تكريمات
قراءات نقدية: "من مذكرات طفل الحرب" للعراقية وفاء عبد الرزاق
طريقها إلى ابتسامتها البريئة ولاذت بالدويّ والرصاص . الذكرى والحلم وجهان لشجن واحد اتخذته الليالي الحالكات مستقرّا وطوّقت به جيد ديوان " مذكرات طفل الحرب " لوفاء عبد الرزاق .
هذا الديوان المضرّج في جراحه المتناسلة يتقاذفه شعوران : شعور بالدفء يجد ظلّه المنشود زمن هجير الأشلاء والغربة الباردة في ذكريات انصرمت، وانفرط أريجها كحبّات عقد ولم يبق منها بالتالي إلا رجع صدى يتردد خافتا في قاع الذاكرة المتعبة،
وشعور بالبرد تتقاذفه أمواج وحدة صرصر نحو شاطئ مهجور وديار اتخذها البوم وكرا، والذات الشاعرة بين دفء الذكرى وبرد الحلم الممزّق وراهن يزفّ للطفولة على مذهب الذئاب أشلاءها المتناثرة على حافة الشراسة كقصبة ضعيفة تحاول بين الفينة
والهمّ لملمة بعض من سكينتها ولكن أنّى للسكينة أن تسكن في فؤاد مجبول على الدموع والرصاص والتيه :
كان العود شجرة
كانت الشجرة زحاما
و رفيقا آتي إليه
كلّما غنّى المطر
أغنية البرتقال
أغنية هي الآن
وحش المستقبل
" من مذكرات طفل الحرب " كتاب مفتوح على أشجان متعدّدة مثلها كمثل جداول متكاثرة تجري أرقا لتصبّ في نهر كئيب، إنّه نهر الذات الشاعرة المهزوزة والمهزومة، ومردّ هزيمتها واضطرابها وتقوقعها على ذاتها المنطوية على ذاتها إلى راهن عقيم متعفّن، راهن ضارب بقدمين متورّمتين في أعماق السقوط والانحدار. حتى الطفولة المحمولة على البراءة والانطلاقة والفرح أصبحت على عهد هذا الراهن المتأزّم والكارثيّ شجرة مجتثّة الفصول، تحمل ملامحها علامات القحط والبوار والأفول، ترنو للكون لا من خلال الصفحة البيضاء على مذهب جون جاك روسو التي من المفروض أن تكون عليها الطفولة بل تنظر للعالم من خلال ثقب شوكيّ حالك صنعته رصاصة .
و قد لعب التماهي في الديوان دوره في المواءمة والملاءمة بين الطفل والحرب، حتى أصبح إليها ينتسب، وبها يعرّف، ومنها نسل، وإليها مرجعه، ويبدو ذلك من خلا التركيب الإضافي الموسوم به عنوان المجموعة " طفل الحرب " وكأنّ بالحرب ها هنا أمّه وأباه والنفخة الاولى ووجهه الذي يمشي به بين الناس، فالطفل جزء من ذاكرة الحرب وبالتالي فالحرب بظلامها الدامس وويلاتها جزء من ذاكرته هكذا ينبئ عنوان المجموعة تصريحا وتلميحا :
لست بحاجة لأب
كما لست بحاجة لجمال الفصول
أو لأمّ بردائها تفتح الدروب
الدائرة كما تصورها الجغرافيّ
تكره التحايا صباحا
و تكره أن أدعى حلما مثلا
ممتنّ لها جدّا
تلك الرصاصة التي
ستصبح أسرتي القادمة
حقّا لست بحاجة
إلاّ لمزاج الدويّ
فللدويّ حكمته، ولصوت الرصاص نكهته في تكوين ماهية الطفل وكنهه، صورة مكوّنة على إيقاع الحرب، صورة تكرع من الإنفجارت والأشلاء حدّ الثمالة، حتّى باتت الأجنّة على ايقاع الرصاص في الرحم الكارثّي تروح وتغتدي، كالذات الشاعرة الموسومة بالتململ ولعلّ لعبة الضمائر في ديوان وفاء عبد الرزاق لا تشي بتعدّد الشخوص فالمراوحة بين الذات الشاعرة والطفل لا تشي بثنائيّة وإنّما تحكي المطابقة بين هذا وذاك وتحاكيها وتكشف بذلك النقاب عن وجه واحد متجهّم ومجبول على صوت الدويّ ورؤية الأشلاء التي التصقت به وباتت جزءا من حياته وهويّته القائمة على زلزالية الرؤية وكارثية الرؤيا مادامت الرصاصة عنوان بيته وكنية أهله، فالذات الشاعرة وطفل الحرب منخرطان في معادلة الوجه والقفا، كلاهما صنو الآخر وشبيه به، يعيشان سويّا على إيقاع الخيبة محاذاة النعل بالنعل
الذين نسوا لعبهم ارتدوا آخر قمصانهم
ثمّ التحمت أشلاؤهم بي وكأنّها تنتظر زائرا
و الذين يصلحون لرواية المشوّشة
سيقرؤون في كتب التراب
عن أطفال من أغلفة الرصاص
" مذكرات طفل الحرب " يرصد أزمة ثلاثا الماضي والراهن والقادم، وهذه الأزمنة كمثل الطفل والذات الشاعرة في الديوان لا علاقة لهم جميعا بالزمن الفيزيائي وإنما زمانهم نفسيّ إذ تختزل الذات الشاعرة الأزمنة في زمن واحد ذي وجه واحد هو الشجن المحيط بهذه الذات الجريحة والمسيّج لها ولعوالمها والآتي على الاخضر واليابس، حتّى الأحلام طالها نقيق الدويّ وأظافر الرصاص فاغتالها في المهد، فعدّ بذلك الحلم / الوهم شيئا مؤجّلا وزمنا هاربا منفلتا من لحظة القنص، يعيش خارج سياق الزمن والممكن على غرار الامس الدافئ والراهن الكارثي وكلاهما ملطّخ بالغياب سواء كان غيابا اغترابيا أو غيابا مفروضا، وكلاهما مهشّم على صخرة المنايا والعويل والعواء
أمس
أخذته مدرسة عاليا
كغرّة بياض للصفّ
و جنتاه اليوم
سكرتان تتمشّى عليهما الجراح
عيناه على رصيف عائم
فلتت منهما الصور
شارد ماؤهما حيث اله آفل
تسدلان أوراقهما لتناسل الرماد
نافر غضبهما المنكّس
الحلم والطفولة في الديوان أشياء مؤجّلة إلى وقت غير معلوم، وقت محكوم بثقافة القنا يقرع القنا على حدّ تعبير الشاعر المتنبّي، فطبول الحرب والشوارع الغارقة في الأشلاء والصمت الرهيب والظلمة المتلبّسة بالغد الشريد أثافي حياة الطفولة والذات الشاعرة على حدّ السواء، وجهان طلعا علينا في الديوان كالمرجل المعبّأ بالأنين تلتهمه النار نار الغربة والتأوّه والسقوط، قدره الذوبان في أرض لا عهد لها بالخضرة والمياه وزقزقة الصباحات المضيئة على فنن الوجود الرافل في النور نور الفجر الوليد
بقلم فوزي الديماسي / تونس
...........................
خاص بالمثقف
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تكريم الأديبة وفاء عبد الرزاق، من: 05 / 11 / 2010)