوث

محنة خلق القرآن!!

صادق السامرائيإنطلقت (محنة خلق القرآن) في عصر المأمون سنة (212) هجرية، بإيحاء من فقيه المعتزلة (أحمد بن أبي داؤد)، الذي تمكن من عقله وهيمن على مداركه، فجعل القول بخلق القرآن من أهم أركان حكمه، ويُقتل من لا يقبل به.

إستمرت هذه المحنة في السنوات الستة الأخيرة من خلافة المأمون، وزمن المعتصم ومعظم فترة حكم الواثق، أي أنها تواصلت على مدى عقدين (212 - 232)، فتسببت بقتل العديد من أعلام الأمة.

إنها مسألة رأي وتأويل، فما هي علاقة الدولة بالموضوع؟

وتأويل الخلق ضعيف، ويستند على الآية : "إنا جعلناه قرآنا عربية " الزخرف: 3، وجعلناه أي صيّرناه، مما يعني خلقناه، ففي تأويلهم كل مجعول مخلوق، وإن صح أو لم يصح، ما هي دواعي إتخاذها منهجا للحكم؟

القول بخلق القرآن تعني أن القرآن قابل للتأويل، والقول بغيره لا يجيز الخروج عن النص القرآني، وهذا صراع فكري لا يزال قائما في واقع المسلمين، والمأمون كان يميل إلى إعمال العقل في كل شيئ، وتأثرَ بالفلسفة اليونانية، وأمعنَ بالدراسة والتعلم وتقريب العلماء ومحاورتهم، ولهذا مال إلى مناهج ورؤى المعتزلة، وتمكن منه فقيهم البارز (أحمد بن أبي داؤد)، وصار يأتمر برأيه، وينفذ إرادته، وقد إستغل هذه الفرصة لفرض رؤيته في الحكم، فابتدع فكرة (خلق القرآن)، ليجبر الفقهاء والممثلين للدين بإتباع مدرسة المعتزلة، وهي فكرة ذكية مختصرة بكلمتين.

وولعُ المأمون بالفكرة كان غريبا وقويا وحازما، وما تردد بسفك دم من يرفضها من أعلام الأمة وفقهائها، وهذا سلوك يستحق وقفة طويلة وإمعان بدراسة شخصية المأمون التي يبدو أنها تعاني من عاهات مزمنة.

وكانت وصيته للمعتصم عندما عهد له بولاية العهد واضحة وصريحة، بضرورة إتباع (إبن أبي داؤد) والإذعان لإرادته، وتنفيذ أوامره بمسألة (خلق القرآن) وإمتحان الناس بها.

و(إبن أبي داؤد) تسبب بمقتل عشرات الفقهاء، وتحكم بثلاثة خلفاء لتمرير نواياه الخفية، التي روّعت فقهاء المسلمين وأعلامهم في كل مكان.

وقدم مثالا واضحا على العدوانية والإنتقامية، والتعبير عن العاهات النفسية والسلوكية بأساليب دينية، وكأنه التقي الورع النقي المنزه من السوء والبهتان، وهو عدواني متبرقع بلباس الدين، الذي خدع به خلفاء تمكن من وعي ما في نفوسهم من أهواء ورغبات.

فكانت وحشيته تتألق عندما يوضع الفقهاء على النطع، ويقترح بدم بارد على الخليفة بضرب أعناقهم بالسيف، لأنهم كفرة وزنادقة لعدم إقرارهم بخلق القرآن، فينفذون أوامره!!

ويبدو أن لكل فترة حكم قميص، فمنذ (قميص عثمان) التي إبتكره (معاوية بن أبي سفيان)، وحتى اليوم، هناك قميص لكل نظام حكم، وخلق القرآن قميص إتخذه الخلفاء الثلاثة وسيلة للتحكم بمصير العباد، وإذعانهم لإرادتهم المطلقة.

وفي تأريخ الخلفاء للسيوطي: " قُتِلَ أحمد بن نصر الخزاعي، وكان من أهل الحديث، قائما بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أحضره من بغداد إلى سامرا مقيدا وسأله عن القرآن، فقال: ليس بمخلوق، وعن الرؤية في القيامة، قال كذا جاءت الرواية، وروى له الحديث، فقال له الواثق: نكذب، فقال للواثق: بل تكذب أنت، فقال: ويحك يُرى كما يُرى المحدود المتجسم، ويحويه المكان ويحضره الناظر؟

إنما كفرت برب صفته ما تقولون فيه؟

فقال جماعة من فقهاء المعتزلة الذين حوله: هو حلال الضرب، فدعا بالسيف، وقال: إن قمت إليه فلا يقومَن أحد معي، فأني أحتسب خطواتي إلى هذا الكافر، الذي يعبد ربا لا نعبده ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها، ثم أمر بالنطع فأُجلِس عليه وهو مقيّد، فمشى إليه، وضرب عنقه، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد، فصلب بها، وصلبت جثته في سر من رأى، واستمر ذلك ستة سنين إلى أن تولى المتوكل، فأنزله ودفنه. (فهل يُعقل أن تبقى جثة معلقة لستة سنوات؟!!).

ولما صُلبَ كُتبتْ ورقة وعلقت في أذنه فيها :هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك، دعاه عبد الله الأمام الهارون إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه، فأبى إلا المعاندة، فعجله الله إلى ناره."

هذا فقيه ثقافته لا تضاهى يؤتى به ليقف أمام خليفة قليل الثقافة، ومشحون بالإنفعالية ومُحشد من فقهاء المعتزلة لمناصرة مسألة (خلق القرآن) وقتل مَن لا يقبلها، ويوهمونه بالمعرفة والقدرة على المحاججة، وأنه على حق، ويحِق له أن يكّفر مَن يكّفر ويقتل مَن يقتل، وهو كالدمية في أيديهم، ويحللون له ضرب عنق الفقيه، الذي عليه أن يفتخر به ويعزه، بدلا من إذلاله وقتله.

وما فعله به وإبقائه لجثته ورأسه معروضة على الناس، إنما يشير أن (خلق القرآن) قميص للترعيب والتخويف وتأمين الإذعان المطلق، فالمشكلة في تأكيد فاعلية (الأمر والطاعة)، فلا رأي ولا قول غير ما يهذرب به السلطان، ومَن حوله من المتسولين الميتين الضمائر والفاقدين للقيم والأخلاق، والذين يهمهم ما يكسبونه من العطايا والجاه.

واليوم هناك العشرات من أمثال (إبن أبي داؤد) في مجتمعاتنا التي تعيث فيها العمائم فسادا وسفكا للدماء، وما أكثرهم وهم يتصرفون من وراء حجاب، فكل سلوك بشع مسوّغ بقتاوى المبرقَعين بدين!!

ولعنة الله على كل أفّاكٍ مُتاجرٍ بدين!!

وأتمنى أن يدحض ماتقدم قلم مختص من العارفين!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم