تكريمات
العوامل في القصة القصيرة (نزع الاقنعة) للقاص العراقي فرج ياسين / كريم ناجي
قابل للتطبيق على مستوى القصة، لأن القصة هي مجموعة أفعال تقوم بها مجموعة من الشخصيات (العوامل) يصل عددها عنده إلى ستة، هي:
1 ـ العامل الذات.2 ـ العامل الموضوع.3 ـ العامل المرسِل.
4 ـ العامل المرسَل إليه.5 ـ العامل المساعد.6 ـ العامل المعارض.
تتداخل هذه العوامل وتظهر في ثلاث علاقات،عاملين في كل علاقة وحسب الترتيب:
1- علاقة الرغبة. 2- علاقة التواصل. 3- علاقة الصراع.
وقد أثبت هذا المفهوم قابليته الواسعة للتطبيق في كل المجالات. وهو يشكل البنية
الأساسية لعالم المعنى، مهما تنوّعت هذه البنية وتعددت من مجتمع إلى آخر.
وقد ميّز بين (العامل) و(الممثل) فقدّم بذلك فهماً جديداً للشخصية في الحكي هو ما يمكن تسميته (الشخصية المجردة). فليس من الضروري أن يكون (العامل) شخصاً (ممثلاً)، فقد يكون مجرد فكرة كالتاريخ أوالمستقبل اوالخير،وقد يكون جماداً أو حيواناً...إلخ.وهكذا تصبح الشخصية(مجرد دور يؤدّى في الحكي)،بغضّ النظر عمن يؤديه،ويمكن لوظيفة ان يؤديها اكثرمن ممثل،ويمكن لممثل ان يؤدي اكثرمن وظيفة.
فكرة موجزة عن القصة:
تقوم قصة (نزع الاقنعة) على ثلاث حكايات،يؤطر احداها الاخرى. فالراوي ورغبته في اقتحام عالم (خالد سماوة) وكشف اسراره. ووصف الوضع الامني والاجتماعي المتدهور؛هو الحكاية الاولى التي تؤطر الحكايتين ؛حكاية حياة خالد السابقة في الجنوب وتهجيره، وتعرضه الى الاختطاف على يد جماعة مسلحة. وهذه بدورها تؤطر الحكاية الثالثة التي يرويها زعيم الجماعة المسلحة لخالد والمختطفين معه،ويقوم خالد برويها الى الراوي الذي يرويها لنا، فهي مؤطرة باطارين، مع ملاحظة تداخل وجهات النظر هنا لوجود سلسلة رواة.
محاولة لتطبيق نظرية غريماس لتحليل هذه القصة:
1- في بداية القصة يسرد لنا الراوي مشهد( كلاب لاهثة تقعي في مواجهة دكاكين الجزارين، منتظرة موعد الغروب) هذا المشهد وما يوحي به من اجواء بداية الاحتلال وعصابات السلب والنهب،وفقدان الامن... يمكن ان يقرأ على النحو التالي: العامل الذات (الكلاب) في حالة انفصال عن العامل الموضوع (الدكاكين وما فيها) وهي تحاول الاتصال. يدفعها العامل المساعد ( جوعها وطمعها) ويعيقها ويؤخرها العامل المعارض (وجود اصحاب الدكاكين والناس وضوء النهار).
2- بعد ذلك يصرح الراوي برغبته الاساسية (ومع انني كنت مستغرقا ً بأمر ملاقاة خالد سماوة، والتعرف عليه، على نحو يطفيء احتقان مشاعري وصخبها، إلا أن صورة الكلاب اللاهثة المنتظرة في مواجهة دكاكين الجّزارين ؛ ظلت تغزوا مخيلتي) وهنا نقرأ: العامل الذات (الراوي) يرغب في الاتصال بالموضوع ( خالد سماوة) واكتشاف عالمه واسراره، ويكون العامل المساعد (رغبته المتكررة، واصراره وتصميمه على التواصل هذا اليوم، وعدم مشاركة خالد باللعب) اما العامل المعارض فهو (انشغال خالد بمتابعة لاعبي الدومينو، وصورة الكلاب اللاهثه التي تثير قلق الراوي)
3 - ( تخلى عن وضعه المنحرف، فأعتدل وأصبح في مواجهتي، وطلب من النادل أن يقترب متشاغلا ً يدس يده في جيب سترته . أخرج نقودا ً، وطلب شايا ً له باسطا ً يده بالنقود، فشكرته) هنا ملفوظ انجاز، البرنامج السردي يتجلى في انجاز محول من الانفصال الى الاتصال، ويمسي خالد مستعدا لفتح اوراقه امام الراوي، محققا رغبته في التعرف اليه ومعرفة حكايته.
وقد مثل الراوي هنا وظيفتي العامل الذات والعامل المرسِل، وقام بمحاولات عدة لتحريك خالد الذي مثل العامل الموضوع والعامل المرسل اليه، ودفعة نحو الاتصال فقد احدث (صوتا ً ناعما ً بملعقة الشاي، فالتفت ومكنني من رؤية صفحة وجهه، همس محييا ً ومعتذرا ً لأنه يوليني ظهره) ثم (وبما انني كنت أرغب في استبقائه وإغرائه . باطالة الحديث، أضفت متعمدا ً اصطناع لهجة ودود مترفقة: كلما أتيت الى المقهى أجدك تعكف على مراقبة اللاعبين ولاتشارك في اللعب؟) ويقوم الراوي بمحاولة اضافية (فشكرته، واقترحت مخيلتي مخططا ً سريا يهدف ً الى استبقائه في دائرة مقاصدي، ثم عاجلته بسؤال، اجتهدت في أن لا يبدومقحما ً:
- هل أنت متقاعد الآن ؟) عندها يبدأ خالد بالكلام وفتح قلبه وذكرياته للراوي. وعندما يبدأ خالد بكشف اوراقه يمثل هو وظيفة العامل المرسل، والراوي العامل المرسل اليه. ويحصل تبادل بالادوار.
ان العوامل هنا تتداخل بسبب تعدد مستويات السرد . وتبادل الادوار، وحصول انجازات محولة في البرنامج السردي، وقيام الشخص بتمثيل اكثر من وظيفة عاملية معا أحيانا.
4- عندما يتحدث خالد عن ماضيه وتهجيره ؛يقوم هو بوظيفة العامل الذات. لتكون حياته في السماوة هي العامل الموضوع. والذات في حالة اتصال يرغب بالانفصال عن الموضوع. ويكون خوفه ووساوسه واستشراء حوادث التهجير العامل المساعد. اما العامل المعارض فهو حبه للمدينة التي قضى فيها اجمل سنوات العمر،وذكرياته وعلاقاته الطيبة مع اهلها. وهنا يحصل تنازع وتناقض في الرغبة ؛ فهو في قرارة نفسه يرغب بالاتصال، لكنه مجبر على محاولة الانفصال. ومع ذلك تبقى ثمة صلات وروابط منها ذكرياته وحنينه وحبه للمدينة، وبقاء جزء حي منه فيها (ابنته) التي بقيت في السماوة.
5- ويعود الراوي الى زمن الروي الى المقهى، فيكون هو العامل الذات . اما العامل الموضوع فهو الموت الذي يهدد المكان، والخوف والقلق. (وخيّل الى أن كلمة موت لاتعدم سبيلا ً لإجتياز حاجز الضوضاء والانكشاف لمن يريد السماع أو لا يريده .) وهو يرغب بالانفصال، والعامل المساعد ؛غريزة الخوف وطلب النجاة والابتعاد عن مواطن الخطر. اما العامل المعارض فهو وجود خالد معه ورغبته الكبيرةالتي لايستطيع التخلي عنها في التعرف اليه.
6- خالد في سيارة ومعه اربعة مسافرين تأسرهم جماعة مسلحة. يحاول العامل الذات (خالد) الانفصال عن العامل الموضوع (حالة الاسر) . والعامل المساعد الذي يؤخر اعدامهم (مرض زعيم الجماعة) اذ لايمكن التنفيذ الا بحضوره. والعامل المعارض هو وجود حراس قساة.
7- في اليوم التالي،وعند وصول زعيم الجماعة الذي يعني تنفيذ الاعدام نحرا. يحصل تحول في البرنامج السردي؛ (وفجأة أنفذ أمره الى رجاله آمرا ً إياهم بأن ينزعوا أربطة أعيننا وأيدينا، ويقدموا لنا الطعام والشراب، ففعلوا كل ما أمر به، وهو ينظر الينا منكسرا ً، ويبكي .) فيعود زعيم الجماعة الى رشده، ويؤدي وظيفة العامل المساعد لتحقيق رغبة خالد وجماعته في الانفصال، ووظيفة العامل المرسِل، ويكون خالد العامل المرسل اليه مع وظيفة العامل الذات،الراغبة بالانفصال عن العامل الموضوع(حالة الاسر).
8- عندما يروي زعيم الجماعة حكايته الغرائبية، التي هي حالة او رؤية حصلت بين النوم واليقظة وكانت سببا، و(عاملا مساعدا) شجع على انفصاله عن الموضوع المتصل به وهو انخراطة في العمل الارهابي، ويكون هو (العامل الذات).
وتصلنا القصة برواية الراوي، نقلا عن خالد، نقلا عن زعيم الجماعة.
9- ويستمر زعيم الجماعة بوظيفة العامل الذات. وحالة الانحراف والشر التي هو فيها العامل الموضوع، ويحصل صراع في المشهد التالي بين العامل المساعد (مواء القطة) وبين العامل المعارض (رغبته في النوم) مع ماترمز له من غفلة وضلال فالنوم نقيض الصحوة (في الفراش نشب صراع حاد بين رغبتي في النوم وصوت المواء الذي بات يحاصر مشاعري ويلهبها . تقلبت طويلا ً وأدنيت موضوعات أخرى من دائرة الوعي المقلق من دون جدوى) وتتكرر الاشارة الى استمرار الصراع، لخلق جو نفسي،وبرنامج سردي محول يمهد للتحول نحو انفصال العامل الذات (زعيم الجماعة) عن العامل الموضوع (إذ بقيت أسير ذلك التناوب العجيب بين الرغبة في النوم وصوت المواء) لأن المسألة ليست بالامر الهين اليسير، الامر يحتاج الى ارادة وصبر واصرار ووقت وجهد. لذلك نجد القاص يعمد الى شحن المقطع بالكثير من الاشارات المعبرة الموحية التي تمثل عوامل مساعدة مع ماتمثله من اشارات رمزية في تنامي بناء السرد (صار موضوع جوع القطة يقض مضجعي ثم انقدح نور غامر في قلبي) هذا النورالمعنوي يكون من اهم العوامل المساعدة في تصاعد وتيرة البرنامج السردي نحو التحول . ويفتح بصره وبصيرته ليرى الحقائق ويحدد الاوليات المهمة في الحياة، ومصائر المخلوقات . ثم يسرد مشهدا رآه بفضل ذلك النور القلبي (فجعلت أرى بألف عين جميع الكائنات، وهي تفغر أفواهها طلبا ً للطعام والشراب . البشر والحيوانات والنباتات والجمادات، كانت كلها تسير في طوابير طويلة قاصدة نقطة ما في أفق بعيد .) وفي هذا المشهد تكون المخلوقات هي (العامل الذات). ترغب في الاتصال بهدف في افق بعيد (العامل الموضوع) . والعامل المساعد جوعها وعطشها ورغبتها في حياة طبيعية واستقرار. لكن الافق بعيد جدا وهذا البعد وعدم الاستقرار هو العامل المعارض.
والمشهد كله يؤدي وظيفة عامل مساعد للعامل الذات(زعيم الجماعة)لتحقيق رغبته المتزايدة في الانفصال عن العامل الموضوع (واقعه المتردي).
وبعد كل هذا التصاعد في البرنامج السردي يحصل انجاز محول (أخيرا ً حلـّت اليقظة في قلبي، فرفست الأغطية الثقيلة، ونهضت ثم هُرعت الى باب المطبخ) وهنا يصبح زعيم الجماعة (ذات إنجاز) بعد ان كان (ذات حالة).
10- ومع ذلك، ولكي لا يتردد ولا يتراجع تتوالى العوامل المساعدة لتدفع العامل الذات الى الانفصال تماما عن واقعه فهو يرى غضب الطبيعة (كانت الريح تعول والرعود تتفجر والأشجار تنشج بحفيف ٍ جنوني . ومن بين كل ذلك الضجيج سمعت عواء كلاب مسعورة يتموج في مساحة الضوضاء المنعقدة في سواد المكان) وهنا كاد ان يحصل تحول معاكس (في لحظة الرعب تلك عزمت على التراجع والعودة الى الفراش) فيأتي العامل المساعد يبعثه الله بهيأة مخلوق ضعيف صغير (فمّس قدمي جسم بالغ النعومة، حين نظرت الى تحت، رأيت القطة الجائعة) ويكون العامل المساعد الحاسم الذي ادى الى انفصال العامل الذات عن العامل الموضوع. نلاحظ ان القطة يتم تقديمها في السرد بوصفها مخلوقا طيبا لطيفا حنونا، له صفات آدمية، انها تتكلم،تقول له: لاتقلق لاتقلق. (فضج النداء في دمي، وتراجعت مدحورا ً مفسحا ً لها مكانا ً للدخول الى المطبخ) ويؤدي وجودها ووجهها الابيض وابتسامتها الآدمية، ونظرتها اليه برقة وحنو غامرين ؛ الى حدوث الانجاز المحول، وثبوته، فيتخلص الرجل من نوازع الشر والعدوان الكامن في دواخله، بفضل روح والدته التي زارته بهأة قطة مسالمة. وهنا يمكن ان نلحظ تعدد العوامل المساعدة؛ ومنها العناية الالهية، والعودة الى الطبيعة، والى الجذور والاصول، والى تراث الاباء والامهات الذين زرعوا الطيبة في النفوس. ويتضح هذا الانجاز المحول؛ بأن اليد التي كانت تذبح وتسلب، هي الآن تقدم الطعام الى قطة جائعة. فتشهد له القطة الام بذلك، وقدرته على ترك الشر والتحول الى فعل الخير(رفعت يدا ً بيضاء، وقالت بصوت والدتي الراحلة منذ بضعة أعوام: ها أنت ذا تستطيع فعل ذلك يا بني !) وهكذا نجد التحول يعم كل شيء حتى رؤيته الى الخارج، فهاهو يرى العالم قد تغير، والطبيعة هدأت(وكان باب المطبخ ما زال مشرعا ً يطل على الخارج ؛ فأتيح لي أن أرى السكون وهو يعم المكان، فلا عواصفَ ولا رعودَ ولا ضجيجَ ولا كلابَ نابحة ً.)
تحليل: كريم ناجي
خاص بالمثقف
.................................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة تكريم القاص المبدع فرج ياسين اعتبارا من 14 / 4 / 2012)