علوم

الثقافة الفلكية عند قدمائنا الشرقيين وتجلياتها عند الإغريق (2)

محمود محمد علينعود ونستأنف حديثنا حول الثقافة الفلكية عند قدمائنا الشرقيين وتجلياتها عند الإغريق، وهنا نناقش الثقافة الفلكية عند العراقيين والصينيين والهنود، وهنا نقول: اهتم العراقيون؛ وبالأخص البابليون بعلم الفلك اهتماماً كبيراً، لدرجة أن قدماء اليونانيين كانوا يعزون إليهم نشأة علم الفلك.

ويكفينا فى هذا الصدد أن البابليين كانوا فى علم الفلك شأنهم شأن قدماء المصريين، حيث سجلوا مشاهدات دقيقة عن مواقع الاجرام السماوية لمدة تربوا عن ألفى سنة، وعرفوا الكواكب السيارة، واكتشفوا الكسوف والخسوف، ووصفوا المزولة والساعات المائية .

غير أنه كعاده دعاة المعجزة اليونانية التنكر للشرقيين القدماء، فلقد انتقد "دى بورج" (في كتابه " تراث العالم القديم) الفلك البابلي، حيث ذهب بأنه فلك قائم على نزعة عملية بحتة خالية من أى نظرية، وفى هذا يقول " أن الفلك البابلي قائم على الملاحظة، غير أن مجرد الملاحظة ليس بعلم . ويتضح هذا عندما نبحث عن النفع الذى حققه الفلكيون البابليون من هذه السجلات، وبينما كشف الإغريقي فى قرن واحد من الزمان السبب الحقيقي للكسوف والخسوف، فإن البابليين لم يواتهم أبداً حتى أن يصلوا إلى التفسير المعقول لهما، لقد استخدموا معطياتهم لأغراض فلكية خالصة، فإذا حدث أن كسوفا أعقبة مرة، حرب مع عيلام، فإن حرباً مع عيلام كأن قد تنبئ به من حدوث الكسوف، والملاحظة مهما كانت دقتها التي ينتفع بها لمجرد أن تكون أساساً لاستنتاجات يجمع فيها، لا يأتي من وراها معرفة علمية .

والحقيقة أن النظرة فيها تحيز واضح وبعد عن الحقيقة، والصواب، فلم تكن  المعارف الفلكية عند البابليين كلها قائمة على الخيال والتنجيم، ويكفينا دليلاً لإثبات تهافت هذه النظرة أن البابليين استطاعوا أن يضعوا تقويماً فلكياً يستند أساساً على حركة القمر " تقويم قمري"، حيث جعلوا طول الشهر القمري يتراوح ما بين 29 و30 يوماً بالتتابع؛ ومعنى أن الشهر ذا التسعة وعشرين يوماً يعقبه شهر ذو ثلاثين يوماً، وهكذا حتى ينقضي العام، ولذا جاء معدل اثنى عشرا قمريا "384 يوماً " جاء بعام أطول من السنة الشمسية، ولكى يوفقوا بين الدورتين القمرية والشمسية استخدم البابليين اثنى عشرة شهراً قمرياً، مع إضافة شهر ثالث عشر عند الضرورة، وصار التقويم نموذجاً للتقاويم اليهودية والإغريقية أو الرومانية بعد ذلك،حتى منتصف القرن الأول قبل الميلاد .

ولما كانت طبيعة الشهر القمري تدعو إلى تقسيمه فترات متميزة بأوجه القمر،  فقد قسم البابليين الشهر إلى فترات كل منها سبعة أيام، غير أن الأسابيع البابلية لم تكن مستمرة فى نظام تتابعها مثل أسابيعنا الآن، بحيث لا يتقيد أول الاسبوع بأول الشهر، بل كان نظام الأسبوع البابلي هو ضرورة أن يكون اليوم الأول من كل شهر هو اليوم من الأسبوع الذى يقع فيه، وقسم البابليون اليوم إلى 24 ساعة والساعة إلى 60 دقيقة، والدقيقة 60 ثانية، حسب النظام الستينى .

كما توصل البابليون إلى كشف ظاهرتي الكسوف والخسوف و كما عرفوا المزولة الشمسية والساعة المائية والبولو Polos وهى أداه كان يستعملها البابليون، وكانت مؤلفة من نصف كرة جوفاء قطرها كبير وحدبتها نحو السماء، وعلق فوق هذه الكرة بشكل مثبت مع مركزها جلة صغيرة تعترض نور الشمس، أما ظلها فينفذ على السطح الداخلي للكرة، وهكذا ترسم حركة الشمس فى باطن البولو . أما انحناء دائرة البروج فيقرأ مباشرة فى الآلة، وكذلك تاريخ تساوى الفصول وتاريخ انقلاب الشمس الصيفي والشتوي.

وعن طريق استخدام تلك الأدوات استطاع البابليون رصد مجموعات نجمية كثيرة، وأهم أرصاد البابليون لتلك المجموعات إرصادهم الخاصة بالزهرة ؛ حيث عرفوا أول ظهور الزهرة، وأخر ظهورها، أى عند غروب الشمس وشروقها، كما عرفوا طول مدة اختفائها، كما عرفوا اقترانها "584"يوماً، وأدركوا مدة الثماني السنوات التي تعود فيها الزهرة إلى الظهور، فتظهر خمس مرات فى نفس المواضع كما تشاهد من الارض .

كما عرف البابليون أن القمر والكواكب السيارة ولا تبتعد  فى حركتها مسافة بعيدة فى خط العرض عن مدار الشمس فى منطقة البروج، كما رصدوا المواضع النسبية للكواكب والنجوم  فى تلك المنطقة الضيقة من السماء، ثم أنهم حسبوا مدة قران عطارد بخطأ لا يتجاوز الخمسة الأيام، على أن الكبير فى ميدان  المعرفة الفلكية هو المعرفة العامة، إذ الواقع كما يقول "جورج سارتون" أنهم المؤسسون للفلك العلمي، وأن النتائج المدهشة التي حصل عليها الفلكيون الكلدانيون والإغريق من بعدهم أمكن تحقيقها بفضل استنادها إلى الأساس البابلي .

ومن ناحية أخرى لا ننكر أن الفلك البابلي كان مرتبطاً بالتنجيم إلى حد ما فمثلاً:

1- ربط البابليون بين الظواهر الفلكية والأحداث التى تقع على الأرض، فإذا أحاطت بالقمر هالة معتمة دل ذلك على أن الشهر ماطر، وإذا أحاطت هالة، وكانت فتحتها نحو الجنوب، هبت الرياح من الجنوب، وإذا كان المريخ مرئياً فى شهر يوليو "تموز " كان ذلك إنذار بوقوع هجوم عسكرى، وإذا شوهد عطارد فى الشمال، وقعت حرب فى ذات الجهه، وإن دنا المريخ من الجوزاء.. كان ذلك إنذار بموت الملك ووقوع الفتن والفوضى التى تعم البلاد.. وغير ذلك من التنبؤات الغربية فى التراث البابلى.

2- حين رصد البابليون ظاهرة خسوف القمر، اعتبروا هذا الخسوف فألاً حسناً، وأعوزه إلى عمل الشياطيين التى تحاربه وتمنع ظهوره، وكان على الكهنة أن يشعلوا ناراً على مذابح الدقورات، وينشدون الأناشيد الدينية، وخلال خسوف القمر يتخلى الناس على غطاء رؤوسهم المعتاد ويغطونها  بثيابهم، ولكى لا تصيب المدينة الكوارث، كان على الناس أن يعلو صراخهم ويشتد عويلهم وينوحوا حتي ينتهى الخسوف، ويظهر القمر من جديد وعندئذ يتوقف الناس عن الصراخ ويطفئ الكهنة النار التى أشعلوها فى مذابح الدقورات.

3- حين رصد البابليون المجموعة النجمية، قسموها إلى اثنى عشرة مجموعة أو برجاً، وتصوروا أن لكل  برج رئيسي من الآلهة المستشارين، وكانوا يعتقدون أن الشمس تقوم بزيارة هذة الأبراج وتبقى شهراً فى ضيافة كل واحد منها على التوالي، وهكذا حتى ينتهى العام تكون الشمس قد زارت الاثني عشر برجاً، ومكثت ثلاثين يوماً عند كل برج ما عدا الأخير، فإنها تظل فى زيارته لمدة خمسة وثلاثين يوماً، وبذلك تكون الشمس قد أتمت 365 يوماً فى زيارة المجموعات النجمية (أى سنة شمسية). ويقال أن هذه المجموعات النجمية الأنثى عشر أصبحت الآن تشكل دائرة البروج " (زودياك) وكما أن هناك أجرام سماوية فى السماء العليا تؤثر على الأحياء وتحدد مصائرهم، واعتقد البابليون أيضاً أن هناك أجرام سماوية غير مرئية فى السماء السفلى وتؤثر على الأصوات فى العالم الآخر.

ولاشك أن السعي إلى التنجيم والتنبؤ بالطالع كان من أهم الأسباب التى حفزت البابليون على الاهتمام  بعلم الفلك  .

وننتقل للحديث عن الثقافة الفلكية عند الصينين والهنود، حيث تأثرت شعوب الشرق الأقصى بالفلك عند المصريين والبابليين، فنجد أن الصينيين قد عرفوا السنة الشمسية المكونة من 365 يوماً وربع اليوم، ثم السنة القمرية وتتكون من12أو13 شهراً قمرياً. وعرفوا الدورات الفلكية التى تتراوح مدتها من19 إلى 76 سنة وحتى 31420 سنة .

كما عرف الصينيون المجموعات النجمية وحصروا منها 28 مجموعة نجمية أو برجاً وعرفوا كسوف الشمس وخسوف القمر . كما وصفوا الجداول الفلكية واستخدموا أدوات رصد أهمها: المزولة الشمسية والساعة المائية 000 وغيرها .

وأما الهنود فقد كان شأنهم شأن الصينيين فقد اهتموا بعلم الفلك: حيث رصدوا مجموعتين من النجوم تضم إحداهما 27 نجماً، والأخرى 18 نجماً، واعتبروا هذه المجموعة بمثابة بيوت القمر التى ينزل فيها تباعاً فى دورانه الشهري الذى يستغرق 27 يوماً أو 28 يوماً و .واستخدم الهنود تقويماً شمسياً وآخر قمرياً، وقسموا السنة إلى360 يوماً موزعة على اثنى عشر شهرا، وجاء ذكر لاسم شهر ثالث عشر الصافى من 25 أو 26 يوماً وأحياناً 30 يوماً، وذلك لسد الفرق بين القمرية والسنة الشمسية،وكانت تضاف هذه الأشهر الإضافية كل خمس سنوات وبعدها يعتبر كل من قد أكمل عدداً من الدورات الكاملة، وطول دورة الخمس سنوات هذه 1830 يوماً "60 شهراً كل منها 30 يوماً . بالإضافة إلى شهر آخر" وقسموا السنة إلى ثلاث فصول متساوية طول كل منها أربعة أشهر وعرفوا الأسبوع الذى يتألف من سبعة أيام تسمى بأسماء الكواكب.

ومن ناحية أخرى اعتقد الهنود القدماء فى وجود دورات فلكية معينة تتم فى الكون وتكمل فيها بعض الاجرام السماوية دورة خاصة إحداهما فى سنة "الإلهية " طولها 360 يوماً إلهياً  وهى تعادل360 سنة شمسية، وكان لدى فلكى الهنود سنة كونية كبرى، وهى حقبة زمنية تتواجد فيها مجموعة من الأجرام السماوية فى موقع معين بعد أن يكون كل منها قد أتم عدداً كاملاً من الدورات الكاملة، وكان طول هذه السنة الكونية 4320000 سنة شمسية وهى تساوى 1200 سنة الهية "12000×360=432000 " .

والجدير بالذكر أن المؤرخ العربي أحمد ابن أبى يعقوب ذكر فى كتابة "تاريخ اليعقوبي " هذا النص: " ... وقالت الهند ان الله عز وجل خلق الكواكب فى أول دقيقة وهو أول يوم فى الدنيا ثم سيرها فى ذلك الموضع فى أسرع  من طرفه العين، فجعل لكل كوكب  منها سيرا معلوما حتى يوافى جميعها فى عدة أيام السند هند إلى ذلك الموضع الذى خلقت أيام الدنيا من السند هند منذ أول ما دارت الكواكب إلى أن تجتمع  جميعا فى دقيقة الحمل كما كانت يوم خلقت " دورة كاملة "4320000000 سنة شمسية .

ومن ناحية أخرى يذكر "البيروني" أن للهنود اهتمامات فلكية، منها أنهم أحصوا جداول فلكية ورصدوا حركات الكواكب وخسوفات الشمس والقمر ونظام الكون وأعمال أخرى خاصة بالتنجيم .بالإضافة إلى وصف بعض أدوات الرصد كالمزولة الشمسية وجهاز الكرة ذات الحلقات "الكرة المحلقة ....الخ" .. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم